ثورة الشعب المصري
يقول الراوي (البطل) إن ثورة ١٩١٩م عرفت أبطالًا مجهولين، لا يعرفهم إنسان، ولا يذكرهم
تاريخ.
١ فهل كان الجهاز السري — ذلك الذي عرف الشوباشي نشاطه في «طلائع الأحرار» — هل
كان — حقيقة — قد أعد للثورة من قبل، واتخذ القبض على سعد زغلول ورفيقيه ساعة
للصفر؟
ذلك ما قاله بعض أعضاء الجهاز بعد خمسين عامًا من نشوب الثورة، قال كامل ثابت،
العضو القيادي في الجهاز السري بالوفد، إن الجهاز السري هو الذي حرَّك ثورة مارس (الجمهورية،
١٠/ ١٠/ ١٩٦٣م). وقد حاولت أن أجد تأييدًا لتلك الرواية في المصادر
التاريخية، فلم أُوفَّق. ويذهب محمد صلاح الدين إلى أن ما نُسِب إلى الجهاز السري «لم
يكن
كذلك، بل هو مجموعة من الشباب انتقاهم المرحوم عبد الرحمن فهمي للقيام بأعمال فدائية
خاصة. كان الجهاز تجميعًا للتنظيمات والخلايا السرية التي نشأت في مصر، عقب دخول
الاحتلال البريطاني، وكان قوامها ضباط جيش وشرطة وموظفين وطلبة وعمالًا وغيرهم.»
٢ والحق أن عبد الرحمن فهمي لم يكن يهدف إلى تشكيل جهاز سري، بل كان حريصًا
على استمرار المقاومة الشعبية، وإشعار المستعمِر بأن الشعب كله يكرهه، وأن بقاء قواته
في
مصر أمرٌ مستحيل، وأنه استعان بمجموعة من الشباب الوطني ليحقق هدفه.
٣ وفي تقرير ملن ستيهام — القائم بأعمال المعتمد البريطاني — (١٩١١م) أشار إلى
أن أول جمعية سرية في مصر هي جمعية التضامن الأخوي، تلتها جمعية التعاون الأخوي، ثم
جمعية الرابطة الأخوية.
٤ وقد انضم كامل (تحت عجلة الحياة) إلى جمعية سرية «وأصبح المسدس لا يفارق
جيبه.»
٥ وكان إبراهيم ناصف الورداني — وهو كيماوي شاب — عضوًا بجمعية التعاون
الأخوي السرية، وقد دفعه يقينه من خيانة بطرس غالي إلى اغتياله في ٢٠ فبراير ١٩١٠م، أطلق
عليه بضع رصاصات أردته قتيلًا.
٦ وغداة إعدامه أُلصقت إعلانات على جدران مدرسة الحقوق، كتب فيها: مات الورداني … فليحْيَ
الوردانيون!
٧ وشارك محمد (الأسرة المنكودة) في العمليات الفدائية، وتعرَّض لمطاردات الجنود
الإنجليز، وعاد إلى البيت — بعد غيبة — يريد الاختفاء من مطاردة جنود الإنجليز، بعد أن
قتل اثنين من الجنود. وعرف الجنود موضع البيت، فقفز محمد من السطح إلى البيت الملاصق،
وساعدت ساكنة البيت — أرملة موظف راحل — «محمد» على الاختفاء.
٨ وقد اعترف المارشال ويفل بأن المصريين رفضوا مساعدة السلطة البريطانية في
التعرف إلى الجناة في حوادث قتل الإنجليز «ولم يأت الوعد بالمكافأة التي ارتفعت إلى
خمسة آلاف جنيه لمن يدلي بالمعلومات بنتيجة ما.»
٩ وغداة إعدامه ألصقت إعلانات على جدران مدرسة الحقوق، كتب فيها: مات
الورداني … فليحيَ الوردانيون!
١٠ وفي أعقاب مقتل بطرس غالي، أصدرت الحكومة قانونًا بتحريم الانضمام إلى
الجمعيات السرية، وقد أصبح ذلك القانون — بالطبع — سلاحًا شهرته الحكومة ضد كل العناصر
الوطنية، فلم يعُد الإجرام السياسي [!] وقفًا على المشاركين في الجمعيات السرية فحسب،
لكنه امتد إلى أقاربهم وأصدقائهم. وقد استتبع إنشاء هذا القانون إنشاء مكتب باسم «الخدمة
السرية» للتعرف على الأنشطة السياسية، ومحاولة كشفها، وإلقاء القبض على المشاركين فيها،
وتحوَّل المكتب — فيما بعد — إلى تسميات أخرى، هي «القلم المخصوص» و«القسم السياسي» و«إدارة
الضبط».
١١ أما صاحب فكرة ذلك المكتب، الذي تحوَّل — فيما بعد — إلى جهاز رهيب، هو
البوليس السياسي، فهو إلدون جورست المعتمد البريطاني في مصر.
•••
في أول يوليو ١٩٢٠م اعتُقل عبد الرحمن فهمي وسبعة وعشرون آخرون في قضية المؤامرة
الكبرى، التي تتلخص في اتهام المعتقلين بأنهم أعضاء في جماعة سُميَت «جمعية الانتقام»،
كانت
تهدف إلى خلع السلطان فؤاد، وإسقاط الحكومة، والتحريض على القتل والعصيان. وصدر الحكم
بإعدام عبد الرحمن فهمي، ثم خُفِّف الحكم إلى خمس عشرة سنة، لكنه خرج من السجن ضمن الذين
أفرج عنهم سعد زغلول من المسجونين السياسيين في ١٩٢٤م، وكما يقول محمد أنيس، فثمة إجماع
بين المؤرخين على أن هذه القضية ملفَّقة.
١٢ ويذهب الرافعي إلى أن تلفيق هذه القضية يرتبط بهدف إنجلترا في تصفية
المنظمات الثورية الموالية للوفد.
١٣ مع ذلك؛ فإن عريضة الدعوى التي رُفعَت إلى محكمة جنايات مصر، اتهمت عبد
الرحمن فهمي وسبعة وعشرين من الشبَّان المشتغلين بالعمل السياسي، بتكوين جماعة أطلقوا
عليها اسم «جماعة الانتقام»، تهدف إلى خلع السلطان فؤاد،
١٤ و«قلب الحكومة، والتحريض على القتل والعصيان.»
١٥ ويقول محجوب ثابت إن عبد الرحمن فهمي كان «يتصل بكل إقليم من أقاليم القطر،
وبكل قرية وعزبة ودسكرة ومحلة، مهما كانت نائية. كان له في كل جهة رجال يبلغونه كل ما
حدث وكل ما يحدث، ويفضون إليه بكل ما يجب أن يقع، ويشيرون بكل ما يصح أن يمتنع عنه،
ويحتاط له.»
١٦ وإذا كانت أسماء مثل عباس حليم وداود راتب وعزيز ميرهم وإدجار جلاد، يصح
وصفها بأنها برجوازية أو إقطاعية، حاولت امتطاء حركة الطبقة العاملة، فإنه من الصعب أن
نضع اسم عبد الرحمن فهمي مع تلك الأسماء في سلة واحدة.
١٧ وأتصور أن تلك القائمة الموحدة، الغريبة، التي وضعها الكاتب، تظلم عبد
الرحمن فهمي تمامًا. لقد اعتقلت مجموعة عبد الرحمن فهمي بعد فشل مفاوضات سعد-ملنر
كمحاولة للقضاء على أية احتمالات لتجدُّد الثورة. والملاحَظ أنه حين دعا البعض إلى فكرة
الاستقلال الذاتي، أعلن عبد الرحمن فهمي معارضته لها، انطلاقًا من أن «السواد الأعظم،
بل الأعظم جدًّا من الأمة، لا يريد غير الاستقلال التام.»
١٨ لذلك كان رأي عبد الرحمن فهمي بأنه من المصلحة الوطنية أن يستكمل الوفد
تمثيله للأمة بدخول الحزب الوطني رسميًّا في الوفد، واقترح على سعد زغلول — بالفعل —
ضم
محمد فريد إلى الوفد، لكن سعد زغلول اعتذر عن ذلك بأن محمد فريد معروف في دوائر الحلفاء
باتصاله بالأتراك والألمان، وأضاف قوله إن القضية المصرية في حاجة إلى عطف
الحلفاء!
١٩ والحق أن عبد الرحمن فهمي لم يكن يرفض الأسلوب السلمي في نيل الاستقلال،
لكنه لم يحاول الاقتصار على استخدامه، فقد لجأ — ربما — إلى أسلوب العمل السري المسلح،
و«ربما» لأن محمد أنيس يشير إلى غياب دليلٍ واحدٍ على وجود جناح فدائي للوفد.
٢٠ وإلى جانب جمعية الانتقام، فقد تألَّفت — في ظل الثورة — ثماني جمعيات سرية أخرى
هي: جمعية اليد السوداء، لجنة الدفاع الوطني، اللجنة المستعجلة، المصري الحر — وكانت
تصدر جريدة باسم «المصري الحر»، ولها مطبعة سرية، الشعلة، المدارس العليا، مجلس العشرة،
جمعية الخمسين … إلخ.
٢١ وقد أعلنت جمعية «اليد السوداء» أن مَن يريد العودة إلى عمله من الموظفين،
سواء كان عاملًا بسيطًا أو مسئولًا كبيرًا، سيُعتبَر خائنًا، وسيكون مصيره
القتل.
٢٢ ويشير سليم باسيلي إلى الجمعية السياسية التي شارك في تكوينها في أسيوط،
عقب قيام الثورة، مع عددٍ من الشبان، وكان الهدف من الجمعية «بث الدعوة وتنوير الأذهان
إلى مطالب مصر، وجعل جميع الناس على اتصالٍ مباشرٍ وثيقٍ بزعماء الحركة الوطنية، ونشر
الأخبار الصادقة الصحيحة عن تطورات الحالة، ثم تنبيه الجمهور إلى ما قد يضر البلد من
أعمال بعض ذوي الأغراض الخبيثة.»
٢٣ ويقول الفنان في «عودة الروح»: «ليس يدري أحد على التحقيق أكان الثلاثة عبده
ومحسن وسليم قد اندمجوا في سلك جمعية سرية، أم ماذا؟ لقد أصبحت حجرة السطح مستودعًا
لرزمٍ هائلة مكدسة من المنشورات الثورية. وكانت تقف في كل مساء بالباب رقم ٣٥ شارع سلامة
عربة نقل، يجرُّها حمار، عليها صندوق خشبي كبير، يصعده السائق بمساعدة مبروك، تحت إشراف
عبده، إلى حجرة السطح. وبعد أن يفرغ ما فيه من رزمٍ يعاد إلى العربة، ولا يدري أحد
بالضبط من أين تأتي هذه العربة، ولا إلى أين تذهب الرزم؟ هذا سرٌّ كان الثلاثة يفضِّلون
الموت على إفشائه.»
٢٤
وعمومًا، فثمة روايات كثيرة تؤكد الدور الفعَّال الذي أسهمت به التنظيمات السرية في
الإعداد للثورة، وفي تصعيد أحداثها، حتى كانت حادثة اغتيال السردار الإنجليزي، وما
أسفرت عنه من نتائج سلبية.
•••
لست أذكر القائل: إن الثورة إذا لم يخلقها البطل، تولَّت هي خلْق بطلها، لكن سعد زغلول
هو البطل الذي صنعته ثورة الجماهير في عام ١٩١٩م.
ثمة اتفاق على أن الثورة لم تكن من تدبير أحد، وأن اعتقال سعد وزميليه كان بمثابة
نزع
صمام الأمان عن قنبلة الثورة الهائلة «إنه مهما كانت دوافع الوطنيِّين خلال الشهور
الأخيرة الماضية؛ فإن الشعور السائد الآن لا بد أن يكون قد نما خلال عدة سنوات، وأن
الانفجار كان لا بد أن يحدث في وقت من الأوقات.»
٢٥
وكتب اللورد ملنر في تقريره: «ولا شك أن الوفد مسئول عن تنظيم المظاهرات الأولية
التي
نشأت الحركة عنها، لكنَّ أعضاءه الذين يفوقون سواهم، هالهم تفاقم الخطب حتى خرج زمام
الحالة من أيديهم.» وقال فلانتاين شرول مراسل «التايمز» في كتابه «المسألة المصرية» إن
الزعماء «لم يقصدوا مثل هذه الثورة الخطيرة التي أدَّت إليها حركتهم.» لقد كان البند
الثاني من وثيقة الوفد ينص على أن «مهمة الوفد هي السعي بالطرق السلمية المشروعة حيثما
وجد للسعي سبيلًا في استقلال مصر استقلالًا تامًّا.» ثم «اشتعلت الثورة فجأة دون إنذار،
وروع الناس — من الذي أشعلها إذن؟! — من وقع المفاجأة.»
٢٦ اندلعت الثورة — على حد تعبير الراوي — (تحت عجلة الحياة) بقوة وروعة ولهيب
وحمم. وهبَّ الإنجليز مشدوهين للسيطرة على الموقف المباغت، وجعلوا يحاولون إخماد نيران
القلوب المتفجرة بنيران الرصاص «فتساقط الشهداء في كل مكان.»
٢٧ وقد أبدى سعد زغلول — في أكثر من مناسبة — عجبه الشديد من تطورات الأحداث،
وأكد دهشته لهذا «المد الثوري العظيم»، ووصف التفاف الشعب المصري حوله بأنه أصابه بما
يشبه الذهول.
٢٨ وحين طلبت سلطات الاحتلال من سعد ورفاقه — بعد القبض عليهم — إحضار ملابس
تكفي شهرًا، فسَّر سعد ذلك بقوله: «ما فهمنا أن ذلك للإبعاد، وتوهمنا أنه سوء فهم من
مبلغينا.»
٢٩ ويكتب سعد في مذكراته «اندهشت جدًّا من هذه الحوادث، لأننا لم نكن نتصور
حدوثها، حتى كادت تحبِّب السجن إلينا.»
٣٠ ويكتب الفنان على لسان سعد زغلول في «أمام العرش»: «أعترف بأنني دُهشت لقيام
الثورة، كما دُهش الزعيم السابق لي، وهو محمد فريد، ولكني لم أقصر في تهيئة الجو لها
بالخطابة لدى كل مناسبة، والاجتماع بالناس في بيتي، وفي دعوة الناس في الريف والمدن،
لتأييدي في موقفي، مما عبأ الشعور القومي، والثورة قامت احتجاجًا على نفيي، فكان شخصي
—
في الواقع — هو مشعلها المباشر.»
٣١ وكان محمد فريد قد كتب في مذكرات منفاه: «لكن الذي يمكن قوله إن هذه الحركة
لم تكن في الحسبان، وإن ما أظهره المصريون من التفاني والاتفاق، ما كان أحد يحلم به،
ويبدو أن هناك ظاهرة عامة في التحرك الثوري للشعب المصري، وهي ظاهرة المفاجأة، ليس فقط
بالنسبة للأعداء، بل وللقيادات كذلك.»
٣٢ وقد بلغ إيمان عبد الرحمن فهمي بأهمية أن تظل صورة الوفد طيبة في أعين
الجماهير المصرية، أنه كان يتصرف في الرسائل التي كانت تصله من سعد زغلول، فلا ينشرها
إلا بعد أن يحذف كل ما من شأنه يسيء إلى مكانة الوفد، أو يقلل من دوره. وكان يولي
العناية الأشد للرأي العام المصري، باعتباره السلاح الوحيد والعون الذي يحارب به الوفد
خصومه «وكلما ازداد تماسك هذا الرأي كان سلاحًا ماضيًا» في حين كان رأي سعد زغلول أن
«تكون الحركة موجهة دائمًا إلى الجهة المعقولة المعتدلة المفيدة، ولا يسلط عليها طيش
الطائشين ومبالغة المتهوسين، لأن ذلك يعدل بها عن القصد، ويصدها عن سبيل
النجاح.»
٣٣
لقد صاغت الأمة زعماءها — على حد تعبير لطفي السيد — «من الحذر إلى الاندفاع، ومن
الاعتدال إلى التطرف، ومن الملاينة إلى التشدد، وإن بقوا على خطتهم من حيث مفاوضة
الإنجليز فيما يجب أن تكون عليه العلاقة بين مصر وبريطانيا، وإن لم يرضوا منها إلا
بأدنى ما ترضى به الأمة.»
٣٤ ويقول العقاد «إن أناسًا كثيرين، ومنهم بعض المصريين، لَيعجبون إذا عرفوا
الآن أن هذه الثورة المفاجئة لم يقع فيها تنظيم، ولم تكن فيها رئاسة مدبرة على الإطلاق،
وأن مظاهرة الطلبة الأولى وقعت على غير علمٍ سابقٍ من الوفد، بل على خلاف النصيحة التي
سمعها الطلبة من بعض أعضائه الذين بقوا في القاهرة بعد اعتقال سعد وأصحابه الثلاثة،
لكنها هي الحقيقة التي نؤكدها بعد استقرائها من مصادر عديدة.»
٣٥ أما لطفي السيد، فقد عبَّر عن دهشته بقوله: «كانت من الخطر بحيث لم نكن
نتوقعها.»
٣٦ بل إن لطفي السيد يعطي تفسيرًا للثورة — فور قيامها — مؤداه أن «الوفد بريء
منها، وأن تبعتها تقع على السلطة العسكرية التي نفت أربعة رجال من رجال الوفد المصري
بلا ذنبٍ أتوه، إلا أن يطالبوا بحرية بلادهم، ثم قابلت المظاهرات البريئة بالمترليوز،
فغضب أهالي البلاد، وقاموا بهذه الحركة. وإني أنصح للسلطة العسكرية أن تستدعي حسين
رشدي باشا أو عدلي يكن باشا أو ثروت باشا، ليؤلِّف وزارة تعمل على ترضية الأمة ترضية
كافية، وبهذا يُقضى على الثورة.»
٣٧ وكتب محمد فريد في مذكرات منفاه: «من الأمور التي كانت غير منتظرة ما حصل
بمصر في شهرَي مارس وأبريل من هذه السنة — ١٩١٩م — وهو قيام ثورة عامة اشتركت فيها الأمة
بجميع طبقاتها، إن هذه الحركة لم تكن في الحسبان، وإن ما أظهره المصريون من التضامن
والاتفاق ما كان أحد ليحلم به.»
٣٨ بل إن الرافعي يعترف — صراحة — بأنه «مع ما أشعر به من ميل دائم إلى
التفاؤل، لم أكن أتوقع أن تقوم في البلاد ثورة في مثل هذه الظروف، وبمثل هذا الاتساع،
وبتلك السرعة والقوة والروعة التي تجلَّت في سنة ١٩١٩.» كان الساسة جميعًا، سواء أعضاء
الحكومة، أو أعضاء الوفد المصري — كما تقول «الأيام» — يرون أن الاستقلال يجب أن يتحقق
بالمفاوضات «إيثارًا للسلم، ورغبة في العافية، وبخلًا بالدماء عن أن تُراق، وبالنفوس
على
أن تُزهق.»
٣٩ وحين اتجهت مظاهرات الطلبة إلى بيت الأمة، واجه عبد العزيز فهمي الطلبة
المتظاهرين في غضب: «إن المسألة ليست لعب أطفال، دعونا نعمل في هدوء، ولا تزيدوا نار
الغضب اشتعالًا عند القوم.»
٤٠ وكان رأي عبد العزيز فهمي أن «بريطانيا مزهوة بنفسها، وهي الآن أقوى دولة في
العالم، وخرجت منتصرة من الحرب العالمية الأولى، ونفوذها بين الدول ساحق ماحق، ولا
ينازعها منازع، ومصر أضعف دولة في العالم، وواقعة بين براثن هذا الغول البريطاني، ونحن
هنا «شحاذون» نشحذ منها استقلالنا وحريتنا.»
٤١ والغريب — والمؤسف — أن بعض أعضاء الوفد بعثوا برسالة إلى السلطان فؤاد —
وأحداث الثورة في ذروتها — أكدوا فيها «أن أعضاء الوفد لم يتعدوا حدود القانون، ولم
يهيجوا في البلد مظاهرة، ولم يحركوا ساكنًا.»
٤٢
•••
إذا كان رأي محمد مندور أن الشعب — في أحداث الثورة — لم يكن يتحرك إلا إذا طلب إليه
الزعماء الحركة؛ فإن العكس كان هو الصحيح، فلم يتحرك الزعماء إلا بإرادة الأمة ودفعها.
واللافت أن تعليقات أسرة «بين القصرين» دارت حول اعتقال سعد زغلول وحده، دون التفاتة
إلى
بقية من اعتُقِلوا من الزعماء، فيما عدا ياسين الذي يقول: من حسن الحظ أن الباسل باشا
بين
المنفيين، إنه شيخ قبيلة مرهوبة الجانب، ولا أظن رجاله سيسكتون على نفيه. فيعلو صوت
فهمي قائلًا: «والآخرون؟ أليس وراءهم رجال أيضًا؟ إنها ليست قضية قبيلة، ولكنها قضية
الأمة كلها.»
٤٣ اللافت — في الوقت نفسه — أن اللجنة المركزية للوفد تألَّفت في أوائل أبريل
١٩١٩م، أي بعد قيام الثورة بالفعل.
لقد صنع الشعب من سعد زغلول زعيمًا، لأنه — كما قال مفتش الآثار الفرنسي في «عودة
الروح» — كان «ينقصه ذلك الرجل منه، الذي تتمثَّل فيه كل عواطفه وأمانيه، ويكون له رمز
الغاية، عند ذاك لا نعجب لهذا الشعب المتماسك المتجانس المستعذب، والمستعد للتضحية إذا
أتى بمعجزة أخرى غير الأهرام.»
٤٤ ويقول الفنان في «عودة الروح»: «ها هي مصر التي نامت قرونًا تنهض على أقدامها
في يوم واحد. إنها كانت تنتظر — كما قال الفرنسي — ابنها المعبود، رمز آلامها وآمالها
المدفونة يُبعَث من جديدٍ، وبُعث هذا المعبود من صلب الفلاح.»
٤٥ كانت ثورة أبنوم — كما قال الملك خوفو في محكمة الآخرة، ثورة العامة على
الصفوة. أما ثورة سعد زغلول — سميت الثورة باسمه — فكانت ثورة شعب مصر كله، فقراء
وأغنياء، على الاحتلال الأجنبي.
٤٦ ويتساءل فهمي في حزن: «ترى أترامت أنباء ثورتنا إلى سعد في منفاه؟ أعلِم
الشيخ الكبير بأن تضحيته لم تذهب هباء، أم تراه غارقًا في يأس المنفى؟»
٤٧ ويقول جميل الحمزاوي لأحمد عبد الجواد: «أسمعت عن الاسم الجديد الذي أطلق
على بيت سعد باشا؟ إنهم يدعونه بيت الأمة.» ومال الرجل نحوه ليفضي إليه كيف علم
بالخبر.
٤٨
•••
أما العنف الثوري الذي جعل الاستقلال التام أهم أهدافه، فهو من فعل الجماهير المصرية
التي فرضت إرادتها بالمظاهرات والإضرابات والعنف، فارتقى طلب الحماية إلى مستوى
المناداة بالاستقلال أو الموت، وهو الشعار الذي رفعته الجماهير منذ أول أيام الثورة.
ويشير الرافعي إلى أن سعدًا قد اعتُقِل للمرة الثانية في ديسمبر ١٩٢١م، وكانت منزلته
من
الشعب قد عظمت وعلت، «ومع ذلك لم تقم في البلاد ثورة للإفراج عنه.»
٤٩ وكما يقول نهرو فإن «الرجال والنساء العاديين ليسوا في الغالب أبطالًا.
إنهم يفكرون في خبزهم اليومي فحسب، في أطفالهم ومشاكل بيوتهم، وما إلى ذلك. ولكن هناك
فترات يؤمن الشعب كله فيها بهدف عظيم، وحينذاك يصبح حتى الرجال والنساء العاديون
أبطالًا، ويصبح التاريخ حافلًا لامعًا.»
٥٠
يؤكد محمد كامل سليم أنه «لم يتول القيادة فرد معروف، بل كانت هناك قيادات شعبية
محلية
متفرقة في كل مدينة، وفي كل حي، وكل قرية. لم يتلقوا الأوامر والتوجيهات من أية جهة،
بل
كانوا يجاهدون ويكافحون ويقودون بروح المنافسة والفداء، وكان هناك جوائز تُمنَح لمن كان
أعظم جرأة وأكبر فدائية وأخطر عملًا.»
٥١ والمؤكد — كما أشرنا — أن الثورة فاجأت قيادة الوفد نفسها، ولم تكن مما
يخطر لها ببال. كان قانون الوفد آنذاك ينص على السعي للاستقلال بالطرق «السلمية
المشروعة». وكان رأي سعد زغلول «إن الثورة عمل شاق على بلدٍ أعزل، مرهق بالأعباء، مشحون
بالجند والسلاح والأرصاد، ولكنها إذا كانت واقعة فشعور الناس بالاختناق والتماسهم
المنفس للجهر بآلامهم المكبوتة كافٍ لانفجارها والاستيئاس فيها.»
٥٢ وثمة آراء — نتحفظ عليها — أن قيام الحكومات المحلية «كان محاولة من جانب
الطبقة البرجوازية المصرية لحماية ممتلكاتها من جموع الشعب، وأنها قامت بغرض المحافظة
على أوضاع الملكية الفردية، بعد أن أفلت زمام الموقف من حكومة القاهرة.»
٥٣ بل إن عددًا من الساسة والزعماء — ومن بينهم بعض أعضاء الوفد — لم تصل
نظراتهم إلى المدى البعيد لأمواج الثورة المتلاطمة. أصدروا بيانًا جاء فيه «إن الاعتداء
على الأنفس، أو على الأملاك، محرم بالشرائع الإلهية والقوانين الوضعية، وإن قطع طرق
المواصلات يضر أهل البلاد ضررًا واضحًا إذ يحُول بينهم وبين مباشرة مصالحهم، ويوقف حركة
نقل المحاصيل والأرزاق، ومثل هذا العداء يضيِّع على المصريين ما ينتظرونه من العطف
عليهم.»
٥٤ وقد أصدر بعض المثقفين من السراة نداء إلى الشعب، يطالبونه بالهدوء
والسكينة واتباع القانون — ٢٤ مارس ١٩١٩م: «أصدرت السلطة العسكرية إنذارًا بأنها ستتخذ
أقسى ما يكون من الوسائل الحربية عقابًا على ما يقع من الاعتداء على طرق المواصلات
والأملاك العمومية. ولا يخفى على أحد أن الاعتداء، سواء كان على الأنفس أو على الأملاك،
محرَّم بالشرائع الإلهية والقوانين الوضعية، وإن قطع طرق المواصلات يضر أهل البلاد ضررًا
واضحًا؛ إذ هو يحُول بينهم وبين مباشرة مصالحهم، ويوقف حركة نقل المحاصيل والأرزاق،
ويعطِّل المعاملات والأخذ والعطاء، ويسبِّب العسر وسوء الحال. على أن العقاب عليه يعرِّض
بعض
القرى للتخريب، ويعرِّض الأنفس البريئة إلى أن تُؤخَذ بما لم ترتكب من الذنوب. وينبغي
أن
يُلاحَظ أن مثل هذا الاعتداء يضيع على المصريين ما ينتظرونه من العطف عليهم، بما يسبِّب
من
رواج إشاعات السوء عنهم. من أجل ذلك، رأى الموقعون على هذا من أقدس الواجبات الوطنية،
أن يناشدوا الشعب المصري باسم مصلحة الوطن، أن يجتنب كل اعتداء، وألَّا يخرج أحد في
أعماله عن حدود القوانين، حتى لا يسد الطريق في وجه كل الذين يخدمون الوطن بالطرق
المشروعة. كما أننا ندعو أعيان البلاد وأرباب النفوذ فيها، أن يقوموا بالواجب عليهم من
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيسارعوا إلى اتخاذ جميع ما لديهم من الوسائل لمنع
وقوع كل ما ينجم عنه ضرر للبلاد. وإنَّا شديدو الرجاء في أن الأمة المصرية — بما عُرفت
به
من التعقل والروية — تصغي إلى هذا النداء، وتلزم طريق الحكمة في سلوكها، والله الهادي
إلى سواء السبيل.»
٥٥ ويقول الرافعي: «امتنع بعض من عرض عليهم النداء عن التوقيع عليه، لأنه
بمثابة دعوة إلى السكينة والهدوء من دون مقابل من الإنجليز. وكان يجمل بالذين وقَّعوا
عليه
أن يحتجوا أولًا على الفظائع التي ارتكبها الإنجليز حيال المظاهرات البريئة العزلاء من
السلاح، وأن يحتجوا على الإنجليز في إخلافهم وعودهم لمصر كل مرة بالجلاء عنها. أما أن
يقصروا النداء على استنكار الاعتداء على الأملاك والأنفس وقطع المواصلات، أي استنكار
ما
بدا من الجانب المصري، ومن الجانب البريطاني، فليس من الإنصاف ولا من الحكمة في شيء،
وبخاصة لأن هذا النداء قد أعقب إذاعة خطبة اللورد كيرزون، فكان النداء بمثابة تأييدٍ
غير
مقصود لهذه الخطبة التي تنم عن روح عدائية للحركة الوطنية والأهداف القومية.»
٥٦
والحق أن أصحاب هذا البيان كانوا من أبناء البرجوازية الكبرى الذين خشوا على
مصالحهم، بعكس غالبية المثقفين الذين كانوا وقودًا لنار الثورة، مثل أعضاء الجهاز
السري. ولعل أعضاء التنظيم السري بالذات رفضٌ عمليٌّ لرأي فتحي غانم بأن «طبقة المتعلمين
كانوا كلما زادوا علمًا وثقافة، كلما ضعفت تضحياتهم السياسية؛ فقد كان المتعلمون
يتحوَّلون إلى موظفين وأطباء ومهندسين ومحامين وتجار وأصحاب مهن وحرف وأموال. كانوا
يتحوَّلون إلى أصحاب مصالح مالية، يخشون معها من المغامرة في ميدان الكفاح السياسي، لذلك
اقتصرت المظاهرات والإضرابات على الطلبة حتى يتمُّوا تعليمهم، وعلى العمال في الورش
والمصانع والنقل.»
٥٧ ثمة رأي مقابل يرى أن الطبقة الوسطى هي التي قامت على أكتافها هذه اليقظة،
إنها الطبقة الوسطى، وقوامها الطلبة والموظفون.
٥٨ وكان غالبية أعضاء التنظيمات السرية من المثقفين الذين استرخصوا حتى
الأرواح لقاء استقلال بلادهم، ولم يتحوَّلوا إلى موظفين، ولم تضعف تضحياتهم السياسية،
بالإضافة إلى المئات من الطلبة الذين يُعَد فهمي عبد الجواد تعبيرًا حقيقيًّا عنهم. ومن
أسفٍ أن دعاة السكينة كانوا هم ورثة الحكم من سلطات الاحتلال، بعد أن أُجهِضت الثورة.
من
هنا، جاء قول كمال عبد الجواد لنفسه في «قصر الشوق»: أما المخلصون فقتلى، وأما الخونة
فسفراء.
٥٩ وقد فقد الزيادي (المرايا) الضابط بإحدى المدارس الثانوية، وظيفته، ثم فقد
ابنه، في أحداث وطنية. مع ذلك فإنه تابع غروب حياته وهو يعاني ضيق ذات اليد، بينما
الذين لم يكتووا بنار التضحية وقِيَمها، في قمة السلطة، يعتزون بإقبال الحياة.
٦٠ ويكتب عبد الرحمن فهمي لسعد زغلول: «حصل اعتقال كثير من القضاة وأعضاء
النيابة والمحامين وغيرهم، وكذا وكلاء المديريات ومأموري المراكز، وبينهم من أهين إهانة
زائدة حتى آل معه إلى الانتحار، كوكيل مديرية المنيا، أو إلى الاستقالة بعد الإفراج عنه
كنائب نيابة المنيا.»
٦١ ولا شك أن التنظيمات اليسارية التي خرجت من صلب الثورة، وجعلت الدفاع عن
مصالح الطبقات الكادحة هدفًا أساسيًّا لها — مثل الحزب الاشتراكي والتنظيمات اليسارية
—
قامت — إلى حدٍّ كبير — على أكتاف العناصر المثقفة، وهو ما يجعل قول ستالين (١٩٢٤م) بلا
دلالة مؤكدة من حيث إن «نضال التجار والمثقفين البرجوازيين المصريين في سبيل استقلال
مصر، نضال ثوري من الناحية الموضوعية، رغم الأصل البرجوازي لزعماء الحركة الوطنية
المصرية، ورغم صفتهم البرجوازية، ورغم كونهم ضد الاشتراكية.»
ثورة الأفندية
يقول بارتيو
Pareto: «تحدث في الثورات عامة أن أفراد
الشرائح السفلى يقودهم أفراد من الشرائح العليا، لأن هؤلاء الأخيرين يتمتعون بالصفات
العقلية التي تؤهلهم للحرب والنضال، في حين أنهم مجرَّدون من الرواسب التي في حوزة
الشرائح السفلى.»
٦٢ ومن بين التسميات التي أطلقت على ثورة ١٩، ثورة «الأفندية»، تأكيدًا للدور
الذي أدَّاه المتعلمون — أو المثقفون — في أحداث الثورة، من ناحيتَي التخطيط والتنفيذ.
وكما يقول لاكور: «إن التاريخ لا يعرف مجتمعًا لعب فيه الطلبة والمثقفون بصفة عامة
دورًا طليعيًّا في الحركة الوطنية، كما حدث في مصر.»
٦٣ وكان رأي اللورد كرومر أن جماعات الأفندية في المدن صعبة القياد، لولوعها
بالثرثرة، ومن ثَم فقد حرص على تعيين أصدقاء لسلطة الاحتلال في مناصب العمد والمشايخ،
ليسعدوا على إحكام قبضة الإنجليز على القرى التي يحكمونها.
٦٤
والحق أن فئة المثقفين — وبالتحديد ما كان يُسمَّى بفئة الأفندية — كانت جديدة على
تكوين
المجتمع المصري، فهي تجد بداياتها في مطالع القرن التاسع عشر، بعد أن تحقق التلامس بين
الحضارتين المصرية والغربية. وقد واجهت تلك «الفئة» معارك عديدة حتى اكتسبت ملامحها
وقسماتها. وكان في مقدمة تلك المعارك مشكلة الثنائية الفكرية التي تمثَّلت في التناقض
ما
بين مدرسة الأزهر السلفية، والمدرسة الأوروبية بنظم تعليمها المغايرة، ثم استطاعت
«الفئة» الجديدة أن تنتزع القيادة الفكرية من المدرسة الأزهرية، وأن تسهم بدورٍ واضحٍ
في
تطوير الحياة الاجتماعية والثقافية منذ أواسط القرن التاسع عشر.
فلماذا أصبح هؤلاء المثقفون الأفندية، أو الأفندية المثقفون طبقة ثورية؟
يلخص محمد أنيس ذلك في ثلاث نقاط: إنها طبقة جديدة على تركيب المجتمع المصري،
وتمثيلها لثقافة أكثر تطورًا من الثقافة القديمة … حرمانها من وظائف الدولة حين شغلت
هذه
الوظائف عناصر غير مصرية … تضييق التعليم بصفة عامة على المصريين.
وإذا كان علي ماهر يذهب إلى أن «أغلبية المثقفين في ذلك العهد حقًّا في السلك
الحكومي.»
٦٥ أي من الموظفين؛ فإن الأفندية لم يكونوا هم التعبير الوحيد عن المثقفين. من
تعريفات المثقف أنه كل من يبدع أو ينقل أو يطبِّق الثقافة، وهو تعريف يرفض الطبقية، لأن
المثقف — في ضوئه — قد يكون عاملًا أو موظفًا أو طالبًا؛ فالثقافة ليست وظيفة، ولا يحتل
تأثيرها وضعًا ما في السلم الطبقي. ولعله من هنا يأتي تفسيرنا لاتحاد الطلبة والعمال
في
مشروعات وطنية مشتركة. إن قصر تسمية المثقفين على قطاع بذاته، وفئة بعينها، في المجتمع،
تسمية قاصرة، لأن التسمية الحقيقية ينبغي أن تشمل كل القطاعات والطبقات والفئات، فلا
تقتصر — مثلًا — على الموظفين، أو الأفندية. ثمة القيادات العمالية المثقفة، والقيادات
الفلاحية المثقفة، والقيادات الطلابية المثقفة. إطلاق تسمية «المثقفين» على فئة بذاتها
من فئات الشعب، لها مصالحها الاجتماعية والسياسية، وانتماءاتها الطبقية والفكرية، هو
خطأ علمي، لأن المثقفين لا يمثِّلون طبقة اقتصادية بالمعنى المتعارف عليه، بحيث يسهل
طرح
مواقف أفرادها بعامة من القضايا التي يحياها المجتمع. إن لكل طبقة مثقفيها الذين يعانون
مشكلاتها، ويعبِّرون عن مصالحها، فهم — في الأغلب — لا يعبِّرون عن موقفٍ واحد، محدد،
وإنما
تصدر مواقفهم من المنطلق المصلحي والانتمائي لكل طبقة، بصرف النظر ما إذا كانت الظروف
الاجتماعية قد أتاحت تثقيف كوادر من العمال والفلاحين، بينما أتاحت ذلك لعناصر من
الطبقة الوسطى وما فوقها.
إن إطلاق اسم «ثورة الأفندية» على ثورة ١٩١٩م، لا يعني أنها لم تكن أساسًا ثورة الفلاحين
أو العمال أو الطبقات الدنيا بعامة، بل إنه لا يعني فئة الموظفين على وجه التحديد. فلا
شك أن كل فئات الشعب وطوائفه قد ألقت بثقلها في التيار الثوري. ولم تكن مظاهرات
الموظفين في بدايتها — وهو ما سنعرض له في فقرات تالية — إلا رد فعل عنيف لبيان اللورد
كيرزون الذي قال فيه إن الأنباء الواردة عن الحال في مصر أقرب إلى السلب والنهب منها
إلى السياسة. ثم أثنى على موظفي الحكومة المصرية ورجال البوليس والجيش المصري، وأشاد
بحسن سلوكهم في أثناء الاضطرابات، واستدل بسلوكهم على أن عقلاء الأمة لم يشتركوا في
الثورة!
٦٦ (فلنتأمل قول غاندي: إن سعد زغلول نجح في دفع موظفي مصر إلى الإضراب عن
العمل، بينما فشل هو في ذلك). أما إذا عمَّمنا التسمية — رغم حرص بعض المؤرخين على غير
ذلك — وحددنا «الأفندية» بأنهم الموظفون وأرباب المهن الحرة والطلبة والمثقفون من
العمال والفلاحين. فلا شك أن هؤلاء «الأفندية» كانوا أخطر عناصر الثورة على الإطلاق،
فقد كانت قيادات المدن، والقرى بعامة، من المثقفين الذين يعدون الخطط، وينظمون وسائل
المقاومة.
٦٧ وكما يقول أحمد عباس صالح، فقد كان أهم ما تركه ميراث ١٩١٩م هو المظاهرة
باعتبارها تعبيرًا شعبيًّا، وعلى حد تعبيره، فقد كانت المظاهرة هي الشكل الذي أتقنته
الطبقة الوسطى المصرية، وأبناء المدارس والجامعة بصفة خاصة.
٦٨ وربما تُعَد تسمية «ثورة الأفندية» تعبيرًا عن الدور القيادي لطبقة المثقفين
في الثورة، بأكثر من أن تكون تعبيرًا عن تجسيد تلك الطبقة للثورة بعامة.
ولعل اسم «ثورة الأفندية» مبعثه أن المثقفين قاموا بالدور القيادي للثورة، فضلًا عن
أبناء الطبقة الوسطى الذين كانوا أكثر استفادة من النتائج المباشرة للثورة دون سواهم
من
بقية طبقات المجتمع. فبعد تصريح فبراير ١٩٢٢م تمكَّنت الوزارات المصرية المتعاقبة من
تمصير
الإدارة المصرية تدريجيًّا، وخاصة وزارة سعد في ١٩٢٤م — وكان ذلك لصالح فئة الموظفين
—
ثم مكَّنت هذه الأوضاع الحكومات المصرية منذ ١٩٢٤م في التوسع التعليمي؛ فزاد عدد طلبة
المدارس في ١٩٢٤م إلى ٣١٤ ألفًا، ثم إلى ما يقرب من ٩٠٠ ألف في ١٩٣٣م، كما زادت ميزانية
التعليم بالنسبة إلى الميزانية العامة من ٤٪ في ١٩١٩م إلى ٢٠٪ قبيل الحرب العالمية
الثانية.
•••
في ١٩٢٠م صدر عن إدارة مجلة «الهلال» كتاب بعنوان «الاشتراكية»، قدمت له بالقول إنه
«قد أصبح للاشتراكية شأن عظيم في حياة الشعوب الغربية، ولا سيما بعد الحرب العظمى،
لجدير بقراء العربية أن يطلعوا على حقيقة هذا المذهب وقضاياه ومراميه، إلى غير ذلك من
المباحث الخطيرة الدائرة على إصلاح المجتمع العمراني. ولما كانت اللغة العربية مفتقرة
إلى كتاب في هذا الموضوع، طلبنا إلى الكاتب الاجتماعي نقولا أفندي الحداد وضع مؤلف وجيز
لسد هذا النقص، وها هو ذلك المؤلف نقدمه إلى القراء، ويقينًا إنه يقع لديهم موقعًا
حسنًا، ويعينهم على فهم دقائق المشكلة الاجتماعية الكبرى، سواء وافقوا على العقيدة
الاشتراكية أو لم يوافقوا؛ فإن غاية هذا الكتاب شرح تلك العقيدة، وليست غايته نشر
الدعوة الاشتراكية، أو الحث على الانخراط في سلك الأحزاب الاشتراكية.
٦٩ واللافت أن الهلال كانت معروفة بموقفها المحافظ، وإقدامها على إصدار كتاب
عن الاشتراكية، دليل مؤكد على المد الذي حققه الفكر الاشتراكي في بحر السياسة العالمية.
وكان رأي فرح أنطون أن إذاعة المبادئ الاشتراكية لا يكفي — وحده — لتأييد الاشتراكية،
وإنما يجب أن يرافق ذلك تحريض على تنفيذها بالقوة، وغرس فكرة التحريض في نفوس الشباب،
وإلا ظلت الاشتراكية في إطار النظرية، لا تغادرها.
٧٠ وقد ذهب إبراهيم عبد القادر المازني في ١٩٢٩م إلى أن الاشتراكية لا مفر
منها، ولو بقوة العدوى من الغرب.
٧١ أما نجيب محفوظ فقد بشَّر منذ ١٩٣٠م بالاشتراكية، كتب تحت عنوان «احتضار
معتقدات وتولُّد معتقدات»: «فلما أخذت الاعتقادات القديمة في الفناء، وأخذ الفعل يسلط
نوره عليها، فيُظهِر من عيوبها، ويكشف من سوءاتها التي عاشت ورسخت في النفوس أجيالًا
كحقائق لا مراء فيها ولا جدال، ولما حلَّ الشك محل الإيمان تأثَّر الأدباء بذلك التطور
الذين هم من أكبر دعاته ومؤيديه بما يؤلفون من كتبٍ تحمل على القديم، تحاول أن تأتي
عليه، وتخلِّصنا من استعباده ورِقه.»
٧٢ وفي المقابل، فقد وصف مكرم عبيد الاشتراكية — فيما بعد — بأنها عبارة بغيضة
«يجب ألا تمر بخاطر وزير المال.»
٧٣
•••
كانت الخصومة السياسية التي قامت على تناقض الطبقة والمصلحة، عاملًا في نشوء أحزاب
سياسية عديدة، مثل الأحرار الدستوريين والسعديين والشعب … إلخ، ومن هنا يمكن أن تنتسب
تلك
الأحزاب إلى البُعد السلبي للثورة، بعكس بعض الأحزاب الأخرى التي كانت تجسيدًا لمطالب
الجماهير في الثورة، مثل الحزب الشيوعي المصري الذي أنشئ عام ١٩٢٠م.
لقد جاءت فكرة إنشاء الحزب الاشتراكي المصري، نتيجة تحوُّل حركة ١٩١٩م إلى حركة مطالبات
اقتصادية؛ فقد برزت إضرابات عمَّال الترام وعمال النسيج، وتطورت المطالب الوطنية إلى
حركة
اقتصادية، ومن ثَم بدأ تفكير عدد من المثقفين في تكوين الحزب الاشتراكي.
٧٤
ومع تأكيد رفعت السعيد عن النشاط الحزبي للاشتراكية في مصر، بأن كل الروايات تتفق
على
أن البداية كانت بأيدٍ أجنبية.
٧٥ فإن أنور كامل يؤكد أنه كانت هناك عناصر مصرية متفجرة، ومتطلعة إلى
التغيير، وأن البيئة المصرية كانت تخلق هذا في نفوسهم بصورة موضوعية «وليس صحيحًا أن
الأجانب هم الذين أحدثوا هذا التفجُّر، أو هذا الاتجاه نحو اليسار.»
٧٦ لكن روزنتال يتحدث عن حداثته، وأنها كانت أميل إلى المبادئ الاشتراكية وأحن
إليها، «وقد كان أعظم الآمال عندي أن أرى حالة العمال تتحسَّن بقوة التربية والنظام.
ولما
وفدت إلى مصر منذ ٢٥ سنة جعلت أسعى لتأليف النقابات، وأول نقابة اشتركت في تأليفها كانت
نقابة عمال السجاير، وبعد ذلك اشتركت في تأسيس بضع نقابات أخرى للخياطين وعمال المعادن
وعمال المطابع، وكانت تلك النقابات كلها تقريبًا للعمال الأجانب، لأن العمال الوطنيين
كانوا — في ذلك الوقت — أقلاء (قِلة) في جميع الحروف ودوائر العمل بالنسبة إلى زملائهم
الأجانب.»
٧٧ ويضيف روزنتال قوله عن قيامه بحملة على الحكومة «بقصد حملها على إصدار
قانون يحدد أجور المنازل، ووافق المسعى هوى في نفوس الجمهور، فهبَّت الصحف تساعدني في
هذه
المسألة، ونشرت اسمي مرارًا في بعض مقالات تتعلق بالشئون المحلية، فرأيت من بعض
الوطنيين عطفًا على الاشتراكية. وكان من هؤلاء المتعاطفين حسني أفندي العرابي والدكتور
علي العناني أفندي وسلامة أفندي موسى والأستاذ عبد الله عنان، فاتفقت معهم على العمل،
وقررت تأسيس الحزب الاشتراكي المصري. وقد كتبوا لهذا الغرض منشورًا يحتوي على مبادئ
الحزب، موقَّعًا عليه منهم، ولم أشترك في التوقيع لأنني كنت أعتبر أن ظهور اسمي الأجنبي
—
رغم كوني مصري الجنسية — يمكن أن يُعَد بمثابة تدخل أجنبي في مسألة مصرية، وقد جعلنا
مركز
الحزب في العاصمة، وأنشأنا بعض الفروع للحزب في الأقاليم.» وهذه الرواية لا تختلف في
مضمونها عما ذكره سلامة موسى أو الدكتور العناني حول ظروف تأسيس الحزب. لقد تعرض الحزب
— عند إنشائه — لهجومٍ عنيفٍ من جهات متعددة، وتعرَّض كذلك — قبل إنشائه — لحملات دفعت
قادته إلى الموافقة على تغيير اسمه إلى الحزب الديمقراطي.
٧٨ ومما يذكره محمود عزمي في مذكراته أن منصور فهمي عرض عليه في شتاء ١٩١٨-١٩١٩م فكرة حزب
جديد باسم «الحزب الاشتراكي»، وأبدى محمود عزمي اعتراضه على فكرة تكوين
أحزاب سياسية في الوقت الذي يتكاتف فيه الجميع وراء الوفد المصري، بالإضافة إلى عدم
ملاءمة الظروف المصرية، الاقتصادية والجماعية — على حد تعبيره — «لتنظيم الجهود في سبيل
المبادئ الاشتراكية.»
٧٩ ثم وافق محمود عزمي على الاشتراك في تأسيس الحزب، وإن أعلن رأيه المعارض
للحركة الشيوعية «إني مسجل عند الشيوعيين في عِداد الرجعيين لأني مثقف من ناحية،
والمثقفون في عمومهم خصوم لذلك النظام الأحمر، ولأن لي مقالات ضد الشيوعية.»
٨٠
ويحدد محمد أنيس اتجاهات النقد ضد الحزب بأربعة هي:
-
(١)
الهجوم على الحزب ومبادئه باسم الدين، وقد سُمِّي هذا الاتجاه في دوائر الاشتراكيين
المصريين في ذلك الوقت بالتفتازانية، نسبة إلى الشيخ محمد الغنيمي التفتازاني الذي قاد
هذا الاتجاه.
-
(٢)
رفض الاشتراكية كمبدأ للحياة الاجتماعية في مصر، والدفاع عن مذهب «الفردية»، وهذا
واضح في مقالات محمد حسين هيكل.
-
(٣)
اتجاه ثالث، يتمثَّل فيما كتبه فكري أباظة بأن المرحلة الراهنة هي مرحلة التحرر
الوطني، ويجب أن تتجه الجهود كلها إلى ذلك.
-
(٤)
اتجاه رابع، موجَّه من جماعة يمثِّلهم عزيز ميرهم، وهو اتجاه أكثر تطرفًا ناحية
اليسار من أعضاء الحزب نفسه، رغم أن عزيز ميرهم لم يكن عضوًا في الحزب، بل كان عضوًا
في
الحزب الديمقراطي مع هيكل، لأن أعضاء الحزب في دفاعهم عنه — وبخاصة سلامة موسى — أوضحوا
أن الحزب يتبنى الاشتراكية بمفهومها المتطور أو المعتدل، ومن ثَم فقد حملوا في ردودهم
بعنفٍ على التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي. وردَّ عليهم ميرهم متهمًا إياهم
بالبعد عن الاشتراكية لتنديدهم بالبلشفية التي يجب أن تعتبر دائمًا تجربة اشتراكية
رائدة.
والملاحَظ أن الهجوم على الحزب الاشتراكي قاده ممثِّلون للتيارات السياسية المختلفة،
مثل
فكري أباظة عضو الحزب الوطني، ومحمد حسين هيكل عضو الحزب الديمقراطي، بالإضافة إلى
قيادات الحكومة الوفدية. فقد كتب فكري أباظة يقول: «تستورد مصر من أوروبا العلل
والأمراض كما تستورد أصناف البضائع الجديدة والموضات المختلفة، والاشتراكية هي آخر موضة
وصلت في الأسبوع الأخير، فهلمُّوا أيها الزبائن الكرام، إن الحزب الجديد يغني الفقراء،
وينشل البؤساء، ويشرك الخفراء في أموال الأمراء.»
٨١ وكتب فكري أباظة، إن وظيفة الحزب الاقتصادية تتلخص في أنه سيكون من الآن
فصاعدًا «موقعاتي» بين أصحاب الأموال والعمال، إلى أن تسنح الفرصة، فيقوم بتوزيع
الأملاك على الجميع، فتصبح مالية الأمراء كمالية الفقراء سواء بسواء.»
٨٢ أما هيكل، فبعد أن وافق على المشاركة في إعلان تأليف الحزب، وقعت بعض
الأحداث التي يمكن نسبتها إلى الصراع الطبقي، فأعلن معارضته لتأسيس الحزب بمقالٍ عنوانه
«الاشتراكية في مصر» جاء فيه: «أريد أن أسأل إخواننا الاشتراكيين: هل ترَون البيئة
المصرية الحاضرة صالحة لقيام مبدئهم فيها، أو أنها — على العكس من ذلك — معادية له؟
فمحاولة إدخاله إليها، فضلًا عن أنها عبث غير منتج، قد يكون من ورائها ارتباك يجمل بهم
ألا يجروا البلاد إليه. لا شك أن إخواننا يعلمون — عن يقين — أن من أقوى ردود الفريقين
على
الاشتراكيين، أن نظريتهم إذا صحَّت في الصناعة، فهي لا تصلح في الزراعة، لأن الناس فيها
مبعثرون، ليست بينهم جامعة ضرورية كعمال الصناعة، ولأن الملكية الصغيرة لا تزال منتشرة
جد الانتشار في النظام الزراعي … ألا يصح أن نُسائل إخواننا الاشتراكيين عن مبلغ تطور
نضال الطبقات في مصر؟ وإلى أي حدٍّ تمكن الإحساس بها من فؤادهم؟ وإذا صح إن كان لذلك
شبه
وجود في بعض الصناعات، فهل هو موجود في الصناعة الأخرى؟ وهل يمكن أن يكون موجودًا في
الأرياف؟»
٨٣ ونشرت «الأهرام» — ١٩٢١م — مقالة، أشادت فيه بالعمال على إيمانهم بالله،
وبأن الرزق من عند الله، وأنهم إذا صبروا وصابروا في هذه الدنيا؛ فإن لهم الجنة في
الآخرة، ولكن الاشتراكية تهز هذا الإيمان، وهي لذلك كارثة على النظام الاجتماعي عامة،
وسوف تحتاج الحكومة إلى أضعاف العدد من رجال البوليس والإدارة لرد هذه الكارثة. وتوجه
كاتب المقال برجاء إلى رجال الدين أن «يهبُّوا ويقاوموا الوباء قبل استفحاله، وإنه سوف
يقضي على أخلاق الشرق، وعلى تراثه، وهي أخلاق تقوم على الرضا والقناعة
والصبر.»
٨٤
مع ذلك، فقد استطاع الحزب الاشتراكي أن يحقق لنفسه انتشارًا، أشار إليه مراسل
«الأهرام» في الإسكندرية، بأن الحزب كان له نفوذ كبير في لقاءات عديدة مثل نقابة عمال
الترام الحمراء، نقابة الصنائع، نقابة عمال الأرز، نقابة العمال المختلطة، نقابة
الصناعة اليدوية بالمحلة وغيرها. وأكدت المعلومات التي حصل عليها المراسل أن عدد
المنضمين إلى اتحاد العمال المتأثر بنفوذ الحزب يبلغ ١٥ أو ٢٠ ألفًا.
٨٥ وكتبت «الأهرام» في ١٧/ ٣/ ١٩٢٣م: «حقًّا إننا لا ندري كيف تتجاهل الحكومة
وجود حركة اشتراكية جادة بين ألوف العمال في مدن القطر المصري، مع أن الواقف على سير
الأحوال يرى أن هذه الحركة آخذة بالنمو.»
٨٦ ثم تعرَّض الحزب — من الداخل — لهزات عنيفة، أودت به في النهاية. فقد ظهر
اتجاهان — ١٩٢٢م — يمثِّل أولهما سلامة موسى، وكان يدعو إلى الاشتراكية الفابية، وبالتالي
عدم اقتصار قاعدة الحزب على العمال والطبقات الكادحة فقط، بل توسيعهما لتشمل الطبقة
البرجوازية وبعض الموسرين. وكانت حجة أصحاب هذا الاتجاه أن صورة المجتمع المصري تحتم
هذا الاتجاه «حتى يستطيع الحزب أن يلتئم بالطبقات الاجتماعية غير العمالية.» أما
الاتجاه الثاني — ويمثِّله روزنتال — فكان ينادي بعمَّالية القيادة، وأن تكون العضوية
من
العمال والفلاحين. حتى إن بعض أصحاب هذا الاتجاه — وهو فؤاد الشامي — وجَّه كلامًا قاسيًا
إلى سلامة موسى طالب فيه زعماء الاشتراكية في مصر «أن يتركوا العمال يتولون بأنفسهم
جميع شئونهم، لأن الاشتراكية من العمال، وللعمال، وبالعمال، وليست بالتجار والملَّاك
والمحامين.»
٨٧ وأسفر الصراع عن حدوث انقسام حقيقي بين الاتجاهين، وأعلن دعاة الاتجاه
الثاني استقلالهم بقيادة الحزب، ونقل مقر الحزب إلى الإسكندرية، وفصل قادة الاتجاه
الأول. وأعلنوا كذلك أنهم سيقاطعون أي نشاط لن تكون الطبقة العاملة مصدره. ويقول محمد
أنيس إن الانقسام الذي حدث في الحزب الاشتراكي المصري، كان انعكاسًا للانقسام الذي حدث
في الحركة الاشتراكية العالمية آنذاك، والذي تمخض عن ظهور الدولية الثالثة في موسكو،
بينما أعلنت بعض الأحزاب الاشتراكية الأوروبية رفضها لشروط الدولية الثالثة — كوَّنت
دولية فيينا الاتحاد الدولي للأحزاب الاشتراكية عام ١٩٢٠م — فمن الواضح أن سلامة موسى
كان يحبِّذ انضمام الحزب الاشتراكي المصري إلى دولية فيينا، بينما كان الجناح اليساري
في
الحزب الاشتراكي المصري يرى الانضمام إلى الدولية الثالثة في موسكو.
٨٨
وعندما عُقد المؤتمر الرابع للدولية الشيوعية — الكومنترن — في موسكو، أوفد الحزب
الاشتراكي المصري عضوه القيادي حسني العرابي مندوبًا عنه ليتفاوض باسم الحزب في انضمامه
إلى الدولية الثالثة.
٨٩ وعاد العرابي من الاتحاد السوفييتي ليبلِّغ الحزب أن اللجنة المركزية الدولية
قد اشترطت لقبول الحزب المصري في الدولية الثالثة عدة شروط، هي:
-
أن يطرد الحزب من بين صفوفه بعض العناصر غير المرغوب فيها، وبالتحديد روزنتال أحد
مؤسسي الحزب.
-
أن يبذل الحزب المساعي لضم كل العناصر الشيوعية إليه، وأن يقبل شروط الدولية
الحادية والعشرين.
-
أن يغيِّر الحزب اسمه إلى الحزب الشيوعي المصري.
-
أن يعقد الحزب مؤتمرًا لتحقيق ذلك، غايته ١٥ يناير ١٩٢٣م.
وأعلن الحزب قبول شروط الدولية الثالثة، ففصل روزنتال، وتسمَّى باسم الحزب الشيوعي،
وبدأ في إعداد برنامج للفلاحين، كما بدأ في تنظيم سلسلة من الإضرابات في مصانع
الإسكندرية، انتهى إلى إضراب عام في فبراير ١٩٢٤م، احتل فيه العمال المصانع، ورفعوا على
سارياتها الأعلام الحمراء.
٩٠ والملاحَظ أنه غداة ميلاد الحزب الاشتراكي في مصر، نشبت المعارك بين مؤيديه
ومعارضيه، وحدث انشقاق في صفوفه، أسفر عن تحوُّله إلى حزبٍ شيوعي في ١٩٢١م.
٩١ ونجح الحزب في ضم عدد من الطلبة، ومنهم طلبة من الأزهر، إلى صفوفه.
٩٢ وظل الحزب الشيوعي — لفترة طويلة — يعتمد على اليهود والألمان والإيطاليين،
حتى رفع بعض الشيوعيين المصريين — بعد ذلك — شعار تمصير الحزب. لكن الحزب الشيوعي
المصري — والتنظيمات الشيوعية بعامة — لم تستطع فهم الواقع المصري، أو الالتصاق به،
نظريًّا وعمليًّا. ظلت الحركة الشيوعية محدودة، ومحصورة، ولم تستطع أن تتحوَّل إلى حركة
جماهيرية ثورية وفق المنهج الماركسي. ومن ثَم، فلم تستطع تلك الحركة أن تؤقلم النظرية
الماركسية للواقع المصري، ولم يكن لدى قادتها من القدرة الفكرية الخلاقة، أو من الحس
القومي ما يؤهلهم لهذه المهمة. وتحولت الحركة إلى مجرد حلقات جدال، وإلى تنظيمات صغيرة
متصارعة، تحمل كلٌّ منها فردية وفوضوية وانتهازية قادتها، ولم تستطع — بالتالي — أن تتخذ
مواقف صحيحة إزاء الحركة الوطنية. ويقول مارسيل إسرائيل «إن منظمة تحرير الشعب هي أول
تنظيم شيوعي في مصر بعد اختفاء الحزب القديم. وكانت منظمة بدائية ليس لديها خبرة حقيقية
بتراث الحركة العمالية، وكان المستوى الثقافي لا بأس به، ولكن دون أية خبرة في العمل
السري.»
٩٣
وفي الحقيقة أن تلك الانقسامات التي تعرَّض لها الحزب منذ إنشائه، وما صحبها من فصل
قيادات الحزب بعضهم لبعض، ثم الارتباط بالدولية الثالثة، وتغيير اسم الحزب إلى الحزب
الشيوعي، دون محاولة جادة للتلاحم بالجماهير، بتوسيع قاعدته، واكتساب للفاعلية التي تتيح
له الاستمرار … كان ذلك كله أقرب إلى النمل الأبيض الذي قوَّض بناء الحزب تمامًا، وإن
بدا
صلبًا متماسكًا، حتى أمطرت تلك السحابة في أوائل ١٩٢٤م — وأعني بها الضربة القاصمة التي
وجَّهتها إليه وزارة سعد زغلول — فسوَّى مطرها بناء الحزب بالأرض. حاكم سعد زغلول أعضاء
الحزب، وحلَّ اتحاد النقابات الذي كان يسيطر عليه بعد تعديل قانون العقوبات، بما يحقق
هذا
الغرض.
٩٤ لكن ضربة الوفد لم تستطع أن تستأصل جذور النشاط الشيوعي تمامًا، فقد حوَّل
الحزب نشاطه العلني إلى نشاط سري، وألَّف لجنته المركزية الجديدة في ٦ أكتوبر
١٩٢٤م.
٩٥
ولعل الهدف من تلك الضربة المفاجئة التي وجَّهها الوفد إلى الحزب الشيوعي، كان محاولة
فرض وصاية الوفد على الطبقة العاملة، وربما جاء رفض سعد زغلول للبعد الاجتماعي، خوفًا
من أن تتخذه بريطانيا ذريعة لتأليب «الدول الرأسمالية» ضد مصر، وأن مثل هذا النشاط يفيد
منه أعداء مصر فقط. ومع أن لينين أرسل برقية إلى سعد زغلول يعلن فيها تأييده
التام للثورة، واستعداده المطلَق لمساندة الشعب في كفاحه الوطني، وتقديم المساعدة
المادية إن طلبتها مصر.
٩٦ فقد اعترف سعد زغلول أنه كان بلا موقف من الشيوعية، لا تقليلًا من خطورتها،
ولا تشجيعًا — في المقابل — لتحركاتها داخل الحياة السياسية والاجتماعية المصرية، وإنما
لأنه — كما قال في تصريح لجريدة «الديلي هيرالد» العمالية البريطانية، ليس ممن يهتمون
بالمباحثات في هذه الشئون الاجتماعية، وأضاف: «وأنا لا أجهد نفسي في أمر الكومونية، أو
البلشفية، ولا أبحث عن أيهما المناسب لحياتنا الاجتماعية؛ إذ ليست عندي أية فكرة من هذه
الوجهة.»
٩٧ وفي رسالة لعبد الرحمن فهمي أشار سعد زغلول إلى أن الوفد غير راضٍ عن
المنشورات التي تفيد اعتماد المصريين على الألمان، وتتضمن الانتصار للبلشفيك «فإن هذه
المنشورات يستفيد منها أعداؤنا للقول بأن الحركة المصرية لها اتصال بالألمان والحركة
البلشفية، وهذا يضر قضيتنا.»
٩٨ ولم يكن سعد بالضرورة ضد البلشفية، لكنه كان يخشى من استغلال ذلك ضده، وضد
الوفد. كتب إلى عبد الرحمن فهمي في ٢٣ يونيو ١٩١٩م يقول: «الوفد غير راضٍ عن المنشورات
التي تفيد اعتماد المصريين على الألمان، وتتضمن الانتصار للبلشفيك؛ فإن هذه المنشورات
يستفيد منها أعداؤنا للقول بأن الحركة المصرية لها اتصال بالألمان والحركة البلشفية،
وهذا يضر بقضيتنا.»
٩٩
وفي مارس ١٩٢٤م ترأس عبد الرحمن فهمي حملة خطابية مدروسة على مبدأ الصراع الطبقي.
وعبَّر
عبد الرحمن فهمي عن حقيقة ما يدعو إليه في خِطاب ألقاه في الاحتفال بتوليه زعامة العمال:
«وبهذه المناسبة، أحذركم، وأنا أربأ بنفوسكم الطاهرة البريئة من أن تدنسوا أنفسكم برجس
الشيوعية التي لا تعرف حقًّا ولا قانونًا، فاحذروا ساستها، وانبذوا دعاتها، واعلموا أن
مذهبهم مذهب دمار وخراب يجر العالم إلى الفوضى، ويعيده إلى أيام الجاهلية الأولى.
القانون. القانون. هذه كلمتي لكم، ووصيتي فيكم باحترامه، تكسبون عطف الناس جميعًا، وبه
تتحقق الآمال التي تطمحون إليها.»
١٠٠ وعلى الرغم من أن الاتحاد الجديد للعمال كان من صنع وزارة الوفد، فإنها لم
تعترف به قانونًا. ثم أصبحت الحركة العمالية نهبًا لأنواء وتيارات عنيفة. يقول عبد
الرحمن فهمي في ١٨ أكتوبر ١٩١٩م، في رسالة إلى سعد زغلول: «فاتني أن أوضح لسيادتكم نتيجة
المجهودات التي بُذلَت في سبيل تعميم النقابات بطول البلاد وعرضها، فلقد أثمرت والحمد
لله
تلك الجهود التي بُذلَت في هذا السبيل، وتشكَّلت لكل حرفة نقابة، ولم يبقَ في مصر حرفة
أو
صنعة إلا ولها نقابة. نعم، إن الحكومة لم تعترف بهذه النقابات للآن، وليس منظورًا أن
تعترف بها في الظروف الحاضرة، ولكنها على كل حال مفيدة جدًّا للحركة الوطنية، وهي سلاح
قوي لا يستهان به.»
١٠١
وعلى الرغم من إيمان الشيوعيين بأن «الاستيلاء على السلطة لا يمكن أن يتم إلا بوساطة
أغلبية الطبقة العاملة.»
١٠٢ فإن مارسيل إسرائيل يلخص مأساة الحزب الشيوعي المصري الوليد — بعد ضربة
١٩٢٤م — بأن الحزب لم يكن مستعدًّا للعمل السري، وكان معزولًا عن الحركة العامة للجماهير،
ولم تكن له أية صلة بالفلاحين، وصلته بالطبقة العاملة لم يكن قد توفَّر لها الوقت الكافي
لتقوى. كما يعترف أفيجدور في ١٩٢٣م أن «رفاقنا المصريين — الشيوعيين المصريين — لم يجدوا
بعد اللغة المشتركة بينهم وبين الجماهير، ولذلك فإن تأثيرهم على الجماهير ضئيل. إن دور
رفاقنا المصريين في كلا الهبَّتين يؤكد أنهم كانوا سلبيين تمامًا، وهذا موقف لا يُغتفَر
لحزبٍ قائدٍ للطبقة العاملة.»
١٠٣ أما محمد عودة فهو يُدين الحركة الشيوعية بعامة، لأن عمادها — في تقديره —
كان خليطًا من الأجانب، ومن المتمصرين، ولم يستطيعوا أن يمتدُّوا في المجتمع المصري إلا
إلى قطاعاتٍ من المثقفين، خاصة مَن يُسمون مثقفي البرجوازية الصغيرة، وحمل كلُّ هؤلاء
إلى
الحركة خصائصهم ونقائصهم. لم تستطع الحركة فَهم الواقع المصري أو الالتصاق به، نظريًّا
وعمليًّا؛ ولهذا لم تستطع أن تؤقلِم النظرية الماركسية لهذا الواقع، ولم يكن لدى قادتها
من القدرة الفكرية الخلاقة، أو من الحس القومي ما يؤهلهم لهذه المهمة. بل إن بعض الآراء
تُدين النظرة السلبية التي أهملت من خلالها حكومة سعد زغلول مشكلات العمال، وأنها كانت
هي العامل الحقيقي في النشاط المتزايد للحزب الشيوعي بين الأوساط العمالية. ويقول جاكوب
دي كومب «كنت أرى أن الأجانب لا يمكن أن يؤسِّسوا حركة شيوعية مصرية، وأن هذه المهمة
يجب
أن يقوم بها مصريون، وأن مهمتنا هي دراسة الواقع المصري، وأن نبحث — في حذرٍ — عن مصريين
قادرين على قيادة العمل، ثم نترك لهم مهمة تأسيس التنظيم. والحقيقة أن هذا هو السبب
الرئيس للخلاف بيني وبين هنري كورييل، لأن كورييل كان يرى أن على الشيوعيين الأجانب أن
يؤسسوا حركة شيوعية مصرية، وأن يقودوها.»
١٠٤ وخلص دي كومب إلى اكتشاف «أننا معزولون عن الواقع المصري، وأن أساليبنا لا
يمكن أن تؤدي بنا للالتقاء مع المصريين.»
١٠٥ بالإضافة إلى ذلك، فقد أصابت النتائج السلبية التي أسفرت عنها تجربة
الإسكندرية، نفوذ الحزب وسط جماهير العمال أنفسهم، وانتهز الوفد الفرصة فشكَّل منظمة
عمالية تحت قيادته.
١٠٦ وعندما أُلقي القبض على فكري (الضحايا) فقد أودع السجن بتهمتَين، الأولى
السرقة، والثانية التشبُّع بروح الشيوعية.
١٠٧ ولأن الشيوعيين الذين قبضت عليهم حكومة سعد زغلول عام ١٩٢٤م، كان لهم حزبهم
المعلَن والمعترَف به آنذاك،
١٠٨ فلم يكن من قبيل الصدفة البحتة — والرأي لرفعت السعيد — أن يُلقَى القبض على
قادة الحزب في ٣ مارس ١٩٢٤م، ثم يعلن الوفد تأسيس النقابة العامة للعمال في ١٥ مارس
١٩٢٤م، ثم تحوَّلت هذه النقابة — فيما بعد — إلى اتحاد عام للعمال.
١٠٩ كان الوفد هو حزب الجماهير المصرية، ومن ثَم فلم يجد الحزب الشيوعي المصري
الصدى الجماهيري المطلوب. وقد اتخذ الحزب موقفًا معاديًا من دستور ١٩٢٣م — وهو الدستور
الذي خرجت الجماهير المصرية — فيما بعد — تطالب بعودته — وأصدر بيانًا في أول مايو ١٩٢٣م
يطعن في الدستور. وزاد الشيوعيون من فرصة القضاء على حزبهم الوليد بالاصطدام بالوفد في
١٩٢٤م، فلم تحرك الجماهير المصرية ساكنًا، ذلك لأن إيمانها بالوفد كان أعمق من إيمانها
برسالة الحزب الشيوعي، فضلًا عن أن الصورة الشوهاء التي أجادت في تقديمها وسائل الإعلام
للنظام
الشيوعي قد نفَّرت الجماهير المصرية — وجماهير الريف بالذات — من النشاط الشيوعي
عمومًا.
١١٠ فقد كتبت مجلة «كل شيء والدنيا» — على سبيل المثال — تحت عنوان «من مظالم
الشيوعية»: «يخطئ من يحسن الظن بالشيوعيين الروس، ويستمع إلى تغنيهم بخيالاتهم الكاذبة؛
فإن الواقع الذي دلَّت عليه الحوادث أنهم مثل القياصرة ظلمًا وعتوًّا، بل هم أشد منهم
فتكًا
بالشعب الروسي المسكين.»
١١١ وأصدر محجوب ثابت بيانًا في ١١ مارس ١٩٢٤م، أعلن فيه «براءة سائر أعضاء
نقابة الصنائع اليدوية من الشيوعية» وأنه «يعطف كل العطف على مطالب العمال العادلة تحت
لواء السلم.»
١١٢ وفي مجلة «اتحاد العمال» — وهي المجلة الرسمية للاتحاد — كتب محمد فؤاد
سكرتير الاتحاد يقول: «دفع الطيش بعض الشبان الذين لا خلاق لهم بالإسكندرية، وغيرها من
المدن، إلى اعتناق مذهب الشيوعية، واحتالوا بهذا المذهب على العمال، فنفثوا هذا السم،
وكاد هذا الداء العضال أن يتفشى في هيكل الأمة، لولا أن قيض الله بعض رجال الحكم من ذوي
الفطنة، فاعتقلوا هؤلاء الشبان الآثمين، وزجُّوا بهم في أعماق السجون، جزاء ما قدمته
أيديهم، وما جنَوه من الذنوب.» وأوضح الكاتب حقيقة الدور الذي لعبه هو وعبد الرحمن فهمي،
شاكرًا الله أنه «قيَّض في هذا الظرف العصيب للعمال سعادة عبد الرحمن بك فهمي زعيم العمال،
فانتشلهم من الهوة التي كادوا أن يقعوا فيها.»
١١٣
لكن تلك الضربة القوية التي وجهتها حكومة سعد زغلول إلى الحزب الشيوعي، لم تستطع
أن
تقضي على النشاط الشيوعي تمامًا، كل ما في الأمر أن نشاط الحزب تحوَّل من العلنية إلى
السرية، وتألَّفت اللجنة المركزية الجديدة للحزب في ٦ أكتوبر ١٩٢٤م، اليوم نفسه الذي
صدر
فيه الحكم في قضية الشيوعية الأولى.
١١٤ وفي تقديري أنه كان يجب على القيادات الشيوعية — ولو في تلك المرحلة
المبكرة من نشاط الحزب — أن تسعى للتحالف مع الوفد. ولعلنا نشير إلى ما أعلنه لينين من
استعداده للاعتراف — بطريق الاستثناء — للبلاد المتخلفة بالإمكانية نفسها التي سمح بها
ماركس لروسيا من قبل. فإذا استطاعت البروليتاريا الثورية المنتصرة أن تهبَّ لمساعدتها،
فإنه ليس مما لا مفرَّ منه أن تمرَّ هذه البلاد بالمرحلة الرأسمالية في النمو
الاقتصادي.
١١٥ والواقع أن حركة النقابات لم تتوقف بعد نكسة الإسكندرية، ذلك لأن الحركة
العمالية كانت جزءًا من الحركة الوطنية ككل، فضلًا عن أن الوفد — وسعد زغلول شخصيًّا
—
كان يدرك أن محاولة تصفية الحركة العمالية بصورة جذرية، هو خسارة مؤكدة للرصيد
الجماهيري الذي كان يمتلكه الوفد. ويشير عبد المنعم الغزالي إلى عاملَين آخرين، أولهما:
أن الطبقة العاملة المصرية قد تدربت منذ بداية القرن على التنظيم والعمل الجماعي بمختلف
الوسائل القانونية وغير القانونية، وأن قيادة التنظيم النقابي بدأت تنتقل نهائيًّا إلى
قيادات عمالية مصرية. وثانيهما: أن أصحاب رءوس الأموال قد ازدادت حدة استغلالهم للعمال
المصريين، وكبتهم لهم، الأمر الذي فجَّر سخطهم في استمرار الحركة الإضرابية في الصعود،
ثم
استمرارهم في فرض تنظيماتهم النقابية الخاصة للدفاع عن حقوقهم.
١١٦ ويروي عبد المغني سعيد ظروف مواجهة حكومة سعد زغلول للحزب الشيوعي بصورة
مغايرة لما رواه رفعت السعيد، فقد أصرَّ الكومنترن على قراره بتنظيم إضراب عام للعمال،
يعلنون — من خلاله — رفض حملات التدخل ضد النظام السوفييتي، برغم تحفظ محمود حسني
العرابي من أن تنفيذ هذا القرار في مصر مرهون بمخاطر، في مقدمتها أن الحركة النقابية
ما
تزال هشة وضعيفة، وأن الإضراب قد يحرج أول حكومة وطنية بعد إعلان دستور ١٩٢٣م، وأن مصر
لا
تُعَد من الدول المناهضة — بصورة مباشرة — للنظام السوفييتي (لم تبعث — على سبيل المثال
—
بمتطوعين وأسلحة إلى الجيش الأبيض)، لكن الحزب الاشتراكي — تحت ضغط الالتزام الدولي —
اضطر لأن ينظم إضرابًا عامًّا، ما لبث أن عصف به، وأضرَّ بالحركة العمالية
عمومًا.
١١٧ وكان ذلك الحادث هو الباعث الرئيس لأن يبدأ سعد زغلول محاولة استقطاب
الجماهير العمالية بواسطة عبد الرحمن فهمي. أما شهدي عطية، فقد أخذ على الحزب الشيوعي
أخطاء خطيرة، تتمثَّل في عدم فهمه طبيعة القضية الوطنية، ورفضه التعاون مع حزب الوفد
باعتباره حزب الجماهير المصرية، وتحريضه على إضرابات استفزازية في بعض المصانع، إلى حد
احتلال العمال تلك المصانع أكثر من ثلاثة أيام، مما أعطى المبرر لسعد زغلول كي يوجِّه
ضربة قاصمة إلى الحزب، وإلى قياداته، وإلى قواعده المختلفة.
١١٨ ويطالعنا رأي (ميرامار): «وسعد زغلول؟ لقد عبده الجيل السابق عبادة. فيقول
منصور باهي: ما قيمة المعبودات القديمة؟ لقد طعن الرجل الثورة الحقيقية وهي في
مهدها.»
١١٩ ولعل منصور باهي كان يعني باتهامه، شحوب الفكر الاجتماعي عند سعد زغلول،
فضلًا عن مقاومته للتيارات اليسارية بعامة، والماركسية بنحوٍ خاص. والواقع أن الوفد لم
يكن هو الحزب السياسي الوحيد الذي رفضته الحركة اليسارية وأدانته، فقد رفضت الحركة كل
التنظيمات الحزبية القائمة، ﻓ «حزب الاتحاد» هو حزب عملاء السراي وكبار الإقطاعيين
والبيروقراطيين، و«حزب الشعب» هو حزب أصحاب الملايين من البرجوازية الكومبرادورية
ومصدِّري الأقطان، وحزب «الأحرار الدستوريين» هو حزب البرجوازيين من رجال الأعمال
والمرابين ومضاربي البورصة، وحزب «الوفد» هو حزب البرجوازيين والملَّاك الزراعيين من
الوطنيين الإصلاحيين المعادين للثورة.
١٢٠ ومن المهم أن نشير إلى ملاحظات كمال عبد الجواد في «قصر الشوق» على تكوين حزب
«الاتحاد»، وخروج الخارجين على سعد زغلول و«الوفد»، ودور نشأت باشا في تطورات
الأحداث.
١٢١
العمال
زادت أعداد الطبقة العاملة في سني الحرب، نتيجة استخدامها في النشاط الصناعي الذي
تطلَّبته الحرب. وأيضًا للعمل في السلطة العسكرية. وأدت الأحكام العرفية إلى مواجهة
الطبقة العاملة للظلم والاستغلال في ظل قيام الأحكام العرفية، فضلًا عن الضائقة
الاقتصادية التي واجهتها تلك الطبقة، في المقابل من الرخاء النسبي الذي حققته الحرب
للتجار وملَّاك الأراضي الزراعية، بينما لم تزد دخول العمال، رغم ارتفاع تكاليف المعيشة،
حتى بلغت أكثر من ١٠٠٪ مما كانت عليه قبل نشوب الحرب.
١٢٢ وقد سرَّحت سلطات الاحتلال كلَّ الملتحقين بخدمتها من العمال المصريين في أثناء
أعوام الحرب، فتفاقمت مشكلة البطالة، وزاد المعروض من الأيدي العاملة على الطلب،
وانخفضت الأجور بصورة حادة، بينما ظلَّت تكاليف المعيشة على ارتفاعها.
١٢٣ كان متوسط ساعات العمل ١٣ ساعة — في اليوم — في معظم المرافق، وخاصة النقل،
بينما كان متوسط ساعات العمل في المحال التجارية ست ساعات في الصباح، وتسعة في المساء.
وكانت التشريعات — آنذاك — خلوًا من القوانين التي تنظم العلاقات بين العامل وصاحب
العمل، وتضمن للعمال حقوقهم الأساسية؛ لذلك؛ فإن اشتراك العمال في أحداث ١٩١٩م كان أمرًا
منطقيًّا، بل بدهيًّا.
لقد قفز عدد النقابات من ١١ نقابة — قبل الحرب العالمية الأولى — إلى ٣٠ نقابة في
أوائل عام ١٩٢١م،
١٢٤ وشهدت البلاد — عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى — أكبر إضراب عمالي في
تاريخها. وقد اشترك فيه العديد من الطوائف العمالية، بحيث تهددت الحياة الاقتصادية
بالتوقف. وفي أعقاب الحرب، بدأ نفوذ القيادات العمالية الأجنبية ينحسر عن الحركة
العمالية المصرية بصورة ملحوظة. غادر البلاد — في أثناء الحرب — عدد كبير من تلك
القيادات، ومن ظل فيها تطلَّع إلى المغادرة إزاء تصاعد شعبي ووطني غلاب. وقد تعدَّدت
الإضرابات العمالية، واستمرت إلى ما قبيل نشوب الثورة. فقد قام عمال السجاير بإضرابٍ
عام
استمر إلى ٢٠ مارس ١٩١٨م، وحدثت في أثنائه بعض المعارك بين العمال وقوات الشرطة، وما
لبثت الإضرابات أن انتقلت إلى عمال الترام وعمال السكك الحديدية والمياه والمطابع،
وعمال المحال التجارية في القاهرة والإسكندرية، وتواصلت الإضرابات إلى ما قبيل نشوب
الثورة في مارس ١٩١٩م.
١٢٥ كانت الإضرابات قائمة حتى الدقيقة الأخيرة، وكما يقول أمين عز الدين، فقد
دخل العمال أحداث الثورة «حاملين معهم مطالبهم الأساسية وقضاياهم القديمة
والجديدة.»
١٢٦ وعقب قيام الثورة بدأ عمال الترام وعمال المترو وترام هليوبوليس إضرابًا
كبيرًا — ١٣ مارس ١٩١٩م — واستمر حتى الثاني من مايو، وزاوج الإضراب بين المطلب القومي
—
وهو الاستقلال — والمطالب الاجتماعية المتمثِّلة في رفع الأجور، وتقديم الملابس مجانًا،
وتخفيض ساعات العمال، ومنح علاوة غلاء معيشة، وتقديم المساعدات الطبية، وتقرير يوم عطلة
كل أسبوع، وعدم اضطهاد العمال النقابيين، ومنح كل عامل راتب شهر سنويًّا. وكانت أهم
نتائج ذلك الإضراب تكوين نقابة لعمال الترام في القاهرة في ١٩ يونيو ١٩١٩م «للدفاع عن
حقوق أعضائها، وترقية حالتهم المادية والأدبية، وتقديم كل مساعدة ممكنة لهم بالطرق
المشروعة.»
١٢٧ وفي ١٥ مارس ١٩١٩م بدأ عمال عنابر السكك الحديدية إضرابهم الذي استمر حتى الثاني من
مايو. وفي ١٨ مارس بدأ عمال المطابع الأميرية إضرابهم. وفي ٦ أبريل
زاوج عمال شركة الغاز بالقاهرة بين الإضراب وتقديم بعض المطالب. ثم أقدم عمال الكنس
والرش في ١٣ أبريل ١٩١٩م على إضراب مماثل. كما أضرب عمال ورش البوستة الخديوية، وعمال
ورش جبل الزيتون. وكانت السِّمة التي تغلب على كل تلك الإضرابات التزام البُعدَين القومي
والاجتماعي فيها. ففي الفترة من أغسطس إلى نوفمبر ١٩١٩م حدث أربعة وعشرون إضرابًا
عماليًّا كبيرًا، كانت مطالب العمال فيها اقتصادية، وأشرف على تنظيم تلك الإضرابات
قيادات نقابية مدربة.
١٢٨ وفي الفترة من آخر ١٩١٩م حتى ١٩٢١م بلغ عدد الإضرابات ٨١ إضرابًا، منها ٦٧
إضرابًا عامًّا، وأربعة عشر إضرابًا جزئيًّا، ولم تقتصر هذه الإضرابات العمالية على
المطالب الاقتصادية، وإنما تجاوزتها إلى المطالب القومية العامة.
١٢٩ بل إن الرافعي الذي يحدد هوية ثورة ١٩ بأنها سياسية فقط، يشير — في تحليله
لنتائج الثورة — بأنه قد «نشطت الحركة العمالية خلال الثورة، وفي أعقابها، فازداد شعور
العمال بالتضامن لتحسين حالتهم، والمطالبة بحقوقهم، وترقية شئونهم، وكثرت مطالب العمال
من أصحاب الأعمال، بما دفع الحكومة إلى تأليف لجنة للتوفيق بين الطرفَين في أغسطس ١٩١٩م،
مهمتها النظر في هذه المطالب، وحل ما ينشأ من خلاف على أجور العمل، وساعاته، وشروطه،
وتعدَّدت النقابات العمالية، وسرت الروح النقابية إلى فئات أخرى، ومنها المعلمون والخبراء
والصحفيون والأطباء والتجار وغيرهم.
١٣٠ والواقع أنه بعد انحسار الحرب مباشرة، وبالتحديد في ١١ نوفمبر ١٩١٨م، بدأ
قادة نقابة عمال الصنائع اليدوية وأعضاؤها القدامى، محاولة لبثِّ الحياة فيها. وبدأ ذلك
النشاط بالحصول على تصريح بعقد اجتماع في كازينو «بلافيو» يوم الأحد ٢ مارس ١٩١٩م،
وانتخب في هذا الاجتماع مجلس إدارة مؤقت لحين عقد الجمعية العمومية.
١٣١ والملاحَظ أنه عندما ذهب مندوبو العمال إلى علي شعراوي، يطلبون إليه مساعدة
الوفد للعمال المضربين كي يواصلوا إضرابهم، اعتذر بالقول: إن الوفد لم يطلب من العمال
أن يضربوا!
١٣٢
•••
إذا كان للثورة وجهها السياسي الذي يتلخص في الحصول على الاستقلال التام لمصر
والسودان، استقلالًا مجردًا من كل تبعية لتركيا، أو الرضاء بأي نفوذ بريطاني أو أجنبي
آخر، فإنه كان للثورة أيضًا وجهها الاجتماعي الذي يصعب تجاهله.
كان سعد زغلول — والقول لصلاح عبد الصبور — منصرفًا تمام الانصراف عن القضية
الاجتماعية، فلم تؤهله ثقافته الأولى التي حصَّلها في الأزهر والمحاماة، وصحبته الأولى
من
الأفغاني إلى محمد عبده إلى حزب الأمة، لم تؤهِّله هذه الثقافة لكي يفطن إلى أن للحرية
والاستقلال جانبًا اجتماعيًّا. كما لم تمهله سنوات قيادته القصيرة للحركة الوطنية — مع
ما ازدحمت به هذه السنوات من أحداث — لأن يتبصَّر في الواقع الاقتصادي والاجتماعي لمصر.»
لم يكن الصناع والفعلة — على حد تعبير سعد زغلول في مذكراته — يهتمون بغير أعمالهم،
وقبض أجورها، و«لا يتحركون لعملٍ عام إلا إذا حركتهم عوامل الدين، ورأَوا في الثورة ما
يسهل عليهم سبل النهب والسلب.»
١٣٣
لكن الرجل كان يخاطب المظاهرات العمالية بكلمات تستثير مشاعر أبناء هذه الطبقة،
كقوله: «لا يطرب سمعي أكثر من أن أرى رجلًا فقيرًا لا قوت عنده، ينادي: ليحيا الوطن،
وليس يطمع في شيء إلا أن يعيش كما هو.»
١٣٤ تناسى الرجل السؤال: لماذا لا يرتبط النضال من أجل الاستقلال، بنضالٍ موازٍ
من أجل العدالة الاجتماعية، وتحقيق المستوى الاقتصادي الأفضل؟ وأعلن سعد زغلول في خطبة
ألقاها — ٤ يوليو ١٩٢٤م — في مقر نقابة عمال شركة السكك الحديدية وواحات عين شمس: «طبقة
الرعاع هي الطبقة التي ليس لها صالح خاص، والتي مبدؤها ثابت على الدوام. هذه الطبقة لا
تسعى وراء وظيفة تنالها، ولا منصب تحل فيه. ولا يبهر نظري، ولا يطرب سمعي، أكثر من أن
أرى رجلًا فقيرًا لا قوت عنده، ينادي: يحيا الوطن، وليس يطمع في شيء إلا أن يعيش كما
هو، ولكن ذلك الرجل صاحب الأموال، وذلك الموظف في المنصب العالي، إذا قال: يحيا الوطن،
فإنما يقول: تحيا وظيفتي أو مصلحتي. ولذلك رأيت كثيرًا من أرباب تلك المصالح، ومن ذوي
الوظائف، تقلَّبوا أو تغيَّروا، ولكن الرعاع أمثالكم ما تغيَّروا ولا بدَّلوا
عقائدهم.»
١٣٥ لكن الرعاع — كما سمَّاهم زعيم الوفد — كان لها مطالبهم الخاصة، إلى جانب
المطالب القومية العامة، فثمة المطالبة بجلاء الجيش الإنجليزي عن القطر المصري،
وباستقلال مصر الكامل بإلغاء الامتيازات الأجنبية التي تقضي على حياة البلاد السياسية
والاقتصادية. وثمة المطالبة — في الوقت نفسه — بجعل ساعات العمل ثماني ساعات في اليوم،
وتحديد أدنى لأجور كل طائفة من طوائف العمال، ومقاومة غلاء الحاجات المعيشية الأولية
والمضاربين فيها، وإنشاء البيوت الصحية للعمال، وتوفير العلاج المجاني لهم، ومقاومة
البطالة بإنشاء مشروعات عامة في البلدان لتشغيل العمال العاطلين، و«توزيع بعض أراضي
الحكومة على فقراء الفلاحين لإصلاحها واستغلالها مع تسهيلها عليهم هذا العمل، وبزيادة
الضرائب على نسبة كِبر الثروة، والتعليم الإجباري المجاني لطبقة الشعب.»
١٣٦ وفي ١٩٢١م وجَّه أديب قشعمي سكرتير نقابة عمال الدخان والسجاير نداء إلى الرأي
العام المصري، قال فيه: «باسم الوطن العزيز واتحادكم المفدي، جئنا نستنجد بكم … هل من
الوطنية الشريفة، أو من العدالة، أن تتكدس الأموال الهائلة في خزائن أصحاب الماكينات،
في حين أن العمال لا يجدون القوت الضروري، مع العلم بأنهم هم الذين شيَّدوا تلك المعامل
الضخمة بما استُنزف من دمائهم الزكية، وبما اغتُصب من حقوقهم المقدسة، فهل يوافق الشعب
المصري على مثل هذا العمل الوحشي والبربرية الفظيعة؟!»
١٣٧
كانت القيمة الأولى للتحرك العمالي في أحداث ثورة ١٩١٩م، تلك المزاوجة بين المطلب
القومي والمطالب الاقتصادية أو الاجتماعية. وأتاحت تلك المزاوجة للطبقة العاملة فرصة
الاستمرار في الثورة، في الوقت الذي كانت قد غادرتها فيها معظم الفئات التي شاركت فيها
منذ البداية، فضلًا عن أنها أعطت الثورة القومية مضمونًا اجتماعيًّا متميزًا. وتحدد
مطلب الاستقلال، ليس في حرية الوطن فحسب، ولكن في تحرير المواطن أيضًا.
١٣٨ وقد ظلَّت الطبقة العاملة — متمثلة في أعداد كبيرة من أفرادها — حريصة على أن
تؤدي دورًا إيجابيًّا، بعد انتهاء مرحلة العنف الأولى. ولا يخلو من دلالة استمرار إضراب
العمال بعد الإفراج عن سعد ورفاقه في ٧ أبريل، ذلك الاستمرار الذي لم يُفَض إلا في
الثامن من مايو، كأنما يهدف العمال إلى تأكيد المنطلق المغاير الذي ينطلقون منه. بل إن
القيادات المصرية ركزت جانبًا كبيرًا من نشاطها في محاولة التخلص من سيطرة القيادات
الأجنبية التي كانت تفرض سيطرتها على العمال المصريين، وتتميز عليهم في المعاملة
والأجور. وفي الثاني من مايو ١٩٢٤م، نشرت «المقطم» تحت عنوان «الاحتفال بأول مايو»:
«احتفل عمال الإسكندرية، وطنيون وأجانب، بعيد أول مايو احتفالًا عظيمًا، فسار العمال
الوطنيون صباحًا من نادي النقابة بموكب منظم، تتقدمه الموسيقى ورجال البوليس، حتى
التقوا بإخوانهم الأجانب بسينما «بارتيه»، فغصَّ المكان بالعمال، وتبادلوا التهاني
والخطب. ثم استأنف الجميع موكبهم مخترقين شوارع المدينة، هاتفين بحياة العمال وحياة
الاتحاد، ثم انفض المكان بنظام شامل، وسرور تام.» ولعل هذا الحدث يهبنا دلالته في أول
إشارة إلى عيد أول مايو كما سجلتها «الأهرام» — أول مايو ١٩٠٨م: «اعتاد الأوروبيون
الإقلاع عن العمل في غرَّة أول مايو، فأقفلت اليوم المطابع الإفرنجية، فلم تصدر
الجرائد، فنحن مع رغبتنا في عطلة العمال وراحتهم، لا نجد ذلك جائزًا في مصر، مع كثرة
الأعياد وأيام البطالة، مع أنهم لا ينقطعون في أوروبا عن العمل.»
وثمة ملاحظة ذكية يوردها رفعت السعيد، وهي أن العمال نظموا إضرابهم العام مطالبين
بعودة سعد، وبمطالب اجتماعية واقتصادية أخرى، لم يجدوا في الإفراج عن سعد وعودته من
المنفى، مبررًا كافيًا لإنهاء إضرابهم.
١٣٩ ولعل القول بأن الطبقة العاملة خرجت من أحداث مارس، لتواصل نضالها من أجل
مطالبها الاقتصادية،
١٤٠ ينطوي على حكمٍ متعسف تغيب عنه الحقيقة. فإذا كانت المجموعات العمالية قد
غابت عن الفعل السياسي للثورة فإن العمال — كأفراد، وكمجموعات أيضًا — ظلُّوا على نشاطهم
في
كل التحركات السياسية، وكان لهم الدور الأكبر في معظم الجمعيات السرية للثورة … كانت
«الفئات الأخرى» تكتفي — غالبًا — بالمشاركة في التخطيط، والمراقبة، وكان العمال هم
الذين يتولون الإعداد والتنفيذ، وتقبُّل القتل وأحكام الإعدام. نشير — على سبيل المثال
—
إلى جمعية العمال التي حُوكِم أحد أفرادها — أحمد محمد عمر — بتهمة صنع أربعة آلاف كرة
من
الحديد لمهاجمة الجنود.
١٤١ وكانت حادثة السردار تأكيدًا على أن الطبقة العاملة لم تكتفِ بالمشاركة في
المقاومة ضد الاحتلال في الأشهر الأولى فقط، ثم بدأت «تتسوَّل» ما تهبه لها القيادات
التي
ركبت الموجة من «امتيازات» ذات بريق، لكنها فارغة المحتوى. يقول عبد الفتاح عنايت:
«اتفقنا — عبد الحميد عنايت وأنا وصديق آخر هو محمود عثمان — على تشكيل حركة فدائية على
شكل حلقات خماسية، مع تحديد مسئولية كل عضو واتخاذ اسم مستعار له. والتقت هذه المجموعة
بالأستاذ شفيق منصور المحامي، بعد أن عاد من منفاه بجزيرة مالطة. وكان الهدف من هذه
الحركة هو قتل الضباط والجنود والموظفين البريطانيين، ليدركوا أن شعب مصر لن يستسلم،
وليعلموا أن ما يسفكونه من دماء طاهرة ستواجَه بالرصاص. وكانت أول حادثة هي مقتل جندي
بريطاني في ميدان المحطة، وكان هذا مشجعًا لنا تمامًا. وبدأنا نخطط، وكان إبراهيم موسى
زعيم عمال العنابر هو الشخصية الأولى، شجاعًا، على خلق، وهو المنفذ للعمليات، يشاركه
في
ذلك محمد فهمي عامل النجارة بالترسانة.»
١٤٢ ومعنى ذلك — ببساطة — أن الطبقة العاملة كانت هي القوة الضاربة في الجانب
المسلح من الثورة، وأنها لم تُلقِ السلاح — إطلاقًا — كما أشارت إلى ذلك بعض الأقلام
المؤرخة. وإذا كان البوليس قد أفلح في انتزاع اعترافات شفيق منصور وعبد الفتاح عنايت
وغيرهما من «الأفندية»، فإنه لم يستطع — مع بشاعة التعذيب — أن ينتزع اعترافًا واحدًا
من العمال الثلاثة: راغب حسن، علي إبراهيم، إبراهيم موسى.
وقد دفع العمال ثمن اشتراكهم في أحداث الثورة، وفيما تلاها من أحداث سياسية، بمحاربة
سلطات الاحتلال لهم، إما بصورة سافرة، أو من خلال حكومات الأقلية المختلفة.
١٤٣ عانى عدد كبير من القيادات تعسُّف السلطات والشركات التي يعملون بها، وهو ما
يتوضح فيما نشرته جريدة «وادي النيل» في ٢٩/ ٣/ ١٩٢٧م: «ذكرنا قبل الآن خبر مقابلة
حضرة الأستاذ زهير صبري أفندي المحامي ومستشار نقابة عمال ترام القاهرة لسعادة محافظ
العاصمة، بشأن مسألة عمال الترام وتسوية مطالبهم بإعادة المرفوتين منهم لأسبابٍ سياسية
في زمن الاضطرابات — الثورة — إلى العمل في المصلحة بغير شرطٍ ولا قيد. وقد طلب حضرة
المستشار في عريضة المقدمة سرعة عقد لجنة التوفيق بين العمال وأصحاب رءوس الأموال،
للنظر في هذه المطالب، أو أن يضرب عمال الحركة في شركة ترام القاهرة بعد خمسة عشر يومًا
من تاريخ تقديم الطلب الذي يُعتبَر كإنذار، طبقًا لقانون العقوبات.»
ثم تبقى الإشارة إلى المأساة التي عانتها الطبقة العاملة في محاولة الأحزاب المختلفة
أن تستغلها كأداة لتحقيق أهدافها، دون أن تتيح لها الفرصة لممارسة أي دور قيادي في
النضال الوطني. يصِف رفعت السعيد محاربة الحكومة النسيمية وسلطات الاحتلال «الوفد» في
محاولة لاحتواء الطبقة لعامة، بأنها حماقة كبرى «فقد كان «الوفد» — بطبيعة موقفه السياسي،
وتركيبه الطبقي، ومنطلقاته الوطنية — هو الحزب البرجوازي الوحيد المؤهل لأن يلعب دورًا
في صفوف الطبقة العاملة. وكانت الحرب التي شُنَّت ضده في هذا الصدد، إشهارًا لإفلاسٍ
مسبَق
لأية محاولات إصلاحية أو برجوازية للتسلل لصفوف الطبقة العاملة، والتأثير فيها تأثيرًا
فعالًا.»
١٤٤ حتى الحزب الاشتراكي الذي أنشئ للدفاع عن مصالح الطبقة العاملة، ما لبث أن
عرَّى نفسه، وتبعيته لغير العمال المصريين، حين وافق — بعد ضغوط يصعب إنكارها — على تنظيم
إضرابات ١٩٢٤م التي وضعته في مأزق التبعية للشيوعية الدولية، وليس قيادة الجماهير
العمالية المصرية، مما أدى إلى مصادرة السلطات له، وإجهاض التجربة قبل أن تجاوز مراحلها
الجنينية الأولى. حتى الزعامات التي حاولت قيادة الحركة العمالية بهوية عمالية خالصة،
مثل عباس حليم وغيره، ما لبثت أن كشفت عن حقيقة أهدافها، وأن النضال البروليتاري لم يكن
إلا معبرًا لتحقيق مكاسب شخصية. وكانت الضربة التي وجهتها حكومة سعد زغلول إلى الحركة
العمالية بحل اتحاد النقابات، ثم محاولة فرض وصاية الطبقة البرجوازية على التنظيم
العمالي، دون تقديم أية مكاسب للطبقة العاملة التي مارست دورًا مهمًّا في أحداث الثورة،
وبالذات في مرحلتها الأعنف الأولى، فيما عدا القانون الخاص بلجنة التوفيق، والذي عاشت
عليه الطبقة العاملة المصرية حتى الحرب العالمية الثانية. ومن هنا، يمكن القول إن
الطبقة العاملة لم تخرج بأي مكاسب اجتماعية أو مادية، من ثورة ١٩١٩م، بل واجهت محاولات
تقليص دورها، وتحويل المسار الذي اختطَّته لنفسها، وفرض الوصاية عليها من القيادات
البرجوازية، ممثَّلة في عددٍ من البكوات والباشوات الذين بدءوا يوجِّهون أموالهم من
الاستثمار الزراعي إلى الاستثمار الصناعي والتجاري. إن الفائدة الوحيدة التي خرجت بها
الطبقة العاملة من ثورة ١٩١٩م هي قانون لجنة التوفيق الذي صدر في أغسطس ١٩١٩م، وكان يهدف
إلى التوفيق بين العمال وأصحاب الأعمال. واستطاعت لجنة التوفيق أن تتوصَّل إلى بعض
الاتفاقات مع عمال المؤسسات المختلفة، تتلخص في مضاعفة الأجور، وتحديد ساعات العمل،
ومنح العمال مكافأة عن سني الخدمة، ومنحهم إجازات سنوية، ونصف أجر عن أيام المرض لمدة
أربعة شهور في السنة.
١٤٥ وعلى الرغم من أن لجنة التوفيق لم تكن تملك سلطة الالتزام التي تتيح لها
تنفيذ ما تراه من قرارات؛ فإن قانون التوفيق هو المكسب الوحيد الذي حصلت عليه الطبقة
العاملة منذ ثورة ١٩١٩م إلى الحرب العالمية الثانية.
وفي رواية «أنا الشعب» كان عمال السيد أحمد جلال يرفضون المآدب التي كان يقيمها لهم
في
شهر رمضان من كل عام. وحين قال لهم سيد زهير إنه صديق يعمل دائمًا على إظهار مودته لنا،
وما هذه الموائد إلا لفتة كريمة لا تستحق إلا الشكر … قال أحد العمال في سخرية: «أي شكر
يا عم؟ هو يقطع من لحمنا ليطعمنا، فدعنا نأكل لحمه ونقطع فروه!»
١٤٦ من هنا، فقد فكر سيد زهير أن يقترح على السيد الحاج أحمد جلال أن يزيد في
أجور عماله بمقدار ما ينفقه عليها من الأموال.
١٤٧ وعرض سيد زهير اقتراحه بالفعل، وقال للسيد أحمد جلال: «دعهم يذهبوا إلى
بيوتهم، فيأكلوا مع أولادهم ونسائهم وهم يشعرون أنهم مدينون لعملهم وحده، سيحرصون على
عملك عند ذلك، ويشكرون لك كما يشكر الرجل الحر صاحبه.»
١٤٨
•••
إلى عام الثورة، كانت النقابات العمالية تعاني التشرذم والتفتت، حتى وجَّه روزنتال
الدعوة إلى تأسيس اتحاد عام للنقابات في ١٩٢٠م. وأرسلت النقابات مندوبيها لحضور المؤتمر
ممثِّلين لخمسة وثلاثين ألف عامل، لكن رؤساء النقابات الموالين للوفد عارضوا هذه الحركة،
وحاولوا القضاء عليها. وواصل روزنتال السعي حتى تمكَّن في أوائل ١٩٢١م من تأسيس اتحاد
النقابات بثلاثة آلاف عامل، وكان مركزه الإسكندرية. ثم كانت الخطوة التالية — بعد تأليف
اتحاد النقابات العمالية — هي إنشاء حزب، باعتبار أن تحويل النشاط العمالي إلى حركة
اشتراكية، يتطلَّب تأليف حزب تدخل فيه عناصر من المثقفين المصريين، فضلًا عن أن خروج
غالبية العمال الأجانب من مصر، فرض وجوب اعتماد الحركة الاشتراكية على العناصر المصرية
المثقفة التي تميل إلى الأيديولوجية الاشتراكية. وتلاحظ جريدة
Labour
Monthly أن «الاتحاد العام لنقابات العمال المصريين، الذي ظل تحت
قيادة الشيوعيين حتى ١٩٢٣-١٩٢٤م، كان في طريقه لأن يصبح حركة جماهيرية بحق.»
١٤٩
ويرى الكثير من الكتابات التاريخية أن الوفد سعى — لفترة طويلة — إلى هدم النقابات،
أو تعيين القادة الذين يَدينون بالولاء له، ونجح — إلى حدٍّ ما — في تحويل قادة النقابات
إلى وسطاء بين العمال وأصحاب رءوس الأموال، وشكَّلوا طبقة كبيرة من الموظفين الذين يحرصون
على الاحتفاظ بوظائفهم، بصرف النظر عن مصالح الطبقة التي يتولون قيادتها. والغريب أن
سعي الوفد لاستقطاب القيادات والتشكيلات العمالية، كان — في البداية — بهدف خدمة القضية
الوطنية، بينما «دخل العمال ميدان الثورة وهم مؤمنون بأن انتصار العمل الوطني ونيل
الاستقلال، كفيل بتحقيق مطالبهم وحل قضاياهم؛ وبهذا نشروا بذور المضمون الاجتماعي على
أرض ثورة ١٩١٩.»
١٥٠ ولعل حرص لجنة الوفد المركزية — وعبد الرحمن فهمي بالذات (لا تلغي أية
ملاحظة سلبية تقديري للرجل!) على إدماج الحركة العمالية في تيار الحركة الوطنية، مردُّه
إلى محاولة قطع الطريق على استقطاب الفكر الاشتراكي لجماعات العمال، والقضاء على
الحركات اليسارية الناشئة في صفوف العمال عمومًا. وهو ما عبَّر عنه محمد فؤاد سكرتير
الاتحاد الذي كتب يقول: «دفع الطيش بعض الشبان الذين لا خلاق لهم بالإسكندرية وغيرها
من
المدن، إلى اعتناق مذهب الشيوعية، واحتالوا بهذا المذهب على العمال، فنفثوا هذا السم،
وكاد هذا الداء العضال أن يتفشى في هيكل الأمة، لولا أن قيض الله بعض رجال الحكم من ذوي
الفطنة، فاعتقلوا هؤلاء الشبان الآثمين، وزجُّوا بهم في أعماق السجون جزاء ما قدمته
أيديهم، وما جنَوه من الذنوب.» أضاف الرجل: «وقيض الله في هذا الظرف العصيب للعمال سعادة
عبد الرحمن بك فهمي زعيم العمال، فانتشلهم من هذه الهوَّة التي كادوا أن يقعوا
فيها.»
١٥١ وعلى الرغم من نجاح عبد الرحمن فهمي في ربط بعض تيارات الحركة العمالية
بالحركة الوطنية؛ فإن روزنتال ظل يعمل على توسيع قاعدة نشاطه في الإسكندرية، باقتصار
الحركة العمالية على صفتها الطبقية البحتة. وظلَّت — في المقابل — محاولات الوفد لاستقطاب
النقابات العمالية — أو هدمها — رغم تلاشي الهدف الوطني الأساس الذي حدده عبد الرحمن
فهمي في رسالته. لكن سيطرة الوفد ظلَّت مقصورة على نقابات القاهرة، بينما ظل التيار
الاشتراكي الذي يشرف عليه روزنتال في الإسكندرية يتنفَّس ملء الرئتين، بصفته العمالية
الطبقية البحتة، بعيدًا عن الحركة الوطنية العامة، ارتكازًا إلى أن قيادة ثورة ١٩ لا
تعبِّر إلا عن مصالح الطبقة البرجوازية، أو طبقة كبار الملَّاك. ثم انتهى الموقف في ١٩٢٤م
بصدامٍ بين سلطة الحكومة — التي أصبح الوفد تعبيرًا عنها — وبين القيادات العمالية. قرر
سعد زغلول أن يدخل «الوفد» ميدان العمل النقابي. وكانت البداية إلقاء القبض على قادة
الحزب العمالي بتهمة التبعية للشيوعية، تلا ذلك تأسيس «الوفد» للنقابة العمال في ١٥ مارس
١٩٢٤م، وقد تحوَّلت — فيما بعد — إلى اتحاد عام للعمال.
١٥٢ وهو ما لقي شكوكًا، أو معارضة، من بعض الزعامات السياسية المعارضة، فقد كتب
إسماعيل صدقي — على سبيل المثال — رسالة إلى رئيس الوزراء رسالة قال فيها «إن الوفد
بقيامه بإنشاء مجلس أعلى للعمال، إنما يهدف إلى اتخاذ طوائف العمال أداة يستعملها في
أغراضه السياسية.»
١٥٣
أصبحت القضية — بعد ذلك — حرصًا على ولاء تلك النقابات للقيادة الوفدية، دون اعتبار
للتناقضات الطبقية بين الطبقة العاملة وقيادة الوفد. وكتبت مجلة
Labour
Monthly: «إن الاتحاد العام لنقابات العمال المصريين الذي ظل تحت
قيادة الشيوعيين حتى عام ١٩٢٣-١٩٢٤م كان في طريقه لأن يصبح حركة جماهيرية بحق.» وكانت
القيادة الفعلية في يد أنطون مارون المستشار القانوني للاتحاد، ففي الوقت الذي كان
البوليس المصري يعجز عن إخلاء المصانع من العمال المضربين، كانت إشارة من إصبع مارون
تكفي لإنهاء الإضراب.
١٥٤
•••
يتفق الكثير من الكتابات — أو يكاد — على أن الإجراء العنيف الذي اتَّبعته وزارة
سعد
زغلول في مارس ١٩٢٤م، وما ترتب عليه من محاكمات وتشريد واضطهاد، لم يكن له ما يبرره على
الإطلاق. بل إن هناك مَن يؤكد أن اتهام سعد للعمال بمحاولة الاستيلاء على ممتلكات الغير
في ندائه إليهم كان افتراء كاملًا على حركة عمال أحد مصانع الإسكندرية،
١٥٥ وعمل الوفد — كما أشرنا — على تأليف اتحاد جديد لنقابات العمال، وانتخب عبد
الرحمن فهمي زعيمًا للعمال، ورئيسًا للاتحاد الجديد. وقد ضم الاتحاد في بداياته أكثر
من
مائة نقابة، بها حوالي ١٥٠ ألف عامل.
١٥٦ وكانت الخطب التي يلقيها عبد الرحمن فهمي في احتفالات العمال واجتماعاتهم
تحمل هجومًا عنيفًا على مبدأ الصراع الطبقي. ومع أن الوفد كان وراء تكوين الاتحاد
الجديد، فإنه لم يعترف به قانونًا، توقِّيًا لما ينبض به المستقبل من احتمالات،
بالإضافة إلى أن وزارة سعد زغلول في ١٩٢٤م، لم تقدم أي تشريع يخدم مصالح الطبقة العاملة
بشكل مباشر، لأن المسألة السياسية كانت هي مبعث اهتمامه الأول. ثم تعرضت الحركة
العمالية لمضاربات ومزايدات، تبدَّت في خطب الود حينًا، ومحاولة فرض الوصاية حينًا
ثانيًا، ومحاولة تقويضها حينًا ثالثًا، واشترك في ذلك بعض أفراد الأسرة المالكة مثل
النبيل عباس حليم الذي أصبح — ذات يوم — رئيسًا لحزب العمال! وبعد أن كانت الحركة
العمالية تنبض بأسماء الشيخ صفوان، الشحات إبراهيم، أنطون إبراهيم، مصطفى أبو هرجة، حلَّت
أسماء أخرى لنبلاء وباشوات وبكوات، مثل النبيل عباس حليم وداود راتب بك وعزيز مرهم بك
وإدجار جلاد باشا وعبد الرحمن فهمي بك — أكرر تقديري لدوره في النشاط السري للثورة —
وغيرهم.
١٥٧
واللافت أن الاتحاد العام للعمال — الذي ترأَّسه عبد الرحمن فهمي — كان يتعرض لهجوم
حاد
من جبهتين في آن: اليسار الذي كان يطلق عليه اسم «الاتحاد الأصفر»، والرجعية المصرية
وسلطات الاحتلال، خشية أن ينجح الوفد في استقطاب الجماهير العمالية.
١٥٨ وكان اعتقال عبد الرحمن فهمي — عقب حادثة السردار — إعلانًا بانتهاء اتحاد
العمال الذي كوَّنه، وترأسه. اختفى الحزب من ذاكرة التاريخ «مسجلًا الفشل الأول والصارخ
لمحاولة البرجوازية المصرية قيادة النضال الطبقي للعمال.»
١٥٩
•••
خرجت الطبقة العاملة من الثورة بلا نتائج إيجابية، بلا مكاسب، مقابلًا لاشتراكها
الدموي في أحداث الثورة، بل إنه أضيفت في ١٩٢٣م مواد جديدة إلى قانون العقوبات، تنص على
عدم حق العمال في تكوين أحزاب أو جمعيات عمالية، وتشكَّلت بعض التنظيمات الحزبية التي
حاولت فرض وصاية على العمال.
١٦٠
وحسب اجتهادي الشخصي؛ فإن صدام حكومة سعد زغلول لم يكن بالقاعدة العمالية، لكن
اصطدامها — أساسًا — كان بالقيادات الماركسية التي حاولت السيطرة على القاعدة العمالية
لحساب التيار الماركسي. وقد ورد في مضبطة مجلس النواب — ٢٥/ ١/ ١٩٢٧م — على لسان محجوب
ثابت: «إني أرى من الخطر، ومسألة العمال عندنا في أول نشأتها، والمجلس مهتم بها جد
الاهتمام، أن يسمح بالتهويش عليها باختلاطها بعناصر تَدين بالشيوعية، أو يُنسَب إليها
اعتناق هذا المبدأ.»
١٦١ وحين كلَّف سعد زغلول عبد الرحمن فهمي بتأليف اتحاد العمال، فقد كان ذلك
لاجتذاب الجماهير العمالية إلى تنظيمٍ مغايرٍ للتنظيمات الماركسية. وأتصور أنه لو لم
تتوضح أيديولوجية الزعامات وطرق التعبير عن المطالب، مثل الاستيلاء على المصانع
والشركات، لما أقدم سعد زغلول على مصادرة الحركة النقابية. والواقع أن دور عبد الرحمن
فهمي في الحركة النقابية العمالية يبدأ بمحاولة تكوين اتحاد العمال، مقابلًا لنجاح
الحركات اليسارية في استقطاب الآلاف من أفراد الطبقة العاملة. ففي رسالة من عبد الرحمن
فهمي إلى سعد زغلول — ١٨ أكتوبر ١٩١٩م — قال: «فاتني أن أوضح لسيادتكم نتيجة المجهودات
التي بُذلَت في سبيل تعميم النقابات بطول البلاد وعرضها، فقد أثمرت — والحمد لله — تلك
الجهود التي بُذلت في هذا السبيل — وتشكلت لكل حرفة نقابة، ولم يبقَ في مصر حرفة أو صنعة
إلا ولها نقابة. نعم، إن الحكومة لم تعترف بهذه النقابات للآن، وليس منظورًا أن تعترف
بها في الظروف الحاضرة، ولكنها على كل حال مفيدة جدًّا للحركة الوطنية، وهي سلاح لا
يُستهان به.»
١٦٢ وقد أسس عبد الرحمن فهمي «اتحادًا وفديًّا للعمال، مقابلًا لنشاط اليسار في
النقابات العمالية، وضم الاتحاد أكثر من ١٥٠ نقابة، تضم حوالي ١٥٠ ألف عامل.»
١٦٣ وكتب محمد فؤاد سكرتير الاتحاد عن الطيش الذي دفع «بعض الشبان الذين لا
خلاق لهم بالإسكندرية وغيرها من المدن، إلى اعتناق مذهب الشيوعية، واحتالوا بهذا المذهب
على العمال، فنفثوا هذا السم، وكاد هذا الداء العضال أن يتفشى في هيكل الأمة لولا أن
قيض الله بعض رجال الحكم من ذوي الفطنة، فاعتقلوا هؤلاء الشبان الآثمين، وزجُّوا بهم
في
أعماق السجون جزاء ما قدمته أيديهم، وما جنَوه من الذنوب.» ثم تحدث عن الدور الذي لعبه
عبد الرحمن فهمي — زعيم العمال — عندما انتشلهم «من هذه الهوة التي كادوا أن يقعوا
فيها.»
١٦٤ ورغم النجاح الذي حققه الاتحاد العمالي الوفدي؛ فإن اعتقال عبد الرحمن فهمي
في حادثة مقتل السردار، وتولي زيور رئاسة الوزارة خلفًا للحكومة الوفدية، قد عجَّل
بانهيار الاتحاد، واختفائه من الحياة المصرية.
١٦٥ وفي عهد حكومة زيور، صدر قرار بمنع السماح ببيع أو تداول الكتب
الاشتراكية، أو جلبها من الخارج، ومُنعت جريدة «الأومانتيه» الفرنسية وجريدة «الإنسانية»
اللبنانية من الدخول، فضلًا عن أية صحف تناصر المبادئ الشيوعية أو الاشتراكية.
١٦٦ وأصدرت الحكومة قرارًا بمنع دخول السفن السوفييتية إلى المواني
المصرية.
١٦٧ وكتبت «الأهرام» تعليقًا على تلك القرارات، بأن السلطة عزمت عزمًا ثابتًا
على مكافحة الشيوعية ومبادئها ودعاتها في هذا القطر، وغدا هذا العزم يتضح من اتساع نطاق
المساعي المبذولة لاستئصال شأفة ذلك الداء الاجتماعي الخطير.
١٦٨
•••
والحق أن الوفد كان «بطبيعة موقفه السياسي وتركيبه الطبقي، ومنطلقاته الوطنية، هو
الحزب البرجوازي الوحيد المؤهَّل لأن يلعب دورًا في صفوف الطبقة العاملة.»
١٦٩ وحاول محجوب ثابت — ١٩٢٧م — تأسيس اتحاد للعمال، بعيدًا عن الأحزاب، ووجَّه
نداء للعمال قال فيه: «جانِبوا الأحزاب لمصلحتكم، ولمصلحة وطنكم، ولا تكونوا مطايا
للأشخاص. احذروا الزعماء والمتزعمين وسماسرتهم المستغلين، لا تتحزبوا، بل قفوا من
الأحزاب موقفًا سلبيًّا.»
١٧٠ ولعله مما يشرف محجوب ثابت وصف اللورد كيلرن له بأنه
«يتمتع بنفوذٍ كبيرٍ في أوساط العمال الجاهلين! وكان له اهتمام حقيقي
بمشاكلهم.»
١٧١
وتحت ضغط الدعوات الإصلاحية، أصدر البرلمان قرارًا في ١٩٢٧م بتشكيل لجنة لإعداد تشريع
عمالي برئاسة عبد الرحمن رضا باشا. وبدأت اللجنة عملها وسط رفضٍ ضارٍ من اتحاد الصناعات،
ومن الرأسمالية المصرية عمومًا. وأصدرت اللجنة — بعد ثلاث سنوات — مشروع قانون يتضمن
١٨
فصلًا، و١٠٢ مادة، لكن الحكومة تجاهلت المشروع تمامًا، ولم تحاول تقديمه إلى البرلمان
لإقراره، تأكيدًا لانتصار الرأسمالية!
١٧٢ ويشير رفعت السعيد إلى أن محمد زكي عبد القادر أعدَّ بحثًا عن البطالة،
ووسائل علاجها، فاستدعاه طلعت حرب باشا، وأنَّبه قائلًا: إن الدعوة إلى إدخال نظام التأمين
الاجتماعي على العمال يعرقل نمو الصناعات، ويؤدي إلى متاعب جمة، فضلًا عن أن فيه
تفتيحًا للأذهان.
١٧٣
•••
في ١٩٠٩م بدأت أول محاولة جدية لتأسيس حزب عمالي.
١٧٤ ولم تتجدد محاولة إقامة حزب العمال إلا في مطلع الثلاثينيات، حين أعلن
النبيل عباس حليم تأسيس «حزب العمال المصري» في يونيو ١٩٣١م.
١٧٥ نصَّ بيان الحزب على أنه «حزب الزارع والصانع»، وأنه قد «دقت الساعة ليقوم
العمال بواجبهم لمجد مصر ومجدهم.» وتألَّف مجلس إدارة الحزب من مجموعة من المثقفين —
أهمهم سلامة موسى — وبعض قيادات مجلس الاتحاد العام، وواحد من كبار ملَّاك الأراضي
الزراعية.
١٧٦ وبالإضافة إلى الأسباب السياسية العامة، فقد أنشأ عباس حليم حزب العمال
ليناوئ به الملك فؤاد. كان عباس حليم سليل الأمير حليم بن محمد علي الذي كان يطالب بعرش
مصر في عهد إسماعيل، وفي عهد توفيق، بدعوى أن إسماعيل ضيَّع عليه حقَّه في العرش بتغيير
قانون الوراثة، وكانت دعواه المعلنة أن «فؤاد» قد اغتصب العرش الذي كان يجب أن يئول
إليه عباس حليم.
١٧٧
قاد الوفد حملة عنيفة ضد الحزب، واتهم عباس حليم بمحاولة بثِّ الفرقة في صفوف الأمة،
وتنصَّلت بالفعل قيادات كثيرة من علاقتها بالحزب، وأكدت أنها تعاونت معه لتصورها أنه
تابع
للوفد، وليس باعتباره تنظيمًا سياسيًّا مستقلًّا.
١٧٨ واضطر عباس حليم إلى إحناء رأسه للعاصفة الوفدية، فاتفق مع النحاس وقيادات
الوفد على إيقاف نشاط حزب العمال المصري، وقصره على رعاية شئون الاتحاد العام لنقابات
عمال القطر المصري.
١٧٩
•••
في أوائل عام ١٩٣٠م أعاد بعض مؤسسي الاتحاد العام لنقابات عمال القطر المصري القديم
نشاطه من جديد، وانتخب داود راتب رئيسًا له. لكن بعض أعضاء الاتحاد قاموا بحركة
انقلابية على رئيس الاتحاد في ديسمبر ١٩٣٠م، فعزلوه، واختاروا بدلًا منه الأمير عباس
حليم.
١٨٠ كان عباس حليم قد أعلن — في عز اشتداد الأزمة الدستورية — مناصرته للوفد،
وأنه يتخذ الوفدية دينًا ثانيًا له بعد الإسلام، فاكتسب شعبية هائلة، زاد منها تجريد
السراي له من لقب نبيل، وحرمانه من امتيازات أسرة محمد علي، ومنح البرلمان الوفدي له
—
باسم الأمة — لقب حضرة صاحب الشرف الرفيع في اجتماعه بالنادي السعدي، في ٢١ يوليو ١٩٣٠م،
بعد صدور مرسوم فض الدورة البرلمانية. وكانت تلك الشهرة التي حققها النبيل الشاب دافعًا
لأن يفكر أعضاء الاتحاد العام لنقابات عمال القطر المصري في إسناد الرئاسة إليه. وبعد
شهر من تولي عباس حليم رئاسة الاتحاد العام لنقابات عمال القطر المصري، أعلن ضم اتحاد
عام النقابات الوفدي الذي كان يرأسه عزيز ميرهم بعد تنحية أحمد أغا من رئاسته.
١٨١ وكما يشير رءوف عباس، فقد كان المرسوم الذي أصدره الملك فاروق في ٤ يونيو
١٩٣٦م، بإعادة لقب نبيل إلى عباس حليم، وإعادة امتيازات أفراد أسرة محمد علي إليه، بداية
تنصُّل عباس حليم من تبعاته العمالية.
١٨٢ في تقرير للورد كيلرن إلى الخارجية البريطانية، وصف عباس حليم بأن له
تطلعات عاجلة «وهي تطلعات خبيثة، أكثر منها تطلعات بنَّاءة.» وحين أعيد إلى عباس حليم
لقبه الملكي، قطع علاقاته بالعمال رغم أن بعض القيادات العمالية اتصلت به، وطلبت منه
أن
يزيد من اهتمامه بقضيتهم، لأن الوفد فشل في تحسين أحوالهم. وفي صيف ١٩٣٧م أعلن اعتزامه
استئناف نشاطه في الحركة العمالية، وسافر إلى لندن لدراسة مشكلات العمال، تمهيدًا
لتشكيل حزب سياسي عمالي في مصر، وعاد إلى مصر في أكتوبر، وقُوبِل بترحيبٍ من أعضاء
النقابات.
وقد حددت مجلة «الحساب» الطبقات التي يصح انضمامها إلى حزب العمال المقترح: «طبقة
العمال في المدن والأرياف، فطبقة الفلاحين الفقراء، فطبقة الناشئة الجديدة، فطبقة أصحاب
الصناعات الصغيرة، فطبقة الفلاحين المتوسطي الحال.» لكن المجلة اشترطت أن يكون «العمود
الفقري للحزب ودماغه المفكر وقلبه النابض من العمال».
١٨٣ وفي ٢٨ يوليو ١٩٣١م، أصدرت وزارة الداخلية في حكومة إسماعيل صدقي بلاغًا
رسميًّا، قالت فيه إن الجماعة التي تسمي نفسها حزب العمال لا تتصف بما يؤهلها لهذه
التسمية، وإن معظم طوائف العمال غير راضية عنها، ولا قابلة الانتظام تحت لوائها، هذا
فضلًا عن أن نظام البلاد البرلماني والاجتماعي لم يهيئ بعدُ الظروف التي تبرر وجود حزب
عمالي بالمعنى الصحيح، المتعارَف عليه في البلاد الأوروبية.
١٨٤ وفي الأعوام التالية، وقع انشقاق في صفوف الحركة العمالية، نتج عنه تنافس
الأحزاب السياسية للسيطرة على الحركة العمالية، وبدد ذلك الكثيرَ من طاقاتها، لكن صفوف
العمال ما لبثت أن تلاقت حين تفجَّر سخط الشعب في صورة المظاهرات العارمة التي قامت في
أنحاء القاهرة وبعض المدن الكبرى في نوفمبر ١٩٣٤م، احتجاجًا على تصريح وزير الخارجية
البريطاني هور المتعلق بالدستور المصري. وقد أصيب الكثير من العمال في هذه المظاهرات،
وسقط أحدهم شهيدًا برصاص البوليس، كما استُشهد عدد من الطلبة.
وفي أوائل عام ١٩٣٤م أعاد الاتحاد العام لنقابات عمال القطر المصري نشاطَه، متخذًا
من
بيت عباس حليم بقصر الدوبارة مقرًّا له.
١٨٥ وأعدَّ الاتحاد برنامجًا جديدًا للعمل يهدف إلى تحسين ظروف العمل، ورفع مستوى
الأجور، وتقديم خدمات ثقافية ورياضية وعلاجية لأعضائه، وإلحاق العاطلين منهم بالعمل،
والتدخُّل في المنازعات التي تنشب بين النقابات المنضمة إلى الاتحاد وأصحاب الأعمال،
لمحاولة الوصول إلى ما يشبه نظام عقود العمل المشتركة، إلى جانب العمل على تجميع العمال
في نقابات تبثُّ الوعي النقابي بينهم.
١٨٦ وفي ١١ فبراير ١٩٣٥م — مناسبة عيد ميلاد الأمير فاروق — أصدر الوفد قرارًا
بتأسيس المجلس الأعلى للعمال برئاسة النبيل عباس حليم، وعضوية عدد من قيادات الوفد
المتصلين بالنشاط العمالي. وكان رئيس نقابة سائقي الملاكي والتاكسي والأوتوبيس وفديًّا،
ثم أصبح صديقًا لعباس حليم، وعمل معه، وكان النبيل يزوره في النقابة، ويخرج معه في
التاكسي، ويجلس بجانبه.
١٨٧ لكنَّ الخلاف ما لبث أن دبَّ بعد فترة قليلة بين الوفد وعباس حليم، لما أدرك
عباس حليم أن الوفد يهدف — بقائمة المجلس الأعلى — إلى السيطرة على أمور الاتحاد، فأعلن
استقالته من منصب الرئيس، واتهم الوفد بأنه يريد إقحام الاتحاد في السياسة على حساب
مصلحة الحركة العمالية. وردَّ الوفد بفصل عباس حليم من رئاسة المجلس وعضوية الاتحاد،
وعيَّن
أحمد حمدي سيف النصر عضو الوفد رئيسًا للمجلس الأعلى لاتحاد العمال. وكما يقول لويس
عوض، فإنه حين أدرك الوفد أن عباس حليم كان يترسَّم خُطى هتلر، تبرَّأ منه، وعزله من
قيادة
الحركة العمالية.
١٨٨ وكان ذلك بداية تصدُّع خطير في الحركة العمالية،
١٨٩ فقد شُقَّت الحركة العمالية إلى قسمَين، شايع أحدهما الوفد، وانضم الآخر إلى
عباس حليم، ولعل في مقدمة العوامل التي صرفت العمال عن حزب العمال، اتهام الشيوعيين له
بأنه يخضع لرئاسة نبيلٍ من الأسرة المالكة، واتهام الوفد بأن عباس حليم يتزعم الحركة
العمالية لحساب السراي. وتقول منيرة حسني: «كان هناك من العمال مَن يعتقد أن عباس حليم
مخلص وصادق في خدمة الحركة العمالية، ولكنها الأقلية منهم. أما الأكثرية فكانت تعتقد
أن
هدف عباس حليم من تكتُّل العمال بين يديه هو لصالح الرأسمالية والملكية.»
١٩٠ ثم أعلن إسماعيل صدقي — ممثِّلًا لأصحاب رءوس الأموال — أن تغلغل النفوذ
الحزبي في العمال «سوف يفسدهم أمرهم، ويلحق الضرر بمركز مصر الصناعي.»
١٩١ وكان ذلك التصدُّع «فرصة ذهبية انتهزها البوليس السياسي للقضاء على الاثنين
معًا.»
١٩٢
وفي رواية «للزمن بقية» كان عباس حليم يصف نفسه بأنه صديق الفقراء، ويرعى حزب العمال،
كما يحضن النعام بيض العصافير.
١٩٣ لكن الإدانة لحقت عباس حليم في عمليات اقتصادية مشبوهة، مثل اشتراكه في
تكوين شركة مساهمة، ما لبثت أن أعلنت إفلاسها بعد عامٍ واحدٍ من التأسيس، لتبين عن عملية
ضخمة للنصب والاحتيال، ربح منها النبيل ثروة طائلة، وفقد المساهمون كل
أموالهم.
١٩٤
الفلاحون
لعلَّه يمكن اعتبار الجانب العنيف في أحداث ثورة ١٩١٩م، والذي كان مقصورًا — تقريبًا
—
على الفلاحين، رد فعل متأخرًا ثلاثة عشر عامًا لحادثة دنشواي. بل لعله يمكن النظر إلى
تلك الأحداث في ضوء إيمان الفلاح المصري بالثأر، وسعيه لتحقيقه، ولو بواسطة أجيال
تالية. وكان ما جرى في دنشواي حوادث قتل غير مبررة إلا بالغدر، وكان الثأر هو المقابل
المرتقَب. لم يكن الفلاحون بطبيعتهم — في تقدير البعض — يميلون للثورة، فصفاتهم انعكاس
للبيئة الزراعية بما تحض عليه من الرضا والقناعة والصبر، وغير ذلك مما تزيده العقيدة
صقلًا، وتتنافى معه الطبيعة الثورية الآخذة بالعنف. لكن استقراء أحداث التاريخ يؤكد أن
الفلاحين ينقلبون إلى ثوار إذا طال صبرهم على مظالم الحاكم، أو إذا أسرف في المساس
بمقدساتهم وعقائدهم وموروثاتهم، فيتحوَّلون إلى الثورة دفاعًا عن الحق والوطنية من خلال
عقائدهم وموروثاتهم ووشائجهم الأسرية.
١٩٥
كانت حادثة دنشواي عامل الحسم في أسطورة الاحتلال صديق ذوي الجلابيب الزرقاء. تلك
الأسطورة التي روَّج لها كرومر، وساعده على ترويجها بعض الإجراءات التي كانت تستهدف —
في
الأصل — تحويل مصر إلى مزرعة تمد مصانع القطن البريطانية بالمواد الخام، ومنها إنشاء
شبكة كبيرة من المصارف والخزانات، وإلغاء السخرة، وتخفيف وطأة الضرائب، والاهتمام —
عمومًا — بالمسألة الزراعية. ثم كانت قوات المتطوعين، إبان الحرب العالمية الأولى،
تأكيدًا لإنهاء الأسطورة الاحتلالية. فضلًا عما صاحب عمليات «التطوع» الإجبارية من
مصادرة لمحاصيل الفلاحين وماشيتهم، وارتفاع الأسعار. وكانت فرق العمل، وما صحبها من
سخرة وتجنيد إجباري وإجراءات إذعان، قطعًا لكل الخيوط الواهية التي حاولت سلطات
الاحتلال أن تصل بينها وبين ذوي الجلابيب الزرقاء. وقد لاحظ جاك بيرك أن الاستقرار الذي
عاش في ظله الأجانب، زمن إسماعيل، لم يعُد واردًا، ولم يعُد الفلاحون المصريون يخشون
العقاب، وأصبح الاعتداء على الأجانب، والسطو على ممتلكاتهم، ظاهرة فرضت نفسها بصورة
ملحوظة. لم ينسَ الفلاحون — كما يقول الكاتب الإنجليزي فالنتين تشيرول — «حادث دنشواي
المحزن حتى اليوم (١٩٢٠م). اعتبر المصريون، وغير المصريين، أن الأحكام الصارمة التي صدرت
كانت إجراء اقتصاديًّا، وليس هناك إنجليزي يقرأ قصة شنق هؤلاء التعساء دون أن يشعر
بالندم ووخز الضمير؛ لقد تركت دنشواي جرحًا لا يندمل في ذاكرة الفلاحين.»
١٩٦
يقول الفنان: «ثورة سنة ١٩١٩م هي ثورة شعب، الفلاحون وقودها، لولاهم لما اشتعلت هذا
الاشتعال.»
١٩٧ لقد دفع الفلاحون ثمنًا باهظًا في سنوات الحرب، سواء بالاشتراك الجسدي في
الأعمال الحربية، والذي بلغ قوامه أكثر من مليون فلاح، أو بالتخلي القسري عن ماشيتهم
ومحاصيلهم وأموالهم لسلطات الاحتلال؛ وكانت الثورة — لذلك كله — مختزنة في الصدور، بحيث
تنتظر فرصة «التفجر».
١٩٨ وإذا كان سعد زغلول قد وصف الفلاحين بأنهم «أبعد الناس عن الاشتغال
بالسياسة، ولا تثور لهم ثائرة إلا إذا مسَّت الجبهة الضعيفة فيهم، وهي الجهة الاعتقادية،
فهم منصرفون عن كل عمل عام، إلا إذا وسوس وسواس في صدورهم بالدين وأحكامه.»
١٩٩ فإن الفلاحين شاركوا — بإيجابية فعالة — في أحداث الثورة، رفضًا لتأكيد
كرومر وجورست أن «الاحتلال أحسن إلى الفلاحين، وأنهم معترفون بفضله.»
٢٠٠ وكتب المزارع علي متولي في «الأهرام» يقول: «إن الفلاح قانع وصبور، إلا أن
بعض أبناء الفلاحين من متخرجي الكتاتيب قد هجروا الزراعة، وأصيبوا بوباء المدن، وأخذوا
يذيعون في طول البلاد وعرضها أن البلشفية على أبواب مصر، ثم شرحوها للفلاحين على غير
الحقيقة، وأصبح الشيخ العجوز والشاب يقولون — إذا خلوا لأنفسهم: متى تكون القسمة — يقصد
تقسيم الأرض — والمساواة.»
٢٠١ حتى الفلاحون الذين كانوا يسهرون الليالي في الملاهي، تحوَّلوا إلى قيادات
للتعبئة الجماهيرية في كل القرى. ويقول ملنر في تقريره: «إن حوادث الحرب المشئومة أدت
إلى زعزعة ثقتهم بعدلنا، وحسن نيتنا زعزعة وقتية، وكانت أسبابًا مهيئة للحوادث الفظيعة
التي حدثت ضد الإنجليز في ربيع ١٩١٩م.»
٢٠٢ من هنا يتسم بالخطابة المتحمسة قول صلاح ذهني بأنه إذا كان الباعث لثورات
العالم هو الحقد ورفض الظلم؛ فإن الفلاح المصري دخل الثورة وراء المعبود، ونسي كل آلامه
لكي يساهم من جديدٍ في ألمٍ أكبر بنفس الروح، روح الجماعة والمشاركة!
٢٠٣ كلمات تعاني — كما ترى — رومانسية ساذجة!
كانت مظاهرات الفلاحين تهتف: يا إنجليزي يا حرامي أصولي … خدت شعيري وقمحي وفولي،
وكان
الشيخ حسونة (الأرض) يرفع يديه، ويلوح إصبعه وهو يهتف: وبالاستقلال أبشِّر، فيردد الرجال:
رغم أنف الإنجليز!
٢٠٤ ويقول الراوي: «إن الفلاحين لأشد من أهل المدن في إظهار احتجاجهم وغضبهم،
فلقد قطعوا الخطوط الحديدية ليمنعوا وصول القطارات المسلحة، وأحرقوا دور
الشرطة.»
٢٠٥ وكان زين (الكاتب والصياد) واحدًا من الثوار الذين شاركوا في تحطيم
القضبان، حتى لا تمر عليها القطارات التي تحمل جنود الإنجليز.
٢٠٦ كان الفلاحون — والفلاحون بالذات — هم القوة الدافعة التي حققت بها الثورة
انطلاقتها الأولى، تلك الانطلاقة التي تحقق بها، ومن خلالها، تعاقب الأحداث بدءًا
بالسماح لسعد زغلول بالعودة، وانتهاء بصدور تصريح ٢٨ فبراير، وما تلاه من تطورات.
إن القوى الاجتماعية في الريف تنقسم إلى مجموعتَين: ملَّاك الأراضي الزراعية، والذين
لا
يملكون أية أراضٍ. أما الملَّاك فينقسمون إلى ملَّاك الضِّياع والمساحات الكبيرة، وملَّاك
الأرض
المتوسطة، وصغار الملَّاك. وأما الذين لا يملكون أرضًا فينقسمون إلى ثلاث مجموعات كذلك:
من لا يملكون أرضًا، ومن يستأجرون أراضي الغير، ومن يكتفون بالعمل اليومي أو الموسمي
كعمال التراحيل، فضلًا عن هؤلاء الذين لا يمارسون أي عمل، وإنما يحيَون على هامش الحياة
في الريف.
٢٠٧ أما المزارعون الفقراء، فهم الذين يملكون، أو يستأجرون، مساحات قزمية من
الأرض، يقومون على زراعتها بقوة عملهم، وبمساعدة أفراد العائلة، ولا يستخدمون فيها أيدي
عاملة على الإطلاق، وتكفل لهم بالكاد حاجيات المعيشة.
٢٠٨ وأما المعدمون والعمال الزراعيون فهم الكادحون في الأرض الذين لا يملكون
ولا يستأجرون أرضًا، وإنما يؤجرون قوة عملهم ليشغلوا كعمال يومية، أو كعمال تراحيل،
«وكلهم يحاول أن يتكسَّب الكفاف بالعمل بأجرٍ في المزارع، أو المنشآت الصناعية العامة
المرتبطة بالمزارع.»
٢٠٩
يقول العمدة (جبل رهيب) عن الفلاحين: لا تغرنَّك المظاهر يا سيدي، إن هؤلاء الفلاحين
يسترون خلف مظاهر الدعة والسكينة قلوبًا ملؤها الخبث والمكر.
٢١٠ وتسأل حواء (حواء بلا آدم) الصغيرة زيزي: هي عزبتكم جميلة؟ تجيبها الطفلة:
«جدًّا جدًّا … فيها غيطان … وساقية … وفلاحين!»
٢١١ ونحن نجد تأكيدًا لنظرة الفنان عن دلالة نومه في القاعة نفسها التي يئوي
إليها بهائمه.
٢١٢ في قول أحمد حسنين باشا لجون كيمش مؤلف «الأعمدة السبعة المنهارة» إن
«الفلاح المصري يحب هذه الحياة … وهو لا يكون سعيدًا إلا إذا نام مع ماشيته ودواجنه،
وافترش الأرض الطيبة، وجلس في ضوء الشمعة الشاعري.»
٢١٣ محلاها عيشة الفلاح! الأمر نفسه في لوم محمود خيرت لبعض المتحضرين — على حد
تعبيره — لأنهم عندما يذكرون الفلاح يتألمون له، ويتوجعون لحاله، لأنه يسكن أحقر
البيوت، ويتناول دني الغذاء، غير كد النهار تحت الشمس المحرقة، ولو أنهم علموا أنه أهنأ
منهم حالًا، وأنعم بالًا لحسدوه. إن الفلاح ربيب الطبيعة، يعيش في أحضانها، بين هوائها
الطلق، وتحت شمسها المنعشة، لا يأكل غير بسيط الطعام فلا يؤذي معدته، ويدأب على العمل
فلا يضعف جسده، ويندر أن يتطرق إليه المرض، ورئتاه تستنشقان نقي الهواء، والشمس من فوقه
ترسل إليه أشعتها الدافئة، فكأنه تحت رشاشة يتدفق من مسالكها النور، وفوق هذا بُعده عن
متاعب المدينة وهمومها.
٢١٤ وعندما يعبِّر محسن (عودة الروح) للأم عن رفضه لمعاملتها الفظة للفلاحات
بالقول: حرام؛ فإن الأم تقول في عدم اكتراث: حرام إيه؟ دول فلاحين!
٢١٥ وكانت مشكلة عبد العاطي الخفير البدوي، ذلك الحب الذي توطد بين أخته والشاب
الفلاح عرجاوي، ولم يفلح في إرجاع الفتاة عن حبها لا الضرب ولا النصح ولا المعايرة
بنزولها عن «محتدها البدوي» إلى الاقتران بفلاح. واتفقت الفتاة مع عرجاوي على الهرب
والزواج منه، رغم إرادة أخيها، فأقسم عبد العاطي أن يقتله. ويقول الضاحك الباكي:
«الفلاح الصغير دائمًا هو الفلاح الصغير، سنة اليسر وسنة العسر عنده سيان، وغريبة هذه
المشاهدة في بلادنا المسكينة. والفلاح المصري هو فلاح العالم الوحيد الذي لا يتأثر
بالأزمة، ولا يتأثر بالنعمة. وعندما أقول الفلاح، أرجو أن يفهم قرائي أنني أقصد تلك
الطبقة الحافية العارية المريضة التي حافظت في ماضيها وحاضرها على تقاليدها القديمة،
وهي الجلد والصبر والعمل، فكانت دائمًا مصدر الرزق، ولكن بلا مقابل!»
٢١٦ أما يوسف نحاس، فقد ذهب إلى أن الفلاح لم يخطر على باله المقاومة، لأنها «لا
تتفق مع طبعه، فلم يبقَ له من سلاح يدفع به عن نفسه سوى الحياة والمواربة والمكر،
اضطرارًا منه للخنوع والمسكنة.»
٢١٧ وأما سعد زغلول، فقد كان له رأيه الذي يلغي أي توجُّه اقتصادي في حياة
الفلاح، فالمزارعون — في رأيه — «أبعد الناس عن الاشتغال بالسياسة، ولا تثور لهم ثائرة
إلا إذا مسَّت الجهة الضعيفة فيهم، وهي الجهة الاعتقادية، فهم منصرفون عن كل عملٍ عام،
إلا
إذا وسوس وسواس في صدورهم بالدين وأحكامه، وذوو الوجاهة والنفوذ فيهم — يعني كبار
الملَّاك والأعيان — يشتغلون بالأمور العامة بقدر ما يكسبون بسبب الاشتغال بها من السلطة
والنفوذ في العامة، فإذا آنسوا من الاشتغال بها ضررًا بما يبتغون من سلطة وجاه، انصرفوا
عنها، وتبرءوا منها.»
٢١٨ وقد بلغ الدجل والمتاجرة بمتاعب الفلاحين حدَّ الادعاء بأن «البول الدموي
علامة للصحة، فهو يدل على كثرة الدم.»
٢١٩ ويسأل محجوب عبد الدايم (القاهرة الجديدة) صديقه عفت ابن الباشا عضو مجلس
الشيوخ: فما قولك في خطبة الباشا والدك في مجلس الشيوخ عند مناقشة الميزانية التي دافع
بها عن الفلاح دفاعًا وطنيًّا مجيدًا.
قال عفت: هذا في مجلس الشيوخ، أما في البيت، فكلانا متفق — أنا ووالدي — على أن أنجع
سياسة مع الفلاح هي السوط!
٢٢٠
في كتابه «أحاديث جديدة» (١٩٣٥م) كتب عزيز خانكي: «مسكين الفلاح المصري، أشق الناس
عملًا، أقلهم رزقًا، أكثرهم مجهودًا، أتعسهم معيشة، أقلهم حماية، أكثرهم شغلًا. يشتغل
في الغيط طول اليوم، كل الأسبوع، في أيام الجمعة، في أيام الأعياد، في النهار، وبعض
الأحيان في الليل، لا يعرف الراحة، يستبد به العمدة ووكيل العمدة والشيخ ووكيل الشيخ
والمأمور والمعاون والعسكري والخفير. لا أعرف في بلاد العالم فلاحًا في حالة ذل ومسكنة
مثل الفلاح المصري.»
٢٢١ وفي قصة «حديث القرية» لمحمود طاهر لاشين نقرأ: «دعاني صديقي إلى أن أزور
قريته معه لنقضي يوم الجمعة في أحضان الريف، وليقضي بعض مصالحه، فذهبنا، وثَم لقينا
نضرة وسرورًا، ولكن تلك النظرة التي تفتن ابن المدينة في لا نهائية الريف، وذلك السرور
الذي يغمر كيانه ووجدانه حين يرى الطبيعة تتهلل له أيان ولَّى وجهه، كانا مشوبَين عندي
بالرثاء للفلاحين أنصاف العرايا، وهم مكبُّون على الأرض يعملون فيها الفئوس أو المناجل
مكدودين، يتصبَّبون عرقًا في أوار القيظ، وللفلاحات القابعات في ذلة لدى الأكواخ المتخذة
من الطين والبوص، وكنا إذا سرنا في الطرقات الضيقة الملتوية، فأشرفنا عليهن تداخلن
بعضهن في بعض، وتحجبن عنا بخرقٍ بوال، حملت من تراب الأرض بقدر ما تحمل الأرض، والأولاد
الصغار أنصاف عرايا كآبائهم، قذرون كأمهاتهم، يرتعون مع المعز والفراخ في تلك العراجين،
وفوق أكوام التراب، أو حول البركة الآسنة المجاورة.
٢٢٢ وكان فريد يطيل النظر إلى المزارع المترامية حوله «وكانت نضرتها وازدهارها
يثيران في نفسه ارتياحًا عميقًا، لا تلبث أن تشوبه المرارة والألم، حيث يرى وسط هذا
المحيط المائج بالعطر والألوان، ذلك الفلاح المصري الصبور، يجاهد ويكدح ويروي الأرض
بعرقه من مطلع الفجر حتى المساء، ولا ينال جزاء جهاده وبلائه غير خبز الذرة وبصل الحقل،
وكثيرًا ما فكر في شأن هذا المخلوق البائس الذي غرس هذه الجنَّات، وقد أنهكت قواه
الأمراض، وسار وراءه رهط من الأطفال رث الثياب، صُفر الوجوه، تخترم العلل أجسامهم
النحيلة، ونساء سربلهن الفقر بأردية خشنة المنظر، يشربن ويغتسلن في ترعٍ تُلقى فيها
القاذورات، ويأوين إلى زرائب يطن حولها البعوض، وتدخلها الماشية وتخرج.»
٢٢٣ ويشير الفنان (حمار الحكيم) إلى أنه ما من صبي في ريف مصر لم تنهش جسده
الإنكلستوما والبلهارسيا، وهو ما ينجم عنه — في تقديره — هبوط مستوى الإدراك، وانطفاء
شعلة الذكاء.
٢٢٤ ويتأمل الفلاح المستأجر ما حصل عليه من الفتات نتيجة عرق عام بأكمله،
يتساءل: «أهذه هي نتيجة الشقاء لمدة عام بأكمله؟»
٢٢٥ ويقول الراوي (حانة المحطة): «إن الفلاح يعتقد أننا نأخذ منه قوت عياله،
وهو على حقٍّ في اعتقاده … لأنه يشقى، ويفلح الأرض، ويعمل طول السنة، ونحن لا نعمل أي
شيء
ونستولي على المحصول، فهو مظلوم من مئات السنين، ويحس بالظلم أكثر عندما يرى غرسه يذهب
لغيره، وبشعور الظلم هذا يسرق ويقتل، ويفعل كل ما ينفِّس عن هذا الكظم.»
٢٢٦ كان رجال الإدارة — المأمور وضابط النقطة والعمدة وشيخ البلد والمحصل
والمحضر ومفتش الري والمساح — في نظر الفلاح «زبانية جهنم»، فهم يجمعون من الأنفار
للتجريدة، أو للخدمة، ويستولون على الماشية والمحاصيل، ويحجزون على المحاصيل، ويمنعون
وصول الماء.
٢٢٧ وفي يونيو ١٩٣٦م استندت الحكومة إلى قانون ١٩١٠م، الذي يجيز للسلطة الإدارية
أن «تكلِّف كلَّ ذكر عمره ما بين ٩ سنوات و٢٥ عامًا، ويكون معتادًا على أعمال الزراعة،
بأن
يساعد في الأعمال المذكورة بأجرة يقدِّرها المدير لكل مركز من مراكز المديرية حسب السعر
الجاري في الجهة المصابة» … استندت الحكومة إلى هذا القانون في تسخير مليون من شباب
الفلاحين لإنقاذ ٤٣٥٥٨٧ فدانًا هاجمها الدود الأحمر.
٢٢٨
ويهبنا سلامة موسى حلم يقظة، يتصور فيه حال الريف المصري، وقد برؤ من علله ومشكلاته:
«ثم رأيت الريف المصري وقد تبدَّل عما كنا نعرفه، ولبس ثوبًا زاهيًا من النضرة في الحقول،
والنظافة في القرى، فكانت القرية بعيدة كل البعد عما كنا نألفه من تلك المنازل المبنية
بالطين والطوب المجفَّف في الشمس، تلك التي كنا نراها في أيامنا هذه كامدة اللون، كثيرة
الغبار والتراب، بل كانت القرى الجديدة أشبه بالمدن الصغيرة … وتأملت الفلاحين أنفسهم،
فألفيتهم يلبسون ملابسنا نحن الأفندية … أرى الفلاحين المتأنقين فأتساءل: من أين جاءتهم
هذه الثروة، وكيف يعملون في الحقول وهم بهذه الملابس الفاخرة.» لقد ترك الفلاحون طرق
الزراعة التقليدية، وكوَّنوا التعاونيات، واشتروا لها الآلات القوية لرفع المياه وحرث
الأرض، وعمدوا — في الوقت نفسه — إلى الصناعة، فأسسوا مصانع للغزل والنسج والجبن
والأحذية والأثاث والورق … وأثرى الفلاحون من ذلك ثراء فاحشًا فزالت الأمراض، وكادت تمحى
الجرائم، وتشاركوا في بناء المدارس والأندية والمسارح حتى مثَّلوا أعمالًا عالمية مثل
«روميو وجولييت» … إلخ.
٢٢٩
لكن الأمر كله — في الحقيقة — لم يجاوز حلم اليقظة.
•••
إذا كانت الشرارة الأولى للثورة قد انطلقت من القاهرة، فإنها امتدت إلى مديرية
المنوفية، ثم تطاير الشرر إلى الأقاليم الأخرى، حتى شملت الثورة القطر جميعًا.
٢٣٠ سمع الفلاحون — كما تقول الفنانة — أن في القاهرة فلاحًا اسمه سعد ينادي
عليهم، ويطلب أيديهم مع يده لضرب الإنجليز. حملوا الزاد والزواد القليل، وزحفوا. في
طريقهم رفعوا القضبان، وأوقفوا القطارات حتى لا ترسل السلطة عساكر يضربون
الثورة.
٢٣١ وكان اشتراك الفلاحين في المرحلة الأولى للثورة قد تميز بالعنف في المقاومة
من جموع الفلاحين، وفي قسوة الردع من سلطات الاحتلال، حتى إن مائتي جندي بريطاني هاجموا
قرية العزيزية وقت الفجر، فقتلوا وأصابوا ودمَّروا، ثم أحرقوا النار في القرية
كلها.
٢٣٢ وقد أعلنت الجمهورية في زفتى، وأقيمت حكومة مستقلة في المنيا، وقامت
المجالس الوطنية التي أطلق عليها شيرول اسم «السوفييتيات» في العديد من المراكز، وإن
أرجع رفعت السعيد إلى المبالغة ما قيل من أن الفلاحين المصريين أسسوا خمس سوفييتيات
مستقلة في أثناء احتدام الثورة.
٢٣٣ وخرج شبان من قرية كفر آمون — ذات ليلة — واشتركوا في قطع السكة الحديد بين
بلبيس والزقازيق.
٢٣٤ وحطم الفلاحون مركز شرطة بندر ديروط، ونهبوا ما فيه.
٢٣٥ وحاولت الجماهير في أسيوط الاعتداء على ممتلكات بعض الإقطاعيين، مثل محمود
سليمان باشا الذي كان عضوًا في اللجنة المركزية للوفد. وهاجم الفلاحون ممتلكات إبراهيم
باشا مراد، بالقرب من بلبيس، وألقى البوليس القبض على عدة أشخاص، وقُدِّرت الخسائر بنحو
٣٠٠ جنيه. وقد أغضب شعار «الأرض لمن يفلحها» الذي رفعه الفلاحون … أغضب هذا الشعار عناصر
الأرستقراطية الزراعية، ودفعها إلى محاولة الإسراع بتصفية الثورة، قبل أن يستفحل خطرها،
وكان تجاهل مطالب الفلاحين دافعًا أساسيًّا لأن ينسحب الفلاحون من الثورة كعنصر له
تأثيره وفعاليته.
وكانت مشكلة زفتى — كما يقول الراوي — أنها كانت خالية من جنود الإنجليز، وكانت تريد
أن تشارك في الثورة، لهذا فقد قرر أبناء المدينة أن يحاولوا إحضار الإنجليز إلى زفتى،
وأعلنوا الاستقلال.
– وطبعًا توقعتم أن يرسل الإنجليز لكم فرقة من جنودهم لتقضي على تمردكم؟
– بالضبط.
– فكرة عسكرية سليمة مائة في المائة.
واستولى الثوار على المركز، ووضِع إسماعيل حمد مأمور المركز والمعاون أحمد جمعة وقوة
المركز كلها … وضعوا جميعًا سلاحهم وأنفسهم تحت أمر الثورة. بل أصبح المأمور من قادة
الحركة. وقامت الجمهورية الوليدة بكل مسئولياتها، حتى إضفاء اللمسات الجمالية في أرجاء
المدينة، مثل إقامة كشك للموسيقى. وواجه الإنجليز التحدي بإرسال كتيبة أسترالية أحاطت
بالمدينة، ووجهت إليها مدافعها. وقبل أن تبدأ اشتباكات من أي نوع، كان الإنجليز قد
أطلقوا سراح سعد ورفاقه، وهدأت الثورة نسبيًّا، واشترط قائد الكتيبة الأسترالية — لكي
يرفع الحصار عن المدينة — أن تقدم له عشرين رجلًا ليجلدهم باعتبارهم المسئولين عما حدث.
ومثل كل الثورات، فقد كان هناك خونة يبعثون لسلطات الاحتلال بتطورات ما يجري، ويحاولون
الوشاية والوقيعة. وكان الثوار يفضون كل الخطابات، وعرفوا منها أسماء الخونة. وحين
وافقوا على مطلب الكتيبة الأسترالية، فلأنه كان قد تجمَّعت أسماء عشرين خائنًا، «وبذلك
نكون قد عاقبناهم بيد من لجئوا إليهم لخيانتنا.»
٢٣٦ ثم ذابت الجمهورية، المستقلة، في مصر التي بدأت السير — فعلًا — في طريق
الاستقلال، وإن ظل أبناء زفتى على ودِّهم لتلك الأيام لمفعمة بالنضال والأمل. ويفاجئ
الرجل زوجته بالقول: يريدون هدم الكشك يا وطنية! قال ذلك وهو يلتقط بندقيته، ويغادر
البيت غاضبًا. وكان النبأ قد انتشر في مدينة زفتى: عمال التنظيم يقطعون إحدى الأشجار
الضخمة العتيقة المحيطة بالكشك، تمهيدًا لإزالة الكشك، لأنه يعترض الشارع الجديد الذي
ستشقُّه المحافظة، وارتفعت الأصوات الغاضبة: الشارع الجديد مرحبًا به، ولطالما نادينا
مرحبين به، وقدمنا الالتماسات لإنشائه، ولكن على هذا الشارع الجديد ألا يعترض طريق
الكشك … فليدُر من حوله … ولكن الكشك لا يُهدَم!
٢٣٧ لم يعلن أبناء زفتى عن إقامة جمهوريتهم بالسلاح وحده، لكنهم حرصوا على
تكامل مرافقها بالفعل، فردموا البرك والمستنقعات المحيطة بالبلد، وأصلحوا الجسور،
ونفذوا إصلاحات كثيرة، ومن بينها ذلك الكشك الخشبي في شارع النيل لتُعزف فيه الموسيقى،
إنه تذكار الثورة إذن. لقد انتهت الأحداث، وأصبحت ماضيًا تنقله الذاكرة إلى الأجيال
التالية، أما كشك الموسيقى، فهو شاهد قائم لكل ما حدث!
٢٣٨
وتتذكر الراوية (الأسطورة الخضراء) «ذلك الزمن القديم، عندما كان أبناء قريتها يحملون
جثة العسكري الإنجليزي، وهم يقولون: سعد … سعد … سعد … أين راح سعد؟ ومن هو؟ ولماذا كان
يكره الإنجليز؟ وأي فعلة شنعاء تلك التي فعلها الإنجليز بسعد، حتى هبَّ من أجله أبناء
تلك
القرى للانتقام له؟»
٢٣٩ ومع أن كل أهل قرية «زرقون (أبو جبل)» كانوا من الفقراء، إلا أنهم رفضوا
الجنيهات المائة التي رصدتها الحكومة ومفتش الداخلية الإنجليزي لمن يمسك السيد أبو جبل،
أو يرشد عنه. لم يكن مجرد التفكير في التبليغ عن السيد أبو جبل يدور بخاطر أحدهم،
وكانوا ينظرون إليه بتقديرٍ وإعجاب، ويساعدونه قدر ما يستطيعون، يأوونه في بيوتهم،
ويقدمون له الطعام، ويتحدثون عنه في حماسة واهتمام. حتى العمدة — ممثِّل الإدارة — ساعد
في إيوائه. ألم يضرب اثنين من جنود الإنجليز، وحصل على بنادقهما؟ ثم استطاع المأمور
وجنود الهجانة أن يأسروا السيد أبو جبل، واقتادوه إلى سجن المديرية، ودفعوه إلى حبل
المشنقة أمام أعين أهالي القرية. وكان ذلك أسوأ الأيام التي عاشتها قرية «زرقون»، وإن
أصح أبو جبل أسطورة في حياة القرية، يطلقون اسمه على أبنائهم، ويتغنون به في مواويلهم
وحدائهم، وفي طوابير نقاوة الدودة، ونقاوة الأرز، وفي حواديت الجدات للصغار، ويحكون عن
بطولاته النوادر، ويقسمون بحياته للصغار؛ تحوَّل الرجل في حياة أبناء القرية إلى أسطورة
كاملة!
٢٤٠
وعلى الرغم من خروج الفلاحين من العمل الثوري الإيجابي في المرحلة الثانية من الثورة
التي بدأت في أبريل ١٩١٩م، وانحصرت في القاهرة والمدن، وتكوَّنت عناصرها من الطلبة
والمثقفين، وكانت المقاومة السلبية هي خاصيتها الأولى … فإنه من الصعب أن نضع حدًّا
فاصلًا بين المرحلتين، لأن الأولى بعنفها الثوري، تفضي إلى الثانية بهدوئها الذي يترقب
النتائج في صبر، وعلى مهل. وكان من المستحيل أن تحقق الثورة نتيجة ما، لولا ضراوة
المرحلة الأولى منها، وهي التي شارك فيها كل فئات الشعب وطبقاته. حتى المرحلة الثانية
لم تكن وقفًا على فئة بذاتها، بل شارك فيها معظم فئات الشعب، وكما يقول الراوي في
«الضباب» فقد «سكن الفلاحون ينتظرون، ولكن الثورة في نفوسهم لم تسكن.»
٢٤١ وقد حرص الفلاحون — لفترة طويلة — على رفض التحدث إلى أي أجنبي، خوفًا من
أن يكون عضوًا في لجنة ملنر.
مع ذلك، فقد أسفرت الثورة عن بعض المطالب التي تبنَّتها قيادات الفلاحين:
-
تنظيم نقابات لصغار الملَّاك والأُجراء، وإيجاد صلات بينها وبين نقابات العمال، فضلًا
عن إيجاد روابط مع اتحادات الفلاحين الدولية.
-
إلغاء نظام ملكية العزب، باعتباره تكرارًا لنظام الإقطاعات.
-
إلغاء ديون الفلاحين الذين يملكون أقل من ثلاثين فدانًا.
-
إعفاء الفلاحين الذين يملكون أقل من عشرة أفدنة من الضرائب.
-
وضع ضرائب على مياه الري لمن يملكون أكثر من مائة فدان.
-
إنشاء بنوك تعاونية لإقراض صغار الفلاحين، وهو ما تحقق — فيما بعد — بإنشاء بنك
التسليف الزراعي.
وقد حاول إسماعيل مظهر — عقب الثورة — ١٩٢٩م — إنشاء حزب للفلاحين يكون فرعًا من
فروع
حزب الوفد، على نسق الحزب التعاوني المتفرع من حزب العمال البريطاني. وأكد «أن الفلاح
لن يقنع بنقابات زراعية، ولا غرف زراعية تظل على ضعف، وعلى خطر من الأغلال، ما دامت
تفقد السند الوحيد الذي يمكن أن يعضدها في الحياة، وهو القوة السياسية. ونحن نطلب
للفلاح القوة السياسية باعتبارها أساس الإصلاح الاجتماعي، قانعين بأن الإصلاح الاجتماعي
شيء، ونضال الطوائف شيء آخر.»
٢٤٢ وقد نصَّت اللائحة الداخلية للحزب على أن تكون الرئاسة دائمًا لرئيس الوفد
المصري، وعلى أن تكون السكرتارية الدائمة لصاحب الاقتراح إسماعيل مظهر، لكن الفكرة لم
تلق أذنًا صاغية من قادة الوفد، فاضطر الرجل إلى كتمها!
٢٤٣ وقد كتب عصام حفني البرنامج المقترح لحزب الفلاح، بتوقيع إسماعيل مظهر —
نيابة عن اللجنة التحضرية لحزب العمال والفلاحين. ويتضمن البرنامج: القضاء على
الاستعمار البريطاني وكافة النزعات الاستعمارية في بلدان العالم. تحرير الطبقات في مصر
من عمال وفلاحين، مع تقليل الفوارق بين الطبقات الاجتماعية. بث الأفكار الديمقراطية
وروح المساواة العامة. التآلف مع الأمم المستعبدة على محاربة الاستعمار. عدم التعاون
مع
المحتلين، مقاطعة البضائع البريطانية. قيام الحكومة بإصلاح الأراضي البور، وتوزيعها على
صغار المزارعين. تحديد الملكية الزراعية. فرض ضرائب متصاعدة على الدخل والميراث. حماية
العمال والفلاحين بقوانين تحدد أجور وساعات العمل، وتحتم بناء مساكن صحية للعمال.
مجانية العلاج للطبقات الفقيرة. جعل التعليم مجانيًّا في كل مراحله. إلغاء الرتب
والنياشين. القيام بدعوة لإظهار بشاعة الحروب الاستعمارية، وغرس روح الإخاء بين
الشعوب.
٢٤٤ وفي ١٩٣٥م، أعاد عزيز خانكي الدعوة إلى إنشاء حزب للفلاحين، وأعلن خانكي أنه
لو كان لهم حزب يُدافِع عنهم لما بقي قانون ٣١ يوليو ١٩٢٩م حبرًا على ورق.
٢٤٥
كان إيمان الأستاذ البدوي السيد (للزمن بقية) أن حزب الفلاح — رغم أنه لم يكن يعدو
لافتة — هو الأمل في أن يخلص البلاد!
٢٤٦ ويقول: «كل شيء سيتغير، الأغنياء والحكام خائفون، وكل الأحزاب في مصر تريد
أن تحطم حزب الفلاح، وهو لا يزيد على لافتة وحفنة رجال ومجلة عرجاء، فترات الخوف أولى
علامات التغيُّر.»
٢٤٧ كانت الصحف تتحدث كثيرًا عن حزب الفلاح، لكن بشيء من
السخرية، وقال أهالي قرية النجومي إن أعضاء هذا الحزب سيوزعون على الفلاحين أحذية
وسراويل!
٢٤٨ ويقول الرجل: «حزب الفلاح لا يقل رفاهية عن نادي اللوردات.»
٢٤٩ ثم اعترف صلاح النجومي بأن «حزب العمال الذي كنت أعمل في مجلته، ظهر أنه
حزب مغشوش.»
٢٥٠
الأزهر
بدأ دور الأزهر — كقيادة ثورية — منذ اليوم الأول للثورة، كان طلبته في مقدمة الطلبة
الذين خرجوا في مظاهرات اليومين الأول والثاني للثورة. وكان طلبة الأزهر أول من واجه
رصاص قوات الإنجليز، وكان أول الشهداء من هؤلاء الطلبة. يقول اللورد كيرزون وزير
الخارجية البريطانية في تقريره عن يوم ١١ مارس: «انتشرت الثورة في أماكن عديدة من
القاهرة. ففي ساعة مبكرة من صباح اليوم تجمَّع الثائرون، ومعظمهم من طلبة الأزهر، وبعض
الأفراد في الأماكن الرئيسية بقلب المدينة، وزحفوا نحو ورش السكك الحديدية لإخراج
العاملين فيها.» وفي أول أبريل «اشتدت ثورة الأزهر، وكثرت اجتماعاته، ووصفته وثيقة
بريطانية بأنه أصبح «على وجه اليقين مركز مقاومة كل محاولة للتهدئة».»
٢٥١ وكتب اللورد كرومر — في برقية إلى وزير خارجية بلاده: «جامع الأزهر هو مركز
الاضطرابات، حيث تُلقى فيه الخطب المثيرة والنارية ليل نهار. وبالنظر للطبيعة المقدسة
للجامع الأزهر، والمعترَف بها في كافة أنحاء العالم الإسلامي، فإنه من غير الممكن كبح
جماح من يرتادونه بالقوة». لم يحاول الإنجليز اقتحام الأزهر للقضاء على منشأ المظاهرات،
خوفًا من مأساة مشابهة للتي واجهتها الحملة البونابرتية، في أواخر القرن الثامن عشر،
وبداية القرن التاسع عشر. لذلك، فقد لجأت السلطة العسكرية إلى مخاطبة شيخ الأزهر محمد
أبو الفضل الجيزاوي في إغلاقه دفعة واحدة، أو الاكتفاء بإغلاقه في غير أوقات الصلاة،
فأبى.
٢٥٢ وقد اجتمع الشيخ محمد الروبي — أحد علماء الأزهر — بأعداد من الشباب في
داره بالحلمية القديمة، وطلب منهم التوقيع على صيغة توكيل الوفد المصري برئاسة سعد
زغلول، للسعي إلى تحقيق استقلال مصر استقلالًا تامًّا.
٢٥٣ وسُمي
الأزهر «حصن الوفد» تأكيدًا على العلاقة بين الوفد والأزهر، وعلى الدور الذي أسهم به
الأزهر في الحركة الوطنية.
٢٥٤ كان الأزهر يمتلئ — كل ليلة — بعشرات الآلاف من طلبته وطلبة المدارس
العليا، ورغم كل الاحتياطات التي اتخذتها قوات الاحتلال لمنع تسلل المجتمعين إلى
المكان، فقد وُفِّقوا في الحضور بوسائل مختلفة.
٢٥٥ وكما يروي طه هاشم (يوميات الثورة): «يقوم الأزهر والأزهريون بدورٍ كبيرٍ في
توجيه الثورة وإذكاء نارها، ولذلك حاصرته السلطة العسكرية بقوات كبيرة من الجنود
الإنجليز المسلحين، لكن ذلك لم يحُل دون دخول الأهالي والطلبة من منافذ سرية توصِّل إلى
داخله، ولا يعرفها الإنجليز … بل إنه لم يحُل دون قيام المظاهرات منه كما جرت العادة،
ودون أن يبالي الأهالي والطلبة المتظاهرون برصاص الإنجليز بحصدهم حصدًا.
٢٥٦
كان اعتداء الجنود البريطانيين على الأزهر الشريف في ١١ ديسمبر، بعد وصول لجنة ملنر
بأربعة أيام، خطأ حاولت سلطة الاحتلال — منذ بدايات الثورة — تفاديه، وعاملًا حاسمًا
في
إعلان الزعامات الدينية بالأزهر انحيازها إلى جانب الشعب في ثورته ضد الاحتلال، بعد أن
كانت المشاركة في أحداث الثورة وقفًا على طلبة الأزهر وبعض علمائه. استدرج المتظاهرون
قوات الإنجليز إلى داخل جامع الأزهر «لاستغلال ذلك في إذكاء الروح الوطنية ضد إنجلترا.»
وتحقق ما أرادته قيادات المتظاهرين، فعلى الرغم من محاولة الحكومة تهدئة الرأي العام
بأن «العسكر دخلوا الجامع الأزهر، وهم لا يعرفون. فلما علم الضابط الذي كان يقودهم
بالأمر، سحبهم، وانتهت المسألة.»
٢٥٧ فضلًا عن البيان الذي أصدره اللورد اللنبي يعرب فيه عن أسفه لاقتحام الجنود
الإنجليز مبنى الجامع الأزهر، ويبرر ما حدث بأن الجنود كانوا يطاردون «بعض الأفراد سيئي
النية الذين كانوا قد هاجموا الحوانيت»، وطالب شيخ الأزهر وعلماءه بمنع استخدام الأزهر
لأعمال الاعتداء المخالِفة للقانون.
٢٥٨ كان هو الاعتذار الوحيد الذي قدمه اللورد في كل أحداث الثورة، منذ
بداياتها … على الرغم من ذلك؛ فإن شيخ الأزهر اجتمع بأعضاء المجلس الأعلى وكبار
العلماء، وأصدروا بيان احتجاج شديد اللهجة، ندَّدوا فيه — علنًا، لأول مرة — بصمت السلطات
البريطانية عن تنفيذ وعدها بسرعة الجلاء عن مصر، وهددوا بإثارة العالم الإسلامي. وأحدث
البيان تأثيرًا بالغًا لدى سلطات الاحتلال والسراي.
٢٥٩ وقيل إن العلماء وقَّعوا المنشور بضغطٍ من طلبة الأزهر وطلبة المدارس العليا،
ثم ثبت أن ذلك القول هو زعم لا أكثر.
٢٦٠ وإذا كان صلاح عيسى يرجع حدة المظاهرات التي قام بها مجاورو الأزهر إلى
طبيعة الحياة الخشنة التي كانوا يعيشونها،
٢٦١ وهو بُعد اجتماعي يصعب إغفاله، فالحق أنه يصعب — في الوقت نفسه — إغفال
الدور الذي قام به الأزهر في جميع التطورات والأحداث السياسية التي شهدتها مصر منذ
إنشائه. وعلى الرغم مما كان يذهب إليه عبد العزيز جاويش من أن شيوخ الأزهر هم آفة هذا
الوطن، يحُولون بينه وبين التقدم بما كانوا يلجون فيه من المحافظة، ويعينون عليه
الظالمين بممالأتهم للخديو، ومصانعتهم للإنجليز،
٢٦٢ فإن الأزهريين كانوا — في الحقيقة — في مقدمة الصفوف، ومن أكثر الطلبة جرأة
وحماسة وتضحية، ومن أشد العاملين على بث روح الثورة والإضراب في طبقات الشعب. ويشير
محمد فريد في مذكراته إلى أن اشتراك طلبة الأزهر في الثورة لم يكن مفاجئًا، فعندما
زارهم السلطان حسين كامل — يومًا — صرخوا في وجهه قائلين: اخرج يا خائن!
٢٦٣ وفي مطلع ١٩٠٩م تقدم طلبة الأزهر بمطالب إلى شيخ الأزهر، وكوَّنوا جمعية باسم
«الاتحاد الأزهري» لتنظيم وسائل الحصول على مطالبهم. وتحددت تلك المطالب في رفع مرتبات
العلماء، وتعيين الأكفاء، وانتخاب هيئة كبار العلماء، وإلغاء تدريس المواد الجديدة التي
لم تكن ضمن المناهج الأزهرية من قبل. وزاد من حدة المشكلة أن الخديو عيَّن بعض أعوانه
في
مجلس إدارة الكلية ومجلس الأزهر الأعلى. وفي ٢٨ يناير ١٩٠٩م بدأ إضراب الأزهر، وعُقدَت
اجتماعات حاشدة في الجزيرة، وأعلن الأزهريون وجوب تنفيذ مطالبهم، وخرجت مظاهرات إلى
الشوارع، تدعو بتلك المطالب وتؤكدها. وعندما حاول الأزهريون شق طريقهم، تصدَّت لهم قوات
الأمن، واقتحمت الجامع بدعوى «فض الاشتباكات، وإعادة النظام إلى نصابه.» وكما يقول سعد
زغلول في مذكراته، فقد ظهرت صحف اليوم التالي «تنادي بالويل والثبور وعظائم الأمور،
وتعلن استياء الناس من هذه المعاملة، واستمرت على كتابة الفصول المؤثرة.»
٢٦٤ وقدم شيخ الأزهر استقالته، احتجاجًا على التدخل في شئون الجامعة الأزهرية.
وحين علم الخديو بالتطورات، أمر بتأليف لجنة تحت رئاسة وكيل مشيخة الأزهر، وعضوية ثلاثة
من العلماء، واثنين أحدهما تنتخبه نظارة الحقانية، والثاني تنتخبه نظارة
الداخلية.
٢٦٥
كان الطلبة يتلقَّون الدروس، ثم ينطلقون إلى الشوارع في مظاهرات حاشدة، وكانت المظاهرات
تبدأ — غالبًا — من أمام الأزهر، والاجتماعات العامة تُعقَد فيه. وضعت السلطة العسكرية
دوريات إنجليزية أمام أبوابه لكي تمنع خروج المظاهرات من داخله، لكن الجماهير كانت تفسد
مخططاتهم، واتخذوا مسالك أخرى، يجهلها الجنود، مثل أسطح البيوت والأزقة الضيقة. وقد
تألَّفت جمعيات سرية عديدة من بين طلاب الأزهر وأساتذته، مثل جمعية «الإصلاح الأزهري»
و«جمعية الاتحاد الأزهري». ونظمت تلك الجمعيات مظاهرات وإضرابات، اضطر الخديو
لمواجهتها، إلى تقرير «رفت كل طالب وعالم يمتنع عن الدرس، وتوقيف كل من يريد منع غيره
منهم.»
٢٦٦ وكان الشيخان مصطفى القاياتي ومحمود أبو العيون من قيادات جماعة اليد
السوداء، التي كان من بين أهدافها إثارة الرأي العام، وجمع الأموال لصالح الثورة،
وإرسال خطابات تهديد إلى الساسة الرجعيين، أو الذين باعوا أنفسهم لسلطات الاحتلال.
ويتحدَّث الراوي (نفوس مضطربة) عن ذلك المغربي الأزهري «الذي كان على رأس مظاهرة كبيرة
أمام الأزهر، يهتف لمصر، ويهب دماءه رخيصة في سبيل الحرية والاستقلال، وأنذر الجنود
المتظاهرين بأنهم سيطلقون الرصاص، لكنهم لم يعبئوا بالإنذار والوعيد، وتجمعوا وهجموا
على الجنود الإنجليز، فأفرغ هؤلاء النار في وحشية، في شباب الأزهر، وتساقطوا، واحدٌ ثم
اثنان، ثم ثلاثة، تساقط كثيرون، وتراجع بعضهم، لكن الشاب المغربي اندفع وسط الرصاص
المنهمر، واخترق الجنود المشدوهين الذين تركوا مدفعهم الرشاش الخفيف، وولوا مذعورين،
وحمل المدفع على كتفه، وعاد إلى الأزهر بحمله الثمين، ونصبه على البوابة الكبيرة.»
٢٦٧ وشاهد الناس — في إعجاب — شابًّا أزهريًّا «هجم على الإنجليز، وانتزع منهم
مدفعًا رشاشًا، وحمله، وأخذ يعدو به حتى بلغ باب الأزهر، وأخذ يدقه، ولكن البريطانيين
مزَّقوه برصاصهم.»
٢٦٨ الحادثة نفسها يرويها الفنان في «بين القصرين».
٢٦٩ وكان حمدان مجاورًا في الأزهر، وانشغل — في أثناء الثورة — بكتابة الشعر،
وإلقائه في تجمعات الجماهير، وكان رفاقه يكتبون قصائده بالدم فوق جدران
الشوارع.
٢٧٠ وظل الحاج عباس الأشرم (الصعايدة)، متعهد التموين، والأزهري، يفاخر بآثار
كرابيج الإنجليز على ظهره في أحداث الثورة.
٢٧١ كان الأشرم يتلقى العلم في الأزهر، ويخطب في المساجد، ويطوف مع القساوسة في
الكنائس، ويوزع المنشورات، ويقود المظاهرات، وينام على أسفلت السجون، وتطارده عيون
المخبرين، ثم انسحب من العمل السياسي دون أن يتقاضى مقابلًا لنضاله، بينما تقاتل زملاؤه
على كراسي الحكم.
٢٧٢ واشترك حمدي (الورد الأبيض) — بالمصادفة — في مظاهرة اعتصمت جموعها بجامع
الأزهر، واقتحمهم الجنود بالرصاص، فأصيب حمدي في فخذه بجرح، نقل بسببه إلى قصر
العيني.
٢٧٣
أما ذروة تضحية طلاب الأزهر، فهي في قيامهم بمظاهرة ضخمة، حاصرتها قوات الاحتلال،
وأطلقت عليها الرصاص، وسقط الطالب الأزهري حامل العلم على الأرض، فامتدت يد طالب آخر
تحمل العلم. فلما أصيب صاحبها، أصيبت يد ثالث، ورابع، حتى بلغ عدد الشهداء ثلاثة عشر
طالبًا، كان همُّهم أن يحُولوا دون سقوط العلم على الأرض. ولعله مما يلفت النظر أن الكتب
الثلاثة التي أحدثت تأثيرًا سياسيًّا واجتماعيًّا واسعًا، كانت لثلاثة من الأزهريين:
ديوان «وطنيتي» للشيخ علي الغاياتي، وكتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ علي عبد الرازق،
وكتاب «في الشعر الجاهلي» للشيخ طه حسين.
الموظفون
كانت الطبقة الوسطى هي أشد الطبقات تأثرًا بالنتائج السلبية للحرب العالمية الأولى،
وفي مقدمتها الارتفاع النسبي للأسعار.
٢٧٤ والموظف هو أشد الفئات تعبيرًا عن الطبقة الوسطى. إن صورة شيخ البلد وكاتب
الديوان ومحصل الضرائب لا تزال ماثلة في النفسية المصرية منذ عهود الفراعنة إلى الآن.
وكما يقول الفنان (شمس الخريف) فإن اسم الوظيفة عند أهل الريف مرادف لمعنى السيادة
والعزة والإمارة وتصريف شئون الناس بالسوط أو باللسان.
٢٧٥ تقول أم عباس (نحن لا نزرع الشوك) لولدها: «لن يحترمك أحد، حتى تكون
أفنديًا موظفًا.»
٢٧٦ وهي كلمات تذكِّرنا بالنصيحة الفرعونية القديمة، من خلال رسالة كتبها أب
لابنه: «بلغني أنه أهملت دراستك وسرت وراء ملاهيك، فهل تريد أن تكون فلاحًا تشق وتكدح؟
لا تكن فلاحًا، ولا تكن جنديًّا، ولا تكن كاهنًا، بل كن موظفًا يحترمك الجميع، ويمتلئ
منزلك خدمًا وحشمًا، وتتربع الثلاثين إلى جانب رجال البلاط.»
٢٧٧ وكان الأفندي/الموظف مطمح كل فتاة، لوظيفته المضمونة، ومرتبه الثابت،
وهيبته التي تصحبه في الديوان، وفي الشارع، وفي كلمات الناس عنه. مع ذلك، فثمة ملاحظة
لا تخلو من دلالة تطالعنا في رواية «الغائب»، وهي ذلك التقوس المبكر الذي يصيب ظهور
الموظفين من كثرة الانحناء والانثناء.»
٢٧٨ وليس ثمة تناقض، فذلك هو التكوين الهرمي للإدارة المصرية.
•••
كان كرومر هو الحاكم الفعلي لمصر حوالي ربع قرن، وقد سُمي باسم «كرومر الثاني» لإصراره
على أن يخضع كل شيء في البلاد لسيطرته ونفوذه.
٢٧٩ واللافت أن الرجل حوَّل اهتمامه — في الفترة التي تولى فيها قيادة قوات
الاحتلال — إلى فئة الموظفين، وعمل على إعدادهم بالأسلوب الاستعماري.
وكان من بين المذكرات التي استند إليها الوفد المصري في مناقشاته مع لجنة ملنر، مذكرة
تشير إلى أن ٨٦٪ من الوظائف الحكومية يشغلها مصريون، يتقاضون ٧٠٪ من مجموع المرتبات،
بينما يشغل الإنجليز ١٤٪ من الوظائف، يتقاضون ٣٠٪ من مجموع المرتبات. أما نصيب المصريين
في الوظائف الكبيرة، في معظم الوزارات، فلم يكن يبلغ أكثر من الربع.
٢٨٠ وفي ١٩١٨م أنشأ الإنجليز ٣٤٩٠ وظيفة كبيرة، وكانت هذه الوظائف مخصصة
للإنجليز دون المصريين.
٢٨١ من هنا، كان رأي سعد زغلول بأنه «إذا عيَّن الإنجليز واحدًا، عينت أنا آخر
مصريًّا، كخطوة أولى للوثوب إلى المركز الأصلي إذا خلا.»
٢٨٢
كانت عقدة المثقفين الرئيسة — الموظفين بالتحديد — أنهم «يمقتون أن يروا موظفين
إنجليزًا يشغلون مناصب يستطيع المصريون أنفسهم أن يشغلوها بكفاءة.»
٢٨٣ حتى إن باترسون مستشار وزارة المعارف بعد عزل دنلوب يقول في تقريره السري:
«أما شكوى طبقة المتعلمين، فإنها كانت تنصب على الحماية، وكانت تنصب على الجيش
الإنجليزي، وللأسف فإن بعض الإنجليز الذين يشغلون مراكز كبيرة … كانوا موضع عداء خاص
من
جانب هذه الطبقة.»
•••
حين تشكَّلت وزارة حسين رشدي عقب قيام الثورة، قاطعها الوزراء الوطنيون والساسة،
وكان
الشبان الوطنيون يلقون القنابل على مَن يقبل الانضمام إلى الوزارة الإدارية، فلجأت سلطات
الاحتلال إلى إغراء كبار الموظفين على دخول الوزارة بمنحهم لقب باشا، لا يسقط عنهم
بسقوط الوزارة، وصفة صاحب المعالي، تلازمهم حتى الموت، والمعاش الضخم يتقاضونه حتى لو
ظل أحدهم في الوزارة يومًا واحدًا.
٢٨٤
والحق أن الموظفين كانوا — في البداية — على هامش الثورة، كانت مقصورة على الطلبة
والعمال والفلاحين وبعض الأعيان وذوي المهن الحرة. ولما حاول عدد من صغار الموظفين
المشاركة — بالإضراب والتظاهر — عارضهم غالبية الموظفين وذوو المناصب العليا منهم بصفة
خاصة، وقرروا الاكتفاء بتوقيع عرائض الاحتجاج على اعتقال سعد زغلول ورفاقه. وظل
الموظفون على موقفهم السلبي من أحداث الثورة، حتى حرك كرامتهم الوطنية خطاب اللورد
كيرزون في ٢٤ مارس، والذي قال فيه: إن من الأمور التي تبعث على الرضا من بين الحوادث
المؤسفة التي وقعت في مصر، هو مسلك كثير من الموظفين ورجال الجيش والبوليس.» وقال إنهم
«عقلاء الأمة المصرية، لعزوفهم عن الاشتراك في الثورة.» وكان للخطاب وقع الصدمة في نفوس
عامة الموظفين، وعرَّى سلبيتهم أمام مواطنيهم، ومن ثَم فقد تمثَّل رد الفعل في تقديم
عريضة
احتجاج إلى اللورد كيرزون، أكدوا فيها أنهم إذا كانوا قد انصرفوا إلى عملهم في أثناء
احتدام الثورة، فليس مبعث ذلك عدم مشاركتهم شعبهم مشاعره ونضاله، وإنما لاعتقادهم أنهم
يؤدون واجبهم. ثم أعلنوا الإضراب لمدة ثلاثة أيام متوالية، هي الأول والثاني والثالث
من
أبريل، احتجاجًا على تشكيك وزير الخارجية البريطاني في وطنيَّتهم.
٢٨٥ ظلت ذكريات المظاهرات التي اشترك فيها سرور عزيز (حديث الصباح والمساء)
عالقة بخياله، كأجمل الطيبات التي عشقها في حياته.
٢٨٦ وقد أثار الإضراب حماسة الجماهير، لأنه حدثٌ مهم وغير مسبوق في التاريخ
المصري. كانت أول مرة يُضرِب فيها موظفو الحكومة لأسباب سياسية، ولم يُسبَق لهم الإضراب
لأي
سبب. ومع أن الإضراب عن العمل كان عقابه الفصل من الوظيفة؛ فإن الموظفين أقدموا على
الإضراب دون أن تشغلهم النتائج، ورغم أنهم كانوا لا يملكون إلا رواتبهم
الشهرية.
٢٨٧ وحين اعتقل نجيب بك فهمي الموظف بالسكك الحديدية، بتهمة التخويف والتحريض
على الإضراب، عقد عدد كبير من موظفي وعمال هيئة السكك الحديدية اجتماعًا في أحد
المساجد، وبعثوا عريضة احتجاج إلى حسين رشدي تبرئ الموظف من التهمة، وأن العمال
والموظفين أضربوا بدافعٍ من أنفسهم إعلانًا لموقفهم السياسي.
٢٨٨ وقد ظل حسنين أفندي (زامر الحي) يذكر — حتى إلغاء معاهدة ١٩٣٦م — وقفة الذل
والمهانة أمام المفتش الإنجليزي وهو يعنِّفه ويهزأ به لاشتراكه في إضراب
الموظفين.
٢٨٩ وفي اجتماع عُقد في الأزهر، شكا أحد موظفي السكة الحديد من أن كل ما تسلَّمه
الموظفون منذ بداية الإضراب كان جنيهًا واحدًا لكل موظف، وأن الكثير من الموظفين قد
أنفقوا مدخراتهم، وأن زوجاتهم وأطفالهم مهددون بالجوع، وقال: «إننا قادرون على مواجهة
رصاص الإنجليز، لكننا لا نستطيع احتمال الجوع.»
٢٩٠ ولعله من هنا، جاء قول كيرزون — فيما بعد — إن «الثورة المصرية ما هي إلا
حركة صغار الموظفين، وهي شعلة سأطفئها ببصقة.»
٢٩١ واستمر الإضراب حتى تقرر الإفراج عن سعد زغلول في ٧ أبريل، وتألفت في ٩
أبريل وزارة حسين رشدي الرابعة، لكن رد الفعل الحاد كان ما يزال يأخذ انطلاقته، فقررت
لجنة الموظفين إضراب جميع الموظفين عن العمل من السبت ١٢ أبريل، حتى تجاب المطالب
الآتية:
-
أولًا: أن تصرح الوزارة بصفة الوفد الرسمية.
-
ثانيًا: أن تعلن الوزارة أن تشكيلها لا يفيد الاعتراف بالحماية.
-
ثالثًا: إلغاء الأحكام العرفية، وسحب الجنود البريطانيين المسلحين من الشوارع، ومن
البنادر والقرى، وتفويض حفظ الأمن والنظام إلى رجال البوليس المصري.٢٩٢
وحاول حسين رشدي إثناء الموظفين عن تنفيذ الإضراب في موعده، وكانت وجهة نظره أن مسألة
مصر «ليست في يدي ولا في أيديكم، وإنما هي في يد مؤتمر السلام، لا تستطيع مصر أن تعتمد
إلا على الولايات المتحدة الأمريكية، لأنها الدولة الوحيدة التي لا مطمع لها، على أنه
لا
ينبغي ألا تسود الفوضى في مصر، لأن ذلك يصلح لأن يكون حُجة للإنجليز يدلون بها أمام
مؤتمر السلام دليلًا على عدم أهلية مصر للاستقلال.»
٢٩٣ واتسع الإضراب، وشمل فئات أخرى، فلم يجد رشدي بدًّا من تقديم استقالته،
وقدمها بالفعل في ٢١ أبريل ١٩١٩م، وقبِلها السلطان فورًا. وكانت تلك المرة الأولى التي
تسقط فيها وزارة مصرية بضغط شعبي غلَّاب، تمثَّل في سلسلة متواصلة من الإضرابات والمظاهرات.
وكان سقوط وزارة رشدي إعلانًا بزوال الصفة السياسية للحكومة المصرية، وبداية سلسلة من
الوزارات الإدارية، أولاها وزارة محمد سعيد.
وإذا كان حسين رشدي قد استقال أمام الضغط الجماهيري الهائل، فإنه انضم إلى التيار
المناوئ للتيار الشعبي.
وعلى الرغم من أن الموظفين دخلوا المعركة متأخرين، مقارنة ببقية الطوائف، فقد حسب
الإنجليز لهم ألف حساب، عندما أسقط إضرابهم وزارة رشدي الرابعة. وأعلن استمرارهم في
الإضراب أن جهاز الدولة قد انتقل من سيطرة السلطة البريطانية إلى معسكر الثورة، وهي
مسألة أفزعت السلطة إلى أبعد الحدود. لكن ثورية الموظفين كانت محدودة ومحددة، فقد انتهى
إضرابهم الثاني حين وجَّه إليهم اللنبي إنذاره بالفصل. كما لم يعودوا بعد ذلك إلى الإضراب
لما أغدقه عليهم محمد سعيد من علاوات ودرجات بعد وزارة رشدي الرابعة. «ولم يُسمَع
للموظفين بعد ذلك — على حد تعبير الرافعي — صوت في الأحداث الجسام التي تعاقبت على
البلاد، وسايروا كل وزارة أُلِّفت، مهما كانت سياستها معارضة لمصلحة البلاد.»
٢٩٤
وكان رحيل حسين رشدي — بعد أن قدم استقالة وزارته الرابعة — نهاية للفترة التي كان
النشاط السياسي للحكومة القائمة يتلاحم، أو يسير، في خطٍّ موازٍ — أو معارض — لنشاط الوفد
المصري، وبدأت وزارة محمد سعيد عهد الوزارات الإدارية التي تعنى بالشئون الداخلية،
ليتولى الوفد — بواسطة لجانه السرية — بقيادة عبد الرحمن فهمي في الداخل، وبواسطة
قياداته المعلَنة بزعامة سعد زغلول في الخارج، تحريك قضية الاستقلال إلى أقصى مداها.
فبعد تأليف الوفد المصري، وعرض سفر الوفد إلى باريس لعرض المطالب المصرية على مؤتمر
الصلح في فرساي، طلب حسين رشدي هو أيضًا أن يسافر في وفدٍ برئاسة عدلي يكن إلى لندن لعرض
مطالب مصر في الاستقلال. وكان قبول حسين رشدي أن يشترك في وفد المفاوضات برئاسة عدلي
(١٩ مايو ١٩٢١م) ضد إرادة الجماهير المصرية، هبوطًا آخر في الرسم البياني لمسيرة الرجل
السياسية، والذي صعد — بصورة غير متوقعة — في أيام الثورة الأولى، بتأثير الضغط الشعبي
الجارف، ثم بدأ هبوطه منذ استقالت وزارته الرابعة بعد إضراب الموظفين، ولينتهي الإضراب
في أبريل ١٩٢١م.
•••
واللافت أن الموظفين كانوا في مقدمة الفئات التي أفادت من الثورة؛ فعندما جاءت لجنة
ملنر — ١٩٢٠م — طلبت من كل وزارة بيانًا بتوزيع الوظائف فيها، واتضح للجنة أن المصريين
يشغلون من المناصب الصغيرة نحو ثلثَيها، وينخفض نصيبهم إلى الثلث في المناصب المتوسطة
والرواتب. أما الوظائف الكبيرة فكان نصيب المصريين فيها لا يبلغ الربع. وهو ما جرى
تداركه في حكومات ما بعد تصريح ٢٨ فبراير. ويقول عبد الرحمن الرافعي عن وزارة سعد زغلول
التي تولت الحكم بعد أول انتخابات برلمانية في ١٩٢٤م، ثمرة أولى لثورة ١٩١٩: «إن وزارة
سعد زغلول قد وضعت الموظفين الأجانب، وبخاصة الإنجليز عند حدِّهم، وتضاءلت سلطتهم في
عهدها.» ونتيجة لذلك، فقد فُتِح الطريق أمام الطبقة الوسطى الصغيرة لتحتل الوظائف
المختلفة، وتجد لنفسها مكانًا في مركز القوة من هذا المجتمع، بعد أن كانت ضعيفة لا مكان
لها أمام النفوذ الأجنبي. ثم بدأت هذه الطبقة تتضخم، فأخرجت المدارس والجامعات عددًا
كبيرًا من أبنائها احتلوا مواضع في دواوين الحكومة المختلفة. ولا يخلو من دلالة قول
فتحي غانم: «كانت الطبقة الفقيرة تتوارى بعد انتهاء ثورة ١٩١٩م، وإعلان دستور ١٩٢٣م،
وكانت الطبقة المتوسطة تقوى وتسيطر، مشتركة في الحكم.»
٢٩٥
حسين رشدي … زعامة وطنية أم عمالة؟
في الحادي عشر من نوفمبر ١٩١٨م توقف إطلاق المدافع في أوروبا، وفي الثالث عشر من الشهر
نفسه — أي بعد يومين فقط — كان السير وينجت يستقبل الزعماء المصريين الثلاثة ليعرضوا
عليه مطلب الشعب المصري بالاستقلال. ومعنى ذلك — في تقديري — أن سني الحرب، وما صحبها
من إجراءات استثنائية ومتغيرات داخلية وخارجية — كانت تمثِّل — في توالي أحداثها —
انطلاقات نحو تحقيق الاستقلال. وكانت تمثِّل — في الوقت نفسه — هدنة اضطرارية، قبل أن
يبدأ الشعب المصري — بالثورة — سعيه إلى الهدف المحدد. كانت سنوات الحرب أشبه باللحظات
التي تسبق انطلاق السهم من القوس نحو هدفه. ذلك ما كانت تدركه سلطات الاحتلال، وما كان
يدركه الزعماء المصريون جميعًا، ومن بينهم — بالطبع — رئيس الوزراء حسين رشدي. وإذا
كانت السلطات البريطانية قد حاولت أن تنكر على حسين رشدي إصراره على عرض مطالب مصر في
لحظة غير ملائمة، في تقديرها؛ فإن انتهاء الحرب كان معناه — من وجهة النظر الوطنية —
انتهاء حياته السياسية، فلم يكن قد مضى أعوام على اغتيال رئيس الوزراء الخائن بطرس
غالي. وكانت محاولات اغتيال السلطان حسين والوزراء قريبة، ومستمرة. وأصرت الحكومة
البريطانية على رفض سفر الوفد، فجدَّد رشدي استقالته، في أول مارس ١٩١٩م، فقبِلها السلطان،
وطلب إلى حسين رشدي أن يستمر في منصبه إلى أن يتم تأليف الوزارة الجديدة.
إن قبول التعامل مع ممثلي الاحتلال، هو «خطيئة» مؤكدة، يصعب — مهما تكن البواعث —
تبريرها. لكن البحث عن «الذي بلا خطيئة» في السياسة المصرية، أشبه بالبحث عن المستحيل
الرابع في المثل الشهير. سعد زغلول الذي كان ميَّالًا إلى الاعتدال — في بدايات الثورة،
هو
سعد زغلول الذي أصبح — في عام ١٩١٩م، وبتحريض من الجماهير — متطرفًا في الثورية. محمد
نجيب الهلباوي الذي أصر أن يحتفظ بأسرار زملائه في حادثة محاولة اغتيال السلطان حسين،
هو الذي استدرج فدائيي حادثة مقتل السردار البريطاني لحساب سلطات الاحتلال، والأمثلة
عديدة. وحتى لا نتوه في تعبيرات غير محددة؛ فإن المطلوب أن تكون النظرة إلى حسين رشدي
من الزاوية نفسها التي ننظر بها إلى الزعامات المصرية منذ عام الاحتلال، فيما عدا بعض
الاستثناءات التي اتجهت — كليًّا — إلى الجماهير المصرية، أو اتجهت — كليًّا — إلى
الوقوف ضد إرادتها. عبد الله النديم — مثلًا — ومحمد فريد في الاستثناء الأول، وسلطان
وخنفس ومصطفى فهمي وزيور ومحمد وحيد الأيوبي رئيس الحزب الوطني الحر (كان في مقدمة
برنامجه مسالمة المحتلين والسعي في نيل ثقتهم) في الاستثناء المقابل. كان الوزراء يخشون
— كما يقول صالح عيسى السوداني — عدم الظهور بمظهر الوطنية، كانوا يخافون ويحذرون
المصري الثائر المطالِب بالاستقلال التام.
٢٩٦
•••
طبوزادة، جندي من قولة. وصل إلى مصر ضمن أفراد الحملة التركية التي قامت بمحاربة
الفرنسيين، لإخراجهم من مصر، الإقليم العثماني. وكان من بين أفراد الحملة محمد علي، هو
أولاظ أوغلي، وحبيب أفندي، ومحمد شريف، ومحمود بك، ومعجون بك، وإبراهيم يكن.
٢٩٧ وفي ٣١ مارس ١٧٠٨م أحاطت القوات المصرية بقوات الغزو البريطاني التي كانت
تعسكر في معسكر الحماد، فقتلت مئات، وأسرت مئات آخرين. حتى القادة الإنجليز الثلاثة،
قُتِل منهم اثنان وأُسر الثالث، وكان قائد القوات المصرية في تلك الموقعة طبوظ أوغلي
جد
حسين رشدي.
وُلِد حسين رشدي في القاهرة، سنة ١٨٦٣م، وتلقَّى تعليمه في مصر وفرنسا. عند تخرجه
عُيِّن
مفتشًا بوزارة المعارف، ثم نُقِل إلى القضاء، وترقى فيه حتى شغل وظيفة مستشار في محكمة
الاستئناف العليا. اختير — بعد ذلك — مديرًا لديوان الأوقاف. ثم عُيِّن وزيرًا للحقانية
في
وزارة محمد سعيد باشا سنة ١٩١٠م. ولما استقالت الوزارة في ١٩١٤م عهد إليه الخديو عباس
برئاسة الوزارة، ثم عيَّنه قائم مقام له أثناء غيابه في أوروبا. وبعد نشوب الحرب كلَّفه
الخديو بتولي رئاسة الوزارة، وظل في منصبه حتى ١٩٢٢م، وعُيِّن في أواخر ١٩٢٥م رئيسًا
لمجلس
الشيوخ، وتُوفي في ١٩٢٨م، أي بعد رحيل سعد زغلول بسنة واحدة.
وفي تأريخه لأحداث ثورة ١٩١٩م، وصف حسين مؤنس هذا الرجل بأنه أرستقراطي، عاش عمره
كله
على عرش من ذهب، استدعاه كرومر من باريس ليحكم مصر باسم الاحتلال، ولصالح الاحتلال،
«فعندما غضب كرومر على مستوزريه، واحتاج إلى وجه جديد، لم يفكر في واحدٍ من أبناء البلد،
سمع عن ابن باشوات اسمه حسين رشدي، درس الحقوق في فرنسا، ثم أخذ يقضي وقته في اللهو
والعبث في باريس، فأرسل يستدعيه بالتلغراف، فجاء وتولى الوزارة.»
٢٩٨ وكان رأي الرجل في محمد فريد — أحد أخلص الزعامات المصرية عقب هزيمة
العرابيين — أنه قاتل، سفاك للدماء، خطر، معتدٍ، يغري الطلبة! وبعد أن ألقي القبض على
إبراهيم ناصف الورداني — عقب اغتياله بطرس بشا غالي في ٢٠ فبراير ١٩١٠م — تقدم إليه حسين
رشدي ناظر الجهادية، وصفعه على وجهه بيده قائلًا: يا كلب … لماذا قتلت الرئيس؟ أجاب
الورداني في هدوء: لأنه جعل أمثالك في الوزارة!
٢٩٩
كان تولي حسين رشدي رئاسة الوزارة — عقب استقالة وزارة سعيد باشا — بنصحٍ مباشرٍ
من
أمين الرافعي، وقد أقسم رشدي يمين الطاعة والولاء للسلطان.
٣٠٠ ونقم الشعب على السلطان فؤاد لأنه قبِل العرش منحة من الإنجليز، وعلى حسين
رشدي، الذي اعتُبر خائنًا لبلاده. وللأسف، فقد تعدَّدت — بعد إعلان الحماية — تصريحات
حسين
رشدي التي تؤيدها، وتجد فيها نفعًا مؤكدًا لمصر، مثل قوله «إن مصر إذا فرضَ ولم تكن
حاصلة على مساعدة ومعونة إنجلترا، لوجب أن تفتش لها على دولة قوية وصديقة مثلها لتكون
عونًا لها»، وقوله: «إننا لا نستطيع أن نعيش وحدنا، ولا يمكن لمصر أن تستقل عن سواها
استقلالًا سياسيًّا، وذلك لأن موقعها الجغرافي، وحدودها الغربية المتصلة بالصحراء،
ومركزها بإزاء القنال، وكونها طريقًا للهند … كل هذه العوامل تجعلها مطمحًا للغير.»
وقوله: «إني أريد أن تكون لمصر حماية تعطي لإنجلترا حق المراقبة المطلَقة على القنال،
وحق المراقبة المالية أيضًا»، وقوله: «أحب أن تصبح مصر مملكة عظيمة، تحصل على المكان
اللائق بها، وعلى الحرية اللازمة لها بمساعدة وحماية إنجلترا» … إلخ.
٣٠١
من هنا؛ فإن الرجل لم يكن شخصية محبوبة لدى الجماهير وسط الزعامات المصرية. وفي مقدمة
الأسباب — كما يقدِّر أستاذنا الصحفي الراحل محمد نجيب — أنه كان يتبوَّأ منصب «قائمقام
خديو» على أثر سفر الخديو عباس إلى الآستانة في صيف ١٩١٤م. ثم تولى منصب رئاسة الوزارة
عقب إعلان الحماية، فتعاون بذلك مع الإنجليز المحتلين، وتخلى عن وكالته للخديو، وتعاون
كذلك مع الإنجليز الحامين.
٣٠٢
عندما أعلنت إنجلترا الحماية على مصر، كان حسين رشدي رئيسًا للوزراء، فعُيِّن نائبًا
للخديو بدرجة قائمقام خديو. وكان بوسعه — بل كان عليه — أن يرفض خلع السلطان، أو أن
يعلن عدم إقراره للخلع، أو أن يستقيل، لكنه وافق على خلع الخديو، وعلى تولي منصب
قائمقام الخديو، وتعاون مع سلطات الاحتلال. وطلب الإنجليز من حكومة حسين رشدي إصدار
قانون لمنع التجمهر، نصَّ على توقيع عقوبة لا تزيد عن ستة أشهر لكل من يقبض عليه بتهمة
التجمهر، فإذا كان التجمهر مصحوبًا بحمل الأسلحة أو الآلات التي يمكن استخدامها في
القتل؛ فإن العقوبة لا تزيد عن سنتين، وغرامة لا تتجاوز خمسين جنيهًا.
٣٠٣
كانت السياسة البريطانية تعمل وفق رؤية بأن الدولة العثمانية تميل — منذ بدايات الحرب
العالمية في ١٩١٤م، إلى معسكر دول الوسط. وأقدم حسين رشدي في ٥ أغسطس ١٩١٤م — في ظل تلك
الرؤية، وبضغط مباشر من الإنجليز — على إعلان عدم حياد مصر في حالة قيام حرب. ثم أعلنت
بريطانيا الحماية على مصر، في ١٨ ديسمبر ١٩١٤م. ولم يكن إعلان الحماية البريطانية يعني
فحسب السيطرة الإنجليزية على مصر، وإنما زوال التبعية المصرية لدولة الخلافة.
٣٠٤ وقد قدَّر الإنجليز لحسين رشدي مواقفه، فأنعموا عليه بوسام «سان ميشيل وسان
جورج» في ٢٠ ديسمبر ١٩١٤م.
٣٠٥
وكان قمة المواقف السلبية لحسين رشدي، حين قرر مجلس الوزراء المصري الذي كان يترأسه،
دخول مصر الحرب إلى جانب بريطانيا، وقطع التعامل مع الألمان وحلفائهم، وتخويل القوات
البريطانية الحرب في الأراضي والمواني المصرية، واعتبار السفن الألمانية الموجودة في
مصر سفنًا معادية. رحَّب بإجراء الحماية في ١٨ ديسمبر ١٩١٤م لأنها، على حد تعبيره «تضمن
لمصر الحماية من أي عدو أجنبي، ولا تشتمل — في الوقت نفسه — على تغيُّر فعلي في وضع مصر،
وهي باب واسع يمكن أن يكون استقلالًا داخليًّا.»
٣٠٦ وقال في ٢٦ ديسمبر ١٩١٤م لجريدة «الجورنال دي كير» — أي عقب إعلان الحماية
مباشرة: «إني أعد الحماية نعمة عظيمة، لأنها تزيل العقبات التي كانت تقف في سبيل التقدم
والارتقاء.» وقال في ١٥ سبتمبر ١٩١٥م لجريدة «الأهرام»: «إذا كان جدي قد قاتل الإنجليز
في حملة فريزر سنة ١٨٠٧م حبًّا لمصلحة مصر؛ فإن هذه المصلحة نفسها تحملني أنا اليوم على
أن أماشيهم واضعًا يدي في يدهم.»
٣٠٧ ولكن الكولونيل ألجود يؤكد في كتابه «مصر تحت الحماية» أنه لو أن وزيرًا
أقوى من رشدي في مكانه «لعمد إلى المساومة، لكنه لم يشترط شرطًا واحدًا، وساءت العاقبة
بمصر من جراء هذا الإهمال، وليس في وسع رشدي باشا أن يقول كلمة واحدة تخفف من وقع
تسليمه وآثاره.»
٣٠٨ ويقول محمود كامل إن شباب عام ١٩١٤م اعتاد أن يسمع أن حسين رشدي قد قبِل ذل
الحماية البريطانية في مقابل ثلاثة ملايين من الجنيهات الإنجليزية، كما اعتاد شباب عام
١٩٢٠م أن يسمع أن عدلي يكن «بردعة» الإنجليز.
٣٠٩ وتحت وهم تمتُّع مصر بأكبر قدر من الحرية بعد الحرب، بذل حسين رشدي الكثير من
إمكانات مصر، وطاقات وأرواح أبنائها خلال سني الحرب. لقد وضع تحت تصرف القائد العام
البريطاني — كما أعلن بنفسه — جميع الموارد المصرية من مال ومئونة ووسائل نقل ورجال.
وسخَّر نحو مليون ونصف مليون مصري للعمل في سيناء، ثم في اتجاه الشرق إلى ما بعد سيناء.
واستُدعي الرديف المصري للخدمة العسكرية في أوائل ١٩١٦م، تلبية لطلب السلطات البريطانية.
وأصدر في مايو ١٩١٨م كتابًا دوريًّا إلى المديرين، ينذرهم فيه بأنه لن يسمح بأن تكون
هناك قرية مصرية لم تقدم أنفارًا من أبنائها إلى السلطة. وطالبهم بأن يتخذوا جميع
الإجراءات المشددة ضد العُمد الذين يتهاونون في أداء هذا الواجب.
٣١٠ ويقول اللورد ملنر في تقريره: «إن الخدمات التي قام بها فيلق العمال
المصريين كانت خدمات لا تُقدَّر بثمن. ولم يكن غنيًّا عنها لنجاح الحملة على فلسطين،
وإن
الحكومة المصرية قد أيدت رجال السلطة البريطانية بأعظم تعاون. والدلائل على ذلك كثيرة،
ففي التاسع من مارس ١٩١٨م — على سبيل المثال — استصدر حسين رشدي قرارًا من مجلس الوزراء
يقضي بأن تقدِّم حكومة مصر منحة قدرها ثلاثة ملايين جنيه ونصف المليون إلى الحكومة
البريطانية، اعترافًا — كما قال القرار — بجميل بريطانيا العظمى التي حمت البلاد من خطر
الغارات.»
٣١١
الخيانة — كما ترى — هي التهمة الواضحة، والمحددة. فهل كان حسين رشدي سياسيًّا خائنًا
بالفعل؟
لعلي أعترف أن الدفاع عن بعض مواقف الرجل الذي ينتمي — اجتماعيًّا — لطبقة تحيا على
فقر الملايين المصرية، ويقبل رئاسة الوزارة في ظل الاحتلال، ويقدِم على تصرفات — معلَنة
—
إن لم تقذف به في قفص الاتهام، فهي — في الأقل — تلفُّه بضبابٍ من التوجس والشك. بالإضافة
إلى العامل الأهم، وهو إسقاط الجماهير له من بين كل زعامات الثورة … لكن القراءة
الموضوعية لترجمة حسين رشدي يصعب أن تغفل الومضات الإيجابية التي كان لها تأثيرها
الإيجابي في مسار الأحداث.
لقد لاحظت غالبية الأقلام التي أرَّخت لحسين رشدي، ومواقفه في الحياة السياسية المصرية،
أن هَمَّ الرجل الذي حوَّل مصر — لحساب الإنجليز طيلة سني الحرب — إلى معتقل كبير، كان
استمالة الحركة الوطنية، وإبداء تعاونه معها، وتأكيد خضوعه لها. يقول حسين رشدي في
رسالة مفتوحة إلى أحمد شفيق باشا: «إنني أستغفر الله إذا أخطأت الظن في أنك تعدني
مسئولًا — إلى حدٍّ ما — عن زج مصر في الحرب، وجوابي على ذلك بسيط، وهو أن السبب في زج
مصر في الحرب هو وجود الجيوش البريطانية فيها، وتعرض البلاد لغزو الألمان.»
٣١٢ ويروي لطفي السيد أن حسين رشدي أخبره بدخول إنجلترا الحرب، وأن الأحكام
العرفية قد أُعلنَت في مصر. فقال لطفي السيد: أتدخل الحرب مجانًا يا باشا؟ قال حسين رشدي:
بل احترزنا مما تخاف بأن قلنا «نظرًا للاحتلال الفعلي لإنجلترا في مصر.» قال لطفي
السيد: أخشى أن يقول الناس إن هذه سذاجة سياسية، فإذا كانت إنجلترا تريد أن تجرنا معها
إلى هذه الحرب، فلتعترف لنا أولًا بالاستقلال! قال رشدي: لم يفت وقت ذلك.
٣١٣ وينقل أحمد شفيق عن حسين رشدي قوله: «إننا إذا لم ننفذ هذه الإجراءات —
الإجراءات التي طالبت بها إنجلترا عقب إعلان الحرب — يُخشى من أن تقوم السلطة الإنجليزية
بتنفيذها. وفي كلتا الحالتين، سنكون عرضة لاعتداء الألمانيين وحلفائهم، فالخطر محدق
بنا. ومن جهة أخرى، فإنه لصيانة مصالحنا السياسية إزاء إنجلترا، يستصوب أن نعمل بإذننا
بدلًا من استعمال سلطتهم.»
٣١٤ وثمة رواية أن حسين رشدي قدم مذكرة شفوية إلى القائم بأعمال المعتمد
البريطاني في مصر، بأنه إذا دخلت الدولة العثمانية الحرب، إلى جانب ألمانيا؛ فإن مصر
تعلن استقلالها، شريطة أن تحل إنجلترا محل الدائنين الأجانب في صندوق الدَّين، وألا تسن
قوانين بخصوص الأجانب إلا بعد مصادقة الحكومة البريطانية، وأن يدافع الجيش الإنجليزي
عن
قناة السويس، لكن حسين رشدي ما لبث أن تراجع عما جاء في مذكرته الشفوية، وقبِل وضع مصر
تحت الحماية البريطانية دون قيد أو شرط.
٣١٥ وصرح حسين رشدي لجريدة «الجورنال دي كير» بأن «التغيير الذي طرأ علينا،
إنما هو تغيير في الصيغة القانونية لا في الواقع؛ فإن الاحتلال ينطوي تحته — في الواقع
— ما ينطوي تحت الحماية، فليس فيما جرى دورة أو انقلاب، ولكن لفظة حماية واسعة النطاق،
فيمكنك — بحسب الظروف — أن تستخرج منها معنى الضم، أو معنى الاستقلال.»
٣١٦
ويروي لطفي السيد أنه حين صارح حسين رشدي السير ريجلند وينجت — المعتمد البريطاني
آنذاك — بأن مصر مستعدة لمناصرة بريطانيا العظمى، بشرط أن تنال حقها في الاستقلال، عبَّر
وينجت عن ارتياعه من الفكرة — والتعبير للطفي السيد — لكنه وعد بأن يعرض الأمر على
حكومته.
٣١٧ وفي رواية تاريخية ثانية، أنه حين أعلنت إنجلترا الحماية على مصر، كان
ممثِّلها في مصر قد «أعطى وعدًا صريحًا لحسين رشدي قائمقام الخديو (لم يكتف بالوعد أن
يعرض
الأمر على حكومته) بأنه عقب انتهاء الحرب؛ فإن الحكومة البريطانية مستعدة لإعادة بحث
نظام الحكم في مصر على قاعدة تحقيق الأماني القومية المصرية.» وفي رسالة من رشدي إلى
الخديو عباس في الآستانة: «أما إذا دخلت تركيا الحرب بجانب ألمانيا في غياب سموه —
الخديو — فنجد أنفسنا هنا حيارى، بدون قيادة. إذ ذاك إما أن تضم إنجلترا مصر إليها، أو
نتفق معها على إعطائنا الاستقلال الداخلي، حتى تجذب إليها الأهالي، ففي الحالة الأولى،
أعتبر مهمتي قد انتهت، وأدخل في عداد الأمراء، أما في الحالة الثانية فلديَّ ما
أفعله.»
٣١٨ ورفع رشدي خِطابًا إلى السلطان حسين (١٩/ ١٢/ ١٩١٤م) قال فيه «إنني مصري
قبل كل شيء، وقد تغلبت مصلحة الوطن السامية التي كانت رائدي في كل أعمالي على جميع ما
عداها من الاعتبارات الشخصية.»
٣١٩ ولما دنت الحرب من نهايتها، طلب حسين رشدي السماح له — ولزميله عدلي يكن —
بالسفر إلى لندن، للتفاوض مع الحكومة البريطانية في المسألة المصرية. واعتذر اللورد
بلفور وزير الخارجية البريطاني بسبب انشغاله — خارج العاصمة البريطانية — بمؤتمر الصلح،
وأنه لا يستطيع أن يعطي العناية المطلوبة «لمسائل الإصلاح الداخلي المصري»، فضلًا عن
أن
«المرحلة التي يصبح فيها ممكنًا منح الحكم الذاتي لم تحن بعد.» وطلب من الوزيرين
المصريَّين تأجيل زيارتهما. ولأن مجرد موافقة الخارجية البريطانية على استقبال رشدي
وعدلي، والسماع منهما لمطلب الاستقلال، كان سيغيِّر كثيرًا من نظرة رجل الشارع المصري
إلى
رئيس الوزراء الذي قبِل الحماية في ظل الاحتلال، وقدم تنازلات من دماء مواطنيه وحرياتهم
وأقواتهم، وأنه ربما فعل ما فعل بهدف جعل الاستقلال حقًّا مشروعًا. وحين تبدَّى للرجل
تهاوي كل مشروعاته، فقد أسرع بتقديم استقالته، وأجَّلها لبضعة أيام تلبية لنصيحة السير
وينجت بتأجيل البت في تقديم الاستقالة لحين الرجوع إلى حكومته، ومناقشتها. وأصرَّت
الحكومة البريطانية على تأجيل سفر الوزيرين، فعاد رشدي إلى تقديم استقالته، لكن السلطات
البريطانية لم تقبلها، وألحَّ كبار المسئولين البريطانيين على رشدي لتأجيل تقديم
استقالته. لكن صورة رجل الشارع العادي الذي كان يتابع ويناقش ويحلل، ويعد نفسه لأشياء
كانت — بالتأكيد — هي الدافع لأن يرفض رجاء السلطان ونصائح الإنجليز، وأن يبعث رسالة
ثالثة إلى السلطان، في ٢٠ ديسمبر من العام نفسه — يتعجَّل قبول استقالته. وبعد يومين
—
أول يناير ١٩١٩م — اقترحت الخارجية البريطانية سفر رشدي وعدلي إلى لندن في فبراير، على
أن يستقبلهما المسئولون هناك في مارس. وردَّ رشدي على الاقتراح بأنه «بعد وصول الحالة
إلى
الحد الذي بلغته، أصبح لا يكتفي بما عرض عليه من سفره وعدلي إلى لندن في النصف الأول
من
فبراير، وأنه يشترط لسحب استعفائه شرطًا أساسيًّا، هو إباحة السفر إلى أوروبا لمن يطلب
من المصريين.»
٣٢٠ لماذا؟ لأن «مركز أنصار الحركة الوطنية — والكلام للورد ملنر — كان قد قوي
في مصر.»
٣٢١
ولما اشتدت الحركة التي قام بها الوفد المصري — عقب الزيارة الشهيرة التي قام بها
سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي، للسير وينجت — أبلغت الحكومة البريطانية حسين
رشدي أنها لم تعُد تعارض سفره إلى لندن، لكنه رفض الدعوة إلا إذا وُجهَت إلى سعد زغلول
في
الوقت نفسه، ورفضت الحكومة البريطانية هذا الاقتراح.
كانت الإضرابات العمالية التي شهدتها البلاد، منذ أواخر عام ١٩١٧م، وبداية عام ١٩١٨م،
إرهاصًا واضحًا بالأحداث التي شهدتها البلاد في ١٩١٩م. وكان حسين رشدي يدرك أن العاصفة
الآتية لا بد أن تصيبه هو بالذات، فقد كان المثل الشائع في امتداد الوطن العربي أن
الخيانة انفرد بها الحسينيون: الشريف حسين، والسلطان حسين كامل، ورئيس الوزراء حسين
رشدي. من هنا كان إسراعه — فور أن وضعت الحرب أوزارها — إلى مطالبة السلطات البريطانية
بأن تأذن له بالسفر إلى الخارج، فقد كان حريصًا على أن تبدو صورة سنوات الحرب — في نظر
الشعب — كأنها مقدمة ضرورية ولازمة للمطالبة — بعد انتهاء الحرب — بالاستقلال. فلما
رفضت السلطات البريطانية منح رشدي الإذن بالسفر، قدَّم استقالته في الثاني من ديسمبر
١٩١٨م، فلما لم يقبلها السلطان، عاد فقدمها في ٢٣ ديسمبر من العام نفسه، وظلت معلقة حتى
تم قبولها في أول مارس ١٩١٩م.
لقد رفضت الجماهير المصرية من الرجل تحركه، وحددت له المسار الذي يعني خروجه منه —
كما قلت — نهاية حياته السياسية، وبالإضافة إلى توقع ثورة المصريين، فقد كان من الأسباب
التي دفعت رشدي لتغيير مواقفه:
-
إعلان مبادئ الرئيس الأمريكي ولسن في يناير ١٩١٨م، ومن بينها المبدأ الخاص الذي ينص
على حق الشعوب في تقرير مصيرها.
-
إعلان التصريح البريطاني الفرنسي للعرب في نوفمبر ١٩١٨م، والذي ينص — صراحة — على
ضرورة تحرير الشعوب العربية في منطقة الشرق الأوسط، وتركها حرة تختار نظمها، وإقامة
حكوماتها، من غير أي تدخل أجنبي في شئونها وحرية اختيارها، واستقلالها.
-
ظهور سعد زغلول بشخصيته الكاريزماتية، وتأثيره الشعبي الغلاب.
-
البدء في تكوين الوفد، والأصداء الشعبية الواسعة لهذا التكوين.
-
تقلُّص قبضة النفوذ البريطاني في مصر، في أيام الحرب العالمية الأولى، بعد أن صار
النصر وشيكًا، فأهمل قانون التجمهر، وأصبح المصريون يتجمعون بلا خوف. وكما يقول محمد
كامل سليم، فقد أثرت كل هذه العوامل والحقائق أعمق الأثر، «وما كان في استطاعته ألا
يتأثر حتى لو أراد. وقد تغيَّر — إلى حدٍّ كبير ملحوظ — هو وعدلي والزملاء في الوزارات،
وأصبح
رشدي يتقرَّب إلى الزعيم، فكثرت المقابلات بينهما، وقيل إنه يؤيد الزعيم في ضرورة تأليف
الوفد، وفي ضرورة العمل، أو في ضرورة تنسيق العمل الرسمي من ناحيته، والعمل الشعبي من
ناحية الزعيم وأصحابه وأنصاره.»
٣٢٢
المتأمِّل للتاريخ المصري الحديث، يكتفي — في الأغلب — بمجموع المواقف لكل سياسي،
ومدى
اقترابها — أو ابتعادها — من حركة الجماهير، مقابلًا — نسبيًّا — لمواقف العمالة
الصريحة لساسة آخرين، فضَّلوا — منذ اللحظة الأولى وحتى الممات، أو الاغتيال — عناق
الشيطان: بطرس غالي — مثلًا — ومصطفى فهمي وزيور ومحمد وحيد الأيوبي وأمين عثمان وعشرات
— للأسف — غيرهم.
والحق أن المد الشعبي — حين يكون غلابًا وقويًّا وقاهرًا — لا بد أن يدفع اليائسين
والمترددين والذين بلا رأي، إلى ركوب أمواجه، إما فرارًا من تهمة العمالة والتواطؤ،
وإما لمحاولة جني الثمار، وإما — وهذا ما أرجحه من خلال استقراء مراحل التاريخ المصري
—
توقعًا لاستيقاظ مصدوم من غفوة مستكينة. كان غالبية الزعامات المصرية — يوم نشوب الثورة
— أقرب إلى التعقُّل والاعتدال، وتوخي التهادن والملاينة. وكان سعد زغلول — قائد الثورة
—
واحدًا من تلك الزعامات التي كان ترى أن الإنجليز «خصوم شرفاء معقولون». وقد أدرك سعد
زغلول أن الاحتفالات الأسطورية التي كانت في استقباله «إنما هي موجهة إلى شيء آخر، أعلى
وأسمى من سعد، ومن أصحاب سعد، موجَّهة إلى ذلك المبدأ السامي الذي اتخذتموه راية لحياتكم،
وهو مبدأ الاستقلال التام»!
٣٢٣ لكن حسين رشدي كان يعاني، حتى قيام الثورة من الاتهامات التي، إن لم تُدنه
بالعمالة، فهي — في الأقل — تدينه بالصمت والتجاهل، وإغفال المطالبة بحقوق مواطنيه، حتى
في الظروف التي تتيح له ذلك. وبداية؛ فإن قبوله تولي رئاسة الوزارة في ظل الاحتلال —
فضلًا عن الحماية — اتهام مؤكد، تُعَد مناقشته سفسطة لا موجب لها!
يقول حسين رشدي إنه لم يدافع عن الحماية أمام الشعب إلا لأنه كان يرى من المصلحة
أن
يتجنَّب كل عمل عدواني ضد الإنجليز، «بل أن نساعدهم قدر الإمكان حتى نعامَل عند الصلح
معاملة الصديق المتحالف.»
٣٢٤ وآثر حسين رشدي — نتيجة لذلك الفهم — أن ينفرد بالحكم، دون حاجة — في
تقديره — لاستشارة الأمة، حتى إنه لم يدع الجمعية التشريعية إلا خوفًا من إثارة
المعارضة.
٣٢٥
وبعد إعلان الحماية، تقدم رشدي بطلب منح الاستقلال الذاتي لمصر، فجاء جواب وزير
الخارجية البريطانية عن طريق دار الحماية: «إننا ننظر بأعظم عناية في طلب رشدي باشا،
ولكننا نرى أن هذه المسألة لا يمكن البت فيها إلا عند نهاية الحرب.»
٣٢٦ وفي مطلع عام ١٩١٥م قدم حسين رشدي مذكرة إلى المسئولين البريطانيين يقول
فيها: «ينبغي وضع نظام سياسي إداري لهذا القطر، يوفق بين حماية مصالح إنجلترا السياسية
وفوائد الأوروبيين المالية والتجارية، ويكون من شأنه مع ذلك أن يحقق بقدر الإمكان آمال
الأمة حتى ترضى عن الحالة الجديدة.»
٣٢٧ ويأخذ أحمد حافظ عوض على حسين رشدي أنه «أخطأ كثيرًا في أنه لم يحصل من
الإنجليز على وثيقة باستقلال مصر إذا دخلت تركيا الحرب، ودافعت مصر عن نفسها — كما فعلت
— منضمة إلى الحلفاء» وكان بوسعه أن يستغل الظرف السياسي حين كانت إنجلترا في موقف
الخائف رغم تظاهرها بالقوة. وأنه حين علم بنية الإنجليز خلع الخديو عباس، لم يستقل،
بصرف النظر عن العواقب، ولم يبلِّغ ما حدث للشعب المصري، بالإضافة إلى أنه لم يكن على
اتصال تام بالخديو.
٣٢٨
وحين جاء رد السلطات البريطانية برفض سفر رشدي وأعضاء الوفد، قدم حسين رشدي استقالته،
قال: «عندما أخذت على عاتقي — أمام ضميري وأمام وطني وأمام التاريخ مسئولية منصبي في
عهد النظام الجديد — عاهدت نفسي عهدًا أساسيًّا أن أطلب من الحكومة الإنجليزية عند
الشروع في مفاوضات الصلح أكثر ما يمكن من الحرية لمصر، والآن وقد أوشكت هذه المفاوضات
أن تبتدئ، طلبتُ من الحكومة الإنجليزية، وبعد تصديق عظمتكم، أن تسمع أقوالي، فكان جوابها
بمثابة التسويف إلى ما بعد الصلح … على أنني بالعكس أرى أن الوقت الحاضر هو الذي ينبغي
أن أعرض فيه ما لمصر من الأماني القومية. فلهذه الأسباب أتشرف بتقديم استعفائي بين يدي
عظمتكم من رياسة مجلس الوزراء ووزارة الداخلية، وإن زميلي عدلي يكن باشا الذي عيَّنتموه
لمرافقتي في مهمتي، متمسك بمشاركتي في هذا الأمر، فهو يقدم شخصيًّا استعفاءه من وزارة
المعارف العمومية.»
٣٢٩ ولما رفضها السلطان — بتوصية من السلطات البريطانية — أصر رشدي عليها،
وحاول الإنجليز إقناعه بالعدول عن الاستقالة، لكنه ظل على إصراره، حتى قبلت الحكومة
البريطانية — أخيرًا — حضور رشدي وعدلي وحدهما في أواسط فبراير. وعندما أبديا رغبتهما
باصطحاب بقية أعضاء الوفد معهما، جاء الرد بالرفض، فأعادا تقديم استقالتيهما، ونفَّذ
السلطان أوامر سلطات الاحتلال بقبولها.
•••
عندما تعلو أمواج المد؛ فإن الحمقى هم الذين يحاولون التصدي لها. التعبير السياسي
الشهير عن «ركوب الموجة» لا يعني — في تقديري — محاولة الإفادة فقط، لكنه يعني أيضًا
محاولة الفرار من المصير المؤلم، فلا جبل — حينئذٍ — يعصم من الماء. كان المد الذي فاجأ
الحياة المصرية في صبيحة السابع عشر من مارس ١٩١٩م، هادرًا وقويًّا ومفاجئًا. ولم يكن
ثمة حيلة أمام الذي يكتفي في علاقته بالبحر، بالتسكع على شاطئه، أو الذي يحاول الصيد
في
أيام النوات القاسية، أو الذي يتصور نفسه — فوق أمواجه الهادئة — سباحًا ماهرًا. لم يكن
ثمة حيلة أمام هؤلاء جميعًا إلا محاولة الركوب فوق الأمواج، أو التهدد بالغرق، وهو ما
واجهه مَن حاولوا التشبُّه بما أقدم عليه ابن النبي نوح من مصير مؤلم.
كان سعد زغلول — قبل نشوب الثورة — ابنًا للمدرسة السياسية القائمة آنذاك، والتي
يتمثَّل نضالها في طلب الاستقلال بالوسائل السلمية المشروعة، فضلًا عن تحقيق بعض المكاسب
الشخصية. أما سعد زغلول — بعد قيام الثورة — فقد أصبح ابنًا للجماهير المصرية. وُلد ابن
الستين من جديد، ثائرًا ومناضلًا. وإذا كانت الجماهير المصرية قد أولت زعامتها وكيل
الجمعية التشريعية المنفي، وبادلها الرجل الولاء حتى اللحظة الأخيرة في حياته، فإنها
قد
حاولت الشيء نفسه مع رئيس الوزراء القائم، وحققت نجاحًا مؤكدًا في فترات الذروة
الحاسمة، أصبح سعد زغلول هو زعيم الجماهير المصرية، تهتف باسمه الأجنَّة في بطون الأمهات،
وتُنسَب إليه الخوارق والكرامات والمعجزات. أما حسين رشدي فقد ساوت حناجر الجماهير
المصرية في هتافاتها لسعد زغلول له. ولعل هتاف الجماهير — غداة اعتقال سعد زغلول وصحبه
ونفيهم إلى مالطة: لا حياة بعد رشدي، ولا بقاء بعد سعد … لعل ذلك الهتاف يشي بدلالة
معينة، هي أن الجماهير الواعية كانت تدرك الدور الذي ينبغي أن يقوم به حسين رشدي، ومن
ثَم فقد وضعته مع سعد زغلول في كفة واحدة. ثم لم يعُد إطار الزعامة يضم سوى سعد زغلول
وحده، بعد أن ظل رشدي — بحكم المنصب — بعيدًا عن الوفد، ثم بعد أن ظل — بحكم انتمائه
الطبقي والسياسي للأحرار الدستوريين — بعيدًا عن الجماهير ذاتها.
ولعله يجدر بنا أن نشير إلى أن سعد زغلول قد تصرَّف — مع معطيات الثورة — من منطلق
انتمائه — كفلاح مصري — إلى الجماهير المصرية، ووعيه بتاريخها وتراثها. أما حسين رشدي
فقد كان — رغم إخلاصه الوطني — ينتمي إلى الطبقة التركية التي كانت تسيطر على المجتمع
المصري.
إن نجاح الجماهير يتمثَّل في تلك الفترة التي تبدأ بإرهاصات الثورة، وتنتهي بمحاولة
الأعيان — الأحرار الدستوريين — أن يستولوا عليها، وقد أجبرت الجماهير حسين رشدي على
أن
يقدم استقالته إلى السلطان.
كان سعد زغلول يعِد للسفر إلى أوروبا، لعرض مطالب مصر، ويواصل الاحتجاج على منعه
من
السفر. وفي المقابل، فقد كان حسين رشدي واحدًا من كبار الملاك الذين اقتصرت طموحاتهم
—
أو ذلك ما أرادت مصالحهم — على تنظيم الحماية، ووضعوا العديد من المشروعات التي لا تخرج
مصر عن الحكم الذاتي، وتوسيع اختصاص الجمعية التشريعية في بعض الشئون، وأعد رشدي وعدلي
نفسيهما للسفر إلى لندن بهدف تنظيم الحماية.
٣٣٠ مع ذلك؛ فإن الحكومة البريطانية رفضت التصريح لرشدي وعدلي بالسفر، مما
أجبره (٣ ديسمبر) على تقديم استقالة وزارته إلى السلطان، وذكر فيها أنه عندما احتمل
أمام ضميره، وأمام بلاده، وأمام التاريخ، مسئولية عمله في نظام الحكم الجديد، فقد احتفظ
لنفسه بأن يطلب لمصر من الحكومة البريطانية أكبر حرية ممكنة متى بدأت مفاوضات الصلح.
وأضاف حسين رشدي أنه طلب من الحكومة البريطانية — بموافقة السلطان — أن تستمع إلى وجهة
نظره، فتلقَّى منها ردًّا غير مُرضٍ، لذلك فهو يقدم استقالته، واستقالة وزير المعارف
عدلي
يكن متضامنًا معه. وجدَّد حسين رشدي طلب الاستقالة في ٢٣ ديسمبر، وأشار إلى أن سعد زغلول
وبعض زملائه في الوفد رغبوا في السفر إلى لندن للدفاع عن حق مصر في الاستقلال «وقد
أوصيتُ بأن يؤذن لهم في السفر، فلم تهمل مشورتي فقط، بل إن الحكومة البريطانية رفضت سماع
آرائي فيما يحتمل أن يكون عليه نظام الحماية، وهكذا تكون مصر هي البلد الوحيد الذي لم
يُسمَع صوته، في الوقت الذي يُسوَّى فيه مصيره نهائيًّا.»
٣٣١ ولم يقبل السلطان هذه الاستقالة أيضًا، فعاود رشدي تقديم استقالته في ٣٠
ديسمبر، وأكد فيها أنه لن يتحوَّل عن مطلبه، وأنه يرجو قبولًا خشية أن يؤدي التأخير في
ذلك
إلى تحميله مسئولية عدم الاهتمام بمصير مصر. وعلى الرغم من أن الحكومة البريطانية وافقت
على سفره، ومعه عدلي يكن، لكنه أصر على أن يُسمَح بالسفر لمن يشاء من المصريين، وظلت
الاستقالة معلقة، حتى قبِلها السلطان في أول مارس ١٩١٩م، وقوبلت الاستقالة — على المستوى
الشعبي — بالثناء والتقدير.
٣٣٢
فرض الشعب المصري زعامته على زعمائه، في صباح ذلك اليوم من أيام ١٩١٩م. وكان الزعماء
أمام سبيلين: إما الاستمرار في سياسة المهادنة والتعقل والحذر من أن يضيع الشطط كل شيء،
وهو ما أبداه عبد العزيز فهمي — صراحة — لطلبة الحقوق،
٣٣٣ وإما تفهم حقيقة مشاعر الجماهير ومطالبها، وهو ما توصل إليه — بذكاء فلاح
مصري — سعد زغلول، الذي يستوقف تحوُّله من الملاينة إلى التشدد، ما بين ليلة الثورة
وصباحها، اهتمامات المؤرخين وتحليلاتهم. وظل حسين رشدي — لفترة طويلة — في حيرة: أي
السبيلين يسلك؟ ولم يكن في الأمر حيرة أو تردد. وابتعد الرجل — شيئًا فشيئًا — عن
الجماهير التي هتفت بحياته وحياة سعد زغلول في آن، حتى أصبح سقوط وزارته الرابعة مطلبًا
جماهيريًّا. ثم استأثر به الأحرار الدستوريون دون الحركة الوطنية، ولم يتردد في أن يصيح
في وجه سعد، في آخر محاولة للتوفيق: «هذا آخر ما عندنا، ولتفعل ما تشاء!»
٣٣٤
•••
بعد أن قبِل السلطان فؤاد استقالة وزارة رشدي في أول مارس ١٩١٩م، بدا أنه — السلطان
فؤاد — ينوي الانفصال عن الأمة في مشاعرها، وتأليف وزارة جديدة ترضخ لمطالب الاحتلال.
وبعث إليه الوفد برسالة يقول فيها: «كان الناس يظنون أنه كان لهما — رشدي وعدلي — في
وقفتهما الشريفة دفاعًا عن الحرية، عضد قوي من نفحات عظمتكم؛ لذلك لم يكن يتوقع أحد في
مصر أن يكون آخر حل لمسألة سفر الوفد، قبول استقالة الوزيرين، لأن في ذلك متابعة
للطامعين في إذلالنا، وتمكينًا للعقبة التي ألقيت في سبيل الإدلاء بحجة الأمة إلى
المؤتمر، وإيذانًا بالرضا بحكم الأجنبي علينا إلى الأبد.»
٣٣٥ كان الرأي العام المصري ضد أية محاولة لتأليف وزارة ضد الأمة، وضد «الوفد
المصري، المعبِّر الوحيد عن البلاد.»
٣٣٦ لذلك فقد تلقت صدور الشعب تحية حسين رشدي على حد تعبير أحمد بهاء
الدين.
٣٣٧ وحين بدأ السلطان في تشكيل وزارة جديدة، أرسل إليه سعد زغلول بيانًا
عنيفًا، قال فيه: «قد نعلم أن عظمتكم ربما كنتم مضطرين — لاعتبارات عائلية — أن تقبلوا
العرش، ولكن الأمة في جهة أخرى.»
٣٣٨ وفي الثاني من مارس ١٩١٩م قبِل السلطان فؤاد استقالة حسين رشدي، وكان الرجل
قد قدم استقالته من فترة، إثر رفض السماح له، ولعدلي وسعد ورفاقه من أعضاء الوفد
المصري، بالسفر إلى الخارج لحضور مؤتمر الصلح، لكن السلطان طلب من رشدي أن ينتظر نتائج
المساعي المبذولة لتذليل العقبات أمام السفر، ثم أذنت الحكومة البريطانية لرشدي وعدلي
بالسفر إلى لندن، بينما أصرَّت على رفض طلب سفر الوفد المصري، فأصر رشدي على الاستقالة،
فقبِلها السلطان.
مضى أربعون يومًا والبلاد بلا وزارة، وكانت مظاهرات الفرح والتفاؤل تعم أرجاء البلاد،
حين ألَّف رشدي الوزارة في سرعة مفاجئة خاطفة — والتعبير لمحمد كامل سليم — «ولم يذكر
في كتاب تأليف الوزارة كلمة واحدة عن الحماية أو الاستقلال أو أفراح البلاد أو سفر
الزعماء إلى باريس بعد المنع والمعارضة، ولا كلمة واحدة عما ينتويه أو يرجو أن يعمله
بوزارته الجديدة، وكل ما هنالك عبارة غامضة مبهمة وهي: نظرًا لما في الظروف الحاضرة من
مصاعب، وأملًا في حلٍّ يرضي الأمة، أرى من واجبي القيام بالمهمة التي اقتضت إرادتكم
السنية إحالتها على عهدتي …»
٣٣٩
•••
ويفرض السؤال نفسه: إذا كانت الأقلام المؤرخة قد فصلت بين موقف سعد زغلول قبل الثورة،
وموقفه من الثورة، فلماذا لم تحاول الفعل ذاته بين موقف حسين رشدي في أواخر ١٩١٤م،
وموقفه في تأييد الثورة الشعبية منذ نوفمبر ١٩١٨م.
لقد كانت أعوام الحرب العالمية الأولى — أي أعوام ما قبل الثورة مباشرة — ذروة النفاق
بين حسين رشدي وسلطات الاحتلال. فإلى جانب محاولات إسكات المقاومة ضد سلطات الاحتلال؛
فإن حسين رشدي رئيس الوزراء المصري يصرح لمندوب صحيفة «الفارو ألكسندري» في
٢٤/ ١٢/ ١٩١٥م بقوله: «بصفتي وزيرًا أصرح بأن مصر، إذا فرض ولم تكن حاصلة على مساعدة
ومعونة إنجلترا، لوجب أن تفتش لها على دولة قوية وصديقة مثلها، لتكون عونًا لها، وإني
أقول مرة أخرى بأننا لا نستطيع أن نعيش وحدنا، ولا يمكن لمصر أن تستقل عن سواها
استقلالًا سياسيًّا، وذلك لأن مواقعها الجغرافي، وحدودها الغربية المتصلة بالصحراء،
ومركزها بإزاء القنال، وكونها طريقًا للهند، كل هذه العوامل تجعلنا مطمعًا للغير. إني
أريد أن تكون لمصر حماية تعطي لإنجلترا حق المراقبة المطلَقة على القنال، وحق المراقبة
المالية أيضًاَ، ولكني أريد بأن تبقى في مصر حكومة حرة ذات حاكم مستقل، ووزارة وهيئة
نيابية مستقلَّتين كذلك.»
٣٤٠ وعندما كان سعد زغلول يتزعم المعارضة في الجمعية التشريعية، كانت معظم
كلماته التي ينال فيها من رئيس الحكومة باتفاق مع حسين رشدي نفسه، ليسهِّل سعد لرشدي
أداء
مهمته. ويقول محرر «كل شيء والدنيا»: «يغلب عليَّ الظن أنه لم لو يكن المغفور له رشدي
باشا على رأس الحكومة لما نفخ في بوق الثورة. ولربما قاومت الحكومة الحركة إرضاء للحكام
الإنجليز. لكن رشدي أيَّد الثورة وساعدها ودعا إليها، بأن أوعز إلى رجال الحكومة بعدم
التعرض لها، فحق له أن يقول — بعد ذلك بسنوات — أنه لو عرف الإنجليز يومئذٍ حقيقة موقفه
في الثورة لشنقوه.»
٣٤١
ومن الإنصاف أن نذكر للرجل دوره في تحريك الثورة من خلال موقعه كأهم سلطة مصرية
تنفيذية، وهو دور اعترف له به غالبية القيادات المصرية، وفي مقدمتهم سعد زغلول. ويروي
محمود عزمي في مذكراته أن حسين رشدي كان وراء الإفراج عنه بعد أن زجَّ به فيليبيدس في
سجن
الحدراء بالإسكندرية. وقالت له زوج محمود عزمي: «هل من العدل أن تحاسبوهم على ما كان
يجيش في صدورهم أيام شبابهم الأول من آمال لأجل مصر، ومن عواطف نحوها، أَوَلم تكن أنت
يا
باشا مثلهم لما كنت في سنِّهم؟ فأجاب رشدي: أنا؟ لقد كنت أكثر حماسًا منهم وأشد التهابًا.
ولو جاءت السلطات العسكرية، وفتشت الآن منزلي، لوجدت من أوراق ذلك العهد ومذكراته ما
لو
حُوسبت عليه، لَقُذف بي إلى قاع البحر الأبيض المتوسط.»
٣٤٢
ولعله مما يُحسَب لحسين رشدي أنه صرف نظر الإنجليز عن تعيين أغاخان سلطانًا على مصر،
بعد عزل الخديو عباس حلمي الثاني. وعُيِّن بدلًا منه السلطان حسين كامل، وأنه استصدر
تعهدًا من الحكومة البريطانية بأن حقوق مصر — بعد انقطاع علاقاتها بمصر — هي أمانة لدى
إنجلترا (برر السلطان حسين كامل موقفه بأنه «معذور»، وأن «السياسة تقضي بذلك لكيلا
تضار مصر بشيء») واعترف رئيس الوزراء حسين رشدي بأنه إذا كان قد امتدح الحماية في ذلك
الوقت، فلأن «الموقف كان يتطلب هذا الكلام المنطقي تلافيًا لنشوب الثورة.»
٣٤٣
وفي مباحثات عدلي-كيرزون دارت المناقشات حول الجيش المصري، فقال اللورد كيرزون إن
مصر لا تملك قوة تدافع عنها — إذا استقلت — بحيث إن أصغر دولة في حوض البحر المتوسط
تستطيع غزوها، والاستيلاء عليها في سهولة. وأضاف اللورد أن المصريين تنقصهم الروح
العسكرية، ويمقتون الخدمة العسكرية، إلى حد أن النساء يولولن ويلطمن عند ذهاب أبنائهن
إلى الخدمة العسكرية. فقال رشدي في حدة: ولكن الجيش المصري بروحه العسكرية هو الذي أهلك
— بقيادة جدي — الجيش الإنجليزي في رشيد.
وأشار اللورد إلى لهجة رشدي المتحمسة أكثر مما ينبغي، فقال رشدي: قد تكون الحدة بلغت
مني مبلغًا، لكن جو مناقشاتك يخنق أنفاسي.
وكان ذلك الحوار العاصف سببًا مباشرًا في سقوط رشدي صريعًا بالشلل، بعد بضعة أيام،
أثناء وجوده في لندن.
٣٤٤
وفي الثالث عشر من مارس ١٩٢٨م مات حسين رشدي، وقرر مجلس الوزراء المصري — عقب وفاته
—
صرف مساعدة لورثته قدرها ١٥٠٠ جنيه كان الراحل مدينًا بها لبنك مصر، وطلبت أرملة الرجل
من الحكومة تحويل المبلغ إلى بنك مصر.
التجار
كان سليم علوان هو الثري الوحيد في «زقاق المدق» — وإن لم يكن من أبنائه — «لم يكن
في
البدء معدودًا من الأغنياء، ثم خاضت تجارته غمار الحرب الأولى، وخرجت ظافرة، وأدركتها
هذه الحرب، فأثقلت موازينها حتى أتخمتها بالثراء.»
٣٤٥ ويقول الخال في «عودة الروح»: «البركة كلها في المحل ده، هو المحل ده اللي
جاب الأطيان والأملاك كلها.
٣٤٦ وقد انعكس ذلك الرواج في تصور الحرفي — على سبيل المثال — أنه أقل مكانة من
التاجر، وحين يسأل عم عزوز راوي قصة «الفوانيس»: والدك بيشتغل إيه؟
يجيب الراوي: والدي تاجر صيني.
يبتسم الرجل ويتنهد: لاه … الأمر يختلف.
– يختلف في إيه؟
– يعني فيه فرق … فرق بيني وبين والدك؟
٣٤٧
وقد شهدت أعوام الحرب العالمية الأولى، والعام التالي (١٩١٩م) ارتفاعًا هائلًا في
أسعار القطن، الأمر الذي انعكست آثاره في عمليات شراء الأراضي الزراعية، ومضاربات
البورصة. وأقدم الكثيرون على قلع زراعات القمح، وزرع القطن مكانها، لكن الأسعار ما لبثت
— في ١٩٢٠م — أن هبطت إلى أقل من ربع ما كانت عليه في الموسم السابق. ولأن صغار التجار
«لم يحرصوا للعواقب، فاشتروا بأكثر من رءوس أموالهم، ولما أرادوا أخذ ما يلزمهم من
النقود لسحب بضائعهم، وقفت البنوك في وجوههم.»
٣٤٨
الصدمة؛ مرض، ومات، وهو يرى أحلامه تنهار، والخوف يجتاحه من أن أولاده لن يلقوا في
حياتهم إلا الشقاء والحرمان والضياع.
٣٤٩
وإذا كان أحمد عبد الجواد (بين القصرين) قد ضحى بأحد أبنائه في الثورة (فهمي) فإن
التضحية جاوزت — في الحقيقة — حدًّا تصوره للإسهام في الثورة، وهو حد يبدأ بالإسهام
المادي وينتهي به. ولعل ذلك الحد هو ما وضعته فئة التجار لمدى مشاركتها في الثورة. لم
نقرأ عن محروقي ولا بشتيلي آخر كما حدث في ثورات المصريين ضد الاحتلال الفرنسي، إنما
هي
مشاركات وجدانية، ذروة إسهامها تقديم تبرعات مادية. وكان رأي سعد زغلول أن «التجار لا
يشتغلون بالأمور العمومية إلا على مقدار ما تروج به بضاعتهم عند العامة، ثم لا يهمهم
بعد ذلك شكل الحكومة، إن كانت مقيَّدة أو مطلَقة.»
٣٥٠ ذلك ما فعله عباس بك المرداني تاجر العطارة الكبير (أم أحمد) عندما أيَّد
الثورة بماله، دون أن يحاول الاشتراك فيها على أي نحو، ذلك ما فعله أيضًا حسين بك
العمر، وعلي بك البنان.
٣٥١ وكان عباس بك (أم أحمد) من الذين اكتفوا ببذل المال تأييدًا للثورة، دون أن
يبدي استعدادًا للاشتراك الفعلي في تطوراتها، لكن الثورة اقتحمت قصره، فانتزعت منه أكبر
أبنائه محمود الطالب بالزراعة العليا، حيث قُتِل في إحدى المظاهرات.
٣٥٢ وعندما وصلت لجنة ملنر في ٧ ديسمبر ١٩١٩م، أغلقت المحال التجارية أبوابها في
٩ ديسمبر، احتجاجًا على قدوم اللجنة.
٣٥٣
الطلبة
يتحدث الراوي عن الثورة المصرية التي أصبحت في عنفوانها، والإنجليز يضيقون الخناق
على
المصريين، ويحاولون أن يخمدوا كل حركة. كان جماعة من الشباب يلتقون في حديقة جروبي،
يتكلمون في الأحداث السياسية وأنباء الثورة، وتفاجئهم أحيانًا حملات مفاجئة لجنود
الاحتلال، تبحث عن زعماء المظاهرات، وتلقي القبض على من تعثر عليه منهم.
٣٥٤ وقد نما دور الشباب، في عام الثورة، على حد تعبير حسين فوزي، بما يعادل
أعوامًا من السنوات المعتادة في حياة كل غلام، أو مراهق، أو شاب.
٣٥٥ ويحدد علي طه (القاهرة الجديدة) دور الطلبة في الحياة السياسية، وهو يتحدث
عن الحجرة التي تجمعه مع زملائه بأنه سوف تصغي جدرانها إلى آمال الأجيال المتعاقبة ما
دامت حجرة للطلبة.
٣٥٦ ولعل خطورة دور الطلبة يأتي من عدم انتمائهم إلى قطاع محدد في المجتمع، فهم
ينتمون إلى فئات الشعب وطبقاته جميعًا، إنهم — بعامة — أشد تعبيرًا عن تناقضات المجتمع،
والصورة البانورامية لمشكلاته. وإذا كانت فرص التعليم قد ظلت — لسنوات طويلة — مقصورة
على الطبقات من قمة الهرم إلى الطبقة الوسطى، فلا شك أن بعض عناصر الطبقات الأدنى قد
استطاعت — بوسيلة وبأخرى — أن تستكمل تعليمها. الطلاب في مجموعهم هم التجسيد الأقرب
لهموم المجتمع المصري ومشكلاته وتطلعاته. فضلًا عن أنهم تجسيد لمعنى تطور العلم والأمل
في الحياة المصرية.
٣٥٧ وقد بدأت الحركات الطلابية الوطنية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن
العشرين. صدرت مجلة «المدرسة» عام ١٨٩٣م كأول مجلة مدرسية تنشر الروح الوطنية من خلال
الإبداعات الفنية والأدبية، وتحض على المقاومة الاحتلال. ثم توالى ظهور الجمعيات بين
طلبة المدارس العليا. وفي فبراير ١٩٠٦م نظم طلبة المدارس العليا والتجهيزية إضرابًا
عامًّا لمناقشة أمور طلابية، لكن الأحداث تطورت عندما اجتمع حوالي ٢٧٥ طالبًا في حديقة
الأزبكية، وقدموا تسعة مطالب لمسئولي المدرسة. وبدأت الحركة الطلابية المصرية — بهذا
الاجتماع — طورًا جديدًا يسِم الحركة الطلابية بالنشاط السياسي. وفي العام نفسه، تأسس
نادي المدارس العليا ليشكِّل انطلاقة حقيقية إلى ثورة ١٩١٩م. قام الطلبة في الثورة بدورٍ
يفوق الدور الذي لعبه الطلبة في روسيا والصين، إبان احتدام النضال الوطني هناك. كانت
المدارس تشكِّل تجمعات جماهيرية تنتمي — في ظروف ١٩١٩م — إلى الطبقة الوسطى، وهو أمر
يعود
إلى سياسة الاحتلال في التعليم. وكما يقول محمد أنيس، فباستثناء الأزهر، لم يكن إلا
الطبقة المتوسطة، أو المتوسطة العليا في المدارس العليا، وكان التعليم هو السبيل الذي
أدرك به الطلبة واقع بلادهم، ومن ثَم بدءوا يعدُّون لتغيير ذلك الواقع. إن فهمي أحمد
عبد
الجواد ورفاقه في «بين القصرين» قد حققوا الأمل الذي وضعه فيهم تقرير الجماعة السرية
في
«طلائع الأحرار»، والذي كان يرى أنهم معقد الآمال «فهم لا يزالون في سن البراءة المنزَّهة
عن الأطماع والغايات. وباستثناء ما بينهم من تنافسات قد تدفع بعضهم من ضعاف الخلق إلى
تملُّق المدرسين الإنجليز، والوقوع تحت تأثيرهم؛ فإن طائفتهم المثقفة التي تؤمن بأن تأمين
مستقبلها رهين بتحقيق الأهداف الوطنية، قمينة أن تسير في طليعة موكب التقدم المتطلع إلى
الحرية.»
٣٥٨ كان الطلبة أول من بادر إلى التظاهر، وظلوا في المعركة إلى
نهايتها.
٣٥٩ ففي اليوم التالي لاعتقال سعد ورفاقه، قال طلبة مدرسة الحقوق — ردًّا على
ناظر المدرسة، ونائب المستشار القضائي البريطانيَّين — حين نصحاهم بالعودة إلى الدراسة،
والعدول عن فكرة الإضراب والخروج في مظاهرة: «لن ندرس القانون في بلدٍ يُداس فيه
القانون.» وعندما ذهبت جموع الطلبة إلى بيت الأمة، قال لهم عبد العزيز فهمي باشا في
غضب: إنكم تلعبون بالنار. دعونا نعمل في هدوء، ولا تزيدوا غضب الإنجليز! لكن مظاهرات
الطلبة امتدت إلى كل شوارع القاهرة، تهتف بحياة مصر والوفد وسقوط الحماية. وسقط في ذلك
اليوم أول شهيد للثورة. يقول الرافعي: «حدث الإضراب العام بالمدارس في ذلك اليوم من غير
تدبير ولا تحريف، فكان إجماعيًّا، وكان طبيعيًّا، لا مصطنعًا ولا حزبيًّا، بل منبعثًا
من قلوب مفعمة بالإخلاص للوطن، ولا غرض لهم سوى الوطن؛ ولذلك كانت مظاهرتهم.»
٣٦٠ ثم «عمَّت الحركة أرجاء البلاد دون أن تدبير أو تنظيم، ولم تكن ثمة دعوة
إليها، أو هيئة أو لجنة أو جماعة توجهها وتصدر تعليماتها فيها، أو تشرف عليها، بل شملت
البلاد فجأة، وعلى غير انتظار، فكان ذلك من مظاهر جلالها وروعتها، وظهر فيها فضل الشعب.
ولو أن لجنة أُلفَّت سرًّا أو علنًا لتنظيم الثورة، ووضع الخطط لها، لما دبرت ونفذت بهذا
الإحكام، بل أغلب الظن أن تضطرب في توجيهها، ولا تصادف هذا الإجماع، وذلك
النجاح.»
٣٦١ والواقع أن تدبير الثورة كان هو الزعم الذي حاولت سلطات الاحتلال إثباته،
فقد أذاعت مذكرة عن الثورة — بعد ذلك بشهر — جاء فيها «إن هناك شواهد تثبت إن الخطة
مدبَّرة، منظمة، بإحكام. ومما يستحق الملاحظة أن الخطة التي نُفذت تشابه البرنامج الذي
رسمه الألمان والترك للغارة على مصر في خريف سنة ١٩١٤م، وهو البرنامج الذي أفضى به إلى
السلطات المصرية الجاسوس الألماني مورس، المقبوض عليه في الإسكندرية. وإذا حسبنا كل
حساب للحالة العقلية، أو لدواعي التذمر الناشئة بين الفلاحين المشار إليها آنفًا، فكل
هذا لا يكفي لتعليل هذا الانفجار الخطير المنظم الذي تلوح فيه إصبع تركيا الفتاة، كما
قد تلوح فيه إصبع الألمان.»
٣٦٢ ويرد العقاد على هذا الاتهام الغريب بقوله: «إن الإنسان لا يدري أيضحك أم
يحزن من هذا التفكير العجيب الذي يعلل ثورة مصرية تتفجر في شهر مارس بأنها دسيسة
أجنبية، دبَّرتها حكومات منهارة، مضى على هزيمة رؤسائها وتفرُّقهم في البلاد، وانقطاع
الصلة
بينهم وبين أتباعهم عدة شهور، وأدعى من هذا إلى الحيرة بين الحزن والسخر أن تكون الثورة
من صُنع الطبقات العليا ومن صنع البلشفية في وقت واحد.»
٣٦٣
•••
كان الطلبة — في بدء الثورة — يتميزون عن غيرهم من الفئات، مثل العمال والفلاحين،
فقد
تمرسوا على أساليب العمل الوطني بانضمام غالبيتهم إلى الحزب الوطني، ثم بإنشاء نادي
المدارس العليا عام ١٩٠٥م، الذي كان من أخطر مراكز الانفجار الثوري — يقول محسن (عودة
الروح): «بكره احنا اللي نكون لسان الأمة الناطق.»
٣٦٤ وكانت لجنة الطلبة العليا — وفهمي عبد الجواد أحد أفرادها — هي التي نظمت
مظاهرات ثورة ١٩١٩م، وهي التي قامت بدور أساسي في جمع التوكيلات، بحيث تحوَّل الوفد من
مجرد
جماعة سياسية تطلب تنظيم الاحتلال، إلى ثورة شعبية تنادي بالاستقلال التام. كما أسند
الطلبة إلى أنفسهم مهمة توزيع المنشورات، فضلًا عن الأنشطة السرية التي شاركت فيها
أعداد كبيرة من الطلبة. كانوا يتنقلون بين بيت الأمة وبيوت الزعماء والوزارات والدواوين
والأزهر والمساجد والمدارس والمصانع والمتاجر، حتى الحواري والأزقة كانوا يتجهون إليها
بدعوتهم.
٣٦٥ ويروي محمد شكري الكرداوي أنه كان يجتمع في منزله — ليلًا — عشرات الطلبة
لإعداد المظاهرات بالمدينة، ولكتابة المنشورات وطباعتها، ولصقها على الجدران.
٣٦٦ وكان من مهام الطلبة تأمين الطرق والمسالك التي تؤدي إلى مقار أعضاء لجنة
ملنر، للتحقق من عدم اتصال المواطنين بهم.
٣٦٧ وقد أعد الطلبة من أنفسهم بوليسًا وطنيًّا منذ الثالث عشر من أبريل عام
١٩١٩م، لمساعدة رجال البوليس في الإشراف على الأمن في أثناء المظاهرات والإضرابات،
واختاروا الشيخ مصطفى الغاياتي رئيسًا لها، وسموه حكمدار البوليس الوطني، وأخذوا على
أنفسهم عهدًا بألَّا يقع اعتداء على الأوروبيين ولا الأرمن ولا السوريين، حتى ولو تحدى
بعضهم الجماهير المصرية.
٣٦٨ وكان مندوبو الطلبة يتولون التحقيق مع كل من يتصل باللجنة؛ يسألون عما وُجِّه
إليه من أسئلة، وما قاله من إجابات، وينشر ذلك في صحف المساء لقطع السبيل أمام ضِعاف
النفوس، وإحباط عمل اللجنة.
٣٦٩ وكان ذلك كله دافعًا لأن يحلم فهمي (بين القصرين) ﺑ «دنيا جديدة، ووطن
جديد، وبيت جديد، وأهل جدد، ينتفضون جميعًا حيوية وحماسًا … في مجتمع الطلاب من إخوانه،
يروي ظمأه إلى الحماس والحرية، ويسمو في وقدة حماسهم إلى ذلك العالم الكبير من الأحلام
والمجد.»
٣٧٠ أما حمدي (نحن لا نزرع الشوك) فقد كان تعبيرًا عن جماعات طلابية لم توافق
على أسلوب المظاهرات. يقول له صديقه صبحي: عمال العنابر خرجوا أمس.
– وماذا فعلوا؟
– اصطدموا بالبوليس عند كوبري أبو العلا … بعد أن قلبوا الترام … وحطموا فوانيس الشارع
كلها.
– خسارة.
– خسارة ماذا؟
– الترام والفوانيس.
ويهز حمدي رأسه في أسًى قائلًا: نحتاج إلى معجزة، تدفعنا إلى ما يجب أن نعمله.
ويضيف، وهو يهز رأسه في حيرة: أحس كأننا نعيش في ضباب، نحن لا نعرف ما نريد، وإنما
نجري لمجرد الجري، ونهتف لمجرد
الهتاف!
٣٧١
•••
كانت أول بادرة في الثورة هي مظاهرة مدرسة الحقوق في ٩ مارس ١٩١٩م، التي ما لبثت
أن
وجدت صدًى واسعًا في المجتمع المصري. وعلى الرغم من استطاعة قوات الاحتلال في أسيوط أن
تقضي على الثورة، حتى بدأ العساكر الإنجليز — كما يروي الضاحك الباكي — يتسلَّون بالرصاص،
يداعبون به أرواح المارة من باب المزاح، وتضييع الوقت ما دامت هذه الأرواح بغير
ثمن،
٣٧٢ فقد استطاعت رءوس صغيرة لينة طرية — كما يروي الضاحك الباكي أيضًا — أن
تتراص تحت أعلام غير منكسة، بل تحت أعلام مرفرفة في الهواء، متوثبة نحو السماء، يهدرون
هدير البحر، ويزأرون زئير الأسود، منشدين: وطني! وطني! وزحف الجيش الصغير الوثاب نحو
دار أحد أساطين الزعماء — بسيوني بك — وحاصر القضاة والمحامين في اجتماع عقد باسم
«النصيحة والتهدئة»، وإذا بالجيش الصغير ينتفض جيشًا عرمرمًا بارز القلوب والأنياب
والأظافر، وإذا به يصطف صفوفًا منتظمة، وينتظم فرقًا وضباطًا وجنودًا وحملة أعلام …
ووراء صفوف الفتيان، انتظمت صفوف الفتيات، وعلى رأسهن القائدة مريم. أولئك كانوا طلبة
مدرسة الأمريكان، لم يشهد الأستاذ شكري في حياته أبلغ ألسنة، ولا أعمر قلوبًا، ولا أعنف
عزائم، من ألسنتهم وقلوبهم وعزائمهم … إلخ.
٣٧٣ وحينما بدأت الثورة في التعثُّر، أخذ الفلاحون والعمال في الخروج منها كقوة
فعالة، ولم يبقَ في معسكر الثورة كقوة فعالة ومؤثرة سوى الطلبة وبعض صغار الموظفين
والعمال. ورغم ردود الفعل العنيفة، والقاسية، التي واجهتها التنظيمات الطلابية من
السلطة الحاكمة، متمثلة في قيادة الاحتلال، وفي القيادات المصرية؛ فإن الطلبة واصلوا
ممارستهم للعمل الوطني، وظلوا هم القوة الأساسية التي تحتفل بعيد الجهاد الوطني منذ ١٣
نوفمبر ١٩١٩م، وسقط منهم عشرات الشهداء والجرحى، لكنهم ظلوا على عادتهم في الاحتفال
بالمناسبة التاريخية في كل عام.
٣٧٤ وقد استُشهد طالب في المدرسة الخديوية، عند خروجه في مظاهرة، في ربيع ١٩٢٥م،
ولم يكن قد جاوز الرابعة عشرة من عمره بعد.
٣٧٥ من هنا كان جزع الكثير من الآباء على أبنائهم وهو يخوضون غمار
الثورة.
٣٧٦ ولا يخلو من دلالة قول الرجل في السكرية: «الضحايا هم الطلبة دائمًا، أعز
أبناء الأمة وا أسفاه.»
٣٧٧
•••
الملاحَظ أن الحركات الطلابية كانت تتعاظم كلما تولَّت الحكم أحزاب أقلية، أو شددت
دار
المندوب السامي — السفارة البريطانية فيما بعد — من قبضتها على مجريات الحياة السياسية،
حتى إن الطلبة جعلوا من إسقاط تلك الوزارات مهمة أولى.
٣٧٨
كان الوفد يعتبر الطلبة هم «جيش الوفد» ووصف سعد زغلول حركة الطلبة بأنها «قوة لا
ينبغي التغاضي عنها.» وسمح للقيادات الطلابية بعقد اجتماعاتهم في بدروم بيت الأمة،
بالقرب من قيادة الوفد. وفي المقابل، فقد شدد الأحرار الدستوريون على أن السياسة لها
رجالها، ولا شأن للطلبة بذلك. ولعلنا نجد في هذا التقرير ما يشي بالضغوط العنيفة التي
تعرضت لها الحركة الطلابية. يقول التقرير رقم ٣٢٣ بتاريخ ٢/ ٢/ ١٩٢٩م الموجَّه إلى كبير
الأمناء: «أخبر معالي دولتكم بأن حالة الطلبة هنا في الإسكندرية تدعو إلى الطمأنينة،
وهم سائرون في مدارسهم سيرًا حسنًا، وملتفتون لواجبهم المدرسي، وأنهم بعيدون عن
المشاغبات السياسية، حتى إنهم الآن يخشون من مطالعة جريدة من الجرائد، خوفًا من أن
يصيبهم ما أصاب زملاءهم من الطرد.»
٣٧٩ وقد صدر أول التشريعات التي تحظر على الطلبة الاشتغال بالسياسة في ١٩٠٣م،
ويقضي بالطرد من المدارس لقاء المشاركة في الحركة الوطنية. ثم توالت القوانين التي تحرم
على الطلبة التدخل في الشئون السياسية بالإضراب عن تلقي الدروس، أو القيام بمظاهرات،
أو
عقد الاجتماعات داخل أو خارج المعاهد والكليات، أو إصدار المنشورات. وتنوعت العقوبات
ما
بين الحرمان من المجانية، أو دفع تأمين نقدي، أو الحرمان من الغداء، أو الطرد.
٣٨٠ وقد اتُّهم حامد عمرو عزيز الطالب بالسنة النهائية في الجامعة بالاشتراك في
المظاهرات، فحوكم، وأُنزِل إلى السنة الأولى من جديد.
٣٨١ ثم زادت حكومة محمد محمود من إحكام الحصار حول أي نشاط طلابي سياسي، فأصدرت
في ١٠ مارس ١٩٢٩م مرسومًا بقانون يعاقب كل من يحرض الطلبة على القيام بالمظاهرات، أو
الامتناع عن تلقي الدروس، أو مغادرة المعاهد، أو الانقطاع عنها، أو تأليف الجماعات
السياسية، أو الاشتراك فيها، أو التوقيع على أية منشورات أو عرائض ذات صبغة سياسية،
وعشرات غيرها من المحظورات التي تهدف إلى عزل الطلبة عن أي نشاط سياسي.
٣٨٢ وجاوزت العقوبة في ذلك القانون أقصى حدٍّ للقوانين السابقة، وهي الطرد، فشملت
الحبس والغرامة. ثم أقدمت حكومة الوفد في أكتوبر ١٩٤٢م على «تطوير» قانون محمد محمود،
فجعلت عقوبة الحبس إجبارية، وامتد العقاب ليشمل كلَّ من يشترك في الإضراب أو الاحتجاج
أو
المظاهرات.
٣٨٣ وكان بدر الزيادي (المرايا) أحد شهداء الطلبة في مظاهراتهم ضد حكومة محمد
محمود. هتف مع الهاتفين بحياة دستور ١٩٢٣م وسقوط الدكتاتورية، وهجم الجنود من جميع أبواب
المدرسة، وانهالوا على الطلبة بالعصي الطويلة، في حين أطلق الكونستبلات الإنجليز الرصاص
في الهواء، ودارت معركة غير متكافئة، سقط فيها جرحى كثيرون، وكان الزيادي هو الشهيد
الوحيد؛ قضت عليه ضربة أصابت مؤخرة رأسه.
٣٨٤
ولعل الظاهرة الأولى التي تطالع المتأمِّل لتاريخ مصر المعاصرة، أن المظاهرات السياسية
كانت تختفي في أثناء العطلات الدراسية، لأن الطلبة كانوا سدى تلك المظاهرات في مجموعها.
ويلاحظ الفنان في «أزهار» أن «الطلاب لا يزاولون نشاطهم، إلا وهم مجتمعون في مدارسهم،
أما
عندما يتفرقون في القرى والدساكر؛ فإن فاعليتهم السياسية تضعف، بل تكاد تنعدم.»
٣٨٥ كان يتم اختيار معظم الحركات الاستبدادية والانقلابية في إجازات الصيف،
لتفرُّق الطلاب في مدنهم وقراهم، بحيث يصعب قيامهم بأية اضطرابات. وعند انتهاء إجازة
الصيف، وعودة الطلاب إلى مدارسهم وكلياتهم، تكون الحكومة قد اتخذت من الإجراءات ما يجعل
من مقاومة تصرفاتها الاستبدادية، أو الانقلابية، أمرًا متعذرًا، إن لم يكن
مستحيلًا.
٣٨٦
•••
في مجلس نواب ١٩٢٤م خصص سعد زغلول مقعدًا للطلبة، ورشح له أحد زعمائهم، وحرص الوفد
على
ترشيح زعيم طلابي في الانتخابات النيابية، مندوبًا عن الحركة الطلابية طيلة سنوات الحكم
الدستوري. ولم يكن الوفد بهذا التصرف — كما يقول صلاح عبد الصبور بحق — مجرد مرحِّب بدور
الشباب في الحركة الوطنية، بل كان مسجلًا لحقيقة مهمة، وهي أن الحركة الوطنية في جانبها
الثوري، «كانت تقوم على أكتاف الطلبة، وتنبع من فكرهم.» وقام الطلبة بالتطوع لجمع
الاكتتابات لبناء بنك مصر عام ١٩٢٠م، وقام الطلبة بسلسلة من الاغتيالات ضد الموظفين
الإنجليز، كان آخرها قتل السردار الإنجليزي السير لي ستاك، وصار العديد من زعماء الطلبة
— فيما بعد — من قيادات العمل السياسي، وفي مقدمتهم إبراهيم عبد الهادي، محمد صلاح
الدين، سليمان غنام، وغيرهم. وكان محمود فهمي النقراشي هو المحرض الرئيسي على إضراب
الطلبة في ١٩٢٢م. ووصل دور الطلبة إلى ذروته الإيجابية في عام ١٩٣٥م، حين أجبرت لجنة
الطلبة الزعماء السياسيين على تأليف الجبهة الوطنية، كان تعليق إحدى شخصيات «السكرية»
في
مظاهرات ١٩٣٥م، أن «الضحايا هم الطلبة دائمًا، أعز أبناء الأمة وا أسفاه.»
٣٨٧ وإن كانت هذه الجبهة قد انتهى بها الأمر إلى عقد معاهدة ١٩٣٦م. وظل الطلبة
في الميدان حتى انتفاضة ١٩٤٥م، عندما انضم إليهم العمال، وتكوَّنت اللجنة التنفيذية العليا
للعمال والطلبة. وربما لهذا السبب يذهب بعض المؤرخين إلى أن الطلبة كانوا يُسقِطون
الوزارات في مصر، ذلك لأنهم كانوا وحدهم — تقريبًا — في مجال العمل السياسي بعد تعثُّر
الثورة.
الجيش
لتكوين جيش مصري وطني، حاول محمد علي أن يؤلفه من عناصر سودانية، وأوفد البعثات
العسكرية إلى السودان لأسْرهم وإحضارهم إلى أسوان، حيث يتعهدهم الكولونيل سيف — سليمان
باشا الفرنساوي — فيدربهم، ويعلمهم، ويكوِّن منهم جيشًا نظاميًّا. لكن التجربة أُجهضَت
لعاملين: موت الكثير منهم في أثناء المجيء بهم من السودان، والعامل الثاني: عدم
اعتيادهم مناخ مصر. ثم حاول محمد علي أن يكون الجيش من مماليكه وأتباعه، لكن رتبهم لم
تنقص
عن الضباط وصف الضباط، فلجأ إلى تجنيد المصريين «بالقوة والعسف»، والكلمات لإلياس
الأيوبي «غير أن المصريين حاولوا الفرار من التجنيد حين فرض محمد علي الخدمة الإلزامية،
ذلك
لأن المجند كان يتحوَّل إلى أداة بطش في يد السلطة، وكان معظم جنود الجيش المصري يسافرون
إلى معارك خارج مصر.»
٣٨٨ وحين رأى الفلاحون المصريون «في تلك الأيام» أن المجندين أيًّا كانوا، لا
يعودون أبدًا إلى أوطانهم، ويموتون حتمًا في بلاد الغربة، سواء كان في المورة، أم في
ربوع سوريا والأناضول، ازدادوا كراهية للجندية ورغبة في الفرار منها، فلجئوا إلى حيل
تشوِّه الجسد للحصول على الإعفاء، ومنها اقتلاع أعينهم اليمنى، وإتلاف إحدى العينين بسم
الفئران، وبتر إبهام أيديهم اليمنى، أو سباباتها كذلك، وخلع الأسنان لأن نزع فتيل
القنبلة يحتاج إلى أسنان سليمة، ورسم وشم الصليب على الأيدي، لأن الأقباط كانوا معفيين
من الخدمة العسكرية.
٣٨٩ ومن لم يجد شجاعة في نفسه للإقدام على أحد هذه الأفعال، كان يفر من بلده، ويذهب
هائمًا على وجهه إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
٣٩٠ وللقضاء على تلك الظاهرة، أرسل محمد علي إلى مدير الأقاليم البحرية يشير
فيه إلى أن «بعض النساء في المديريات يتلفن أعين أبنائهن الذين لم يبلغوا حد البلوغ،
وبما أن هذا الفعل مكروه شرعًا ومضرٌّ جدًّا لصالح الأمة والدولة، والواجب يقضي بمنع
ذلك
فيبلغه بأنه كتب إلى مديري الوجه البحري بالتشديد على نظار الأقسام وغيرهم لإلقاء القبض
على بعض هؤلاء النسوة، ممن يفعلن ذلك الفعل، ويطرحونهن في البحر، ليكنَّ عبرة لغيرهن؛
إذ ربما يكون في ذلك رادع لمنعهن، فنطلب منكم بذل العناية في هذا الأمر — ١٩ جمادي
الأولى سنة ١٢٥١ﻫ.»
٣٩١ وكانت النعرة التركية هي التي أملت على محمد علي قوله لأحد أصدقائه من
الأوروبيين، بعد أن هنَّأه على انتصار المصريين في معاركهم ضد الأتراك: «لا تنسَ يا صديقي
أن الذين يفوزون في المعارك إنما هم الضباط لا الجنود، وأن ضباط الجيش المصري كلهم
أتراك»! ورغم ما في ذلك القول من مغالطة واضحة؛ فإن إبراهيم بن محمد علي، الذي تعرَّف
إلى الجندي المصري عن قرب بقيادته له في المعارك، اعترف أنه «ليس في العالم جنود يفوقون
أجنادي في حماستهم وشجاعتهم في القتال، مهما فاقوهم في النظام ومعرفة فنون الحرب
والطعان. ولئن بدا من بعضهم — أحيانًا — تردد أو جبن، فإنما بدا ذلك من جانب الضباط
الأتراك، ولست أذكر أن شيئًا من ذلك بدا من أولاد العرب.»
٣٩٢
•••
كان من بين بواعث سعي سعيد باشا لتطوير الجيش، ضم أبناء المشايخ والأعيان إلى صفوفه،
وترقيتهم إلى مناصب القيادة، حتى تتغير الصورة التي كان عليها الجيش، وهي جنود الفلاحين
والضباط الشراكسة والأتراك. ويصف إلياس الأيوبي «المصريين الصميمين» بأنهم «كانوا أكفأ
من الشراكسة والأتراك، وذلك لأن هؤلاء — وجميعهم من أولاد البكوات والباشوات، الشاغلين
مناصب الحكومة الرفيعة، وأصحاب السرايات الفخمة، الغاصة بالجواري والسراري والعبيد —
كانوا أولاد بيئة أصلية غير صالحة لجعلهم جنودًا ذوي طباع عسكرية صحيحة، لأن أولى
خطواتهم في الحياة كانت داخل دُور الحريم. ولما يشبون ويترعرعون، لم يكونوا يقدمون ولا
يجبرون على الإقدام على أي تمرين عضلي … فما كان عند بعضهم من قوة في العضلات، إنما كان
هبة محضة من لون الطبيعة. وبما أن معظمهم، بحكم بيئتهم، كانوا شديدي الميل إلى الباه؛
فإن ذات الأقوياء منهم كانوا لا يلبثون بعد حين حتى ينهزلوا ويضعفوا. نعم، إن أهلهم
كانوا يرسلونهم منذ تجاوزهم سن الصبوة إلى المدارس الإعدادية ليمكثوا فيها عدة سنوات
متتالية، ولكنهم — بسبب الترف المحيط بهم، وتدليل أهلهم لهم — قلما كانوا يمتازون على
أقرانهم من أولاد الفلاحين والحضريين المصريين بسوى المصروف الكبير والبلادة العظمى،
فكانوا يُنقَلون والحالة هذه إلى المدارس العسكرية، عملًا بمبدأ تحويل التلامذة البلداء
إليها، فيتخرجون منها بعد ٤ أو ٥ سنوات ضباطًا عجرفتهم وخيلاؤهم كبيرتان، على قدر رفعة
مولدهم، ونبل أجسامهم، ومعلوماتهم قليلة.
٣٩٣ ولكي يقضي سعيد باشا على تسلط مشايخ البلد، فيما يتصل بالتجنيد، فقد ألغى
القرعة، وجعل التجنيد عامًّا وواجبًا على كل شاب يبلغ السادسة عشرة من عمره بدون
استثناء، على أن تكون الخدمة العسكرية سنة واحدة فقط، وأوجد جدولًا عامًّا للمواليد في
كل أنحاء البلاد. وقد استقبل المصريون ذلك القانون بالارتياح، لإحساسهم بالعدالة، مما
يؤكد أن المصريين لم يكونوا يفرُّون من الجندية لأنهم يكرهونها!
٣٩٤ وقد أضاف إلى ذلك القانون فرمان السلطان العثماني في مايو ١٨٦٦م، بمنح مصر
حق زيادة جيشها إلى ٣٠٠٠٠ بدلًا من ١٨٠٠٠، ثم فرمان يونيو ١٨٧٣م الذي منح مصر حق
زيادة جيشها إلى أي عددٍ تريد، وحق بناء السفن الحربية، ما عدا المدرعات التي يجب
لإنشائها استئذان الحكومة التركية.
٣٩٥
أسهم تجنيد الفلاحين في الحد من تعالي الحاكم على المواطنين؛ فهو لم يعُد مستغنيًا
عن
التعامل معهم نتيجة لانخراطهم في الجيش الذي كان — إلى نهاية العصر المملوكي — وقفًا
على المماليك وحدهم. لكن رتب المصريين اقتصرت على مراتب الجند، وظلَّت القيادات في أيدي
الأتراك وذوي الأصول الملكية. وفي ٣١ يوليو ١٨٨٠م صدر قانون جديد ﻟ «القرعة» العسكرية،
يقضي بأن يظل الجندي في العسكرية العاملة أربع سنوات، يعود بعدها إلى بلدته، فيقضي فترة
رديف لمدة خمس سنوات، يتردد في أثنائها على مركز مديريته شهرين من كل سنة لحضور
التدريبات العسكرية، ثم يظل — بعد السنوات الخمس — في قريته بلا عمل، باعتباره جنديًّا
احتياطيًّا تحت الطلب لمدة ستة أعوام أخرى، تنتهي بعدها مدة خدمته العسكرية الأصلية
والاحتياطية.
٣٩٦ مع ذلك؛ فإن المهمة الأساسية لجنود الجيش — قبل نشوب الثورة العرابية
مباشرة — هي العمل كسخرة في حفر الترع، والزراعة في أراضي الخديو والأعيان من الشراكسة
والأتراك. وكانت تلك السخرة سببًا مباشرًا في قيام الثورة. ويؤكد لطفي السيد أن بكاء
أفراد أسرة تصيب القرعة أحد أبنائها للخدمة العسكرية، ليس مبعثه الجبن، وإنما مبعثه عدم
ثقة الشعب بالدولة، وأن التجنيد — في اعتقاده — هو في مصلحة الحاكم دون
المحكومين.
٣٩٧ وعندما فكر الأب (المسافات) أن يقطع الإصبع السبابة لابنه، ما لبث أن عدل
عن ذلك، لأن قطع السبابة لا يعفي من الجهادية، وإنما يوكل للمجند أداء أعمال دنيئة.
وفكر الرجل أن يضع الكوبيا في عيني الولد، لكن الأم صرخت قالت: تمنعه من حفظ القرآن،
وتجعله أعمى؟!
٣٩٨ وقد تعالت الزغاريد في دار مخلف أبو طوز، عندما عاد من البندر بنبأ طلوع
ابنه علوان «شرك» من فرز الجهادية.
٣٩٩
كان الجيش هو أول من تلقى صدمة الاحتلال، بالتسريح والنفي والسجن والمصادرة. فقد صدر
في ٢٠ سبتمبر ١٨٨٢م مرسوم من الخديو بإلغاء الجيش المصري وتسريح رجاله. وأحكم الإنجليز
قبضتهم على الحياة المصرية — لسنوات طويلة — من خلال إحكام قبضتهم على الجيش المصري،
وعلى البوليس المصري. فقد كان قادة الجهازَين من الضباط الإنجليز، وكانوا يسهِّلون —
بالطبع — مصادرة الحركة الوطنية وضربها، وفرض إرادة الاحتلال، إلى جانب الوجود
الاستعماري الضخم المتمثل في قوات الاحتلال بالمدن المصرية الرئيسية.
٤٠٠ وفي ٢٦ مارس ١٨٨٥م صدر قانون القرعة العسكرية، وهو أول القوانين التي صدرت
في ظل الاحتلال البريطاني، ولم يكن — على حد تعبير يونان لبيب رزق — مجرد قانون عادي
«فقد اخترق عظام فقراء المصريين، خاصة من الفلاحين، حتى النخاع.»
٤٠١ وفي ٢٤/ ٦/ ١٨٩٥م، بعد عشرين يومًا من تقديم مصطفى كامل لوحته السياسية
الشهيرة إلى مجلس النواب الفرنسي، يصور فيها مصر راسغة في الأغلال، تطلب العون من
فرنسا، كتب واحد وثلاثون من ضباط الجيش المصري بسواكن في السودان رسالة إلى مصطفى كامل،
قالوا فيها: «إن الذين يخاطبونك، يجدون أنفسهم أمام وطنيتك النادرة، وتفانيك في حب مصر
المقدسة، صغارًا، لا لأن قلمك الحق أمضى من سيوفنا، وحججك القوية أفعل من رصاصنا، فاقبل
شكرنا، واعلم أن أرواحنا طوع إشارتك في خدمة بلادنا العزيزة.» لكن مصطفى كامل — استفادة
من أحداث الثورة العرابية — دعا الضباط إلى عدم التدخل في السياسة، وإنه «من الحكمة ألا
نمكِّن العدو من رقابنا. وإني لا أود أن يدخل الضباط في حركتنا السياسية دخولًا ظاهرًا،
لأن هذا يضر بالمسألة المصرية ضررًا بليغًا، حيث يجد الاحتلال مسوغًا لخلق التهم
الثورية بمصر، وغير ذلك مما لا يخفى عليكم.»
٤٠٢ وفي ١٨٩٧م قدمت لجنة مجلس شورى القوانين تقريرها عن ميزانية الحكومة لذلك
العام، قالت فيه «إن الجيش المصري قد صار كفؤًا لحماية مصر في الداخل، وفي الخارج،
ولذلك لا يرى المجلس لزومًا لوجود جيش أجنبي في البلاد، ويعتبر هذا القرار بمثابة
احتجاج ضد الاحتلال.»
٤٠٣ وفي ١٩٠٢م صدر قانون جديد للقرعة العسكرية — التجنيد — يتضمن إعفاء كل
العناصر ذات الفعالية أو التأثير في الاتجاهات الوطنية لمكافحة الاستعمار، حتى تظل
بعيدة عن الجيش، فقد أُعفي العلماء وطلبة الأزهر عملًا بقوله تعالى:
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ
مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا
إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ، كما أُعفي أبناء العُمد والمشايخ وموظفي الحكومة وطلبة
الجامعة وأبناء، وإخوة ضباط الجيش والعربان (البدو) وجميع الرؤساء الروحانيين:
البطاركة ورؤساء الأساقفة والمطارنة والأساقفة والقمامصة والقسس والشمامسة، ومعلمو
الكتاتيب وعرفاؤهم الذين تفرغوا لتعليم الإنجيل والديانة المسيحية، ولخدمة الكنائس
والأديرة، والحق أن ما تضمنه القانون، كان معمولًا به منذ ١٨٨٥م، عقب دخول قوات الاحتلال
بثلاثة أعوام.
ولأن المجند كان يُفدى ببدل مالي،
٤٠٤ فقد كان التجنيد — بالنسبة للعائلات — سُبة ومهانة، حتى لا يقال إنها عجزت
أو بخلت عن شراء أحد بنيها بعشرين جنيهًا.
٤٠٥ كما أُعفي من التجنيد من يحفظ القرآن، لكنه يُحرم من أي عمل سوى تلاوة
القرآن.
٤٠٦ وقد استمر العمل بذلك القانون حتى عام ١٩٤٧م، أي ٤٥ عامًا متصلة،
٤٠٧ ظل الفقراء فيها هم قوام جنود الجيش، لأن كل امرئ كان بوسعه أن يُعفى من
الخدمة العسكرية، إذا دفع بدلًا نقديًّا قيمته ٢١ جنيهًا، بالإضافة إلى من شملهم القانون
بالإعفاء. ويهبنا يحيى حقي صورة مؤثرة لعملية سوق الشبان إلى التجنيد. سيول من جموع
كثيفة من الشبان، مع كل جماعة شيوخ القرية وخفراؤها، يسوقونها بعصي طويلة، كأنهم قطيع
أغنام. وتتعالى ولولة النسوة إشفاقًا على أعزائهن الذين اقتيدوا للتجنيد، ويخلع كل شاب
ثيابه ليبقى كما ولدته أمه، ثم يقعون على الأرض، تتخطى رقابهم أرجل الخفراء، وهم يجوسون
خلالهم، ويظلون هكذا مقرفصين على الأرض ساعات طويلة تحت الشمس، إلى أن يأتي عليه دور
الكشف الطبي، وينتهي الأمر بقبول عدد قليل للغاية من تلك الجموع، فالباقون مصابون — في
الأغلب — بالسعفة أو الفتاق.
٤٠٨
كانت مدة الخدمة العسكرية خمس سنوات، بما يعني أن الفلاح الأجير أو العامل المعدَم
يضطر إلى هجر عمله خمس سنوات متصلة، لقاء راتب قدره ٤٥ قرشًا شهريًّا يتقاضاه من الجيش،
فينقطع عن مورد رزقه، وتتأثر — بالسلب — أوضاعه المادية، وأوضاعه الأسرية بالتالي. من
هنا، ظل رد الفعل بين أسر المطلوبين للتجنيد مأساويًّا ومفزعًا، وكانت كذلك كثرة
محاولات الهروب، أو محاولة الإفلات بواسطة الكشف الطبي. وكانت نسبة عدم اللائقين
طبيًّا، تبلغ حوالي ٧٥٪ من مجموع المطلوبين لأداء الخدمة العسكرية، كما تعدَّدت حوادث
السرقة والسطو التي يقوم بها جنود من الجيش.
٤٠٩ وجاء في تقرير اللورد كرومر عن أحوال مصر في ١٨٨٦م أن القسم الأكبر من حصيلة
البدلية دفعه أبناء العُمد والمشايخ وملَّاك الأراضي الموسرين. وكانت لجان الفرز تواجَه
بذوي عاهات لا يصلحون للخدمة العسكرية «ثم تبيَّن أن أولئك الأنفار المحضرين للفرز، إنما
هم مستأجرون بدلًا من الأنفار الحقيقيين.»
٤١٠
ويلاحظ عبد العظيم رمضان أن الحركة الوطنية الجديدة التي تولى قيادتها الوفد، لم
تحاول الاستعانة بالجيش، بل أدارت لها ظهرها تمامًا، الأمر الذي يختلف عما حدث في
الحركة العرابية.
٤١١ ويفسر الكاتب ذلك بعدة أسباب، من بينها أن عام ١٩١٨م لم يشهد حركة عسكرية
لضباط الجيش، فتحاول قيادات الوفد — بالتالي — استغلالها، بعكس ما حدث في الثورة
العرابية، وأن قيادة الوفد لم تفكر في العنف سبيلًا للحصول على الاستقلال، فضلًا عن حسن
النية الذي كانت تلك القيادة تحيا في جوِّه، والذي شكَّل مناخه العام مبادئ الرئيس الأمريكي
ويلسون لتقرير حقوق الإنسان، وتأليف عصبة الأمم من ست وعشرين دولة، بالإضافة — طبعًا
—
إلى العامل الأهم، وهو أن الجيش المصري كان خاضعًا للسيطرة البريطانية، بينما كانت
القيادات الوطنية في الظل، وبلا تأثير حقيقي. ثم يبقى عامل آخر، هو الأعداد الهائلة من
جيوش المستعمرات التي كانت في طريقها إلى بلادها بعد انتهاء الحرب التي انتصرت فيها
بريطانيا، فلما بدأت الثورة، أبقت سلطات الاحتلال على تلك القوات، وأصبح «العنف» وسيلة
غير متاحة، إن لم تكن مستحيلة.
٤١٢ وإذا كانت القيادات السياسية قد ناقشت العوامل والملابسات والنتائج التي
انتهت إلى وجوب عزل الجيش عن مسار الأحداث؛ فإن الجيش نفسه لم يذهب إلى ذلك الرأي،
وإنما أبدى تفهمًا عميقًا وتعاطفًا، بل ومساندة كلما أتاحت الظروف ذلك، في إحجام سلطات
الاحتلال عن استخدام الجيش المصري في قمع المظاهرات، وتركت للبوليس — الذي كان يضم
عناصر أوروبية كثيرة — تحقيق ذلك. وقد اعترف الجنرال هربرت قائد الجيش المصري في
القاهرة أن «عواطف الضباط المصريين والجنود المصريين على السواء تميل مع
الوطنيين.»
٤١٣
يصِف حسين مؤنس الجيش المصري وقت اندلاع الثورة بأنه قوة عسكرية رمزية، أشبه بالتكملة
لقوات البوليس، ويكون جزء كبير من جنود الجيش فرقة كبيرة معارة للبوليس في قوة شبه
عسكرية، سُمِّيت بلوك الخفر، قوامها جنود نصف عسكريين، يعاونون البوليس في قمع الإضرابات
والمظاهرات وأحداث العنف، وكانت كل قيادات الجيش لضباط إنجليز، ويشرف على مخازن الأسلحة
ضباط إنجليز.
٤١٤ مع ذلك فقد ظهر تعاطف الجيش المصري مع الثورة منذ اللحظة الأولى. توجه وفد
من ضباط الجيش بملابسهم الرسمية إلى بيت الأمة عقب نفي سعد زغلول، وحملوا صورته أمام
مصوري الصحف، دون أن يعطوا وزنًا للنتائج المترتبة على تصرفهم. وكان من بين هؤلاء
الضباط الملازم (اللواء أركان حرب فيما بعد) محمد نجيب.
٤١٥ ويؤكد اللواء محمد نجيب في مذكراته أن «الجيش لم يكن بعيدًا عن ثورة ١٩١٩م،
رغم أن قادته كانوا من الضباط البريطانيين.»
٤١٦ وكان ثمة جمعية سرية للضباط الوطنيين.
٤١٧ وقد خرج حوالي مائة ضابط في مظاهرة عسكرية، ارتدوا فيها البدل والقايش
والطربوش، وزاروا بيت سعد زغلول احتجاجًا على نفيه. ولم يكن للضباط الوطنيين أية
ارتباطات حربية أو سياسية، وإنما كانوا يسبحون في تيار الوطنية الذي يقوده
الوفد.
٤١٨ كما خرج طلبة المدرسة الحربية صباح ٣ أبريل في مظاهرة، تضامنًا مع طلبة
المدارس الأخرى، وسارت مظاهرتهم إلى خارج قصر السلطان والوكالة الأمريكية، بعد أن انضم
إليهم عدد من طلبة مدرسة البوليس.
٤١٩ ويدلل لطفي واكد على دور ضباط الجيش في الثورة بأن ضابطًا اسمه محمد نجيب
اعتقلته السلطات البريطانية في ١٩١٩م وهو ملازم، وتصدَّر ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م وهو
لواء.
٤٢٠ كان بعض كبار الضباط متعاطفين مع الثورة، بل لقد أسهموا فيها بشكل مباشر،
مثل عبد الرحمن فهمي الذي تولى قيادة الحركة السرية للوفد، وكان واحدًا من ضباط الحملة
المصرية التي قادها كتشنر لإعادة فتح السودان.
٤٢١ وعندما ألقي القبض على أعضاء جماعة الانتقام، ضُبطَت في منزل رئيس فرع
القاهرة — محمد لطفي المسلمي — أوراق تثبت اتصال الجمعية بأقسام الجيش
المختلفة.
٤٢٢ وعلى إثر إلقاء اللورد كيرزون خِطابه الشهير في ٢٤ مارس ١٩١٩م، والذي أشاد
فيه بعدم اشتراك ضباط الجيش والبوليس والموظفين في أحداث الثورة، بما يدل — على حد
تعبيره — أن عقلاء الأمة وصفوة المتعلمين فيها لم يشتركوا في الثورة … ترك طلبة المدرسة
الحربية سلاحهم ومعداتهم ومتعلقاتهم الشخصية، وغادروا المدرسة في مظاهرة أمام قصر
البستان، والوكالة الأمريكية، وانضم إليهم بعض طلبة مدرسة البوليس. وفي اليوم التالي،
غادر ٦٠ جنديًّا مصريًّا ثكناتهم إلى المدينة، حاملين معهم أسلحتهم وذخيرتهم، ورفضوا
الأمر الذي صدر إليهم بالتحرك إلى الواسطي. وبديهي أن ذلك التصرف كانت تحكمه الحماسة
والعفوية، ومن ثَم فقد عاد الجنود إلى ثكناتهم في اليوم التالي، باستثناء عشرة أصروا
أن
يشاركوا بدورٍ في الثورة.
٤٢٣ ويشير الفنان إلى أن الجيش المصري دُعي لمساعدة قوات الاحتلال «لكنه لم يحز
الثقة أبدًا، وافتضح تعاطفه مع الثورة، وولاؤه لزعيمها، بل وتصدِّيه جهارًا للدفاع عنه
عندما تآمر أعداؤه على الغدر به.»
٤٢٤ فقد رفض الجنود إطاعة الأوامر بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، وهو ما حدث في
المنيا عندما أصدر لهم الكابتن شاهين أمرًا بذلك، فأطلق هو الرصاص على المتظاهرين، وقتل
ثمانية منهم. وكان الراوي واحدًا من المشاركين في مظاهرة للمدرسة الحربية. أصابه جندي
إنجليزي بالسونكي في فخذه «ولولا العفو العام لفصلت من المدرسة، وخاب آخر رجاء في وظيفة
محترمة نوعًا ما.»
٤٢٥ وقد تصدى الجنود والضباط — في أحيان كثيرة — للدفاع عن المتظاهرين من
الاعتداءات الغادرة.
لكن القلة من ضباط اندمجوا — للأسف — في خدمة قوات الاحتلال، ونفَّذوا الأوامر بلا
تردد، بل إنهم اشتهروا بالقسوة في معاملة المتظاهرين، مثل البكباشي شاهين، ومحمد حيدر
الذي أصبح قائدًا عامًّا للقوات المسلحة فيما بعد. لقد اشتهر الرجلان خلال أحداث الثورة
بقسوتهما الوحشية في معاملة المتظاهرين الذين كانوا يهتفون مطالبين
بالاستقلال.
٤٢٦ وثمة عشماوي جلال (المرايا) الضابط الكبير بسلاح الفرسان بالجيش المصري.
اعتُبر العدو الأول لثورة ١٩١٩م من بين قادة الجيش المصري، ذلك لأنه كان يبتكر الأساليب
التي يعذِّب بها المتظاهرين، والطلبة بالذات، فكان يربط الطالب الذي يلقي القبض عليه
بجواده، وينطلق به وجسد الشاب يرتطم بالحصى والأسفلت حتى يموت.
٤٢٧ والواقع أن عشماوي جلال لم يكن يفعل ذلك لمجرد إرضاء نزعة سادية في ذاته،
بقدر ما كان معجبًا بالإنجليز، وأنهم سادة البشر، ومبعوثو العناية الإلهية لإنقاذ
الشعوب المتخلفة، والشعب المصري — بالطبع — في مقدمتها: «إني لا أقوم بواجبي كضابط
فحسب، ولكني أدافع عن مبدأ، فإني أعتقد أن استقلال مصر عن إنجلترا سيؤدي بها إلى
الانحلال والفساد … وإننا إذا خرجنا من الإمبراطورية، خرجنا من الحضارة.»
٤٢٨ راجع فقرة العملاء، وتعدَّدت محاولات اغتيال عشماوي جلال، ونجح شاب وطني في
إصابته في ساقه بشظية قنبلة ألقاها عليه، وظل الخائن سادرًا في مواقفه المعلنة، وإصراره
على معاداة الحركة الوطنية، وتعذيب المتظاهرين، وإن دفعه نشاط جمعية الكف السوداء لأن
يهجر بيته، فلم يعلم أحد بمكانه.
٤٢٩ وقد ألَّف الناس أغنية شعبية بقصد التشهير به، وكان اللواء عويس باشا (١٩٥٢م)
— كما وصفه الملك فاروق — أحد دعامات العرش «هرم راسخ وطود منيع.»
٤٣٠
•••
كان موقف القوات المصرية في السودان، عقب حادثة السردار، ورفضها العودة إلا بأمرٍ
من
الحكومة المصرية، وليس من سلطات الاحتلال، ما يبيِّن عن الطبيعة الوطنية، الثورية، لدى
هذه القوات.
ومنذ ألقى سعد زغلول سؤاله الساخر: هل عندكم تجريدة؟ يعني هل عندكم قوة مسلحة،
تنتزعون بها استقلالكم، وتحافظون عليه؟ بدأت أعداد كبيرة من الشباب تتجه للالتحاق
بالكلية/المدرسة الحربية، رغم قول الراوي في قصة «نور القمر» إن الفشل كان هو الدافع
— أحيانًا — لا الوطنية ولا الروح العسكرية، لدخول المدرسة الحربية.
٤٣١ وحاول بعض الشبان أن يسافر إلى العراق للدراسة — عسكريًّا — هناك، وتبدَّى
إصرار البعض في التحويل من كليات مدنية إلى المدرسة الحربية بمجرد سنوح الفرصة، مثلما
فعل — فيما بعد — جمال عبد الناصر، الطالب بكلية التجارة، لما حوَّل أوراقه إلى الكلية
الحربية. وكان الهدف أن يكون للبلد تجريدة، قوة، تحصل على استقلالها، وتحافظ عليه. ولعل
أفضل الثمار التي طرحتها انتفاضة ١٩٣٥م حركة الضباط الأحرار. ففي العام التالي مباشرة،
كانت أول دفعة من أبناء الشعب تدخل الجيش في عهد الوزارة الوفدية. وكان أفراد تلك
الدفعة هم النواة الأولى لتنظيم الضباط الأحرار الذي أعد لقيام ثورة ١٩٥٢م، لكن نظرة
المصريين إلى الجيش تحددت — بعوامل مفروضة عليه من خارجه — كما يقول عزيز المصري «بأنه
— في قيادة الغير — أداة لا عقل ولا شعور لها، تُستخدَم في تزيين الحفلات والمواكب، وعند
اللزوم في إطفاء الشعلات الوطنية، فاستصغره الناس، ونفروا منه، ويئسوا من نجدته لهم في
جهادهم القومي.»
٤٣٢ وقد وصف الشيخ مصطفى المراغي الجيش — في أيام الملكية — بأنه «جيش البرلمان
والمحمل». ويقول محتشمي زايد (يوم قتل الزعيم): «لم نكن نرى الجيش إلا يوم
المحمل!»
٤٣٣ ويقول الضابط الشاب حسنين (بداية ونهاية) لأمه بعد تخرُّجه: «إذا حان موعد
الاحتفال بالمحمل، فسيتاح لكِ ولنفيسة — شقيقته — فرصة باهرة لتشاهداني على صهوة جوادي
على رأس فرقة الفرسان»!
٤٣٤ ويقول: «ضباط الجيش رجال أفراح، تراهم أمام المحمل، وفي الاحتفالات
الكبرى.»
٤٣٥
الشرطة/البوليس
يقول الراوي (قصة حياة): «كان الشرطي أخوف ما نخاف نحن الصغار، بعد العفاريت
والأمساخ، وغير هذه وتلك من المرعبات. وكان الذي نعرفه هو أن العسكر عدو لدود لخلق
الله، وأنه مجعول للقبض عليهم والزج بهم في المحابس، وأن «الكركون» — كما كنا نسمي
مراكز الشرطة — ليس أكثر ولا أقل من سجن فظيع، وأن العاقل من يتقي أن يمر أمامه.»
٤٣٦ كان البوليس — قبل الثورة — يؤدي دورًا
بغيضًا في مصادرة انتفاضات المواطنين وضربها، حتى إن الصحف نشرت برقية بتوقيع «فلاح»
تقول: «إن الشعب أصبح يكره البوليس لهذه الأفاعيل بعد أن كان يظن أنه حاميه.»
٤٣٧ ويقول أهل الطفل القتيل: نريد تسليم القاتل للشرطة، فيقول الحارس: ليضربه
العساكر، وليصنعوا منه مجرمًا في يوم وليلة!
٤٣٨ ويرجع محمود كامل ذلك الجدار الذي كان يقوم بين رجل البوليس في مصر وبين
الأفراد، هو الشعور بأن رجل البوليس لا يعتمد على القانون وحده في معاملتهم، وإنما
يقتات على ذلك القانون، ويتعدى حدوده،
٤٣٩ فضلًا عن أن الشرطي المجند كان يتم اختياره «من طبقة تُعتبَر من أحط الطبقات
المصرية.»
٤٤٠ وذكر اللورد كرومر في تقريره (١٩٠٤م) أن أفقر أفراد
الشعب هم الذين لا يستطيعون دفع البدل النقدي (٢٠ جنيهًا) لذلك فإن وظائف الشرطة في
الأرياف يشغلها أفراد يُطلَب منهم تنفيذ القانون والحياة وأسرهم براتبٍ شهري يبلغ جنيهًا
واحدًا.
٤٤١ وطيلة عهود حكومات الأقلية، كانت الملابس الصفراء والطربوش الأحمر
والبندقية، تمثِّل المباغتة والكارثة والقضاء.
٤٤٢ ويقول الصغير حسن (أزهار) للضابط فؤاد عبد السميع: أنا لا أحب رجال
البوليس! يسأله: ولماذا يا أبا علي لا تحب رجال البوليس؟ يجيب: لأنهم يضربون الناس
ويحبسونهم ويقتلونهم. يقول له فؤاد: من الذي علَّمك هذا القول غير الصحيح؟ إن رجال
البوليس هم الذين يجعلونك تنام في بيتك مطمئنًا، فلولاهم لَسرق اللصوص بيتكم، واعتدى
عليكم الأشرار» … لكن فؤاد ما يلبث أن يعترف أن «ظروف البلد السياسية والاحتلال
الإنجليزي قد جعلا مهمة البوليس الأولى هي حفظ الأمن للإنجليز والأجانب.»
٤٤٣ وحتى أصبح فؤاد عبد السميع واحدًا من رجال البوليس، فقد كانت التسمية التي
اعتاد أن يطلقها عليهم: أعداء الشعب.
٤٤٤ واللافت أن الدرس الأول الذي تلقَّاه الطالب الجديد في كلية البوليس من قائد
السرية: «إحنا حكام البلد الأصليين.»
٤٤٥ ويتساءل فوزي السيد: إلى كم من الزمن يظل أصغر فرد في البوليس يستطيع أن
يتحكم في الناس لمجرد كونه رجل بوليس؟
٤٤٦
•••
يقول الفنان: «ما دام البوليس تحت سلطان الإنجليز، فهو لا يمكن إلا أن يكون أداة
عسف
وعدوان على الشعب.»
٤٤٧ ثمة سليم زكي الذي وصفه توماس راسل بقوله: «إني لا أعرف مصريًّا في شجاعة
سليم زكي وعناده وإخلاصه للإنجليز، إنه يعرف شعبه، ويدرك أن إنجلترا هي الأمل الوحيد
لهذا الشعب.»
٤٤٨ وقد شاهدت شوارع القاهرة — للأسف — ضابطًا باع نفسه، يشد الثوار إلى ذيل
حصانه، ويجري بالحصان، والضحية وراءه تتخبط على الأرض، وتصطدم بسنابك الخيل حتى تموت،
وكان الشيخ عبد التواب واحدًا من هؤلاء الذين صرعتهم سنابك خيل ضابط مصري!
٤٤٩
وعلى الرغم من تأكيد الفنان على أن البوليس كان دائمًا أداة ضد الشعب؛
٤٥٠ فإن موقف البوليس في أحداث ثورة ١٩١٩م انحاز — في عمومه — إلى صالح الجماهير
المصرية. وكما يقول عبد الفتاح عنايت في قصة كفاحه، فقد كانت لضباط البوليس «مواقف
وطنية مشهورة مع الثوار والمتظاهرين، وكان من رأيهم التخلي عن وظائفهم لينزلوا مع
المصريين في ثورتهم، ولكنهم عدلوا عن هذه الفكرة بعدما أدركوا نتيجة هذا العمل، وهو
سيطرة الإنجليز التامة على البوليس المصري، وهم يستطيعون وهم في مناصبهم أن يكشفوا خطط
الإنجليز، وأن يخفِّفوا من قسوتهم وغطرستهم.»
٤٥١ كان أول تعبير إنساني يلقاه أحمد عبد الجواد — عندما أجبره الجنود الإنجليز
على ردم حفرة حفرها فتوات الحسينية — ما قاله عسكري مصري أجبرته وظيفة على الوقوف في
المكان: افعل كما يفعل الآخرون. ثم قوله همسًا: أسرع حتى لا يصيبك أذى!
٤٥٢ وخوفًا من أن ينضم رجال البوليس إلى الثوار، أو يساعدوهم، فقد جردوهم —
رجال البوليس — من السلاح «جنود البوليس معهم بقلوبهم، آي ذلك أنهم جُرِّدوا من
سلاحهم.»
٤٥٣ وحين أمر القائد الإنجليزي شكري عبد العال، الضابط المصري، بأن يتصدى
للمظاهرات، فإنه واجه الأمر بضرب القائد بالكرسي، وخفضت رتبته من صاغ إلى يوزباشي، ونُقل
إلى السودان، وظل في رتبته سنوات طويلة.
٤٥٤ وفي المقابل من رفض بعض رجال البوليس أن يوجهوا طلقات بنادقهم إلى
المتظاهرين، فقد رفض فاضل (الكهف) أن يواصل إعداد المتفجرات ليقذف بها زملاؤه رجال
البوليس: «إنهم مساكين مثلنا … لماذا نقتلهم؟ لماذا نيتِّم أولادهم ونرمِّل زوجاتهم؟
إننا
نعلم أن الذين يقتلون بقنابلنا هم آباؤنا … رجال مغلوبون على أمرهم يساقون إلى الموت
معصوبي الأعين، ونحن نصنع القنابل لنقتلهم … نحن الذين نثور من أجل حريتهم!»
٤٥٥ أما عبد اللطيف صادق معاون سجن مصر (الدكتور خالد) فهو أحد ضباط البوليس
الأحرار الذين كانوا يخفون آراءهم السياسية، واتجاهاتهم، وكانوا يبذلون كل جهد للتخفيف
عن المسجونين السياسيين.
٤٥٦ وفي «الضباب» حديث عن مأمور الضبط الذي قبض على الأجانب المستكبرين بالحماية
الإنجليزية، فأجرى معهم التحقيقات الرسمية، ووقَّعها باسمه، ثم استقال من
الحكومة.
٤٥٧ وكان الضابط أشرف زكي أحد الأعضاء العاملين في التنظيم السري الذي كوَّنه
أبطال «الكهف» لمحمد جلال.
٤٥٨ ولما صدرت الأوامر إلى ضباط وعساكر الإنجليز بالحيلولة بين النواب والشيوخ،
وبين الوصول إلى القصر الملكي لتقديم عريضة احتجاج إلى الملك فؤاد على حل البرلمان
وتعطيل الدستور، فقد كان شعور جميع الضباط الذين حُشِدوا في ذلك اليوم — رغم تظاهرهم
جميعًا بالانصياع إلى الأمر الصادر إليهم — أنهم لن يلجئوا إلى إطلاق الرصاص مهما تكن
الأسباب، برغم الأوامر المشددة أن يكون إطلاق الرصاص من بين الوسائل التي يلجئون
إليها.
٤٥٩ ويقول العسكري لزملائه في قوة البوليس التي كانت تبحث عن الشيخ عبد الحي،
وهم يقفون في حجرة الصالون في بيت أمين أفندي: «خف رجلك شوية، أحسن الجزم تفزع الكتاكيت
اللي جوه … والعيال دول أحباب الله، واللي يسْرعهم من نومهم يغضب عليه ربنا، خف رجلك
شوية، أحسن العيال يصحوا.»
٤٦٠ بل إن بعض رجال البوليس — في مظاهرات ١٩٣٥م — رفض أن يضرب الطلبة بالعصي،
وراح يضرب الأرض ويصرخ!
٤٦١ الأمر نفسه تكرر مع جندي في قسم مينا البصل (مزامير حارة اليهود)؛ طلب منه
الضابط أن يطلق الرصاص على مظاهرة، فرفض، لأن المظاهرة — في تقديره — كانت مؤلفة من
أبناء وأقارب مصريين.
٤٦٢ ويعبِّر أشرف زكي (الكهف) عن رأي الغالبية العظمى من رجال الشرطة في قوله
لمنير، حين تسلل إليه داخل الزنزانة: «إن كل الذين يحيطونك بمدافعهم، يتمنَّون في أعماقهم
لو أنهم صوَّبوها نحوهم، نحو المجرمين الحقيقيين!»
٤٦٣ وعندما أرسلت الحكومة دعمًا لقواتها في الصعيد، انضم بعض الجنود
للثوار.
٤٦٤ حتى هؤلاء الذين خاصموا الحركة الوطنية سهل استمالتهم لصالحها. وقد شاهد
سعد زغلول من شرفة بيت الأمة بعض الضباط المصريين يحملون العصي، ويطاردون المتظاهرين
في
فناء البيت، فصاح فيهم قائلًا: أقسم بالوطن وعزته لو تركتم وشأنكم، لكنتم لنا لا علينا،
فتراخت أيديهم، وانسحبوا من البيت. ويذهب محمد أنيس إلى أن البوليس لم يكن يؤدي دورًا
حقيقيًّا في الأقاليم. كان العُمد وشيوخ البلد والخفراء هم ممثِّلو الإدارة — وليس البوليس
— في الأقاليم. ويزيح الكاتب الستار عن أن الحزب الوطني طلب مبلغ ثلاثة آلاف جنيه
لإنفاقها على الخفراء حتى يقوموا بالثورة، كل في قريته أو مدينته.
٤٦٥ وهاجم خفراء «الروضة» بالفيوم مبنى نقطة الشرطة، واستولوا على ما به من
الأسلحة. وكان من بين من قدموا إلى المحاكمة من رجال البوليس: الملازم الثاني أحمد
توفيق ملاحظ نقطة شرطة الغرب، والصول مصطفى حلمي ملاحِظ نقطة شرطة سيلا بالفيوم، والملازم
أول محمد حمدي أفندي مأمور مركز فارسكور،
والملازم أول محمد رشدي ملاحظ نقطة شرطة الروضة بالفيوم، والملازم ثانٍ السيد السيسي
الضابط بمديرية الشرقية، والملازم أول حسن كامل ملاحظ نقطة شرطة أبو كساة بالفيوم،
وحسين حلمي علي أفندي مأمور مركز بني مزار، ورمضان أيوب أفندي مأمور مركز ههيا،
والملازم أول محمد مأمون بيومي الضابط بمديرية الغربية، والصاغ عبد الحميد فوزي مأمور
بندر دمنهور، وأحمد محمود أفندي مأمور مركز أطسا، واليوزباشي محمد عزت شوكت معاون
المركز، والصول محمد كامل محمد، وعبد القادر مختار أفندي مأمور مركز كفر الشيخ … إلخ.
٤٦٦ وفي ١٠ يونيو، نُفِّذ حكم الإعدام رميًا بالرصاص في البكباشي محمد كامل محمد
مأمور بندر أسيوط، بعد محاكمته عسكريًّا بتهمة التحريض على مهاجمة الإنجليز، وتسليم
الثوار بنادق حكومية.
٤٦٧ يقول الضاحك الباكي: أتدري ماذا كانت تهمته؟ حينما فاجأه الثوار محاولين
اقتحام الأبواب لاغتصاب السلاح، اتصل بكبير الحكومة، طالبًا الأمر، فقال له: تصرف!
واتصل بالمستر مكنوتن الإنجليزي ممثِّل السلطة العسكرية، فقال له: تصرف! واتصل بقائد
القوة العسكرية القليلة الموجودة إذ ذاك، فقال له: تصرف! وتصرفت الضحية المسكينة بالشدة
تارة، وبالنصيحة تارة أخرى، وبالخداع حينًا، وبالإغراء أحيانًا. وكان وحده هو الكل في
الكل، والباقون متحصنون. إما في المخابئ أو في المغاور أو في المستشفى، وخفَّف تصرفه
من
حدة الحوادث، ثم ذهبت الأيام فإذا به يُحاكَم على أنه «تصرف»، وإذا به يتلقى حكم الإعدام،
وإذا بجثته يحملها في الفجر أعوان السلطة، فيلقونها تحت أقدام عياله وأولاده ليبحثوا
لها عن حفرة»!
٤٦٨ وقد بدأت أحداث «دير مواس» التي قُتِل فيها عدد من
الضباط الإنجليز، وانتهت دون أن يتدخل رجال الشرطة، وأثبتوا في محاضرهم أنهم لم يجدوا
ثوارًا ولا متظاهرين، ولم يشاهدوا أي إخلال بالأمن.
٤٦٩ أما مأمور أسيوط، فقد فتح المخازن، وأخرج ما بها من أسلحة، ووزَّعه على
الثوار.
٤٧٠ وكان في مقدمة المعتقلين الذين قُدِّموا للمحاكمة بتهم القتل والتحريض على
القتل، والمساعدة على الهرب، مأمور ديروط وملاحظو بوليس وشيخ دير مواس، وابن عمدة قرية
الحسانية.
٤٧١ وتؤكد بعض الروايات أن الضحايا من رجال البوليس كانوا إما مشنوقًا أو
محبوسًا أو معذبًا أو مرفوتًا، وكانوا أكثر الضحايا.
٤٧٢ كان الشرطي الذي قبض على ذراع سيد زهير في طريقه إلى السجن، تعبيرًا عن رجل
الشرطة الذي كان يؤدي واجبه دون أن يكون بينهما ما يدعو إلى الخصومة أو الكراهية، وكانت
نظرته
المهذبة تقول: «أنا آسف، ولكن ما حيلتي؟»
٤٧٣ «إنهم يأتمرون بأمر آلة ضخمة، لا يملكون لي معها ولا لأنفسهم
شيئًا.»
٤٧٤ وعلى الرغم من رفض طه عنان (المرايا) تصرفات والده ضابط الشرطة، فإنه دافع
عنه بالقول: أبي وطني … مثلنا تمامًا، ويؤمن بمصطفى النحاس، كما آمن بسعد زغلول، ولكنه
يؤدي واجبه. وقال له رضا حمادة: سمعنا عن ضباط مثله انضموا إلى الثوار في سنة ١٩١٩م.
قال
طه عنان: كانت أيام ثورة، ولا ثورة الآن!
٤٧٥ وإذا كان الضابط الشاب (أزهار) قد تعرض للنقل إلى أبو قرقاص، لأنه تجرأ
ووجه بعض الأسئلة إلى قائده الإنجليزي؛ فإن الملازم جميل عزت الذي كان حارسًا على
إبراهيم حمدي (في بيتنا رجل) في المستشفى، أحيل إلى التحقيق بعد أن استطاع إبراهيم أن
يستغل ثقته فيه، ويفر من المستشفى.
٤٧٦ وكان ذلك — في الحقيقة — مصير كل من يبين التعاطف مع الحركة
الوطنية.
المرأة
كتب الإنجليزي جورج يونج: «إن الدور الذي لعبته المرأة المصرية، منذ اليقظة الأولى
للوعي القومي في المظاهرات حتى العصيان (!) الأخير، كان أكثر بروزًا عن مساهمة النساء
في الحركات الوطنية في البلدان المجاورة.»
٤٧٧ لقد شاركت المرأة في العمل السياسي قبل نشوب الثورة بأعوام؛ ففي ولاية
الخديو عباس الثاني، تكوَّنت في القاهرة جمعية سياسية تهدف إلى إسقاط وزارة مصطفى فهمي،
وإخراج الإنجليز من مصر (قال الخديو عباس عن مصطفى فهمي إن الإنجليز يعتبرونه
إنجليزيًّا أكثر من الإنجليز أنفسهم — أدب المقالة الصحفية — ٤/١٥). وكان من قيادات
تلك الجمعية: لطيف سليم، حسين فخري، السيد توفيق البكري، أحمد الصوفاني، نجران باشا،
يوسف صديق، إبراهيم اللقاني، حسين رشدي. وكان من بين قيادات تلك الجمعية أيضًا السيدة
زليخة، شيخة تكية الكلشاني.
٤٧٨ وخرجت أول مظاهرة للنساء قبل اندلاع الثورة، وبالتحديد في ظل زعامة مصطفى
كامل، عندما أصدرت السلطات قوانين بتقييد حرية الصحافة، وكتب مختار طلعت صبور مقالًا
يودع به حرية الصحافة، عنوانه «وداعًا إلى حين». وهزَّ المقال مشاعر الناس بعنف، إلى
حد
خروج المرأة — لأول مرة في تاريخ مصر — في مظاهرة تطالب برفع القيود عن الصحافة. وتصدَّت
قوات البوليس للمظاهرة النسائية، لكن الفتيات اللائي شاركن في المظاهرة قسَّمن أنفسهن
—
فيما بعد — إلى مجموعات صغيرة، توزع المنشورات، وتعلق الملصقات على الجدران، ويحرضن
الجماهير على المشاركة في حركة الاحتجاج على تقييد حرية الصحافة. وكان على رأس المظاهرة
النسائية ست فتيات، هن: تفيدة وعريفة طلعت صبور، شقيقتا كاتب المقال، وجميلة عطية،
والأخوات الثلاث: وجيدة وآمنة وفهيمة ثابت. ولما مات مصطفى كامل، تقدمت تفيدة طلعت صبور
جنازته. حملت العلم المصري حتى وصل موكب الجنازة إلى مقبرة الزعيم الراحل في الإمام
الشافعي.
٤٧٩ وإبان الحرب العالمية الأولى، أزمعت السلطات البريطانية اعتقال نحو أربعين
سيدة مصرية بتهمة الاشتراك في نشاط سياسي معادٍ، لولا تدخل رئيس الوزراء المصري حينذاك
(حسين رشدي)، فاكتفت السلطات البريطانية بالتنبيه على السيدات بعدم الخروج من
منازلهن.
٤٨٠ وبعد أن أُلقي القبض على سعد زغلول نَقلت إليه صفية زغلول — عبر سكرتيره محمد
كامل سليم — قولها إنها «شجاعة كما عهدني، وسأقوم بآخر جهدي بما كان يقوم به في مصر،
نعم أخبره، وأنه إن يك قد ذهب فإني باقية ببيت الأمة، أعمل ما كان يعرفه بأني سأكون
مقدامة جسورة؛ فليهدأ بالًا من جهتي، وسأصبر، وأصابر، وأبذل كل ما وهبني الله من جلد
وقوة
في سبيل القيام بالواجب.»
٤٨١ وفي مارس ١٩١٩م تلقَّى عدد كبير من السيدات المصريات دعوات مجهولة المصدر،
تدعوهن إلى لقاء نسائي بكنيسة «ماركوس». وحضر اللقاء آلاف من النساء، وأسفر عن انتخاب
اللجنة التنفيذية للنساء الوفديات برئاسة السيدة هدى شعراوي.
٤٨٢ وكانت الدعوة إلى مقاطعة البضائع الإنجليزية، وتنفيذ الدعوة، من أبرز
الأنشطة التي قامت بها تلك اللجنة. وفي أثناء إضراب الموظفين، قام الكثير من النساء
بالوقوف على أبواب الدواوين، للحيلولة دون عودة من تسول له نفسه ذلك. كن ينزعن حليهن
وأساورهن، ويقدمنها لمن يحاولون العودة قائلات: إذا كنتم في حاجة إلى مرتباتكم، فخذوا
هذه الحلي، المهم ألا تخضعوا للإنذار البريطاني.
يقول الرافعي: «ومن مظاهر التقدم الاجتماعي، مساهمة النساء في هذه الثورة، واشتراكهن
بأقلامهن وأفكارهن في إذكاء الروح الوطنية، وحثهن الرجال على التضحية، وتأليفهن
المظاهرات والجمعيات واللجان للتعبير عن شعورهن، والمساهمة في النهضة الوطنية، وقد
استهدفن أحيانًا للعنت والمشقة في سبيل اشتراكهن في الكفاح.»
٤٨٣ ويروي المعلم حنفي العربجي (مذكرات عربجي) أن القاهرة «أخرجت من بيوتاتها
مجموعات مختلفة من سيدات وعذارى وعيال وبنات وخلافه، وتصور محسوبك بعربتي في وسط هذا
الخليط من أوتوموبيلات وعربات ملاكي «وورد ناري» ومعي عائلة مكونة من أربعة أنفار «من
الجنس اللطيف طبعًا»، والعلم المصري يرفرف علينا ونحن نسير بكل بطء بين الهتاف
المتواصل والمظاهرات المختلفة.»
٤٨٤ وقد وقفت أم أحمد فوق عربة كارو بين جاراتٍ لها من سيدات الأحياء الشعبية في
مظاهرة تهتف لسعد ولمصر.
٤٨٥ وتصف إحسان هانم في مذكراتها أحداث مظاهرة السابع من أبريل: «أصبحنا اليوم،
وإذ بحركة غير عادية في الشوارع. شاهدت أناسًا مختلفي السحن والأزياء يسيرون زرافات
وجماعات، وتدل سيماؤهم على الفرح والسرور، يحملون من الأعلام المصرية مختلف الحجم، وكنت
أسمع أصوات هتاف بعيدة، صادرة — بلا شك — من جوف المدينة، وعبثًا حاولت معرفة ما يهتفون
به، وإذا بجماعة من الطلبة أخذوا في حيِّنا يسيرون صفوفًا منتظمة، متراصة، متتابعة، يسير
في مقدمتهم واحد منهم يحمل علمًا مصريًّا كبيرًا رسم عليه الصليب يعانق الهلال، وكتب
تحت هذا الرمز الوطني «يحيا الاستقلال التام».»
٤٨٦ تضيف إحسان هانم: «إن هذا الخروج عن تقاليدنا لم يُقابَل بالاشمئزاز
والاستهجان من جماعة المحافظين المعمَّمين، بل كثيرًا ما كانوا يشجعوننا بالتصفيق
والابتسام، وأحيانًا بالهتاف.»
٤٨٧ وقالت إحدى المتظاهرات لجندي إنجليزي شهر السلاح في وجهها: «أطلق الرصاص في
هذا الصدر لتجعلوا في مصر «مس كافل» أخرى!»
وسقطت في مظاهرة ١٠ أبريل ١٩١٩م أول شهيدة من النساء، واسمها شفيقة محمد
عشماوي.
٤٨٨ قدمت احتجاجًا مكتوبًا للقائم بأعمال المعتمد البريطاني، فضربها العساكر
الإنجليز بالرصاص، وسقطت مضرجة بدمائها وهي دون الثامنة والعشرين، وتلتها أسماء شهيدات
أخريات: عائشة عمر، فهيمة رياض، حميدة خليل، نجية إسماعيل … إلخ، وتعدد خروج النساء في
مظاهرات، يرفعن الأعلام المصرية، ويهتفن بالاستقلال التام، وبحياة الوفد المصري
والاتحاد بين عنصرَي الأمة، وكان أهم ما اعتزت به الأم طيلة حياتها أنها اشتركت في
مظاهرة السيدات، وتعرضت مع زميلاتها لرصاص الإنجليز في شوارع القاهرة،
٤٨٩ بينما الشبان يؤلفون من بينهم فرق حراسة لمواكب هذه المظاهرات، حتى لا يندس
بينهن أي مندس طائش. وتروي الجدة عن ظروف زواجها: اشتركت في المظاهرة النسائية، وتصدى
الجنود الإنجليز للمظاهرة، واندفع الشاش هو وأصدقاؤه ليفتدوا النساء بصدورهم، وأمسك يد
الفتاة وانطلق يعدو، ونظر إليها بعفوية فهتف: ولكنك طفلة! صم تقدم إلى أبيها بعد أقل
من
شهر، وتم الزفاف بعد شهرين، وكانت في الخامسة عشرة من عمرها.
٤٩٠ ويقول الحكيم: «كان حقًّا من معالم ثورة ١٩١٩م اشتراك السيدات فيها لأول مرة
في تاريخ مصر، مما كان يبشر بقرب تحقيق أحلام قاسم أمين في مطالبته بالسفور.»
٤٩١ ومن رسالة بعث بها عبد الرحمن فهمي إلى سعد زغلول بتاريخ ١٧ يناير ١٩٢٠م،
تحدث عن مظاهرة قامت بها السيدات المصريات في اليوم السابق من ميدان المحطة إلى لوكاندة
«شبرد» «وهناك هتفت لسينوت بك حنا المقيم بها، وللوفد ورئيسه، وللاستقلال التام، ولحرية
مصر. ولما علا هتافهن خرج كل من باللوكاندة ووقف على «التراس». ولما وقع نظر بعض
السيدات على بعض الضباط الإنجليز الذين كان يتقدمهم أحد «الجنرالية» أخرجت كل واحدة من
تحت إزارها علمًا مصريًّا صغيرًا، لا علم الحماية، وصحن بأعلى أصواتهن: لتحيا مصر حرة
…
ليحيا الاستقلال التام … ليحيا الوفد المصري … ليحيا سعد باشا زغلول … ليسقط ملنر … ليخسف
الله الأرض بملنر … وكل هذا النداء كان باللغة الإنجليزية، ثم استمرت المظاهرة في سيرها
نحو نادي رمسيس، وهتفت السيدات باللغة العربية للاتحاد بين عناصر الأمة. وهناك أتى
البوليس الإنجليزي، ومعه نفر من البوليس المصري؛ فرقهن إلى منازلهن، وكانت المظاهرة
مشيًا على الأقدام.»
٤٩٢
ومن الأسف أن تناول بعض الأقلام المؤرخة لدور المرأة في أحداث الثورة يكاد يقتصر
على
مظاهرة النساء في ١٦ مارس التي خرج فيها نحو ثلاثمائة «من كرام العائلات»،
٤٩٣ بالحَبَرة واليشمك ليقدمن عريضة احتجاج إلى مندوبي الدول الأجنبية. ومن هنا
جاء تقييم يوسف الشاروني لدور المرأة المصرية في الثورة؛ نساء «بين القصرين» ينتمين —
في
تحديد الشاروني — إلى الطبقة الوسطى، وهذا صحيح. لكنه يضيف بأن نساء هذه الطبقة لم
يشاركن — تاريخيًّا — في الثورة، إنما شارك فيها بعض زوجات الساسة، وبعض نساء الطبقة
الوسطى البرجوازية اللائي كان لديهن شيء من التحرر.
٤٩٤ تناسى الشاروني — مثلما تناسى بعض المؤرخين — مئات الأسماء المجهولة لنساء
مصريات خرجن مع الأزواج والأبناء إلى الطرق الزراعية، يحطِّمن القضبان، ويقطعن أسلاك
التليفونات، ويهاجمن المراكز التي احتُجز فيها الوطنيون. لم تكن الحركة النسائية المصرية
مقصورة آنذاك — بالتأكيد — على نساء كرام العائلات. فقد شارك في الأعمال الثورية نساء
ينتمين إلى كل طوائف المجتمع وطبقاته، ومن كل الأقاليم المصرية. كانت أم أحمد — على
سبيل المثال — واحدة من سيدات الأحياء الشعبية اللائي وقفن فوق عربات الكارو، ويهتفن
لسعد زغلول، ولمصر.
٤٩٥
والحق أن الثورة كانت — في أيامها الأولى — ثورة الرجل فقط، ولم يكن من السهل أن
تخرج
المرأة إلى الشارع — وهي التي أُجبرَت على حياة الحريم قرونًا عدة — تهتف — مثل الرجل
—
بحياة الثورة. لكن منطق الثورة فرض نفسه في تلك الأيام المثقلة بالبذل والتضحية، واشترك
في مظاهرة السيدات الأولى نساء من كل طبقات المجتمع وفئاته، ثم اتسع المشهد بصورة
لافتة. يشير الراوي إلى النساء في الحناطير والكارو، يحملن الأعلام ويهتفن.
٤٩٦ وكان نساء حي الأزهر يساعدن المترددين على الإفلات من حصار القوات
البريطانية بواسطة سُلَّم خشبي، كان الرجال يقفزون منه إلى «ميضة» جامع الأزهر.
٤٩٧ وكانت نساء الصعيد يزغردن وهن يخلعن حليهن من أيديهن تبرعًا
للثورة.
٤٩٨ وقد استخدمت المرأة في الصعيد القضيب الحديدي الذي ينضجن به الخبز، أو أي
شيء وصلت إليه يدها لمواجهة جنود الإنجليز.
٤٩٩ ولجأت نساء دير مواس — في مواجهة الهجوم الضاري لقوات الإنجليز — إلى كل ما
وقعت عليه أيديهن.
٥٠٠ وعندما ناشدت قيادة الوفد النساء بإيقاف التظاهر، لم يستجبن لهذه المناشدة،
وواصلن التظاهر، حتى رضخت بريطانيا لمطالب الحركة الوطنية.
لقد قتل بعض النساء، وأصيب البعض الآخر برصاص جنود الاحتلال. وأنشد سيد درويش: ياما
شفنا من الستات … طلعوا وعملوا مظاهرات. ويحكي الراوي (منزل من دورين) عن تبرع جدته
بالبانتانتيف الألماظ إلى سعد زغلول، فحمل التبرع إلى بيت سعد في حي الإنشا.
٥٠١ وكانت فاتن واحدة من الفتيات اللائي انشغلن بحياة خاصة، لاهية، حتى أيقظتها
أحداث الثورة، فشاركت فيها: تحتضن اليتامى، وتواسي الثكالى، وتمرض الجرحى، بل زادت
فتبرعت بسيارتها الخاصة لجمعية اليد السوداء.
٥٠٢ وقد ضمَّت لجنة الوفد المركزية للسيدات المصريات إلى عضويتها: هدى شعراوي،
إستر ويصا، شريفة رياض، نعمت حجازي، إحسان أحمد. وكانت مهمة اللجنة المعلَنة «مساعدة
اللجنة المركزية للوفد المصري لاستمرار المطالبة باستقلال مصر استقلالًا
تامًّا.»
٥٠٣ واستغلت فكرية حسني، المفتشة بوزارة المعارف، ظروف عملها، فحملت المنشورات
إلى الصعيد، تقذف بها في كل محطة يقف عليها القطار. ويروي الكاتب في «خط العتبة» أن أخته
طُردَت من المدرسة في أحداث الثورة، بعد أن قادت مظاهرة، وخطبت في التلميذات.
٥٠٤ وتروي حكمت هانم في مذكراتها عن النساء الوطنيات «من الطبقة المنحطة ينشدن
أغاني وطنية جديدة، ويرقصن الرقص البلدي على الدفوف.»
٥٠٥ حتى المومسات، علَّقن صورة سعد زغلول على حوائط حجراتهن.
٥٠٦ وكان لهن دور إيجابي في المظاهرات الصاخبة التي ملأت شوارع المدن المصرية،
مثل نبيهة بطلة قصة «عذراء أسيوط» ١٩٢٤م للكاتب اليوناني المصري كوستا تساجارداس: بائعة
هوًى، ماتت شهيدة فداء للوطن، وبطلة «المصابيح الزرق» التي هجرت حياة الخطيئة بتأثير
حزنها
على وحيدها الذي قتله جنود الاحتلال، وخرجت — ذات يوم — تتصدر مظاهرة، فسقطت شهيدة. وفي
«الضباب» يقدم زين العابدين السوار الذي اشتراه للغانية أنيسة ولعة إلى لجنة الاكتتاب
للوفد «وسأله الذي يتولى جمع الاكتتاب: اسم حضرتك؟ ودون وعي قال: أنيسة
ولعة.»
٥٠٧ وصارحت قدرية (حضرة المحترم) — بائعة الهوى — عثمان بيومي بأنها اشتركت في
مظاهرات ١٩١٩م، فيتساءل في دهشة: مظاهرة؟! تقول: ما لك؟! نعم مظاهرة. حتى هذا الدرب أحب
الوطن يومًا ما.
٥٠٨
•••
ترجع إقبال بركة خروج المرأة المصرية في مظاهرات ١٩١٩م إلى إدراكها أن قضية المرأة
لن
تُحل إلا إذا تحرر الوطن أولًا.
٥٠٩ وكانت مشاركة النساء في المظاهرات منطلقًا لأحاديث مستفيضة — كما تقول
الراوية — عما تستطيع المرأة أداءه في ميادين الحياة العامة، سياسية واجتماعية، وأن
حجاب المرأة الذي حال إلى يومئذٍ بينها وبين اقتحام هذه الميادين يجب أن يزول، وأنه سُبة
يجب التخلص منها، لأنه ينزل بكرامة المرأة إلى مكان وضيع يهوي بقيمتها الإنسانية، إلى
حيث تصبح عبدًا ومتعًا للرجل، لا أكثر. وتقول الراوية: «وشعرت في هذا الحديث بمقدمة
ثورة اجتماعية، رجوت — إن قُدِّر لها التمام — أن تتم في هدوء وطمأنينة.»
٥١٠ وقد نجحت النساء في ثورتهن، ذلك لأنهن سلكن — كما تقول الراوية — سبيل
الحكمة والتصون من كل عنف.
٥١١ فقد كانت البداية نهوضًا بأعمال الخير، مثل العناية بالمرضى، والبر
بالفقراء، والعطف على الأحداث المشرَّدين، ثم كان من الطبيعي أن تخلع المرأة حجابها،
وأن
تهمل البرقع والبيشة. ثم طالبت النساء بعد ذلك بألوان من الإصلاح الاجتماعي «وبهذه
الحكمة، وهذا الاعتدال، استطاعت الثورة الاجتماعية التي تمخضت عنها تلك المظاهرة
السياسية الأولى أن تحطم الحجاب، وأن تفتح أمام الفتاة وأمام المرأة أبوابًا كريمة،
كانت من قبل موصدة في وجهها».
٥١٢ وعلى سبيل المثال، فقد أبيح لها الخروج مع زوجها أو أبيها أو أخيها
والأقربين من محارمها، وكان ذلك ممنوعًا من قبل، وأن تتحدث إلى مَن يلقونهم من
الرجال.
٥١٣ وبعد وفاة سعد زغلول، كتبت مي زيادة: «باسم سعد اجترأت المرأة المصرية على
رفع صوتها، وتحت لوائه سارت مواكب النساء في الشوارع، وهتفت بحياة الوطن، وللحرية
والاستقلال، وفي ظل سطوته تلقَّى الجمهور اسم المرأة وهتافها، وتعوَّد أن يستمع لمطالبها
في
تهيب واحترام، ولولا ذلك لكان ذاويًا واجمًا.» وتشير هدى شعراوي في ذكرياتها إلى مشاركة
المرأة الرجل في نضاله السياسي والاجتماعي — عقب انتهاء أحداث الثورة — بالكتابة في
الصحف، وإصدار المجلات، وإنشاء مدارس الحِرف للفقراء، والملاجئ للفقراء … إلخ. وإذا كان
الفنان قد أشار إلى التغير الذي أصاب كل فئات المجتمع، فإننا نستطيع أن نتعرف إلى ذلك
التغير في حديث الراوي في (وحي العصر) عن انعكاس أحداث الثورة في حياة أسرته، وفي حياة
أمه البسيطة غير المتعلمة على وجه التحديد. عاد الراوي إلى البيت، وحكى لأمه ما شاهده
من أحداث الثورة، فدبَّ الخلاف بينها وبين أبيه «استبد بها فاحتملته، يضطهدها فثبتت له.
أخذ يهزأ بالثورة وأبطالها فلم تحفل به. أوصد باب البيت وحمل مفتاحه، فحطمت الباب
وخرجت. خرجت تشهد المظاهرات غير آبهة للموت الطائش في الهواء، آمنت بمصر فسكب الإيمان
عليها ضوءه المحيي، وكفر بها العاقل الحكيم، وظل معذَّبًا بهذا الكفر حتى قضى نحبه. تلك
هي المعجزة، لم يؤمن الرجل، ولكن المرأة آمنت، وحتى حل الإيمان في قلب المرأة، ففي
وسعها أن تقول للجبل انتقل فينتقل. ولقد تزحزح الجبل بالفعل، ولقد أبصرت المعجزة بعيني،
وما شككت لحظة أن مثلها وقع في مئات البيوت المصرية.»
٥١٤ لقد وَثَبت المرأة المصرية — والقول لسلامة موسى — من الأنثوية والبيت، إلى
الإنسانية والمجتمع، فقد مزق الحجاب، وشرعنا جميعًا نعد المرأة المصرية إنسانًا له حقوق
الإنسان.
٥١٥ وتبدى انعكاس الثورة على المرأة في تكوين لجنة من السيدات، زرن المستشفيات
لمواساة الجرحى الذين أصيبوا في المظاهرات، وقدمن الهدايا لهم،
٥١٦ ثم في قيام الحكيمات المصريات (يوليو ١٩٢٠م) بتأليف أول نقابة نسائية في
التاريخ المصري، وكان برنامج النقابة الوليدة يتضمن أهدافًا عديدة من بينها: جمع شمل
الحكيمات المصريات في جميع البلاد بالقطر المصري، وإيجاد رابطة جامعة بينهن أساسها
الإخاء والتضامن. الاحتفاظ بكرامة المهنة، والدفاع عن مصالح الأعضاء المادية والأدبية،
بجميع الوسائل المشروعة أمام السلطات والهيئات الأخرى، مع إلزامهن واجباتهن. تحسين حال
الأعضاء، وترقيتهن أدبيًّا، والعمل على ظهورهن بما يلائمهن من المكانة الاجتماعية.
مساعدة أعضاء النقابة ماديًّا عند الاحتياج، والسعي في إيجاد عمل لهن بكل الوسائل
الممكنة. تقديم المساعدة الطبية للمرأة المصرية بفتح عيادات لإجراء عمليات الولادة،
ومعالجة أمراض النساء الفقيرات مجانًا، وإصدار نشرات أو مجلة للمرأة المصرية، تتضمن
النصح والإرشاد، وفي العناية وتربية الطفل، ومقاومة العادات السيئة القديمة التي يُعزى
إليها معظم السبب في أمراض الأجسام وضعف الأبدان، والخطابة في النساء المصريات، وإلقاء
المحاضرات لتنوير أذهانهن.
٥١٧ وكانت وزارة المعارف تدير في ١٩١٧م ثلاث مدارس ابتدائية للبنات، اثنتان منها
بالقاهرة، والثالثة بالإسكندرية، وكان بها جميعًا ٤٩١ تلميذة. وفي ديسمبر ١٩٢٠م أنشئت
أول مدرسية ثانوية للبنات تابعة لوزارة المعارف، وقد بدأ عامها الأول بثمانٍ وعشرين
تلميذة.
٥١٨ وتأسس الاتحاد النسائي الأول في عام ١٩٢٣م، وبعد مقتل السردار، وما تمخض عنه
من آثار سلبية على الحركة الوطنية المصرية، شكَّلت النساء لجنة لمقاطعة البضائع
الإنجليزية، ردًّا على الإهانة التي وجَّهتها السلطات البريطانية لمصر، وكانت النساء
يقفن
أمام المحال الأجنبية، يمنعن الزبائن — بأجسادهن — من دخولها.
لقد أطلق بعض كُتاب الغرب على نساء مصر اسم «الزغلوليات» تعبيرًا عن مواقف المرأة
المصرية في الثورة.
٥١٩ وتحدث سعد زغلول — عقب عودته من المنفى — عن دور المرأة في الثورة: «لقد
أظهرت السيدات في النهضة الحاضرة من الشجاعة والإقدام ما أعجب به كل واحد منا، وكل ناظر
إلينا، وكُنَّ في موقف موضع إعجاب الجميع، وكن أيضًا يملين على الرجال من الثبات والإقدام
ما رأينا آثاره، وكتبن بأعمالهن المجيدة صحيفة من أجمل صحائف التاريخ، فلهن الشكر،
ولتصيحوا جميعًا: تحيا السيدة المصرية.»
•••
حتى الأطفال كوَّنوا الجماعات التي تحاول — في الأقل — مقايضة جنود الإنجليز
والأستراليين. وفي قصة «ابن البواب» يأخذنا الصغير مرسي الذي يروعه وأترابه أن الجندي
الأسترالي يمسح حذاءه بالعلم المصري، ويثِب عليه رفيق مرسي من الوراء، ويخطف العلم من
يده، ويعدو. يعاجله الجندي برصاصة تصيبه في فخذه، لكن مرسي يسرع إلى صديقه الجريح، يأخذ
العلم من يده، ويفر إلى الأزقة والحواري وهو يصيح: والله ما أنت واخده يا
جوني.
٥٢٠ وكانت الثورة مناسبة لكي يثأر الصغير سالم (يحيا الوطن) لمقتل والده محمود
عبد الشافي، الذي ساقته سلطات الاحتلال البريطاني مع من ساقتهم من أبناء الريف في أثناء
الحرب العالمية الأولى للعمل بفرق العمال التي أمَّنت وسائل الجيش البريطاني. وحين أعجزه
المرض عن مواصلة السير مع رفاقه، أفرغ الضابط الإنجليزي في رأسه رصاصة من مسدسه. ولحق
به في أحداث ثورة ١٩١٩م شقيق زوجته الذي خرج مع المتظاهرين ينادي بحرية الوطن وثأر
الشهيد. وتأبى المصادفات — وأحداث القصة كما يقول حبيب جاماتي وقعت بالفعل — إلا أن
يثأر الصغير سالم من قاتل والده بالذات، عندما تربص له مع بعض أترابه، وقذفه بحجر وهو
يصيح: أبويا فين يا جوني؟ خالي فين يا جوني؟ وأصاب الحجر الضابط الإنجليزي إصابة بالغة،
لكن زملاءه عاجلوا سالم برصاصهم، فسقط شهيدًا، بعد أن ثأر لمقتل والده.
٥٢١
طبقة كبار الملاك والرأسماليين
كتب اللنبي في ١٩٢٠م: «نستطيع أن نغادر مصر مطمئنين لأن هناك طبقة من ملاك الأراضي
على
ولاء كامل لنا.»
٥٢٢ ففي موازاة الاحتلال الإنجليزي، أو في ظله، كان أصحاب الأراضي الواسعة
والإقطاعيات قد حصلوا على كل شيء بالرشوة والنفوذ والسطوة والوساطة.
٥٢٣ وقد اعتمدت سلطات الاحتلال الرأسمالية الزراعية المصرية، فمنهم كان يتشكَّل
مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية حتى عام ١٩١٣م، ثم الجمعية التشريعية منذ ١٩١٣م،
ومجال المديريات. وكانت سلطات الاحتلال تشجع البرجوازية المصرية الزراعية ضد العناصر
الوطنية المتطرفة، ممثَّلة في القطاع التجاري وقطاع المثقفين من البرجوازية الصغيرة
المركزة في سكان المدن. وكان كرومر يُطلِق على البرجوازية المصرية الزراعية «الجيروند»،
أي المعتدلين، بينما يعتبر عناصر البرجوازية التجارية والمثقفين من اليعاقبة، أي
المتطرفين في الوطنية. وقال اللورد اللنبي — في العام التالي للثورة — «نستطيع أن نغادر
مصر مطمئنين، لأن هناك طبقة من ملاك الأرض على ولاء كامل لنا.»
٥٢٤ ويروي محمد حسين هيكل في مذكراته أنه ذهب إلى لطفي السيد في الأيام الأولى
لتكوين الوفد، يسأله عن خطته، فأجاب لطفي السيد في صراحة غريبة: «إن خطتنا أن نسافر إلى
باريس، وأن نطرح قضايانا على مؤتمر لندن، وأن نطلب تطبيق حق تقرير المصير على مصر
والسودان؛ فإن أجبنا إلى مطلبنا، كان ذلك ما نبغي، وإلا ذهب رشدي وعدلي إلى لندن
لمفاوضة الحكومة البريطانية في تنظيم العلاقة بين مصر وإنجلترا في حدود الحماية.» وكان
تلك بالفعل هي خطة كبار الملاك: تنظيم العلاقة بين مصالحهم وبين مصالح الاستعمار
البريطاني، وفي حدود الحماية. ويقول لطفي السيد: «اتفقنا — نحن الثلاثة — على السعي
لتعترف إنجلترا باستقلالنا، ونكفل لها مصالحها، إلى حد أن نعاونها بدخولنا معها الحرب،
إذا كان هذا ضروريًّا.»
٥٢٥
لذلك، فقد أعلن تقرير الخارجية البريطانية استغرابه من الطريقة التي طالبت بها طبقة
كبار الملاك — وشعراوي باشا بخاصة — الاستقلال، بما أدهش السلطات البريطانية، وكانت
طبقة كبار الملاك الزراعيين قد سارعت — فور تصاعد أحداث الثورة — إلى الانضمام لها، ربما
— كما قيل — محاولة للتدخل في مسيرتها، وحتى لا تصل نيرانها إلى المصالح الزراعية
الكبرى. وهو ما كانت نذره قد توضحت في اعتداءات الفلاحين على قصور الإقطاعيين في أسيوط
(الضاحك الباكي) وغيرها من المدن المصرية. وقد أراد هؤلاء الأعيان أن يفروا من غارات
الطائرات البريطانية المرتقبة، فلجئوا إلى المستشفى الأميري. أجلوا عنه المرضى وأقاموا
فيه، فلما جاءت الطائرات كان المستشفى من الأهداف التي ألقت عليها قنابلها.
٥٢٦ وفي مواجهة اللجان الثورية، تكوَّنت — بإيعازٍ من طبقة الأعيان وكبار الملاك —
لجان باسم «تهدئة الخواطر» بهدف إيقاف الفعل الثوري، والدعوة للهدوء والسكينة.
٥٢٧ واللافت أن اللجنة المركزية للوفد تكوَّنت من ٤٣ عضوًا، عدد كبار الملاك منهم
٣٦، بنسبة ٨٣٫١٣.
٥٢٨ ولعله يجدر بنا أن نشير إلى ما ذهب إليه عبد العظيم رمضان من أن الضرر لم
يقتصر على الأُجراء وصغار المزارعين فقط، لكنه شمل طبقة كبار الملَّاك كذلك. فعند نشوب
الحرب في ١٩١٤م، بدأ سعر القطن في الهبوط التدريجي، نتيجة لخوف مستوردي الأقطان المصرية
من إغلاق الأسواق التي يبيعون فيها ما يستوردون، وانخفض متوسط ثمن القنطار من تسعة عشر
ريالًا إلى اثني عشر ريالًا، فأصيب ملاك الأراضي بخسائر مادية فادحة. فلما بدأت أسعار
القطن في الصعود، في موسم ١٩١٥-١٩١٦م، توقع ملاك الأراضي أن يعوضوا بعض خسائرهم، لكن
الحكومة كانت قد حددت المساحة المنزرعة قطنًا بثلث الزمام، ولم يتم إلغاء ذلك التحديد
إلا في ١٩١٦م. ثم أصيب ملَّاك الأراضي بخسارة اقتصادية أخرى في موسم ١٩١٨م، عندما احتكرت
الحكومة البريطانية محصول القطن في ذلك العام، فضلًا عن مخزون محصول ١٩١٧م، وأنقصت سعر
الشراء من ٦٤ ريالًا إلى ٤٢ ريالًا للقنطار. ارتفعت أسعار القطن — نتيجة لظروف الحرب
—
بما يصعب إغفاله. كما ارتفعت إيجارات الأراضي الزراعية، لكن إصرار الإنجليز على التحكم
في أسعار القطن واحتكاره، لم تُتحِ لهم الاستفادة من الأرباح الاستثنائية التي حققتها
الحرب، وكان لذلك كله تأثيره — في تقدير عبد العظيم رمضان — في إسهامهم الإيجابي في
أحداث الثورة.
٥٢٩ وعندما اقترب موعد قدوم لجنة ملنر، ألَّفت الأرستقراطية الزراعية المعادية
للحركة الوطنية، والتي أنشأت لنفسها خلال الثورة ما سُمِّي بنادي الأعيان، ألَّفت حزبًا
باسم
«الحزب الحر المستقل» رأسه محمد عرفي باشا، وأصدرت جريدة باسم «المنبر» شرح فيها فيلسوف
الحزب محمد إبراهيم هلال فلسفة الحزب، وهاجم «أولئك الذين نصبوا من أنفسهم أوصياء على
الأمة.»
٥٣٠ وكان اشتراط قانون الانتخابات المنبثق من دستور ١٩٢٣م، أن يكون من بين
المعيَّنين في مجلس الشيوخ كبار الملَّاك الذين لا تقل الضريبة التي يؤدونها عن مائة
وخمسين
جنيهًا كل عام، ثم رغبة كبار الملاك في اقتناء مساحات جديدة من الأراضي الزراعية، لربط
أكبر عدد من الفلاحين عليها، ومن ثَم زيادة فرص نجاحه. وكان لذلك تأثيره المباشر في
ارتفاع أثمان الأراضي إلى ما بين ألف وألف وخمسمائة جنيه للفدان الواحد، وارتفاع القيمة
الإيجارية ٢٠ و٢٢ و٢٧ جنيهًا للفدان الواحد.
٥٣١
وفي ١٩٢٧م تدهورت أسعار القطن إلى حد خسارة ٣٠ مليونًا من الجنيهات في أقل من عام،
وعجز المستأجرون عن تسديد الإيجارات، وطالبت الصحف أصحاب الأراضي بالتنازل عن أجزاء من
أجور أطيانهم. وكان سعد زغلول في مقدمة مَن أقدموا على تخفيض إيجار أراضيه، حيث تنازل
عن
ستة جنيهات من أجر كل فدان.
٥٣٢
•••
لقد تبدَّى تأثير الرأسمالية المصرية وأصحاب المصانع وأثرياء الفلاحين، في نداء الوفد
في ٢٢ يناير ١٩٢٢م إلى القوى الوطنية بمقاطعة البنوك الإنجليزية «وأن يودع المصريون
أموالهم في بنك مصر، كما أن الواجب على جميع المصريين أن يُقبِلوا على شراء أسهم بنك
مصر
حتى يبلغ رأسماله مبلغًا يتناسب مع حالة البلاد الاقتصادية، وبذلك يتسنى له أن يساعد
في
إحياء المشروعات الوطنية، وتنشيط الصناعة والتجارة المصرية، ويجب تفضيل المصنوعات
الوطنية، والإعلان عنها، وتشجيع الإقبال عليها، ويلزم تفضيل التعامل مع التاجر المصري،
أما التاجر الإنجليزي فيجب مقاطعته مقاطعة تامة.»
٥٣٣
وفي المقابل من التحرك العمالي، بدأ أصحاب الأعمال يكتِّلون أنفسهم، فتكوَّن في ١٩٢٣م
اتحاد الصناعات برئاسة إسماعيل صدقي وعضوية ٩٢ عضوًا من أصحاب رءوس الأموال. وقد عبَّر
عبد الرحمن فهمي عن فلسفة الاتحاد العام، والتي تتحدد في الوفاق بين العمال وأصحاب
الأعمال، في خطبة ألقاها في حفل افتتاح فرع الاتحاد العام بالفيوم: «وإن العامل الذي
يطمع فيما بيد أصحاب رءوس الأموال بلا حق، إنما يسعى لدمار بلاده وخراب سوقها
الاقتصادي … فإنا في حاجة لأن نثبِت للعالم أن العامل المصري متمسك بحقِّه فقط، فلقد
قبلت
زعامتكم لأدافع عنكم، وأحمي مصالحكم، فلا تنتظروا مني أن أحاول الحصول لكم على أكثر من
حقوقكم، فإني كما أدافع عن حقوقكم، أدافع عن حقوق الشركات معكم، ولو لم تكلفني هي ذلك،
لأن حماية مصالحها صيانة لمصالح بلادنا التي فتحت صدرها للأجانب، لتستفيد منهم،
ويستفيدوا لأنهم ضيوفنا، ولقد اشتهرتم بإكرام الضيف.»
٥٣٤ مع ذلك؛ فإن فكري أباظة يكتب (١١ يوليو ١٩٢١م) يدافع عن الأعيان من تعسف
الحكومات المصرية!
٥٣٥
الأمراء والأرستقراطية المصرية
بعد أن علت موجة الثورة، حاول أفراد البيت المالك أن يركبوها، أو تغرقهم مياهها.
وتفاوتت محاولاتهم تفاوتًا ما بين التأييد المعلَن للثورة، ومحاولة السطو عليها
واستلابها، فضلًا عن محاولات الدس للثورة، والقضاء عليها. وقَّع ستة من الأمراء على منشورٍ
يُدين الوجود الاحتلالي، ويطالب بالاستقلال، مما عرَّضهم لغضب السلطان فؤاد. وحين أعلن
الأمراء — وعلى رأسهم يوسف كمال — تأييدهم للحركة الوطنية، أدرك الوعي الوطني أنهم
أقدموا على تلك الخطوة تحسبًا للتوقعات التي لاحت مقدماتها.
٥٣٦ والملاحَظ أن المظاهرات لم تتوجه إلى السلطان فؤاد، ولم تُرفَع إليه العرائض
تدعوه للانضمام إلى الثورة، ذلك لأن الثورة لم تكن تتوقع من السلطان مساعدة من أي نوع،
بل إنها كانت تتوقع منه موقف العداء السافر.
٥٣٧ وقد حاول عمر طوسون أن يحتفظ لأسرة محمد علي بدورٍ في الحركة الوطنية، حتى
لا تبدو صورتها سيئة أمام الشعب المصري. وأصدر ستة من أمراء الأسرة المالكة، هم: كمال
الدين حسين، عمر طوسون، محمد علي إبراهيم، يوسف كمال، إسماعيل داود، منصور داود، أصدروا
بيانًا طالبوا فيه باستقلال مصر استقلالًا مطلقًا، بلا قيد ولا شرط، وأعلنوا انضمامهم
إلى الأمة المصرية «ليكون منا جسم واحد للمطالبة بحقوق وطننا، والتمسك بالاستقلال التام
لمصر.»
٥٣٨ ويقول سعد زغلول عن محاولات طبقة السراة المشاركة في الثورة: «إن الأمة
أجمعت أمرها قبل دخولهم على طلب الاستقلال التام، وسارت في الطريق شوطًا بعيدًا بدونهم،
كأنهم لم يكونوا موجودين، فدخولهم في الحركة بعد ذلك إن لم يكن لصالحٍ يبذلونه، أو توكيل
يعطونه، فما تكون الفائدة من انضمامهم الآن؟ وهل يُستنتَج من ذلك أنهم أرادوا المنازعة
في
الزعامة لتكون الرياسة لهم؟»
٥٣٩ وفي رسالة من عبد الرحمن فهمي إلى سعد زغلول: «لما حامت الظنون حول مسلك
الأمير طوسون نحو الوفد وخطته أردت أن أقف على الحقيقة تمامًا، فطلبت من إخواني الذين
توجهوا إلى الرحمانية أن يضعوا في برنامجهم موعدًا لزيارة الأمير عمر، ويتكلموا معه؛
فإن وجدوه مؤمنًا بأعمال الوفد يطلبون منه مساعدته المالية، وبذلك يقضي على كل ظن سيئ
نحوه. وبالفعل زاروه وتكلموا معه طويلًا، فقال لهم بصريح العبارة إنه ليس لديه ثقة في
نتيجة أعمال الوفد. بذلك ترون أن الرأي القائل باشتراكه مع سعيد، وبأنه المورد الثاني
الذي يدر عليه المال فكر صائب، ولولا ذلك لاعتقدت ما جال بخاطركم بعد تلاوة مكتوب
الأمير عمر، وطبعًا هذا لا يمنع من أن يكون سعيد مستعينًا أيضًا على أعماله الشيطانية،
ومتماديًا على نفش سمومه بنقود الإنجليز. وعلى كل حال، فالأمر يهون متى وجدت لدينا
الوسائل الطافية لاستمرار عملية الكفاح اللازمة لقطع دابر هذه السفاسف، وإلا ساءت الحال
والعياذ بالله.»
٥٤٠
البدو
يؤكد تقرير بريطاني أن بدو الصحراء لم يشتركوا في الاضطرابات.
٥٤١ لكن الفنانة، تشير إلى أن البدو أظهروا من الوطنية الصادقة «ما تعجز القصص
عن وصفه، والأقلام عن تصويره.»
٥٤٢ مثل إيواء الثوار في خيامهم، وإعارتهم ملابسهم ليتنكروا فيها، وتقديم ما
لديهم من طعام. وكان فرجاني واحدًا من زعماء البدو الذين تعاطفوا مع الثورة، وأيدوها
بما وسعهم.
٥٤٣ وتبيِّن «مآذن دير مواس» عن الدور الإيجابي الذي قام به البدو في مناصرة
الثورة، سواء بالمشاركة الفعلية، أو بإخفاء الثوار،
٥٤٤ فقد تناقص عدد المعتقلين من ثوار دير مواس من ٩٦ ثائرًا إلى ثمانين، بعد أن
ساعد البدو الآخرين على الفرار.
٥٤٥
الجاليات الأجنبية
كان عدد الأجانب في بداية ١٩٨٩م؛ ٦٢٩٧٤يونانيًّا، ٣٤٩٢٦ إيطاليًّا، ٢٠٦٥٣
إنجليزيًّا، ١٤٨٩١ فرنسيًّا، ٧٧٠٥ نمساويين، ٢٤١٠ روسيين، ١٨٤٧ ألمانيًّا، ١٩٥٨
من الجنسيات الأخرى. وقبل ثورة ١٩١٩م كان عدد الأجانب الذين يفيدون من الامتيازات نحو
١٥٠ ألفًا. وكانوا يسيطرون على الحياة الاقتصادية في البلاد جميعًا، سواء كانوا من
المصدرين أو المستوردين أو باعة جملة، أو أصحاب متاجر ومطاعم. بل إن قسمًا كبيرًا من
المحال الصغيرة كان يملكها أجانب، فاليونانيون يحتكرون البقالة، والمنسوجات الصوفية
والقطنية والبياضات والفحم يكاد يحتكرها الإنجليز، والسجائر تجارة الأرمن، والمشروبات
الروحية نشاط اليونانيين والإيطاليين.
٥٤٦ كما كانت الجالية الأرمنية متخصصة في صناعة الكليشيهات، بل احتكرت تلك
الصناعة.
٥٤٧ لقد وفد على مصر — كما يشير فكري أباظة — جيش جرار من الإنجليز «زاحمنا حتى
في أصغر وظائف مصرنا العزيزة.»
٥٤٨ ويقول إبراهيم رشاد: «لم أكن أدرك في ذلك الحين — مطالع القرن العشرين — أن
الإنجليز كانوا في مصر إلى هذا الحد من النفوذ، إلا عندما سألت المستر ماكيلوب: ومن هو
وزير الزراعة؟ فأجاب من فوره: لا عليك منه. أنا الوزير الفعلي، أما الوزير المصري فهو
فلان باشا.»
٥٤٩ وفي ٢٢ يناير ١٩٢١م نشرت الصحف البريطانية نبأ تأليف الموظفين الإنجليز
العاملين في خدمة الحكومة المصرية، نقابة أو رابطة لرعاية مصالحهم، وحتى لا يتعرضوا
لمساءلة، أو لطرد، في ظل أية حكومة، أو أي تغيير يطرأ على الإدارة المصرية، نتيجة
للمفاوضات الرسمية المقبلة.
٥٥٠ وكان النبأ — في تقدير سعد زغلول — ينطوي على خطورة بالغة، فقد كان
الإنجليز يشغلون جميع وظائف المستشارين في الوزارات المصرية ومديري العموم وسكرتاريي
العموم وسكرتاريي المالية، وجميع الوظائف الرئيسية في الجيش والبوليس ووظائف
المراقبين ورؤساء الأقسام … إلخ. وكان حوالي ٤٠٪ من مرتبات موظفي الدولة تذهب إلى
الموظفين الإنجليز الذين بلغت نسبتهم ١٥٪ من مجموع موظفي الدولة.
٥٥١ وحتى ١٩٣٠م — كما يروي سلامة موسى — لم يكن ثمة متجر واحد في شارع فؤاد
يملكه مصري. كانت متاجر الشارع كلها يملكها أجانب، ومن ثَم فقد بدأ سلامة موسى دعوته
إلى
المصرية في كل مظاهر حياتنا، وكوَّن جمعية «المصري للمصري»، وفي مقدمة أهدافها أن تكون
ملابس كل مصري صناعة مصرية، ما عدا الطربوش.
٥٥٢ وعلى الرغم من الصورة الهزلية التي رسم بها الريحاني شخصية كشكش بيه؛ فإن
تلك الشخصية أدانت النفوذ الأجنبي، كما في مسرحية «إش» التي فقد فيها كشكش بيه كل ماله
في الخمر والقمار، فاضطر إلى عرض أملاكه في المزاد العلني الذي تولاه الخواجة بعد أن
أقرضه النقود.
٥٥٣ ثمة — على سبيل المثال — في قصة «الحب الأصفر» لمحمود كامل حائكة الثياب
الإيطالية، والبقال اليوناني، والبائعة اليهودية!
٥٥٤ وكان أشهر أطباء المحلة «حكيمًا روميًّا».
٥٥٥ ويشير الفنان إلى اللافتة التي كان يراها سنة ١٩٢٧م في أحد شوارع منفلوط،
كُتب عليها كلمتان «حكيم فرنساوي»، دون ذكر الاسم أو فرع التخصص، فكلمة فرنساوي تغني
عن
أي شيء آخر!
٥٥٦ ويروي محجوب أفندي (قلوب خالية) قصة تكوين الخواجة ميشو لثروته: «كان
حلواني في بنها … حلواني إيه يعني جارر عربية يد قدَّام مدرسة البنات. بقى يحط القرش
على
القرش ويسلف الجنيه بريال. وأهل الكفر كلهم عارفينه. إن شا الله ينقطع لساني إن كنت
باكدب. قدر ياخد فدان ورا فدان، كله رهينة وحياة النبي. عارفين الفدانين اللي انتم
مأجرينهم من الخواجاية يا سي إبراهيم … دول بتوع أبويا، أبوك عارف حلاوتهم، وعلشان كدة
عمره ما يختار غيرهم … ويدفع فيهم اللي تطلبه المزمازيل الخواجاية ماريا. القصد، الخواجة
ميشو شم نفسه شوية قام دخل في تجارة القطن في الحرب اللي فاتت، كانت السوق بتودي وتجيب،
تعلى أعلى عليين، وتنزل أسفل سافلين.»
٥٥٧ أما خريستو (الماء العكر) فقد هبط — منذ سنوات بعيدة — تلك المدينة الريفية
على بحر شبين، وافتتح قهوة جعل يبيع فيها لأبناء البلدة كل شيء، حتى القروض لم يكن
يصدُّهم عن طلبها، ثم أصبح دائنًا لمعظم أعيان المدينة وصعاليكها، ونسائها
أيضًا.
٥٥٨ من هنا، كان تصرف أحد الفلاحين، رفض الخواجة اليوناني رد سندات دين دفعه له
الفلاح، فقتله الفلاح بضربه بالفأس على رأسه.
٥٥٩
وكانت الجاليات الأجنبية في الإسكندرية أضعاف عددها في القاهرة، حتى إن جريدة «وادي
النيل» طالبت بأن ينفذ اقتراح إنشاء مسرح فرنسي يعرض مسرحيات الكوميدي فرانسيز وغيرها
من الفرق المسرحية الفرنسية، بعد عرضها في العاصمة الفرنسية مباشرة. واقترحت الجريدة
أن
ينفذ ذلك في الإسكندرية، لأنه «بالنظر إلى الأجناس التي تسكنها، وإلى ثقافتها، فهي أجدر
بأن تكون صاحبة ذلك المسرح من القاهرة.»
٥٦٠ ويروي محمد فريد أنه في خلال مايو ١٨٩٤م، شرعت الحكومة المصرية في إبطال
الرقص من المقاهي والمحال العمومية، مراعاة للآداب العامة، وأصدرت أوامرها بذلك، فامتنع
الرقص ما عدا في محل واحد، لأن الراقصة كانت زوجة لجزائري يحمل الجنسية الفرنسية. فلما
رأت الراقصات ذلك أصبحن يتزوجن بمغاربة يحملون الجنسية الفرنسية. وبذلك عاد الرقص إلى
«ما كان عليه وزيادة، بواسطة وكيل الدولة الفرنسية الذي كأنه لم يوجد بمصر، إلا لحماية
الفسق والفجور، وهذه من بعض امتيازات الأجانب بمصر.»
٥٦١ بل إن الأجانب — في ارتكابهم للجريمة — كان ينزلون سجن الأجانب الذي يقتصر
على الأجانب المتمتعين بالامتيازات الأجنبية، حيث تتوافر فيه أسباب الراحة أكثر مما
يوجد في كافة السجون المصرية. ويشير جاكوب دي كومب إلى أن التكلم بالعربية ظل — إلى
أواخر العشرينيات — أمرًا مشينًا بالنسبة للأجانب المقيمين في مصر.
٥٦٢ وكان المواطن المصري — قبل إنشاء المحاكم المختلطة — يضطر إلى تقديم دعواه
ضد أي أجنبي، إلى قنصل الدولة التي يتبعها الأجنبي، وكل قنصل ينفذ قانون حكومته هو لا
القانون المصري. فإذا حدث وكان المدعى عليهم من أجناس مختلفة، يتعين على المصري أن
يخاصم كل واحد منهم بدعوى مستقلة أمام محكمة قنصلية. وإذا أراد تقديم استئناف بعد الحكم
الابتدائي، فلا بد أن يسافر إلى إحدى عواصم أوروبا لتوكيل محام يرفع له
الاستئناف.
٥٦٣ ثم أنشئت المحاكم المختلطة، وتضخمت، حتى أصبح فيها نحو ٧٠ قاضيًا، في
خدمتهم ١٤٠٠ موظف. وبلغ الأمر أن الحكومة المصرية كانت تخضع لهذه المحاكم، ولم يكن من
حق أية سلطة أن تفرض على الأجنبي في مصر أي قانون بدون إذن المحكمة المختلطة. وعلى
الرغم من اعتراف أنطونيو (أزهار) بأنه طعن مصريًّا بسكين؛ فإن الحماية التي كان يتمتع
بها الأجانب أوصلته إلى دار القنصلية الإيطالية، حيث أطلق سراحه!
٥٦٤
•••
كانت البنوك البريطانية قد وطدت أقدامها قبل ضرب الإسكندرية، وبدء الاحتلال، سيطرت
بصورة تامة على الاقتصاد المصري. وكان احتلال العناصر الأجنبية للوظائف المهمة في
الدولة عاملًا في ثورية الطبقة المثقفة، مثلما كانت مطالب الفلاحين والعمال الاجتماعية
عاملًا في اشتراكهم في الثورة.
لقد بدأ أحمد منصور (الخيط الأبيض) يراجع علاقته العاطفية بلورا الإنجليزية «إن بحرًا
من الدماء يحُول بينه الآن وبين مَن تعلقت آمالها به. لم يعُد رأيه في الإنجليز الآن
مستمدًّا مما قرأ، أو مما سمع، ولكنه شاهدهم اليوم يسكتون الشبان الذين يهتفون للحرية
بنيران مدافعهم الرشاشة، إنهم لا يطيقون سماع كلمة الحرية ما دامت تحد من حريتهم. ليت
لور كانت هنا لتر كيف أصبحت بسماتهم اللطيفة، وإشاراتهم الرقيقة، وأساليبهم
المتحضرة.»
٥٦٥ وقال أحمد منصور لشقيقته منى: «أحس كأن نفسي خُرِّبت خرابًا شبيهًا بمدننا
وقرانا. كم أمقت أولئك الإنجليز، ولكن لماذا؟ لماذا لا أستطيع أن أعفي لورا من مسئولية
ما ارتكبوا؟!»
٥٦٦
وكان من الظواهر الإيجابية — من قبل اندلاع الثورة — مناصرة غالبية الجاليات الأجنبية
للحركة الوطنية المصرية، وللمواطنين المصريين: ثمة ستادرو الذي أنقذ الأسرة في «الشارع
الجديد» من الأزمات، حتى إنه أقرض «علي» مبلغًا من المال ليدخل ابنه خالد المدرسة
الحربية، دون ربًا، رغم أن تلك كانت مهنته.
٥٦٧ وكانت الحماية التي يتمتع بها صديق علي يونس اليوناني، هي المخرج الذي غادر
منه الحاج أكرم أزمة التخلص من الأمر الصادر بالحجز على المحل، فقد استأجر الرجل المحل
— صوريًّا — حتى إذا حاولت الدولة تنفيذ الحجز بطل ذلك، لأنه مؤجر لأجنبي!
٥٦٨ واتخذت بعض الصحف الأجنبية موقفًا مشرفًا في قضية مقتل بطرس غالي، حيث أيدت
طلب الإفراج عن إبراهيم ناصف الورداني، باعتباره شابًّا وطنيًّا، كما أيدت الطلب جاليات
أجنبية، في مقدمتها الجالية الإيطالية.
٥٦٩ وثمة أفراد من الأجانب أظهروا التعاطف والمساندة للقضية الوطنية المصرية،
مثل ماكنيل الأيرلندي في رواية «طلائع الأحرار».
٥٧٠ وتجلَّت مساندة أفراد من الأجانب للحركة الوطنية المصرية، في المجموعة
القصصية «في خمسة فصول» التي صدرت عام ١٨٩٩م للأديب اليوناني يوافي جيكا، وتنطوي على
تنديد
بالاحتلال البريطاني.
حتى لورا الإنجليزية، أمسكت بالقلم، وكتبت لصديقها المصري أحمد منصور: «كم أنا خجلى
مما يحدث هذه الأيام، ومن دفاعي السابق عن المعتدين. لقد خيَّبوا ظني، وأيَّدوا ظنك.
إنهم
يذلُّون شعبهم بعدوانهم الذي يزعمون أنه يحقق له المجد، أي مجد هذا؟ كم أشعر بالمذلة
والهوان، اغفر لي ما سلف.»
٥٧١ وعندما حدث اعتداء على محلَّين للبقالة، أحدهما في المنصورة، والآخر في
سمنود، قدَّر الأول خسارته بسبعمائة جنيه، وقدَّرها الثاني بمائتين وخمسين من الجنيهات،
فاكتتب بها بعض المصريين، ودفعوهما لهما في الحال. وأثبت بعض أصحاب المتاجر من
الأوروبيين أن رجال البوليس السري كانوا يحرِّضون الغوغاء في أثناء المظاهرات، على
الاعتداء على متاجر الأجانب، بل كانوا — أي رجال البوليس — يعتدون عليها بأنفسهم. كذلك
حاولت قوات الاحتلال دفع المتظاهرين إلى حرق مصانع السكر الفرنسية، لكن قوات البوليس
المصري أحاطت بها لحمايتها. وكما يقول اللورد اللنبي، فقد كان إقدام مواطن مصري على قذف
عربة، فلم تصب السيدة الإنجليزية في داخلها بأي أذى … كان ذلك الحادث أول مرة يُعتدى
فيها
على امرأة «في كل السنوات الثلاث الماضية.»
٥٧٢
والملاحظ أنه عندما وقعت بعض الحوادث التي كان من الصعب منعها، مثل الاعتداء على
بعض
المحال التجارية المملوكة للأجانب، أصدر الطلبة المصريون — في اليوم التالي مباشرة —
منشورًا أذاعوه في الصحف، يعربون فيه عن أسفهم «لما وقع من الغوغاء عند قيامنا
بمظاهرتنا السلمية، التي ما قصدنا بها إلا إظهار عواطفنا وشعورنا، مع محبتنا لمواطنينا
الأجانب الأعزاء.» وتعليقًا على القلاقل التي حدثت بالإسكندرية ضد الأجانب في مايو
١٩٢١م، أكد العديد من الزعامات المصرية «أن هناك آلافًا من العائلات الأوروبية، موزَّعة
فوق متسع البلاد المصرية، بحيث لا قرية إلا وفيها تاجرها الأوروبي يعيش مع عائلته عيشة
هادئة وسط سكان كلهم من الأهالي، ولا مدينة في الأرياف إلا وفيها عدد من التجار
الأوروبيين وسماسرة القطن ورجال الأشغال الذين يرون مدارسهم وكنائسهم وأديرتهم … إلخ،
تعيش وتنام في جوها الطلق.»
٥٧٣
أما زوج ماريانا — ميرامار — فقد كان واحدًا من الضباط الإنجليز الذين صرعتهم أحداث
الثورة «قتله طالب من الطلبة الذين أخدمهم اليوم.»
٥٧٤
•••
على الرغم من انضواء الشام في دولة الخلافة، فقد كانت النظرة إلى الشوام — في تقدير
الكثير من المثقفين المصريين — على أنهم أجانب (لم تكن الهوية القومية قد تأكدت بعد)،
وهو ما يبين في مقالات النديم التي تحدثت عن غلبة النفوذ السوري واللبناني، وفي الكثير
من المقالات الأخرى، التالية. ربما تجد تلك النظرة تأكيدًا لها في إقدام الحاج محمد
مرزوق (الأسرة المنكودة) على إعداد حقائبه — تحسبًا لتطورات الثورة — للعودة إلى
الشام.
٥٧٥
عرف الأرمن طريقهم إلى مصر منذ قدم إليها الوزير الأرمني بدر الجمالي، وما تمتع به
من
سلطات مطلَقة فاقت سلطات الخديو نفسه.
٥٧٦ وعقب نشوب الحرب العالمية الأولى، شعر الأرمن أنهم مضيعون إثر ضياع بلادهم
في أحداث الحرب، لذلك كان لجوء أعداد منهم إلى مساعدة السلطات البريطانية ضد الوطنيين
لقاء مكافآت خصصتها تلك السلطات لهم.
٥٧٧ وقد تخوَّف الأرمن بشدة، إثر نشوب الثورة، من أن تؤذيهم كما حدث في الثورة
التركية. كان المصريون «المسلمون» — على حد تعبير الأرمن — امتدادًا بديهيًّا
للأتراك.
٥٧٨
وفي أحداث الثورة، انتشرت الشائعات بين الوطنيين أن أعدادًا من الأرمن المقيمين في
مصر، يشاركون القوات الإنجليزية تصديها للمظاهرات، وقتل المتظاهرين. وقد أطلق أرمني
الرصاص على المتظاهرين في شارع محمد علي، فقتل واحدًا منهم. وثار المتظاهرون، وهجموا
على البيت الذي أطلق منه الرصاص فأحرقوه، وتدخل الجنود الإنجليز فقتلوا برصاصهم تسعة
من
المتظاهرين، وجرحوا كثيرين.
٥٧٩ وكما يقول الراوي (مذكرات منسية) فقد كان الأرمن يشعرون بأنهم يضيعون بعد
أن ضاعت أرضهم في أرمينيا بسبب الحرب العالمية الأولى، فلجأ الكثير منهم إلى السلطات
البريطانية لمعاونتها ضد المواطنين لقاء المكافآت السخية التي كانت تدفعها تلك
السلطات.
٥٨٠ وقد هاجمت بعض المتظاهرات التي تشكَّل غالبيتها من العامة، ممتلكات الأرمن
«الخونة ناكري الجميل»، فنهبوا ما بها، وانهالوا على من كان من بها من الأرمن ضربًا
بالشوم، ودمروا أكثر من ٥٥٠ بيتًا ومحلًّا تجاريًّا، وقتلوا ٦٠، تعرَّف ذووهم على ٢٠
فقط،
بينما لم تُعرَف هوية الباقين لأنهم كانوا من الأيتام، بالإضافة إلى ٢٥ جريحًا.
٥٨١ وقد تعرض سعد زغلول — إبان توليه رئاسة الوزارة (٢٨ يناير–٢٤ نوفمبر ١٩٢٤م)
إلى محاولة اغتيال على يد عبد اللطيف عبد الخالق الطالب المصري بجامعة برلين. ورغم القبض
على الجاني؛ فإن الشائعات أكدت أن الجاني أرمني أراد الإساءة إلى القضية المصرية. وأدرك
سعد زغلول هدف الشائعات فأصدر أمره لتوفيق نسيم وزير الداخلية بالنيابة كي يطمئن
الجماهير الغاضبة. كما أرسل مطران الأرمن في مصر توركوم كوشاجيان إلى سعد زغلول يدين
الحادث، ويوضح براءة الجالية الأرمنية منه. ووصف مكرم عبيد الحادث بأنه من عمل فرد أو
أفراد كلَّ الحقد صدورهم ونبش الحسد قبورهم، أرادوا أن يتخلصوا من سعد، «فوجهوا إلى صدر
أبي الشعب، وهو بين أحضان الشعب، رصاصة لم يكد يطلقها الجاني حتى أذاعوا في طول البلاد
وعرضها، أن القاتل أرمني، ولم يكن غرضهم إلا إذكاء نار الثورة ليرقصوا على لهيبها، وهدم
معالم النهضة ليقيموا قصورهم على أنقاضها.»
٥٨٢
وكان المعلم كرشة (زقاق المدق) من أبطال المعارك الدامية التي دارت بين الثوار من
ناحية، والأرمن واليهود من ناحية ثانية.
٥٨٣ ويلاحظ محمد رفعت الإمام أن عمليات الهجوم على الأرمن لم تكن عشوائية، بل
اتسمت بالتنظيم المحكم؛ فقد أعدت كشوف بأسماء الأرمن وأرقام المساكن التي يقطنونها.
وأُخلي بالفعل ألف منزل في القاهرة وضواحيها من سكانها الأرمن.
٥٨٤ وقد عمَّقت سلطات الاحتلال من ثورة المصريين بوضع تجمعات الأرمن تحت حراسة
قواتها، وعمق الفزع — في الوقت نفسه — في نفوس الأرمن. ثم أقامت السلطات البريطانية
مخيمًا للأرمن الفارين من أعمال العنف، ولإقناع الرأي العام الدولي بعنصرية المصريين
وكراهيتهم للأجانب. وعلى الرغم من تأكيد راعي الأرمن أن الحكمة لن تنقص المصريين في
انتظار تنميتهم الحقيقية ورفاهيتهم، على أيدي الحماية البريطانية العادلة، فإنه لا
يخلو من دلالة إيجابية اشتراك ممثلين للأرمن في استقبال سعد زغلول عند عودته إلى مصر
يوم ٥ أبريل ١٩٢١م.
٥٨٥
وعقب الثورة، أسس الأرمن «الاتحاد القومي للأرمن المصريين» بهدف توثيق الروابط بين
المصريين والأرمن لأن «الويلات التي حلَّت بالطائفة الأرمنية لم تكن إلا نتيجة لسوء
تقديرها، والجهل بالمصالح الحقيقية التي تربطها بالأقطار التي تقطن بها.»
٥٨٦
•••
على الرغم من أن دور الجالية اليونانية — أو الرومية في تسمية المصريين — في حياة
المصريين لم يكن إيجابيًّا بصورة مطلقة (أذكِّرك برواية السحار «قلعة الجبل») حتى إن
فكري
أباظة عاب عليهم تحويل بعض المديريات المصرية إلى «مستعمرات رومية». إنهم هم الملاك،
وهم المزارعون، وهم دون غيرهم أصحاب المصالح الحقيقية، لم يرثوا ما ورثوه عن آبائهم
وأجدادهم، فهؤلاء كانوا من ملاك الإسفنج والسردين والبحر الأحمر، لكنهم ورثوا الأطيان
المصرية من مدينيهم البسطاء الأغبياء، بل إن فكري أباظة وجد احتلال الأروام أدهى وأمر
من احتلال الإنجليز.
٥٨٧ ويقول روذاكيس في رواية «أوديسا العصر الحديث» لليوناني ميشيل بيريذيس: «إننا
ننتمي إلى أصل واحد، وكان من وراء ذلك أن حققنا في مصر ما عجزنا عن تحقيقه في بلادنا،
أنشأنا وطنًا واحدًا لكل اليونانيين.»
٥٨٨
كان أبناء الجالية اليونانية — ويسمون الأروام — يمشون مع المصريين في مظاهراتهم
التي
تنادي بالاستقلال، وانضم الموظفون والعمال اليونانيون إلى الموظفين والعمال المصريين
في
الإضراب.
٥٨٩ ويشير الفنان (يوميات نائب في الأرياف) إلى أن بعض الأروام/اليونانيين
ارتدوا جلباب الفلاحين، فلم يفترقوا عن أبناء القرى التي فتحوا فيها دكاكينهم أو حانتهم
إلا بلون العينين والشعر.
٥٩٠ وكان أفراد الجاليات الأجنبية الأخرى يراقبون عن كثب — آمنين — مخاض أمة
تلد حريتها واستقلالها.
•••
يرجع بعض المؤرخين بواعث زيادة الوجود الإيطالي في المدن المصرية، إلى تعامل التجار
الإيطاليين مع السواحل المتوسطية العربية — بما فيها مصر — طيلة العصر العثماني، بعد
أن
انصرف عنها تجار غرب أوروبا في تعاملهم مع الشرق، عقب التحول إلى طريق رأس الرجاء
الصالح أواخر القرن الخامس عشر، وظلت خطوط البحر المتوسط التجارية حكرًا على
الإيطاليين.
٥٩١ وقد شاركت الجالية الإيطالية في مساندة الثورة، بوضع أمنويل بالدي أول كتاب
بالإيطالية عن الثورة المصرية — ١٩٢٠م. وكان رايموند مالسي، المدرس بالمعهد الإيطالي
العالي، يخطب في الأزهر، كما قتل الموسيقار الإيطالي مارانجواني في مظاهرات
القاهرة.
٥٩٢
•••
وعلى الرغم من المكاسب النسبية التي تحققت للعنصر الوطني، مقابلًا للتقلص النسبي
— في
المقابل — للعنصر الأجنبي؛ فإن الكثير من أبناء الجاليات الأجنبية تجنسوا بالجنسية
المصرية، لكن الأمر لم يجاوز المظهر العام، «كل واحدة منها تحتفظ بسحنتها
وميولها.»
٥٩٣ وكان مما يتلهى به الزوار — على حد تعبير مراسل «التيمس» في الإسكندرية —
«أن يحصوا الموظفين الأوروبيين القاعدين، الذين يتقاضون آلاف الجنيهات، في الوقت الذي
لا يستطيع فيه مئات من موظفي الحكومة الوطنيين، الحصول على مرتبات قليلة متأخرة من
العام الماضي.»
٥٩٤ وكانت الوصية التي حملها الراوي (الأعرج في الميناء) وهو في طريقه لاستئجار
غرفة مفروشة عند سيدة أجنبية في بور توفيق، أن يكلمها بلغة أجنبية حتى تتصور أنه أجنبي،
لأنها لا تسكِّن المصريين!
٥٩٥ ويقول لويس عوض: «كنا لا نرى من كل مائة سحنة تسير في شارع قصر النيل أو
سليمان باشا أو فؤاد الأول، إلا ثلاثين أو أربعين سحنة مصرية، أما الباقون فقد كانوا
من
الأجانب المحليين.»
٥٩٦ وفي مواجهة تعاظم الوجود الأجنبي، طالب محمود كامل المحامي بتعديل القانون
المدني المصري، بحيث يحرم — صراحة — تملك الأجانب لعقارات في مصر. كما طالب بإصدار
قانون يمنع الهجرة إلى مصر لطوائف العمال وأصحاب الحرف، فضلًا عن إبعاد العمال الأجانب
الذين يعيشون عالة على المجتمع المصري.
٥٩٧
وإلى العشرينيات، كان نشاط الأجانب مقتصرًا على الصناعة والتجارة والخدمات، بحيث
فاقوا في ذلك إسهامات المصريين، ثم اتجهت جهود الأجانب إلى تكوين شركات زراعة الأراضي
واستصلاحها.
٥٩٨ من هنا، كانت دعوة الوفد (٢٣ /١/ ١٩٢٢م) إلى مقاطعة البنوك الإنجليزية،
وأن يودع المصريون أموالهم في بنك مصر، ويتعاملوا مع التاجر المصري، ويشجعوا الصناعة
المصرية.
٥٩٩ وبعد تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢م دفعت الحكومة المصرية مبالغ طائلة كتعويضات
للموظفين الأجانب الذين حل — بدلًا منهم — موظفون مصريون.
٦٠٠
وقد أظهر تعداد ١٩٢٧م أن أهم الجنسيات الأجنبية في مصر هي: اليونانيون (٧٦٢٦٤)
والإيطاليون (٥٢٤٦٢) والبريطانيون (٣٤١٦٩) والفرنسيون (٢٤٣٣٢) والروس (٢٤١٠)
والنمساويون (١٢١٧) والإسبان (٢٣٦٥) والهولنديون (٤٤٧) والسويسريون (١٣١١) والبلجيك
(٤٨١) والأمريكان (١٣٨٩) والألمان (١٤١٦).
•••
ماذا كان موقف الطائفة اليهودية من أحداث الثورة؟
مبعث السؤال ذلك الهجوم الذي شنَّه المتظاهرون في حارة اليهود، حيث اقتحموا الحوانيت
التي يملكها تجار يهود، وأحرقوا اثنين منها.
٦٠١
لعلنا إذا أهملنا عجز جماعات اليسار الواضح عن تفهم طبيعة المجتمع المصري، وتسلل
بعض
«النوعيات» غير المخلصة إليها، وتأثرها في نظرتها للواقع العربي بتيارات تتباين مع هذا
الواقع، فلعل أفضل ما كان يمثِّله اليسار — كما يقول محمد أنيس — إنه كان يدرك أن المرحلة
المقبلة من الحركة الوطنية تتطلب مضمونًا اجتماعيًّا، وليس سياسيًّا فقط.
٦٠٢ بالإضافة إلى ذلك، فقد كان العديد من القيادات الشيوعية في تلك الفترة، وفي
مقدمتهم: شارلوت وجوزيف روزنتال وشالوم بولاك وهارون وينبرج وريدل هاسليك وليون الكونين
وقسطنطين فايس … كان هؤلاء وغيرهم يتسترون برداء الشيوعية، إخفاء لحقيقتهم
الصهيونية.
٦٠٣ وروى إدوارد ليفي أنه عندما تكوَّنت لجنة مكافحة العداء للسامية — ١٩٣٣م —
وكان مؤسسوها من اليساريين، بدأ الصدام بينهم وبين الحركة الصهيونية، فقد كانت الحركة
ترفع شعار خلاص اليهود بالكفاح ضد الفاشية، بينما كان شعار الحركة الصهيونية خلاص
اليهود بالهجرة إلى فلسطين.
٦٠٤ ويُعَد ليون كاسترو مثلًا للصهيونيين الذين توسَّلوا بالشيوعية لضرب الفاشية،
وكما يقول جاكوب دي كومب فإن «مثل هذه التركيبات كانت موجودة بكثرة في هذه الأيام»
(الثلاثينيات).
٦٠٥ ويتحدث محمد دويدار عن انطباعاته في جامعة كادحي الشرق بموسكو بأن المجموعة
العربية كانت محط اهتمام العناصر اليهودية الأصل، وكان المصريون أقلية (حوالي ١٢
شخصًا). وكان هناك حوالي ٣٠ فلسطينيًّا، وآخرون من الجزائر ومراكش والعراق وسوريا، ولكن
كانت غالبية هؤلاء من اليهود، وكان المصريون وحدهم هم الذين لم يكن بينهم يهود، كما كان
معظم الإداريين والمترجمين من اليهود «وكانت لنا نحن المصريين وجهة نظر في ذلك، وأعلنَّا
أن هذا التكوين لا يتلاءم مع طبيعة ظروف البلدان العربية، وكذلك كنا نحن المصريين
حريصين على أن نتعلم اللغة الروسية بسرعة، فأدركنا أن المترجمين لا يعرفون اللغة
العربية معرفة جيدة، وأنهم يترجمون ترجمة رديئة.»
٦٠٦
وعلى الرغم من أن محاولات الصهيونية أن تفيد من التنظيمات الماركسية؛ فإن الحزب
الشيوعي المصري — في تقدير رفعت السعيد — كان أول الأحزاب المصرية التي أدركت خطر
الصهيونية، وأعلنت عليها حربًا لا هوادة فيها.
٦٠٧
المتفرجون
على الرغم من جنوح ياسين «بين القصرين» إلى السلبية في متابعة أحداث الثورة، فالحقيقة
أنه كان تعبيرًا عن موقف البعض من الثورة. كان يبغض الإنجليز مثلما يبغضهم المصريون
جميعًا، لكنه — في قرارة نفسه — كان يحترمهم ويجلُّهم حتى ليخيل إليه كثيرًا أنهم من
طينة
غير طينة البشر.
٦٠٨ وكان موقفه الوطني يتحدد في الفرجة على ما يجري دون ارتباط أو إحساس
بالمسئولية أو المشاركة. ويقول كمال عبد الجواد لإسماعيل لطيف (بين القصرين): «أنت لا
تهمك السياسة في شيء، لكن مزاجك يفصح أحيانًا عن موقف فئة من المحسوبين على المصريين
كأنك ناطق بلسانهم. تراهم يائسين من نهوض الوطن، يأس الاحتقار والتعالي، لا يأس الطموح
والتطرف. ولولا أن السياسة مطية لأطماعهم لاعتزلوها كما تفعل أنت.»
٦٠٩ ثمة البعض ممن آثروا «تلاوة القرآن ولزوم المحراب»، بمعنى أنهم اختاروا
السلبية طريقًا وموقفًا، فلا شأن لهم بما يدور من أحداث. كان حازم سرور عزيز واحدًا من
هؤلاء الذين لا يعرفون اسم رئيس الوزراء وقت الثورة، ولا ينظرون في الصحف، ولا يصل إلى
وجدانهم أي موجة من بحر الأحداث التي يضطرب بها الوطن.
٦١٠ واعترف حنفي (عودة الروح) ببساطة: «أنا ما ليش في السياسة.»
٦١١ ويقول محمود درويش (المرايا) لزملائه المشتغلين بالسياسة: «كيف تجدون
متسعًا بعد ذلك للدراسة؟ فيجيبه طالب متعجبًا: «كأن الإنجليز يحتلون وطنًا غير وطنك،
وكأن الملك يستبد بشعبٍ غير شعبك!»
٦١٢ ويسأل خليل زكي عن شهيد في الثورة: لمَ قتل ذلك المجنون نفسه؟
– في سبيل الاستقلال.
– وهل كان الإنجليز يقيمون فوق صدره؟!
٦١٣ ويرد أحد الذين يكتفون بالفرجة على التساؤل: عجيب ألا تهتم بما يصهرنا حتى
الذوبان! يرد بقوله ضاحكًا: للوطنية رجالها، لست منهم، وإن تمنيت لهم
النجاح»!
٦١٤ ومع أن حليم عبد العظيم داود (حديث الصباح والمساء) كان ضابط شرطة؛ فإن
الثورة مرَّت به «وكأنها فيلم مثير يشاهده في إحدى دور العرض»، فضلًا عن أنه لم يعرف
طيلة
حياته انتماء إلا إلى اللهو والعربدة والمزاح والطرب.
٦١٥
العملاء
كان مبعث احتقار عبد العظيم داود (حديث الصباح والمساء) للوطنية، ولثورة ١٩١٩م
تحديدًا، حماس الفقراء لها، «وسرعان ما لاذ بجناح الخارجين عليها مع أبيه
وأسرته.»
٦١٦ وظل الرجل من المتشككين في إمكانية تحمُّل المصريين أعباء الاستقلال، وكان
يقول: «حسبنا استقلال ذاتي، ولكننا بدون حماية الإنجليز نضيع بلا رحمة.»
٦١٧ ويقول: «المجانين لا يعرفون معنى الاستقلال. الاستقلال مسئولية ضخمة، من
أين لنا الإنفاق على الدفاع؟ أليس الأفضل أن نترك ذلك للإنجليز، ونتفرغ لإصلاح
أحوالنا.»
٦١٨ وكان الكثير من نساء الوجهاء والأعيان يزُرن زوجة المندوب السامي، ويقدمن
لها الهدايا، ويحصلن بذلك لأزواجهن على المناصب الرفيعة.
٦١٩ ولأن فوزي باشا (الزمن الآخر) لم يذهب لزيارة إنجليزي واحد، ولم يدخل بيت
إنجليزي واحد، فقد أدرك أنه لن يدخل الوزارة أبدًا، بحيث لم يسع إليها.
٦٢٠
ويعبِّر الأب التركي الأصل عن رأي الرافضين للثورة بالقول: «هؤلاء الأولاد المناكيد،
هؤلاء الفلاحون القذرون، يتظاهرون ويشتمون أسيادهم.»
٦٢١ وكان عشماوي جلال ضابطًا كبيرًا بلواء الفرسان بالجيش المصري، وكان يعجب
بالإنجليز «إعجابًا فاق الحدود، ويحبهم حبًّا عظيمًا، ويتيه بصداقتهم، ويعتبرها عزته
الأولى في الحياة. وكان يمضي إجازته السنوية في إنجلترا سائحًا ومستطلعًا، حتى آمن بأن
الإنجليز هم سادة البشر، وأنهم المبعوثون من العناية الإلهية لتمدين البشر، وخاصة
المتأخرين منهم كالمصريين.»
٦٢٢ وُصِف عشماوي جلال بأنه العدو الأول لثورة ١٩١٩م في الجيش المصري، وعُرِف أنه
يقتل بلا رحمة، ويعذِّب ضحاياه، وواجه محاولات فاشلة لاغتياله. وحين تولى سعد زغلول
الوزارة عام ١٩٢٤م أحاله إلى المعاش، فانزوى في بيته خوفًا من انتقام الشعب، ثم قيل إنه
فقد البصر، وعجز عن الحركة، وإنه تكتم ذلك حتى لا يشمت الناس به.
٦٢٣ وقد حرص حزين (مآذن دير مواس) على أن يلتقي بالجنرال اللنبي، ليروي له
بواعث قيام المظاهرة في دير مواس، واتهم خصومه من آل أبو زيد بأنهم حرَّضوا عليها، ودفعوا
المتظاهرين لقتل الضباط الإنجليز. كان الرجل قد استسلم لحقده تمامًا، فلم يشغله رد
الفعل الذي ربما أحدثته وشايته على أبناء دير مواس.
٦٢٤ وكان شهود الإثبات في قضية أحداث دير مواس إما من أنصار الخائنين حزيِّن
وعياد، أو ممن اشتراهم الإنجليز بالمال، ومنوهم بالوعود،
٦٢٥ ونتيجة لوشاية أحد الخونة بواحدٍ من أبطال الثورة، فقد قتله الإنجليز،
وقتلوا زوجته وأولاده أمام ابنه الصغير أبو المكارم. وأفلح الطفل في أن يفر من مصير
أسرته، وظل يعدو حتى وصل إلى مقام سيدي أحمد الزكيري بعد أن أصابه الخرس من بشاعة ما
رأى.
٦٢٦ واستطاعت سلطات الاحتلال أن تؤثر على أحد أثرياء الريف، فدفعته إلى الشهادة
على عددٍ من الثوار، لقاء اعتباره شاهد ملك، وأدين بتلك الشهادة كثيرون، صدرت ضدهم أحكام
بالإعدام والسجن، لكن الرجل عاش حياته خائفًا من انتقام أهل القرية، حتى أردته رصاصات
الثأر، ولحق الذل أفراد أسرته، فرحلوا عن المدينة إلى القاهرة، واعتبر أهل القرية ما
حدث وصمة عار لهم، فلم يعُد يذكره أحد.
٦٢٧ ويتساءل برعي، بعد أن شاهد شابًّا يقتل بمسدسه جنديًّا بريطانيًّا: ما فائدة قتل جندي
بريطاني في الطريق؟
ويقول للشاب: لا يا أستاذ … لا بد من قتل الذي جعل مصر موطئًا لنعال الإنجليز …
أتعرفه؟
يقول الشاب: خذني معك لنقتله … أنا لا أخاف.
ويصعد برعي مع الشاب إلى سلالم العمارة، ويطلقان النار على العميل.
٦٢٨
وعلى الرغم من قلة تلك الفئة، فإن تأثيرها كان سلبيًّا — بصورة مؤكدة — في مسار
الثورة. ولا يخلو من دلالة قول كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»: «المخلصون قتلى، أما
أبناء الخونة فسفراء.»
٦٢٩
وقد بلغ عدد قتلى الإنجليز، والمتعاونين معهم من المصريين، حوالي الخمسين، دون أن
يفلح البوليس المصري — أو الإنجليزي — في الوصول إلى الجناة.
٦٣٠
•••
وطبيعي أن الثورة لم تكن وليدة ذاتها ولا مصادفة؛ كانت كل الأحداث التي سبقتها تحمل
عوامل قيامها. وإذا كان نفي سعد زغلول ورفاقه إلى مالطة هو السبب المعلَن لاشتعال
الثورة، لكن الأسباب غير المعلَنة كانت تجد امتداداتها في أعوام الاحتلال، وما رافقه،
وأحاط به — فيما بعد — من تعاظم القهر والإقطاع وفساد الحكم. من هنا، كان نفي سعد
وزميليه أشبه بنزع صمام الأمان لتنفجر الثورة في مصر كلها، إلى حد أن بعض القرى أعلنت
استقلالها عن القاهرة. ثم اقتصرت أحداث الثورة بعد أبريل ١٩١٩م على القاهرة وبعض المدن
الكبرى، وتحمَّلت فئات بذاتها عبء العمل الثوري، بينما تحوَّلت إيجابية الغالبية العظمى
من
أبناء الشعب المصري — الفلاحين تحديدًا — إلى سلبية واضحة. إن اعتقال سعد زغلول كان
إرهاصًا مباشرًا بقيام المظاهرات التي مهدت لاندلاع الثورة. ولا شك أن الثورة — كما
يقول العقاد — كانت سبب المظاهرات، وليست نتيجة المظاهرات. وكانت محصلة عوامل عديدة،
من
بينها — بالإضافة إلى أسباب أخرى سبق الإشارة إليها — تفشي الإحساس بخيبة الأمل بعد
هدنة الحرب العالمية الأولى، فهي لم تأتِ بنتيجة إيجابية في صالح الجماهير التي أنهكتها
مظالم الحرب وضغوطها. وكما يقول محمد سيد أحمد، فقد أنتجت الحرب العالمية الأولى ثورة
١٩١٩م، مثلما أنتجت الحرب العالمية الثانية — فيما بعد — ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م.
٦٣١ ومن بين هذه العوامل أيضًا إعلان السير ريجلند وينجت أن حصول المصريين على
الاستقلال مثل إعطاء الطفل من الغذاء بأكثر مما تحتمل معدته، فيصاب بالتخمة. ومن بينها
— كما يقول صلاح ذهني — أن الثورة كانت خاتمة البحث عن طريق ترفض الاستعانة بالشرق
ممثَّلًا في الباب العالي، كما يرفض الاستعانة بالغرب ممثَّلًا في فرنسا، إلى جانب
التناقضات الطبقية الحادة، والتي وجدت في الثورة تعبيرًا عن آمالها وتطلعاتها، وهذا
العامل الأخير هو ما يهمنا:
يقول الرافعي إن الثورة لم تكن «ثورة دينية، ولا ثورة اجتماعية». وقد خلت الثورة
بالفعل من العنصر الديني، بل إنها كانت عاملًا حاسمًا في القضاء على الطائفية، وتوحيد
عنصرَي الأمة. لكن المضمون الاجتماعي للثورة حقيقة يصعب إنكارها. أكسبت الجماهير — منذ
اللحظة الأولى — كل مطالبها السياسية والاجتماعية، والفكرية أيضًا، في بوتقة واحدة،
بعكس قيادة الثورة التي وجدت في الاستقلال — وأي استقلال؟! — أملًا غاليًا. ثم تولَّت
مهام الحكم كسلطة بديلة لسلطة الاحتلال، دون أن تستند إلى دعائم اجتماعية. وبتعبيرٍ آخر؛
فإن هدف الجماهير المصرية لم يكن مجرد إنزال العلم البريطاني من فوق المنشآت
والمؤسسات، وإحلال العلم المصري مكانه، ثم السكوت عن سيادة سلطة أخرى متمثلة في
البرجوازية الكبيرة، أو الرأسمالية المتمصرة والأجنبية. لكن هدف الجماهير كان يتمثل في
التغيير الجذري لطبيعة المجتمع وتناقضاته. وعلى حد تعبير الضاحك الباكي، فقد كانت أحداث
الثورة خلطًا عجيبًا «بين طلاب الاستقلال وطلاب القوت»، وخلطًا غريبًا «بين الكفاح
القومي والاشتراكية الساذجة».
٦٣٢ والواقع أن مطالبة هؤلاء الذين خرجوا في المظاهرات، بأن تقتصر شعاراتهم على
البعد الوطني المطلَق، إنما هي انتهازية، أو مثالية ساذجة؛ فالوازع الفردي، أو الجمعي،
والطبقي والمهني … ذلك كله له تأثيره المباشر في القضايا العامة، مهما تتسع دائرة
عموميتها. لقد رفع الفلاحون — مثلًا — شعار الأرض لمن يفلحها كمناداة صريحة بتوزيع
الأرض على الفلاحين. كما أعلن العمال مطالبهم الخاصة بحرية تكوين النقابات، وتحديد
ساعات العمل، ورفع مستوى الأجور، وكانت تلك المطالب من الأسباب المباشرة في التعجيل
بتصفية الثورة من قِبَل الرأسمالية والبرجوازية الكبيرة.
وثمة مَن يرى أنه قد انضم إلى الثورة وظاهرها كبار الملاك الزراعيين، وانضم إليها
التجار والأعيان والموظفون والطلاب وكل طبقة من طبقات الشعب، فهي إذن ثورة سياسية، لكن
هذا الرأي يلقي ظلالًا كثيفة في إشارته إلى أنه لم تكن ثمة عناصر كثيرة من الشعب تؤمن
إيمانًا تامًّا بالثورة. وكان انحيازها خوفًا أو طمعًا. وكان ذلك بالفعل هو موقف
الغالبية العظمى من طبقة كبار الملاك. وكان في مقدمة الأسباب التي دفعتهم إلى مناصرة
الثورة — بالإضافة إلى محاولة ركوب الموجة، أو الخوف من ردود الأفعال الثورية على
المواقف المتفرجة — ما كانوا يشعرون به من سخط على الإدارة البريطانية، التي أفادوا في
ظل إدارتها بارتفاعٍ نسبي في أسعار القطن، وارتفاع إيجارات الأراضي الزراعية، وإن لم
يغفلوا ما تعرَّض له القطن — محصولهم الرئيس — من صعود وهبوط في أسعاره، ثم في تحديد
المساحة المنزرعة قطنًا، ثم في تحديد السعر نفسه، برغم ارتفاع أسعار القطن عالميًّا،
ثم
في إلغاء أوامر تصدير القطن، وحصرها في عددٍ محدودٍ من بيوت التصدير الأجنبية، قبل أن
تحتكر الحكومة البريطانية محصول القطن كله في عام ١٩١٨م، فضلًا عن مخزون محصول ١٩١٧م،
وتحديد أسعار مخفضة له.
٦٣٣ ولعل هذه الطبقة هي التي عناها الفنان في قوله بأن المصريين لم يكونوا
«يملكون من الأسلحة غير القول، ومن المعدات غير البيان.»
٦٣٤
كان شعار الاستقلال التام أو الموت الزؤام في مقدمة أهداف الثورة، لكنه لم يكن هدفها
الوحيد، وإلا لكان دور الطبقات الكادحة في الثورة أقرب إلى الوقود الذي احترق لحساب
الآخرين. وكان أخشى ما تخشاه قيادة الوفد — التي تركزت منذ البداية في كبار الملاك
الزراعيين — أن تكتسب الثورة السياسية مضمونًا اجتماعيًّا. كانت الخطة — كما يقول هيكل
في مذكراته — أن يسافر الوفد إلى باريس لطرح القضية المصرية في مؤتمر لندن، ويطلب تطبيق
حق تقرير المصير على مصر والسودان «فإذا أُجبنا إلى مطلبنا كان ذلك ما نبغي، وإلا ذهب
رشدي وعدلي لمفاوضة الحكومة البريطانية في تنظيم العلاقة بين مصر وإنجلترا في حدود
الحماية.» كانت عقلية الطرق المشروعة هي التي تسيطر على الوفد، خوفًا من أن ينفلت
الزمام. ومعظم قادة ١٩١٩م كانوا قد درسوا في فرنسا، وتفهَّموا ظروف الثورة الفرنسية في
اتسامها بالطابع الطبقي. لذلك خشي قادة ثورة ١٩١٩م انفلات الزمام؛ خشوا مصير الثورة
الفرنسية. إن توازي الثورة الاجتماعية والثورة السياسية كان سيصبغ التطورات بأسلوب
العنف بدلًا من أسلوب المهادنة. وهو ما كان سيعرِّض مصالح البرجوازية الكبرى للدمار
الشديد كما تمثَّل في هجوم «الرعاع» على قصر محمود سليمان باشا عضو لجنة الوفد المركزية
في أسيوط. وفي المقابل من خطة كبار الملاك بتنظيم العلاقة بين مصالحهم ومصالح الاستعمار
البريطاني في حدود الحماية، لم يكن مطلب الاستقلال — كما قلت — هدفًا مجردًا أمام القوى
«الاجتماعية» في معسكر الثورة. وقد وقفت تلك التناقضات الطبقية حائلًا دون أن تأخذ
الثورة مسارها الطبيعي نحو تحقيق الثورة الاجتماعية، والتي تتمثل أساسًا في العدالة
الاجتماعية سعيًا للتقريب بين الطبقات.
•••
ولكن الضاحك الباكي — ربما مسايرة للتناقض الذي يتبدى في التسمية التي أطلقها على
نفسه — يهمل أن الشعب وحده، دون كل الزعامات، هو الذي استقبل الرصاص، فيصور الأحداث
بأنها كانت «ثورة ضد الإنجليز يقودها بعض المتنورين، وثورة ضد الثروة يقودها الأشرار
الفقراء. كانت ثورة شعبية متكاملة ضد الاحتلال والثروة على السواء، وهي — بالتأكيد —
لم
تقم من أجل محمد محمود باشا، أحد المنفيِّين في مالطة، وهذا ما يراه فكري أباظة أيضًا.»
٦٣٥ لكنها قامت ضد الإنجليز، وضد ما سمَّاه «الثروة»، بل إن الأشرار الفقراء
الذين قاموا بالثورة ضد الثروة في أسيوط، كانوا هم «الدهماء» الذين شاركوا في الثورة
ضد
الثروة في القاهرة، وانضموا إلى المظاهرات — كما يقول الفنان — «وراحوا يتدفقون معها
كالسيل، ولم يستطع الدهماء أن يكبحوا جماح غضبهم وثورتهم، فراحوا يقلعون الأشجار،
ويحطمون واجهات المحال وزجاج المصابيح، ويعتدون على الترام، كانوا كالثائر الذي لم يجد
متنفسًا لثورته، فأخذ يمزق شعره.»
٦٣٦ والسؤال هو: لماذا لم يتصور الفنان أن ما أقدم عليه هؤلاء الدهماء هو تحطيم
«الملكية» إذا أصبحت في قبضة الغير. وكانت ملكية الوطن — حقيقة — في أيدي الإنجليز
والأجانب وكبار الملاك والرأسماليين، ولم يكن ثمة شعور بالانتماء لدى هؤلاء الدهماء
حيال أي شيء.
•••
أما أن «اللصوص» في الضاحك الباكي قد اختاروا متاجر الأقباط بالذات هدفًا لسرقاتهم،
فذلك ما تلغيه رواية الفنان ذاته من أن هؤلاء «اللصوص» قد ركزوا هجماتهم على قصر محمود
باشا سليمان، ومن ثَم فقد هاجم المتظاهرون متاجر الأثرياء وبيوتهم، بصرف النظر عن الدين
الذي ينتمون إليه «الثورة الجامحة لا تبقي ولا تذر، كل شيء في البلد يُنهَب؛ أثواب الحرير
النفيسة، زجاجات الروائح العطرية الغالية الثمن، أسرَّة النحاس الفاخرة، الأحذية
اللامعة وغير اللامعة، الأثاث الذي لا يُقدَّر بشيء. وكانت المناظر ما بين مضحك ومُبكٍ،
فهذا
ثائر يحمل على ظهره البنك الذي يعرض عليه العمال الأقمشة، ويقف حوله الزبائن، ينوء تحت
حمله الثقيل هاتفًا: يحيا الوطن! وهذا ثائر آخر ظفر بجاكتة سبورت من جاكتات التنس
الظريفة، فهو يرتديها على جلابية أو زعبوطة، وهذا ثائر لبس حذاء من نوعين ولونين،
الفردة اليمنى سوداء لامعة للسهرة، والفردة اليسرى بيضاء للتنس. وتضرب الفوضى — باختصار
— أطنابها على أسيوط، فلا تحكمها إلا الفوضى. فإذا سألت عن الحكومة: أين هي؟ وأين
مقرها؟ وجدتها متحصِّنة في بيوت الأعيان أو القناصل، محروسة بالأهالي من غير جنس
اللصوص.»
٦٣٧ هذه الصور — إن صحت — فإنها تجد ردًّا مفحمًا من «الوحوش» — على حد تعبير
فكري أباظة — عندما حاول أن ينبِّههم قائلًا: هذه عمارة محمد محمود، ولأجل حريته وحرية
بلاده ثرتم، وأنتم الليلة تخربون بيته، وتنسفون ملكه. قال الرجل — الوحش — في بساطة:
اسكت، هل وزَّع محمود باشا سليمان أرغفة الخبز على الجائعين؟ نحن طلاب قوت!
٦٣٨ ومن هنا جاء قول دار الحماية — في تقرير لها إلى لندن — بأن الحركة «موجهة
ضد البريطانيين وضد السلطان وضد الأجانب، إن لها اتجاهات بونشيفية.»
٦٣٩
كانت الشعارات والمطالب والتحركات التي سبقت الثورة، وواكبتها، وظلَّت على تماسكها
بعد
شحوب الكفاح المسلح، من الأسباب المباشرة في التعجيل بتصفية الثورة من قبل البرجوازية
الكبيرة. حتى إنه يمكن القول بأن نتائج ثورة ١٩١٩م كانت قضاءً تامًّا على كل أماني
الطبقات الكادحة ومطالبها، بينما كانت هي صانعة الثورة، وهي وحدها — كما يقول الفنان
في
«الضاحك الباكي» — التي استقبلت الرصاص في عام الثورة «فلم يصرع زعيم، ولا نصف زعيم،
ولا
ربع زعيم.»
٦٤٠
وعلى سبيل المثال، فقد كانت أم أحمد الخاطبة (أم أحمد) واحدة من النساء اللائي وقفن
فوق الكارو بين جارات لها، يشاركن المتظاهرين هتافاتهم لسعد ولمصر.
٦٤١ واشترك الخادم مبروك (عودة الروح) في مظاهرة كبيرة بميدان السيدة زينب،
برفقة الجزار وصبيه والخباز وبائع البرتقال. كسَّروا، وحطَّموا مصابيح الغاز وحواجز
الأشجار، وتسلَّحوا بالحجارة والعصي الغليظة والهراوات والسكاكين.
٦٤٢ أما المعلم كرشة (زقاق المدق) فقد نُسب إليه الحريق الكبير الذي دمَّر الشركة
التجارية اليهودية للسجاير بميدان الحسين، كما شارك في المعارك العنيفة التي دارت بين
الثوار من ناحية، وبين الأرمن واليهود من ناحية ثانية.
٦٤٣ وكان حامد (آخر الأبطال) حاجبًا بإحدى الوزارات، وكان ابنه الوحيد رضوان
طالبًا في البكالوريا، بالمجان، لأن ترتيبه كان الأول دائمًا. وكان الرجل وابنه
يتبادلان التحذير من الخروج إلى المظاهرات. ثم جاء اليوم الذي اكتشفا فيه أن كلًّا
منهما كان يخدع الآخر، ويلقي بنفسه في غمار أمواج المظاهرات المتلاطمة، حتى مات رضوان
برصاصة غادرة، مثلما استُشهِد فهمي أحمد عبد الجواد، وحسد الرجل ابنه — للمرة الأولى
—
أنه ظفر دونه بشرف الشهادة، ولم ينكفئ على نفسه، ولا اجتر الأسى، لكنه هجر عمله، وحرص
على أن يكون في طليعة كل مظاهرة.
٦٤٤
واللافت أن سعد زغلول لم يكتفِ بالسلبية تعبيرًا عن رفضه لإعطاء حركة الجماهير مضمونها
الاجتماعي، لكنه لم يعترف بنقابات العمال في عهد وزارته عام ١٩٢٤م، كما رفض أن يرفع
شعار الأرض بالنسبة للفلاحين. من الصعب تصور عجز سعد زغلول عن إدراك حقيقة المصالح
الطبقية التي كانت بُعدًا مهمًّا في الثورة، وفي تطور أحداثها، فهو قد ألقى خِطابًا في
٤
يوليو ١٩٢٤م، في حفل نقابة عمال شركة السكك الحديدية وواحات عين شمس، قال فيه: «أفرحُ
كثيرًا، وأُسر كثيرًا، كلما شعرت أن هذه الحركة ليست فيما يسمونه بالطبقة العالية
فقط، بل هي منبعثة أيضًا، وعلى الأخص، في الطبقة التي سمَّاها حسَّادنا طبقة الرعاع،
وأفتخر بأني من الرعاع مثلكم. ولو كانت هذه الحركة قاصرة على الطبقة العليا لما قامت
لها قائمة، ولما انتشرت هذا الانتشار، ولما انتصر المبدأ الوطني. فطبقة الرعاع هي
الطبقة الأكثر عددًا في الأمة، والتي ليس لها صالح خاص، والتي مبدؤها ثابت على الدوام:
مبدؤها الاستقلال التام لمصر والسودان. إن الرجل صاحب الأموال، وذلك الموظف في المنصب
العام، إذا قال: يحيا الوطن، فإنما يقول: تحيا وظيفتي أو مصلحتي. ولذلك رأيت كثيرًا من
أرباب تلك المصالح، ومن ذوي الوظائف، تقلَّبوا أو تغيَّروا، ولكن الرعاع أمثالكم ما تغيَّروا
ولا بدَّلوا عقائدهم.» سعد زغلول هنا، يضغط على حقيقة انتماء كل من طبقة كبار الملاك
والطبقات الشعبية إلى الثورة، مما يجعل من إبراز المحتوى الاجتماعي للثورة ضرورة لازمة،
باعتبار أن الطبقات الشعبية كانت هي صاحبة المصلحة الحقيقية في الثورة، وهي — في الوقت
نفسه — درعها الواقي الذي يتيح لها استمرار الحياة. لكن سعد زغلول لجأ إلى شجب كلماته
في الخِطاب ذاته لما قال: «لا يطرب سمعي أكثر من أن رجلًا فقيرًا لا قوت عنده ينادي:
ليحيا الوطن، وليس يطمع في أي شيء إلا أن يعيش كما هو.» كان الرجل إذن حريصًا على أن
تؤدي الطبقات الكادحة دورها في الثورة، دون أن يكون ذلك في إطار التعبير عن مصالحها.
من
هنا، جاء ابتهاجه «لأن الفقراء قد اشتركوا في الثورة دون أن يطالبوا بمكاسب.» وهو ما
عبَّر عنه أيضًا في رسائله إلى عبد الرحمن فهمي، وتخوُّفه من إضرابات العمال. كان سعد
زغلول
يخشى أن تُتهم الثورة بالاتجاه نحو البلشفية. وعلى الرغم من اختلاف المؤرخين حول مضمون
الرسالة التي بعث بها لينين إلى سعد زغلول، يعرض معونة الاتحاد السوفييتي، فالثابت
فعلًا أن زعيم الثورة المصرية قد أعلن — في أكثر من حديث — عداءه للبلشفية. والحق أن
زعيم الوفد لم يكتف برفض البلشفية، وإعلان عدائه لها، لكنه كان حريصًا على رفض كل
الآراء الاشتراكية الإصلاحية. بل إنه لم يكن يقف على أرضية اجتماعية واضحة. وعندما نشرت
جريدة «الديلي هيرالد» الإنجليزية — على سبيل المثال — مقالًا عرضت فيه لأفكار سعد
زغلول، وذهبت إلى أنه يمثِّل الفكر الاشتراكي الإصلاحي الذي يعنى بالمشكلات الاجتماعية،
سارع سعد إلى نفي ذلك قائلًا: «أدهشني ما قرأته في صحيفتكم عن ارتياحي لخطة الديلي
هيرالد الاجتماعية، ولكنني أقول لكم ولقرائكم إني لست ممن يهتمون بالمباحثات في هذه
الشئون الاجتماعية، وإني لا أجهد نفسي في أمر الكومونة أو البلشفية؛ إذ ليست عندي أي
فكرة عن هذه الوجهة.»
٦٤٥ ولا شك أن هذه الرسالة يصعب أن تشكِّل نظرة متكاملة إلى سعد زغلول، ذلك لأن
الرجل كان متهمًّا حينذاك بالاتجاه إلى الشيوعية. ولعله من هنا أيضًاَ جاءت رسالته في
٢٣
يونيو ١٩١٩م إلى اللجنة المركزية للوفد: «الوفد غير راضٍ عن المنشورات التي تفيد اعتماد
المصريين على الألمان، وتتضمن الانتصار للبلشفيك؛ فإن هذه المنشورات يستفيد منها
أعداؤنا للقول بأن الحركة المصرية لها اتصال بالألمان وبالحركة البلشفية.»
٦٤٦ أما رفعت السعيد، فهو يذهب إلى أن «قوات الاحتلال بالغت — متعمدة — في
إثارة الفزع مما أسمته بالثورة البلشفية الوشيكة الوقوع كسبيلٍ لإخافة قيادة الوفد
والطبقات الوسطى من الحركة الثورية النشطة للعمال والفلاحين آنذاك، بل وكسبيلٍ أيضًا
لإزعاج كل القوى الوطنية، والإيحاء لها بأن انتشار الشيوعية في مصر سيؤدي إلى بريطانيا
إلى رفض منحها الاستقلال.»
٦٤٧ وكتب عصام الدين حفني ناصف: «لعل السادة الأغنياء والنواب المحترمين يفهمون
— قبل فوات الوقت — أن الترويج للمبادئ البلشفية وتحبيبها للقلوب، لا يكون بالمطالبة
بهذه الإصلاحات الطفيفة التي إذا نحن رضينا بها، فليس ذلك على أنها إصلاحات حقيقية، بل
على أنها دلالة على التفكير نحو الإصلاح … إن حضرات النواب المحترمين لا يخمون أنفسهم
ولا طبقتهم حين يكثرون من ترديد الاتهام بالبلشفية.»
٦٤٨ وترتيبًا على ذلك، فإنه من الصعب إنكار طبقية المجتمع المصري في تلك
الفترة، بمجرد إعلان ذوبان الفوارق في خطبة رسمية، كما فعل سعد زغلول في خطبة بفندق
شبرد في ١٦ أبريل ١٩٢١م، والتي قال فيها: «ليس في الأمة طبقات يمتاز بعضها عن بعض، بل
كلها طبقة واحدة، ليس فيها فلاح ولا باشا، بل كذب من زعموا أن الباشوات طائفة خاصة تريد
بهذه الحركة أن تحكم البلاد بالظلم والاستبداد. كذب هذا الزعم فينا. ليس فينا طبقة تسمى
طبقة الباشوات، ولا طبقة تسمى الفلاحين، بل كلنا طبقة واحدة. فالباشا يجوز أن يكون
فلاحًا، والفلاح يجوز أن يكون باشا، وليس هناك طبقة ممتازة عن أخرى.» من الصعب إنكار
طبقية المجتمع المصري بمثل هذه الخطبة، لأن الطبقية كانت واقعًا تاريخيًّا وموضوعيًّا.
ولعل هذه الخطبة بالذات أحد المعالم البارزة في طريق تحوُّل المد الثوري لصالح طبقة
الأعيان والرأسماليين، فقد ظل الباشا على وضعه، والفلاح على وضعه. أما الفلاح — أو
المواطن العادي بتفسيرٍ أعم — الذي شغلته تطلعات الصعود، فلم يكن يجد سبيلًا لتحقيق
تطلعاته سوى أن يسلك سبيل رضوان ياسين في «الثلاثية»، ومحجوب عبد الدايم في «القاهرة
الجديدة»، وحسنين كامل في «بداية ونهاية»، ويوسف عبد الحميد السويفي في «الرجل الذي فقد
ظله». وأغلب الظن أن النهاية التي واجهها كل من سلك هذا السبيل، لم تكن تختلف عما واجهه
أبطال هذه الروايات جميعًا. نحن لو سايرنا سعد زغلول في تأكيده بانعدام الطبقية؛ فإن
سؤالًا ملحًّا سيفرض نفسه: لماذا قامت الثورة؟
إن المجتمع الذي يمكن فيه للفلاح — ببساطة — أن يصبح من طبقة الباشوات، هو مجتمع
مثالي أقرب إلى اليوتوبيات التي يحلم بها الفلاسفة والمصلحون الاجتماعيون. لكن واقع
الثورة يكذِّب تلك النظرة المتفائلة. فقد ركب قمة الموجة الثورية بعض المثقفين بدءًا
من
صغار البرجوازيين، إلى بعض أفراد العائلة المالكة، لكن الشعب — بفئاته الكادحة وعمَّاله
وفلاحيه — كان هو التجسيد الحي للثورة، فلم يكن الاستقلال هدفًا في ذاته، وإنما كانت
المطالبة به بداية مرحلية للتخلص من سطوة النفوذ الأجنبي، والتخلص بالتالي من كل الضغوط
الاجتماعية والاقتصادية. طالبت القيادة — في البداية — بتنظيم الحماية، أما الجماهير
فكان الاستقلال هو مطلبها الأول، وهي قد أعلنت عن هذا المطلب بثورة عارمة، سقط فيها
عشرات الشهداء والجرحى، تأكيدًا لحرصها على تغيير الواقع بصورة جذرية. قامت الثورة على
تحالف الطبقات المعادية للاحتلال «لم تكن ثورة مثقفين وحدهم، أو عمال وحدهم، بل ثورة
الشعب كله، اتحد في عجينة واحدة.»
٦٤٩ وربما شاركت بعض تلك الطبقات في الثورة — أعني طبقة الأرستقراطية الزراعية
تحديدًا — إشفاقًا على مصالحها، وإن كان هذا التحالف لم يسفر عن تضحيات متكافئة، أو
مكاسب متكافئة، فقد ضحت الطبقات الشعبية — والفلاحون بالذات — في المرحلة الأولى من
الثورة، وأضفوا عليها — بمعاركهم ضد قوات الاحتلال — وجهها العنيف. وربما كان من بواعث
تأييد الأرستقراطية الزراعية للثورة، ثم محاولتها فرض السيطرة عليها، تطلُّع أفراد تلك
الطبقة لأن يشغلوا المواقع الرأسمالية الأجنبية في البلاد. لقد أفلحت سلطات الاحتلال
في
أن تمزِّق نسيج التحالف الذي يضم كل طبقات الشعب، بأن حقق مصالح بعض هذه الطبقات، فعملت
من جانبها على تمييع الكفاح المسلح، وانغمست في اقتسام الأسلاب التافهة التي ألقى لها
بها الاستعمار البريطاني، وخفتت شعارات الاستقلال التام أو الموت الزؤام، وتوزع من ثَم
نضال الطبقات الكادحة في اتجاهين، وإن تلاقيا في هدف الاستقلال — فهي تناضل ضد
الرأسمالية والأرستقراطية الزراعية التي أخذت كل شيء، ولم تعط شيئًا، وهي تناضل ضد
الاحتلال الأجنبي. وكما يقول الفنان، فالذين قتلوا في المظاهرات قتلوا، والذين دخلوا
السجون بعضهم عُلِّق على المشانق، وبعضهم خرج ليتولى الوزارة.
٦٥٠ وكان المعلم كرشة (زقاق المدق) واحدًا من الذين شاركوا في أحداث الثورة،
وبذل جهدًا إيجابيًّا واضحًا في انتخابات ١٩٢٤م، وأصر على أن يهمل كل المغريات، ويعطي
صوته لمرشح الوفد. ثم تحوَّل موقفه — شأن الكثيرين الذين أفسدتهم الحياة الحزبية — فأصبح
نصيرًا لمن يدفع أكثر!
•••
أما السؤال: لماذا لم تفرض الطبقات الشعبية قياداتها على الثورة لتحُول بينها وبين
المصير المؤلم؟ فالجواب أن هذه الطبقات لم تكن قد وصلت في تنظيماتها إلى المستوى الذي
يساعدها على تأليف حزبها المعبِّر عن مصالحها، خاصة بعد أن انتهى دور الحزب الوطني
تقريبًا، بانتهاء الحرب العالمية الأولى. كان لكل طبقة وفئة مطالبها وأهدافها، لكنها
كانت تعاني فقرًا شديدًا في التنظيم السياسي الذي يتيح للأهداف الاجتماعية أن تصبح
واقعًا يفرض نفسه على مجريات الأحداث وتطوراتها.
في سنوات الثورة، وفي أعقابها، لم يعُد العدو الذي تواجهه الطبقة العاملة متمثلًا
في
الاحتلال العسكري وحده، وإنما تمثَّل — في الوقت نفسه — في الإقطاع والاحتكارية ورأس
المال، وهي قوى أصبحت — بالضرورة — في المعسكر المعادي للثورة. وبتعبيرٍ أدق: أصبحت
مرادفة لسلطة الاحتلال العسكري، ومتلاحمة معه، رغم ولائها الظاهري للثورة، بل وصعود
بعضها إلى قيادتها. يقول شاب (المرايا): لا حل إلا القضاء على أحزاب الأقلية الطامعة
في الحكم، فيقول سالم جبر: هذه ترجمة ركيكة لصراع الطبقات.
٦٥١
•••
كان الوفد — رغم كل التناقضات في داخله — أمل الجماهير المصرية. أما قول فازليف في
المؤتمر السادس للكومنترن: «إن حزب الوفد هو أعدى أعداء العمال والفلاحين، والشيوعيون
مدعوون لأن يوجِّهوا إليه حربًا مميتة.»
٦٥٢ فهو لا يعدو كلمات متحمسة، يتلاشى تأثيرها وجدواها بفعل آلاف الكيلومترات
التي تفصل ما بين القاهرة وموسكو. أفيجدور يعترف بأن «الشيوعيين المصريين قد أخفقوا،
لأن الجماهير كانت تؤمن بالوفد.»
٦٥٣ والحق أن الجماهير لم تكن تؤمن بالوفد في إطلاقه، وإنما لأنه الحزب الذي
تكوَّن بإرادة شعبية خالصة، ولأن قيادته — ممثَّلة في سعد زغلول — كانت تحظى بثقة الجماهير
واحترامها، في مقابل أحزاب وقيادات مشبوهة. ولعله من هنا، جاء قول رفعت السعيد —
متأخرًا بالطبع — إن حزب الوفد بالذات، وبغض النظر عن كل أخطائه، وبغضِّ النظر عن كل
تحفظاته ضد العمل الثوري، وعن كل حملاته ضد الاشتراكية، كان من المتعيَّن النظر إليه
نظرة
أخرى.
٦٥٤ وكان موقف الشيوعيين من الوفد — في تقدير السعيد — بحاجة إلى بعض المرونة،
في مصر بالذات، رغم تيقُّنه من موقف قيادة الوفد المتخاذل.
٦٥٥
كان عزيز ميرزا من القيادات الاشتراكية القليلة، التي أدركت أهمية نشاط الاشتراكيين
من خلال تنظيم الوفد باعتباره ضد الجماهير المصرية، ذلك لأن معاداة الوفد تعني —
بالضرورة — معاداة الجماهير المصرية، ومن ثَم يفقد أي اتجاه لصالح تلك الجماهير فائدته
وجدواه. ويقول رفعت السعيد: «عندما تأسَّس الحزب الاشتراكي المصري في أغسطس ١٩٢١م، سعى
—
منذ اليوم الأول لميلاده — لإيجاد نوع من التحالف بينه وبين حزب الوفد على أساس وحدة
النضال المشترك ضد الاستعمار.»
٦٥٦ كان برنامج الحزب يشمل العمل على استقلال وادي النيل بأسره، وجلاء الجيش
الإنجليزي عن مصر والسودان، وعدم الاعتراف بالمعاهدات والاتفاقات التي وقعت في غيبة من
الشعب، وجعل قناة السويس ملكًا للأمة، وتعديل الدستور وقانون الانتخاب، فتصبح الأمة مصدر
السلطة الحقيقية، وإلغاء القوانين الاستثنائية والرجعية، والاعتراف بهيئات العمال
رسميًّا، وضم العمال غير المنظمين في اتحادات، وإلغاء ديون الفلاحين الذي يملكون أقل
من
ثلاثين فدانًا، وإعفاء الفلاحين الذين يملكون أقل من عشرة أفدنة من الضرائب، ووضع ضرائب
على مياه الري لمن يملكون أكثر من مائة فدان، وإنشاء بنوك تعاونية لصغار الفلاحين،
والدفاع عن قانون تحديد ساعات العمل، وتأليف تعاونيات للإنتاج والتوزيع، وتمثيل العمال
وفقراء الفلاحين تمثيلًا صحيحًا في البرلمان، وتمتع المرأة بالحقوق السياسية
والاجتماعية والاقتصادية، وجعل التعليم إلزاميًّا، والعمل على التفريق بين الجرائم
السياسية وغيرها أمام المحاكم المصرية … إلخ.
٦٥٧ وعقب تولي سعد زغلول رئاسة الوزارة، وجَّه إليه الحزب الاشتراكي رسالة
مفتوحة، طالبه فيها بالاعتراف بنقابات العمال والفلاحين، وبحقها في الدفاع عن حقوق
العمال والفلاحين، و«بالاعتراف بحكومة السوفيات أسوة بالأمم المتمدنة»، وغير ذلك من
مواد برنامج الحزب.
٦٥٨
وفي تقديري — كما أشرت من قبل — أن الاتجاه الأصوب كان في تحرك الطبقات العاملة من
خلال «الوفد»، أقرب الأحزاب القائمة إلى مصالحها، والتعبير عن مطالبها المشروعة. لقد
صنعت
الجماهير قيادة سعد زغلول، وأصبح «الوفد» بالتالي هو الحزب الأكثر تعبيرًا عن مطالبها.
واعتمدت قيادة الوفد بالفعل، وبصورة أساسية، على الطبقة العاملة في النشاط السري، بدءًا
بتوزيع المنشورات، وانتهاء بالاغتيالات السياسية، لكنها حرصت على عدم إتاحة أية فرصة
لاشتراك العمال في القيادة. وكان حق — وواجب — القيادات العمالية، مثلما فرضت قيادة
الثورة على الزعامة المترددة، أن تفرض وجودها الخلاق والفعال في الحزب الذي أوكلته
للتعبير عن مطالبها.
•••
كانت ثورة ١٩١٩م أولى الثورات التي انفجرت في العالم بعد الحرب العالمية الأولى،
وإذا
كانت مصر قد عاشت أحداث الثورة في مارس ١٩١٩م، وما تلاه من أيام؛ فإن الهند أعلنت
الإضراب في أبريل من العام نفسه. وردت أنباء أن الهنود — في رد فعل إيجابي للأحداث
المصرية — نظموا مظاهرات وإضرابات، مما أوجد قلقًا عند المسئولين الإنجليز، حيث يصعب
مواجهة الاضطرابات في مصر وفي الهند في آن.
٦٥٩ ويقول غاندي (١٩٣١م): «لقد كان سعد زغلول أستاذي، قلدناه في حركته الوطنية،
قلدناه في فكرة تأليف الحزب من طبقات، كلما اعتقل الإنجليز طبقة، حلت مكانها طبقة أخرى،
لكننا فشلنا في أمرين نجح فيهما سعد زغلول، أولهما توحيد الهندوس والمسلمين، كما وحد
سعد بين الأقباط والمسلمين، وثانيهما إضراب الموظفين.»
٦٦٠ وفي مايو ١٩١٩م نزلت جماهير الصين بالثورة إلى شوارع شنغهاي.
٦٦١
هوامش