البدو

يُعَد البدو — في الكثير من الاجتهادات — طبقة اجتماعية جائرة، كثيرة الحل والترحال، لا عمل لها سوى الاستلاب والسطو من القرى والمدن القريبة من البادية، وربما امتد خطرهم إلى أبعد من ذلك، كما أبانت أحداث الثورة العرابية. وكان البدو — في تقدير بعض المؤرخين — أشبه بطبقة اجتماعية متسلطة، دولة داخل الدولة، حياتهم الحل والترحال، وعملهم هو السطو على القرى والحقول، ومساندة الجهات التي تدفع لهم، بصرف النظر عن هُويتها، أو ميلها إلى الظلم من عدمه.١ لكن فيليب حتي ينفي تلك النظرة الغريبة إلى البدوي: «إن البدوي ليس من الغجر الذين يطوفون بلا هدفٍ لمجرد التطواف؛ إنه يمثِّل أفضل تكييف للحياة البشرية مع ظروف الصحراء، وحيثما توجد الأرض المختصرة فإنه يتجه إليها بحثًا عن المرعى.»٢

ويبين الوجود البدوي عن نفسه في الحياة السياسية المصرية بصورة مؤكدة، من خلال عضوية حمد الباسل للوفد المصري الذي طالب بالاستقلال، ونفيه إلى مالطة مع الزعماء: سعد زغلول وإسماعيل صدقي ومحمد محمود.

ويصف الأرمني حككيان البدو بأنهم يعدُّون أنفسهم نبلاء البلاد، ومن ثَم فلا يبدون استعدادًا لأن يزوجوِّا بناتهم للأتراك أو السلطان ذاته، أو لأعرق بيوتات أوروبا، وهم يعتقدون أن لهم حقَّ السرقة داخل حدود أراضيهم، ويقومون في أحسن الأحوال بتحصيل الإتاوات.٣
لم تكن الزراعة حرفة محترمة في نظر البدوي.٤ الفلاح في نظر البدوي — كما يقول الفنان — طري، استقر في الأرض، ولانت عريكته، وما عادت فيه نخوة الرجال، أما البدوي نفسه فهو «رجل من ظهر رجل، لا يقبل الذل ولا الظلم ولا الضيم، يعيش في الخلاء مثل النسور، ويفضِّل حريته على لقمة العيش، وكبير، كبير جدًّا، أمام نفسه وأمام الغير، لا يقبل أن يتحكم فيه أحد، ولا يرضى أن يذل نفسه بلقمة العيش.»٥ ويشير أنتوني ناتنج إلى الكراهية القديمة التي لا تزال باقية بين الحضري والبدوي، لما يكنُّه هذا لذاك من احتقار لما تقوم عليه حياته من طراوة هي أدنى منزلة من صلابة سليل المنبت الصحراوي ذي الشدة، ذلك أن بدوي اليوم لا يزال يُعِد نفسه «أرستقراطي المولد، وأنه أنبل خلق الله طرًّا.»٦ المثل البدوي يقول: «نرميها للتمساح ولا يأخذها الفلاح» والبدو يظنون أنهم أرقى من أهل الريف، ويأنفون من الزواج منهم.٧ يعتبرون أن الزواج من الفلاحة التي تعمل، ويعمل أهلها في الزراعة، عار يجب ألا يحيق بهم.٨ وقد تزوج البدوي الشيخ عمران من ابنة عم له، زوَّجه إياها أبوه «على عادة العرب في قصر زواجهم على الأقارب.»٩
وقد كتب اللورد دفرين — في تقرير عن الحالة في مصر بعد الاحتلال البريطاني — «إن عددًا كبيرًا من شيوخ البدو أصبحوا يمتلكون ضيعات كبيرة. ثم أفاد شيوخ القبائل من قانونين تعاقَب صدورهما في مايو ١٩٢٦م، ويونيو ١٩٤٠م، استثنى الأول الأرض الموات من الأراضي العامة المشاع، وأعطى الثاني البدو الحق في التصرف في الأراضي الواقعة خارج نطاق البادية. واستطاع الشيوخ — بهذين القانونين — أن يستولوا على مساحاتٍ هائلة من الأملاك العامة لضمِّها إلى أملاكهم.»١٠

•••

ولا شك أن تأثير البداوة لا يزال سائدًا في المجتمع العربي المعاصر، حتى في المدن والعواصم،١١ ومما يُروى أن البدوي يقدم لضيوفه — تعبيرًا عن الحفاوة — الحامض والشاي المُعَد على نيران العصلاء الهادئة.١٢ ومما يرويه الرجل أيضًا أن البدويات يتبعن رجالهن مسافاتٍ طويلة في جوف الصحراء، لا تهديهن إلا الرائحة التي تفوح من أجساد هؤلاء الرجال.١٣

ومن أغنيات البدو:

يا نوارة الشط رؤي الطل عاليها … وصحبتها مساقي الورد ترويها … يا نجمة الليل يالله معاي نراعيها … وإن نمت في الفجر تبقى عيني تحميها.١٤

هوامش

(١) صور ومظالم، ٤٦.
(٢) أنتوني ناتنج، العرب تاريخ وحضارة، ت. محمود مسعود، كتاب الهلال، ١٧.
(٣) أريف، يونيو ٢٠٠٢م.
(٤) آفاق عربية، سبتمبر ١٩٧٧م.
(٥) عبد المنعم الصاوي، التوبة، الساقية، ٧٥.
(٦) العرب تاريخ وحضارة، ١٩.
(٧) مجيد طوبيا: حكاية ريم الجميلة، كتاب اليوم، ٣.
(٨) ملاك جرجس، سيكولوجية الشخصية المصرية ومعوقات التنمية، روز اليوسف، ٢٧.
(٩) محمود البدوي، الشيخ عمران، العربة الأخيرة، هيئة الكتاب.
(١٠) آفاق عربية، سبتمبر ١٩٧٧م.
(١١) محمد سعيد قدري، مقدمة البدو والبداوة.
(١٢) سعيد رفيع، الكلب جاك، البربوني يتجه شرقًا، دار زويل.
(١٣) محمود كامل، العودة إلى سيدي بشر، مؤلفات محمود كامل:٢، هيئة الكتاب ١٩٧٦م.
(١٤) أزهار الشوك، ٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥