ملامح صغيرة

كانت تطورات الحرب أشبه بالحماية الطبيعية للصناعات المحلية، فقد تعذَّر وصول الواردات الأجنبية، مما أدى إلى نمو الصناعات المحلية التي كانت موجودة قبل الحرب، ونشأت صناعات جديدة، بالإضافة إلى المصانع والورش التي أقامتها سلطات الاحتلال لخدمة أنشطتها. ونتيجة للنشاط الصناعي الكبير، زاد الطلب على الأيدي العاملة، فنزحت من الريف إلى المدن موجات من الفلاحين، يبحثون عن فرص عمل في مجالات العمل المختلفة، حتى فاق العرض الطلب في سوق العمل، فلما وضعت الحرب أوزارها، أغلق الكثير من المصانع أبوابه، وتعرَّضت الصناعة المحلية للمنافسة الأجنبية؛١ فلم تحتملها، لا في جودة المنتجات، ولا في رخصها النسبي، ولجأ أصحاب المصانع بعامة إلى ضغط حجم الإنفاق، وتخفيض أجور العمال، والاستغناء عن أعدادٍ كبيرة منهم، فنشأت أزمة بطالة، أضاف إلى قسوتها ارتفاع تكاليف المعيشة عما كانت عليه قبل الحرب.

كان ٢١٪ من الدخل القومي يذهب إلى كبار الملاك وكبار الرأسماليين، وانخفضت الأجور الحقيقية للعمال بصورة قاسية، لكن أعدادًا من الذين جنوا الثروات في أعوام الحرب، راحوا ينظمون اقتصادياتهم على أساسٍ مقيم، فتزوج الخواجة لِيشع — على سبيل المثال — بالآنسة استير، وأنشآ معًا متجرًا لبيع مخلفات الجيوش، وتزوج مرزوق أفندي ربة الصون والعفاف الآنسة فاطمة، ثم كوَّن الأربعة شركة باسم شركة الملابس الحديثة، رأسمالها ١٠٠ ألف جنيه، مع بعض الباشوات والبكوات.

وقد نشطت — في أعقاب الحرب — عملية البناء في العاصمة،٢ ولعل مشكلة تبوير الأرض الزراعية، وإقامة مساكن فوقها، تجد بدايتها في تلك الأيام.

يقول عثمان: الصحف كلها تتحدث عن مدينة الأوقاف، وتمجِّد ذلك المشروع العظيم.

يقول الباشا في غضبٍ: كل من مجَّد هذا المشروع مغفل، لقد عارضت هذا المشروع بشدة، قلت لرفعة الباشا «إن كل مشروع يأكل جزءًا من الأرض الصالحة للزراعة هو مشروع ضار بنا.»٣
واللافت أنه حين صدر الحكم على حسين شاكر باشا في جريمة زنا، بالسجن أربعة أشهر مع إيقاف التنفيذ، امتنعت كل الصحف عن نشر الحكم، عدا جريدة واحدة نشرته، لأن مقابل السكوت وصل إليها متأخرًا، بعد موعد الطبع، فضلًا عن مجلة صغيرة (هل هي روز اليوسف؟) صممت على أن تنشر الحكم، وعلى أن تستمر في النشر، رغم كل المحاولات.٤

وبالنسبة للصحافة، فقد جعلت «أخبار اليوم» لنفسها هدفًا — منذ اليوم الأول لصدورها — وهو أن تكون أداة للإمبريالية الأمريكية، وللسراي، ولأحزاب الأقلية، ومن ثَم فقد كان الوفد عدوها الأول الذي شنَّت عليه أعنف الحملات.

ونحن نلحظ — في المجال الثقافي — تواصُل دور العقاد في سلسلة كتبه في العقيدة الإسلامية، فصدر له كتابه في نشأة العقيدة الإلهية، وكتاب «الفلسفة القرآنية»، وغيرها. كما نافست مجلة «مسامرات الجيب» الدوريات والمجلات الثقافية التي كانت تصدر حوالي أعوام الحرب العالمية الثانية، مثل «الرسالة» و«الثقافة» و«الهلال» وغيرها، اعتمدت التنويع والتبسيط والخفة والصور الملونة، فزاد الإقبال عليها. يقول خيري: «هذه غمرة حرب يا يسري، ثم تنجلي، وتعود الدنيا مرة أخرى إلى معانٍ أخرى، وقيم غير هذه القيم.»٥
أما الثقافة الأوروبية التي كانت قد حُجبَت عن مصر في أعوام الحرب لعدم تيسُّر وصولها، فقد بدأ تدفقها على مصر، استقبلت البلاد مختلف الإبداعات والتيارات والاتجاهات الفنية التي تخمَّرت في أوروبا وقت الحرب من أكثر من طريق، كالكتب والبعثات والأساتذة الأجانب الموفدين، وكانت مجلة «الكاتب المصري» التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، ويرأس تحريرها طه حسين أحد المنابر العالية لتقديم هذه الألوان الجديدة، فقرأنا مقالات طه حسين عن سارتر وكامي وكافكا وريتشارد رايت وغيرهم من الكُتاب المعاصرين آنذاك، مما دفع المثقفين بعامة، والأدباء بخاصة إلى البحث عنهم في كتبهم الأصلية.٦
ويبين أحمد عباس صالح عن واقع الحياة الثقافية في أعقاب الحرب بقوله: «نشأ جيلنا على قراءة الكتب المترجَمة، وعلى اندفاعٍ كبيرٍ نحو الثقافة الغربية، وشغلتنا الاهتمامات السياسية في نفس الوقت الذي شُغِلنا فيه بالأدب. وصحونا، فلم نجد إلا أدبًا يقوم على الاهتمام بالألفاظ، أو بدراسة التراث، بينما كان مجتمعنا عقب الحرب يئن بالمتاعب، وكانت الحرب قد وفدت علينا ومعها أفكار جديدة، ومذاهب جديدة، وكتب جديدة، أما الأدب فقد كان غارقًا في الشكليات، والسياسة غارقة في الحزبية، وليس في التربة المحلية إجابة واحدة على الأسئلة الكثيرة التي كانت ترِد على أذهاننا».٧
تمخضت الحرب عن أدباء جدد، ذوي تجربة عميقة بمشاعر جيل ما بعد الحرب، عاشوا مأساة المجتمع في الضائقة الاقتصادية والغارات والخوف والتوقعات القلقة والمدمرة، وحاولت إبداعاتهم أن تعبِّر عن ذلك كله. غلبت على القصة القصيرة نزعة واقعية مسرفة، اتجهت بها — أحيانًا — إلى المعالجة المباشرة، وتقرير ما تنطوي عليه الأحداث والشخصيات من مغزى خلقي أو اجتماعي، محملًا بجهارة ومباشرة. وثمة إشارات واضحة إلى الإصلاح الاجتماعي «الذي كثيرًا ما يجد طريقه إلى التحقيق عن طريق الأدب القصصي الذي يشعر الرأي العام بفداحة النقص وخطورة العيوب.»٨ وكما يقول عبد القادر القط فقد اتجه الأدب المصري «اتجاهًا قويًّا نحو الواقعية، نتيجة لما طرأ على المجتمع من تطورٍ كبيرٍ بعد الحربين العالميتين، فقد أخذت المشكلات — التي كانت تُعتبَر فردية من قبل — تتجمع في صورة مشكلات طبقية، تؤثر في جميع أفراد الطبقة الواحدة، وإن تعدَّدت مظاهرها وبواعثها المادية، وتعقدت الحياة، وزاد إحساس الناس بحدة ما يلقون من جهد، ليوفروا لأنفسهم بعض ما تفرضه الحضارة الجديدة من وسائل المعيشة الآمنة الكريمة.»٩
وكانت رواية «كليوباترة في خان الخليلي» (١٩٤٥م) لمحمود تيمور، تأثرًا بالغًا بتلك الحرب، فهي قد صدرت في أعقابها لتكون مَعلمًا في طريق عهدٍ جديدٍ للبشرية «من استتباب الأمن، وغلبة الحق، وسيادة الحرية، وإقامة العدل.»١٠

وقد لاحظ زكي نجيب محمود أن الكُتاب انطووا — كما كان الحال في أعوام الحرب العالمية الأولى — على أنفسهم، لكنَّ انطواءهم — هذه المرة — كان معناه العودة إلى ماضي الأمة العربية، يجترونه، لكن الحرب، وما تمخضت عنه من أحداث، كانت أحد العوامل الأساسية في تخلي نجيب محفوظ عن كتابة الرواية التاريخية، أو الرواية التي توظِّف التاريخ، والتوفر على كتابة الرواية الاجتماعية، وكانت «خان الخليلي» و«مليم الأكبر» معلَمَين مهمين في هذا السبيل.

وجد عادل كامل أن أس البلاء كامن في الأدب العربي القديم، وفي أناس يريدون عن طريقه إعدام الذوق الأدبي إعدامًا تامًّا.١١ أضاف: «لقد بحثتُ في كتب الأدب العربي التي وقعت عليها، فلم أجد إلا مجاميع للنوادر والحكايات، أو مختارات من الشعر والنثر، أو تفلسفًا ينتهي بمواعظ جافة باردة، لا تنبض بالحياة، ولا صلة لها بما يضطرب به قلب الإنسان من مشاعر، فهو إما أدب لفظي بحت يستعين بمنطقٍ هزيلٍ شكلي لا ينوبك منه سوى وجع الرأس، وإما أخبار عادية كتلك التي تعج بها المجلات الأسبوعية في هذا العهد.»١٢ وذهب الكاتب إلى أن أسلوب ما بعد الحرب يجب أن يتغير، وأن يحرر كُتابنا العقول من إسار الأدب العربي،١٣ فأسلوب مثل أسلوب الجاحظ لا يقرُّه أي كاتب يفهم فن الكتابة فهمًا صحيحًا، بل إن الكاتب لم يجد واحدًا عثر بطريق الأسلوب الفني الصحيح، كان إحساس العرب القدامى بالجمال — على حد تعبيره — بدائيًّا، فجاء أسلوبهم كموسيقى الزنوج.١٤ وزاد عادل كامل، فدعا إلى تشييد قبرٍ للأدب العربي القديم، يُقام فوقه شاهدٌ جميلٌ من المرمر يُنقَش عليه «هنا يرقد الأدب العربي القديم، مات بعد حياة حافلة باللت والعجن وقزقزة اللب، وكان — رحمه الله — يقضي معظم وقته جالسًا فوق شلتة وثيرة بإحدى دكاكين الصاغة.»١٥ وكتب محمود طاهر لاشين: «عما قريب، ستختفي الحياة التي وضعناها في قصصنا تلك التي كتبناها قبل الحرب العالمية الثانية.»١٦
وأصدرت جماعة الفن المعاصر بيانَين، أولهما بمناسبة إقامة أول معرض لفناني الجماعة سنة ١٩٤٦م، أكدت فيه الصلة الوثيقة بين الفكر والفن، واعتبار التصوير والنحت والموسيقى مثل الأدب، هي وسائل لنقل فلسفة ما، وأن الدوافع وراء الأعمال الفنية لأفراد الجماعة هي خَلق قيمٍ جديدة تحل محل النسيج الفكري الكامن وراء فهم الناس للطبيعة، وعلاقاتهم فيها على أساسٍ غير صحيح. وأكد البيان أن الفنان بعيدٌ عن كل القيم التي يتطلع للوصول إليها، ما لم يكن الفيلسوف في داخله.١٧
وأدان الفنان (مليم الأكبر) فاقدي الموهبة الذين وجدوا في التيارات الفنية الحديثة، ما يزكي ادعاءاتهم بالانتساب إلى الفن. ثمة «هانيا» التي كانت بلا موهبة حقيقية، وكان أسلوبها في الرسم قاصرًا ومحدودًا، وألوان لوحاتها لا تدل على فهمٍ صحيحٍ لروح الظلال والأضواء، لكنها اتجهت إلى الرسم «غير الواقعي» «هذه المدرسة الفنية الحديثة قد جعلت من العقل الباطن نبيًّا ضخمًا، عالمًا بكل حقائق الكون وأسراره، وصور تلامذة هذه المدرسة ومؤلفاتهم قد تحتوي على إشراقات ذهنية لامعة، لكنها — في أغلب الأحيان — تكون أشبه الأشياء بمخزنٍ للمخلفات القديمة، أو كحانوتٍ مخصصٍ لبيع مختلف الأدوات المستعمَلة، فتنعدم فيها بذلك الرابطة الجوهرية بين عناصر العمل الفني، فبدلًا من أن يكون الفن هو خلق عالم متَّسق يفسر بعضه بعضًا؛ إذا به يصبح على أيدي مريدي هذه المدرسة قطعة خربة من الأرض، تضم في رحابها أشياء متنافرة متنابذة: سمك، لب، تمر هندي … لا فكرة ولا غاية.»١٨

•••

ومن أهم الظواهر التي طرحت نفسها في أعقاب الحرب ما سُمي بالثورة العلمية، وهي ثورة لم تقتصر على تغيير الأنظمة السياسية والاقتصادية، وإنما أحدثت ما يشبه الزلزال في الفكر والعلم والفن، احتلت الفيزياء التقليدية موضعها في المتحف، وقوضت الإلكترونيات وغيرها من الاكتشافات العلمية والتكنولوجية أساس الفكر الفلسفي.١٩

•••

وفي ١٩٤٥م بدأت مرحلة جديدة في تاريخ السينما المصرية، وهي مرحلة أفلام ما بعد الحرب، فقد أقبل على عمليات الإنتاج السينمائي عددٌ من أثرياء الحرب، كانوا ينظرون من زاوية تجارية خالصة، دون أن يعنيهم الفن في أية صورة. وكما يقول سعد الدين توفيق، فقد كانت هذه المرحلة بداية السقوط في صناعة السينما المصرية، والمقصود بالسقوط هنا هبوط المستوى الفني بشكلٍ واضحٍ، وإن لم يصاحب هذا السقوط هبوطًا في إيرادات شباك التذاكر؛ وهذا هو السبب في كثرة عدد الأفلام التي ظهرت في تلك الفترة.٢٠
اتَّسمت أعوام الحرب العالمية الثانية بغلبة الأفلام الغنائية، مثل «انتصار الشباب» بطولة فريد الأطرش وأسمهان، و«عايدة» بطولة أم كلثوم وإبراهيم حمودة، و«جوهرة» ليوسف وهبي ونور الهدى، و«غرام وانتقام» ليوسف وهبي أيضًا وأسمهان. كما قدمت السينما المصرية في موسم ١٩٤٥-١٩٤٦م، ٥٢ فيلمًا ميلودراميًّا، تتلخص موضوعاتها في التغرير بفتيات (٩ أفلام) واغتصاب (فيلمان) وخيانة زوجية (ثلاثة أفلام) ومحاولة انتحار (فيلمان)، وحالة جنون (فيلمان)، وغمرت دور السينما أفلام الدعاية للحرب «وهي أفلام سخيفة ورخيصة»، على حد تعبير الفنان.٢١

وفي المقابل من الأفلام المروِّجة لحكم موسوليني، ظهرت سينما الواقعية الجديدة في إيطاليا، تصوِّر أحلام البسطاء ومشكلاتهم وحياتهم العادية، من خلال أفلام دي سيكا وروسيلليني وفيسكونتي وفيلليني وغيرهم، وانتشر المسجل، ثم الكاسيت.

وبدأت الفرق المسرحية تنقل عروضها من «وش البركة» إلى شارع عماد الدين، الذي تحوَّل — شيئًا فشيئًا — إلى شارع الفن الرئيس في العاصمة.٢٢

•••

ولاحظ الخواجة ميتسو أن الدنيا تغيرت، في أعقاب الحرب: انحطَّت الأذواق، وتدهورت الفنون، واسترجلت النساء، وتخنَّث الرجال، وسادت الآلات.٢٣

هوامش

(١) الحركة العمالية في مصر، ١١٥.
(٢) محمود البدوي، الحبل، حارس البستان، الدار القومية للطباعة والنشر.
(٣) الحصاد، ٢١٦.
(٤) شيء في صدري، ١٧٥-١٧٦.
(٥) ثم تشرق الشمس، ٢١٣.
(٦) الخوف والشجاعة، ٥٨-٥٩.
(٧) الجمهورية، ٧/ ٤/ ١٩٦٣م.
(٨) يوسف المعناوي، الأقدار، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، ١٩٤٦م، مقدمة محمد حسن ظاظا.
(٩) في الأدب المصري المعاصر، ١١٨.
(١٠) مقدمة «كليوباترة في خان الخليلي».
(١١) عادل كامل، مليم الأكبر، لجنة النشر للجامعيين، ١٩٤٤م، ٤٥.
(١٢) المصدر السابق، ٥٤.
(١٣) المصدر السابق، ٦٦.
(١٤) المصدر السابق، ٢٦.
(١٥) المصدر السابق، ٢٦.
(١٦) المصدر السابق، ٧١.
(١٧) صبري منصور، دراسات تشكيلية، هيئة قصور الثقافة، ١٢٨.
(١٨) مليم الأكبر، ٢٠٣.
(١٩) سندباد في رحلة الحياة، اقرأ، ١٢٣.
(٢٠) سعد الدين توفيق، صناعة السينما في مصر، كتاب الهلال، العدد ٨٣.
(٢١) محمود البدوي، امرأة في الجانب الآخر، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب.
(٢٢) في ربوع الأزبكية، ١١٠.
(٢٣) نقولا يوسف، صالون ميتسو، مواكب الناس، مطبعة دار نشر الثقافة، ١٩٥٢م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥