نحن لا نزرع الشوك
«رضيتِ يا سيدة بالهم، ولم يرضَ الهم بك.»
١
لعل هذا المثل الشعبي هو التعبير الأدق عن حياة البغي سيدة في رواية «نحن لا نزرع
الشوك»؛ لقد تنبهت
طفولتها التي تعاني قسوة زوجة الأب، إلى العمل المتواصل في البيت: مسح وكنس وشراء الاحتياجات
المنزلية،
ثم العودة لاستبدال بعض ما أحضرت لعدم صلاحيته. وفي اليوم التالي لوفاة والد سيدة، غادرت
زوجته دلال
البيت إلى حال سبيلها، ولم يجد الحاج برعي صاحب المطبعة التي كان يعمل بها والدها من
يحادثه في أمرها،
بل ولم يجد أدنى صعوبة في أخذها إلى بيته، فلم يكن لها في الحياة أحد.
أدركت سيدة منذ اليوم الأول الذي استقرت فيه في بيت الحاج برعي أنها فقدت حريتها،
وأن عليها — لكي
تعيش — أن تعمل، فأم عباس لا تعرف الرعاية ولا الحنان، وهي توقظ سيدة ذات صباح — بعد
أيام من رحيل
والدها — برفسة في ظهرها.
٢ ثم سمحت سيدة لعباس أن ينال من جسدها لقاء قرش في المرة الواحدة، وعرفت أن «العيب» هو
وسيلة
حصولها على المال: «كنت تجدين كل شيء تحتاجينه دون أن تسعي إليه، وبغير حاجة إلى قرش
ما لا تنالين بغيتك
إلا به، ولا تستطيعين الحصول عليه إلا بفعل العيب الذي قد يودي بك في داهية.»
٣ أيقنت أن لحظات العيب البسيطة تتيح لها ما لم توفره لها سنو المشقة في الكنس والمسح
والغسيل،
٤ وتساءلت: «هل يمكن أن يكون هذا الجسد بامتلاءاته المميزة هو موهبتك في الحياة، هو سبيلك
إلى
ما تريدين منها، وسلمك إلى الصعود فيها؟»
٥
ثم عملت سيدة خادمة مقابل راتب شهري لا تتقاضاه، فقد كانت الأسرة التي تعمل لديها
تدَّخره باسمها،
ثم تزوجت بائع كازوزة، لفظها بعد أن نال جسدها وأموالها القليلة. وكان الجنس هو الدافع
الوحيد لأن يطلب
علام الزواج من سيدة، وعندما استدعته الست فاطمة لتحدِّثه في علاقته بسيدة، لم يجد حرجًا
في أن يمسح سيدة
— للمرة الألف — بنظراته: «هذا كله يمكن أن يكون تحت أمرك … بغير حاجة إلى مركب في النيل،
وبغير تسكُّع في
الحواري والشوارع، ولا خوف من نظرات المتطفلين، وتهديدات من أصحاب الدماء الحامية، المتلهفين
على الدفاع
عن الشرف في الطرقات.»
٦
من هنا، لم تكن ليلة الزفاف تعدو وجبة دسمة شهية، هي سيدة، أمام جائع ينقض على طعامٍ
طال حرمانه
منه، هو علام.
٧ أما سيدة، فكانت موافقتها على الزواج من علام مبعثها الرغبة في أن تقطع اللجام المزمن
الذي
لازم فاها، منذ أن وعت في هذه الحياة، والذي مهما سلس ورقَّ في أيدي سادتها الطيبين،
فهو لجام، لا يمنحها
فرصة الانطلاق، والبرطعة، والتمرغ ولو في التراب كما تشاء.
٨
والحق أنه لا يمكن تبرئة سيدة من إقدامها على زرع الشوك أحيانًا، كانت ترفض من حمدي
حنان السيد،
وعطف الأمير،
٩ وكانت تقول لنفسها: «جميل أن يكون لك مكان خاص بحاجاتك يا سيدة، تضعين فيه قروشك ومشطك
ومرآتك، كانت تلك أمنيتك التي تتوقين إليها في بيت أم عباس، لماذا لا تقنعين بها؟ ولماذا
تحاولين أن
تقفزي إلى أمنيات أخرى مستعصية؟ لماذا لا تضعين نفسك في موضعها، فتريحي وتستريحي … ولكن
هل تملكين التحكم
في أمانيك يا سيدة؟ هذه الرغبة المثارة من باطنك في شيء بذاته، هل تملكين التحكم فيها،
وتوجهينها حيث
تشائين؟»
١٠
وكان لا بد لسيدة أن تعلن الثورة يومًا:
– إذن … سنظل هكذا طول عمرنا؟
– ولم لا؟
– غير معقول يا علام … لا يمكن أن أقضي حياتي هنا في هذا الجحر.
– اعقلي يا سيدة واحمدي الله.
– على ماذا؟
– على البيت الذي آواك، والناس الذين لموك؟
– أنا لم أكن ضائعة في الطريق.
– كنت ضائعة في بيت.
أدركت سيدة بعد انفصالها عن علام أن جسدها هو كل ما تبقى لها.
١٢ وإذا كانت قد سايرت عباس في رغباته، ثم تحوَّلت — رغم إرادتها — إلى خادمة فراش في بيت
علام،
فإنها قد اختارت — بإرادتها — أن تدخل العربة التي فتحت بابها، ودعاها ركابها إلى الدخول
«ادخلي، تجدي —
على الأقل — فراشًا تنامين فيه حتى الصباح، وسيعطونك شيئًا، أي شيء، وإذا لم يعطوك، فهم
لن يأخذوا منك،
لأنك لا تملكين شيئًا، أي شيء.»
١٣
وكانت تلك هي الخطوة الأولى في احترافها الدعارة، تذكِّرنا بنفيسة في «بداية ونهاية»؛
أصبح الجنس
تجارة سيدة التي لا تملك سواها، وصار من المألوف لها وللآخرين أن تقول لمن يدعوها إلى
نزع ثيابها:
النقود.
فإذا قال لها: بعدين، قالت في إصرار: لا، أريد النقود أولًا … الثمن يا أولاد الكلاب،
فلن تفرط
سيدة في جسدها مجانًا.
١٤
ويدفع الشاب خمسة قروش، تتفحصها وتقول باستخفاف: شلن؟!
– ماله … قليل؟
– لا ينفع.
– يا الله بلاش مناكفة!
– قلت لك لا ينفع.
– خدي … الله يخرب بيتك.
١٥
ثم تحولت سيدة إلى نرجس، واستخرجت تصريحًا رسميًّا من الحكومة، ولم تعُد تشغلها حتى
أحلام الحرية
والسيادة،
١٦ وأصبحت تبيع جسدها لثمانية رجال، أو أكثر، في اليوم الواحد.
١٧
ثم تغيَّر — في بيت القوادة دلال — نوع الزبائن الذين تتعامل معهم سيدة، لم يعودوا
من الجنود ولاعبي
الكرة والسمكرية وصبية البقالين، يندلقون في طوابير، يؤدون مهمتهم في حماسة وعجلة، ثم
ينصرفون، ثم أناس
«لهم وزن، يأتون فرادى أو شلل، يطرقون الباب في هدوء، ويدخلون في أدب، ويجلسون كالضيوف،
ثم ينتقلون إلى
الحجرات، يشربون كأسًا، أو يشدُّون نفسًا، في رحرحة واسترخاء، ويضحكون، ويمزحون، وهم
يرتدون ثيابًا
محترمة، بكتاين ذهبية في الصداري، ودبابيس أنيقة في الكرافتات، ولكنهم يخلعون كل هذا،
ويعودون — زبائن
توحيدة — مجرد آدميين، أو حيوانات.»
١٨
ثم تبدَّلت حياة سيدة بعد أن أصبحت خليلة لأنور بك، قال لها: «قلت لك سأعطيكِ كل
ما تريدين، سأضع
باسمك في البنك ألف جنيه، وسأكتب هذه الشقة بكل ما فيها باسمك، وسأعطيك في الشهر مائة
جنيه مصروف يدك،
عدا ثيابك ومصروف البيت وكل ما تحتاجين إليه.»
١٩
كان هَم سيدة أن تصبح سيدة فعلًا، لا سيدة بالاسم فقط،
٢٠ وقد تحقق لها ذلك في بيت أنور بك، أصبحت سيدة، سيدة محترمة، لها سفرجي وطباخ، وتم لها
كل
شيء لكي تصبح مدام أنور بك، عدا وثيقة الزواج، ولم تحس هي أبدًا أنها في حاجة إليها.
٢١
لكنها تفيق إلى نفسها بعد وفاة زوجة أنور بك: «إلى متى يمكن أن تعيِّشني نقودي في
البنك؟ إلى أين
يذهب شبابي، ولا أعود أجد من يعولني؟ حتى العمل الذي كنت آكل منه لقمتي، لن أصلح له،
بل لا أظنني بت
أصلح له من الآن.»
٢٢
أدركت سيدة أنها في حاجة إلى أن تكرم جسدها بالاحتواء في ملاذٍ يحس فيه بالأمان والسلام،
٢٣ لكن عباس يظهر ثانية في حياتها، ويعرض عليها الزواج: «نحن لبعضنا، ولا يمكن لأحدٍ منا
أن
يستغني عن الآخر، إني في حاجة إليك، وأنتِ في حاجة إلى من يؤنس وحدتك، ولقد عزمت على
أن أتزوجك … ما
رأيك؟»
٢٤
كان مثل حسن كامل علي (بداية ونهاية)، يريد «أن يأخذ من الحياة دون أن يعطي، أن يحصل
على المتع
دون أن يدفع ثمنها من جهده وعرقه، أن ينهب من لذات الحياة ما لا حق فيه، بطريق النصب
والاحتيال والسرقة،
وبأي طريق غير طرق الكد والكدح.»
٢٥ لكن سيدة اعتبرت حملها رد اعتبار لها كامرأة بعد طول مهانة وإذلال،
٢٦ ثم اعتبرت أمر البغي قد انتهى منذ أن ظهر في حياتها هذا الإنسان العزيز الذي يهوِّن
وجوده
معها كل صعب، والذي تمسح ابتسامته كل حزن، وتمحو ضمته بذراعيه الصغيرتين كل متاعب الدنيا،
باتت تكره كل
ما يذكِّرها بالبيت القديم، تكره أن تكون بماضيها فيه سببًا لألم هذا الصغير، أو خدش
كبريائه وجرح
كرامته،
٢٧ لكن ماضيها ظل على مطاردته لها، حتى بعد أن تابت، خسرت دعوى الطلاق من عباس، بعد أن
أثبت
تلوث ماضيها.
٢٨
وبدأت سيدة حياتها الجديدة، البسيطة، المستقيمة، تقطن في شقتها ذات الحجرتين فوق
سطح العمارة،
وتعمل تومرجية في عيادة الدكتور عبد الرحيم طبيب الأطفال.
٢٩
•••
مأساة سيدة تشابه في الكثير من ملامحها مأساة أزهار، لقد نظرت إلى فؤاد عبد السميع
منذ أحبته
باعتباره زوجها الذي يجب أن تخلص له، وتقف نفسها عليه، على الرغم من أنه لم يكن يعاملها
إلا على أنها
مومس يمتلكها الجميع،
٣٠ وكانت نظرته إليها «إنها فتاة عاثرة الحظ، أوقع بها أحد أقربائها، ثم طمع فيها الرجال
بعد
ذلك، فسارت في هذا الطريق باعتباره الطريق الوحيد الذي كان مفتوحًا أمامها، ولم تلبث
أن انحدرت حتى
القاع.»
٣١
وبصرف النظر عن نظرة فؤاد عبد السميع لأزهار، ومعاملته لها، فلا شك أن حبها له كان
هو نقطة التحول
في حياتها، لكي تتحول من مومس يتداولها الرجال إلى راقصة، تقصر حبها وجسدها على رجل واحد،
هو فؤاد.
ولم تكن أزهار تحجب جسدها عن الرجال لكي يصدق فؤاد أنها قد أخلصت لحبه، بل إنها كانت
تفعل ذلك من
أجل احترامها لنفسها، ولكي تكون جديرة به.
تقول لمسيو رينيه صاحب الكباريه الذي عملت به — لفترة — في بورسعيد: «إنك لا تعلم
أي جحيم تعيش
فيه المرأة، عندما لا تكون ملكًا لرجلٍ واحد، وتكون ملكًا مشاعًا للجميع.»
٣٢
وحين عرض عليها فؤاد — في لحظة حب دافئة — أن يتزوجا حالًا، قالت له: «إنك تعرف أني
أخذت على نفسي
عهدًا ألا أحدثك في هذا الموضوع، ومع ذلك أكون كاذبة إذا لم أقل لك إن هذا هو منتهى أملي
في الدنيا
وذروة سعادتي، ولكن ما كنت لأتزوجك هكذا خطفًا وأنت في لحظة رضا عليَّ وانفعال، إنني
أخشى أن تكرهني إن
أنا فعلت ذلك، إن الوقت أمامنا لا يزال طويلًا للتفكير في الزواج.»
٣٣
وإذا كان فؤاد قد وجد في زيارة أزهار لبعض جيرانه — دون إذنه — فرصة لأن يطلب منها
مغادرة البيت
حالًا، فإن أزهار كانت تعرف السبب الحقيقي، وواجهته به: «إن قلبي قد أحس — منذ أصبحت
ملازمًا ثانيًا —
أنك بدأت ترى فيَّ عائقًا في طريق حياتك، ولذلك فسوف أفسح لك الطريق كما وعدتك.» وقد
اعترف فؤاد لنفسه —
بالفعل — بعد أن غادرته، أن المسألة لم تكن اتهامًا بقدر ما كانت فرصة للتخلص منها، بعد
أن أصبح أفق
حياته وردي اللون.
٣٤
وعلى النقيض من بداية أزهار ونهايتها، فثمة الكثير من المومسات بدأن العمل كراقصات
في الملاهي، لا
يهم الفن، لكن المهم هو الجسد الجميل، وتحيات الزبائن جزء من عمل الراقصة؛ يدعوها بعض
الأكابر للمجالسة
والمشاربة، يحسب الكأس بضعف ثمنها، وتأخذ الراقصة — الجليسة — نسبة محترمة، وبالطبع فإن
الراقصة تملأ
كأسها بالشاي «هذا تقليد معترف به» (نور القمر).
وقد حاولت مبروكة (الرجل الذي فقد ظله) — مثلما حاولت سيدة جابر (نحن لا نزرع الشوك)
من قبل — أن
تجاوز ظروفها، وأن تسير في طريق أخرى غير التي اختارتها لها الأقدار، لكنها انتهت كما
بدأت: بغيًا!
وظلت فتحية (هذه هي الحرب) تحرص على مهنتها كبائعة يا نصيب، ثم التقى بها مَن كانت
تحبه، فواجهته
بنظرة حزينة دامعة: أما تعرفني؟ أنا فتحية! «فتحية، بأصباغ، ومساحيق، وثوب أنيق، وجوارب
حريرية، أين
الشعر المترب، والأظافر الملوثة، والقدمان العاريتان؟ أين الثوب الممزق، وورقات البخت
ترتجف في يدٍ هزيلة
معروقة؟!»
٣٥
حتى المعلمة — القوادة — (العالم الآخر) تعلن ضيقها من تلك الحياة في قولها: «مهنة
كالقطران،
ادفع، ادفع، ادفع، للطبيب، للشرطي، للضابط … وكله كوم وشيخ البلطجية كوم وحده، هل قُضي
علينا أن نشقى
بمهنة جزاؤها النار وبئس القرار، لنبدد مكاسبنا على كل من هب ودب.»
٣٦
هوامش