الاستقلال الناقص … والسودان
أعلن المسئولون البريطانيون أن حكومة جلالة الملك جورج السادس قد قررت أن تجلي قواتها
من المدن
الكبرى، وأن وجودها بالقناة مرهونٌ بالمفاوضات النهائية لعقد معاهدة تحدِّد العلاقة بين
حكومة جلالة الملك
فاروق الأول وحكومة جلالة الملك جورج السادس.
١
كان المتظاهرون يتجمعون أمام معسكرات الإنجليز بميدان الإسماعيلية، يهتفون ضد الإنجليز،
وضد بيفن،
ومن أجل الجلاء، والعساكر يطلُّون عليهم من نوافذ المعسكر ذي اللون الأحمر الباهت، نوافذ
مستطيلة ظل
زجاجها مطليٌّ بالأزرق من أيام الحرب، ويحيط بالمكان كله سورٌ مرتفع، مفروش في أعلاه
بزجاجٍ بني وأخضر
مكسور مدبب، ومن فوق الزجاج دوائر من أسلاك شائكة ملفوفة.
٢
لكن الجيش الإنجليزي انسحب — بعد ذلك — من معسكرات القاهرة: قصر النيل والزيتون والعباسية،
ومن
الإسكندرية وغيرها إلى منطقة القناة،
٣ خرجت قوات الإنجليز في ١٩٤٦م من القاهرة والإسكندرية، ودمرت كل شيء عند انسحابها إلى
منطقة
القناة، وأحرقت الأثاث والمحصولات حتى لا تنتفع بها مصر،
٤ وجلا الجنود الإنجليز عن كوم الدكة — سرًّا — في الليل.
٥ وكما يقول الفنان (طريق النسر) فإن العلم البريطاني لم يعُد يرفرف فوق تلة كوم الدكة،
وصعد
الناس على أول الطريق، للتيقُّن من أن عساكر الاحتلال قد مضوا بالفعل،
٦ ودخل المتظاهرون معسكرات الإنجليز، فطالعهم هدوءُها، وخُلوها من كل شيء.
٧
ويقول الشاب (الحصاد) في دهشة: لماذا كل هذه الفرحة؟! إذا كان الإنجليز قد غادروا
القاهرة
والإسكندرية، فهم في بورسعيد والإسماعيلية في أراضٍ مصرية.
– الجلاء لا يمكن أن يتم دفعة واحدة … هذه هي خطوة طيبة.
– هذه سخرية بعقولنا … إن رأوا في أي وقت أن يعودوا لاحتلال القاهرة والإسكندرية …
من ذا الذي
يمنعهم؟
– المعاهدة التي بيننا وبينهم.
أما حسان (الشارع الجديد) فقد علَّق على خروج الإنجليز من القاهرة والإسكندرية بقوله:
«والله لا
أدري سبب كل هذه الأفراح التي شغفنا بها هذه الأيام … أفراح لخروج الإنجليز من مصطفى
باشا … أفراح لخروج
الإنجليز من ثكنات قصر النيل، إن مَن يرى هذه الأفراح يتصور أنهم جلوا عن مصر.»
٩
أضاف حسان: «لا أحب أن أتعلق بالأوهام، الإنجليز يضلِّلوننا، فننخدع لهم راضين، بل
نتطوع، ونطبل
للخديعة ونزمِّر، خرجوا من القاهرة، وخرجوا من الإسكندرية، فإلى أين جلوا؟ إلى القناة،
إلى السويس
والإسماعيلية، أليست هذه أراضي مصرية؟ فلماذا هذه الأفراح؟ يصعب على الإنجليز أن يحتلوا
القطر مرة ثانية،
إذا أرادوا، في يوم وبعض يوم، خدعونا فيسَّرنا لهم الخديعة، وأظهرنا السرور والاغتباط.
إذا اغتصب غاصب
بيتك، وطالبته أن يخرج منه، أيرضيك منه أن يترك شرفات البيت لكيلا يراه الناس؟ ويقبع
في غرفة بعيدة؟
وإذا أرغمك على الرضا بذلك الظلم، أتقيم الأفراح؟ الغاصب غاصب سواء بقي في الشرفات، أو
توارى عن
الأنظار، أرى أن واجب مصر أن تطالب بالجلاء عن جميع أراضيها، وألا يهدأ لها بال حتى تنال
حقوقها
كاملة.»
١٠
من هنا، يأتي وصف إبراهيم الورداني لما حدث بأن «الإنجليز ينصرفون عن القاهرة والمدن،
ويضعون
لأنفسهم شرفة مراقبة هائلة، تطل على مصر كلها من عند القنال.»
١١
وتقول فاطمة (واحترقت القاهرة): «أنا أعلم أن هذا الجلاء عن القاهرة والإسكندرية
لا يعني شيئًا؛
فهم لا يزالون هناك بوجوههم الحمراء، وشعرهم الأشقر، وأسلحتهم البغيضة، على ضفاف القنال،
في السويس
والإسماعيلية وبورسعيد والتل الكبير، ولكنهم سيخرجون، سيخرجون حتمًا كما خرجوا من القاهرة
والإسكندرية.»
١٢
أما شيخ العرب في رواية «ذات»، فقد لاحظ أن الإنجليز قد خلَّفوا وراءهم — بعد انسحابهم
إلى منطقة
القناة — الإقطاعيين والرأسماليين.
١٣
ويقول الراوي (العسكري الأسود): «تلك الفترة (١٩٤٧-١٩٤٨م) كانت أول ضربة جدِّية تلقَّاها
جيلنا،
خرجنا من الحرب لنجد جيوش الاحتلال ترتع في أرضنا، ثُرنا، فحاولوا الضحك علينا، والجلاء
الصوري إلى
القنال وفايد، ثُرنا مرة أخرى مطالبين بالجلاء الكامل، والكفاح المسلح، وهذه المرة ضربونا،
جاءوا بدولة
الباشا، وضربنا علقة كوبري عباس، وحاول أن يضرب أكثر، فقُتِل، فجاءوا بدولة باشا آخر
ليكمل العلقة،
وأكملها، فتح السجون على آخرها، سلَّط الإرهاب بكل أشكاله، كمَّم الأفواه، أخمد الأصوات،
أطلق العملاء …
وبعد أن كانت كليتنا (الطب) تموج بالمؤتمرات والخُطب والثوار، أصبحت تموج بالبوليس السياسي
والإشاعات
والخوف وحرب الأعصاب، وتشتت شمل الجيل، وحل السجن بعضه، والبعض اختفى وهرب، في الأرياف،
والمدن البعيدة،
وأحيانًا داخل نفسه.»
١٤
في أعقاب الحرب العالمية الثانية اتجهت المنظمات الطلابية النشطة — كما سبق — إلى
تحديد موقفها من
الأوضاع السياسية والاجتماعية. بدأت اجتماعات متناثرة، ضمَّت ممثِّلين لطلبة الجامعات
والمدارس الثانوية
العامة والفنية، وتبلورت — تنظيميًّا — في اللجنة التحضيرية للطلبة، وكان هدفها تكوين
لجنة وطنية للكفاح
ضد الاستعمار. ولما كان الاتجاه نفسه يعبِّر عنه الكثير من القيادات العمالية، فقد تم
اللقاء، وتوسَّعت
اللجنة لتصبح «اللجنة الوطنية للطلبة والعمال»، وطرحت القيادة الجديدة شعاراتها السياسية
وأهدافها.
كانت قد تألَّفت لجنة مشتركة من الطلبة، أصدرت ميثاقًا وطنيًّا يرتكز إلى ثلاثة مبادئ:
الجلاء … دولية
القضية المصرية … التحرر من العبودية الاقتصادية.
وسعيًا للمزيد من الدعم، فقد اتصل الطلبة بالقيادات العمالية، وكان العمال قد دخلوا
المعركة كقوة
مناهِضة للقوى الحزبية، ومؤيِّدة، ومتضامنة، مع قوى الطلاب. وتكوَّنت — نتيجة لتلك الاتصالات
— هيئة اتصالٍ
بين لجنة الطلبة والتجمعات العمالية، انتهت — في اجتماعٍ بأحد مدرجات كلية الطب بالقاهرة
— إلى تكوين
اللجنة الوطنية للعمال والطلبة في ١٧ فبراير ١٩٤٧م.
وصدر بيان في ١٧ فبراير ١٩٤٧م يمثِّل وعيًا ناضجًا بطبيعة العلاقات المصرية السودانية،
فهو قد جاوز
الشعار التقليدي الذي كان يتيح للاستعمار أن يدَّعي بأن مصر لا تهدف إلى استقلال السودان،
لكنها تهدف إلى
فرض الوحدة الاندماجية عليه، فقد رفع البيان شعار: الجلاء التام عن مصر والسودان معًا.
١٥
تعرَّضت اللجنة لاضطهادات شديدة من جانب حكومة صدقي، إلى حد حظر نشر أنبائها وقراراتها
في الصحف،
لكن اللجنة — مع هذا — مارست نشاطها؛ دعت — في البداية — إلى تنظيم إضرابٍ عام لجميع
فئات
الشعب وطوائفه في الحادي والعشرين من فبراير، باعتباره يوم الجلاء.
١٦
ودفع إسماعيل صدقي بعض أنصاره إلى تكوين ما سُمِّي باللجنة القومية للعمال والطلبة،
وفتح لها أبواب
النشر المختلفة، بينما حرَّم على الصحف مجرد الإشارة إلى اسم اللجنة الوطنية للعمال والطلبة.
•••
قبل أن يقدم صدقي استقالته، قدَّم وجهة نظر مستفيضة حول قضية السودان، وبعث بها عن
طريق السفارة
المصرية بلندن في ١٢ ديسمبر ١٩٤٦م.
١٧
وخلَّف النقراشي صدقي في رئاسة الحكومة، وحاول أن ينقذ المفاوضات من الفشل للمرة
الأخيرة، ساعده
على ذلك تبليغ بريطاني بواسطة السفارة البريطانية بالقاهرة في اليوم نفسه (١٢ ديسمبر
١٩٤٦م) تعرب فيه
الحكومة البريطانية عن أملها في أن تقبل الحكومة الجديدة ما جاء في الكتاب الذي أُرسِل
لصدقي،
١٨ وطلب النقراشي إلى السفير البريطاني، أن تصدر حكومته تصريحًا لتهدئة الرأي العام في
مصر،
فلم يُجَب إلى طلبه، كما طلب إلى السفير أن يكف الحاكم العام للسودان عن تصرفاته التي
تحض على التوتر
والخصومة، لكن الحاكم زاد من تصرفاته بصورة لافتة.
١٩
•••
طرحت الحكومات المصرية «الوحدة» حلًّا وحيدًا لعشرات الأعوام، وهو ما كان يثير الحساسيات
بأكثر من
أن يكون حلًّا فعليًّا.
وفي موازاة ذلك الطرح، قال بيفن (١٩٤٦م) إن السودان، وليس منطقة القناة، هو الذي
يقف حجر عثرة في
سبيل العلاقات المصرية البريطانية،
٢٠ وظلَّت مشكلة السودان — بالفعل — هي العقبة الرئيسة في المباحثات بين الحكومتين المصرية
والبريطانية.
٢١
كان الوفد يستند في طلب الوحدة بين مصر والسودان — كما يقول محمد عودة — إلى «حق
الفتح، إلى فتح
مصر للسودان أيام محمد علي، ثم على يد كتشنر البريطاني.»
٢٢ وكانت نقطة الخلاف الأساسية في مفاوضات صدقي-بيفن هي قضية الوحدة الدائمة بين مصر
والسودان، وكان رأي صدقي أن الوحدة دائمة، بينما أصر بيفن على أن يكون للسودان حق الانفصال
عن مصر.
أما وجهة النظر البريطانية فتلخصت في مبدأ «وحدة مصر والسودان»، السودان منطقة شاسعة،
يسكنها قوم
يختلفون عن المصريين اختلافًا عنصريًّا تامًّا، وقد أخذت تزدهر، وتشعر بالرخاء، وهي تُقاد
على مهلٍ إلى
الحكم الذاتي؛ فالاحتفاظ بالنظام القائم فيها مهم للغاية؛ لذلك فإن مطالب المصريين —
فيما يختص بالسودان
— ليست سهلة.
٢٣
لم تحاول الحكومات المصرية المختلفة أن توضح المقصود بوحدة وادي النيل، مقابلًا للشعار
الذي طرحه
الإنجليز «حق السودانيين في تقرير المصير»، وهو الشعار الذي عملوا على تطبيقه — بهدف
تكريس الانفصال —
بوضع دستور لدولة السودان المرتقبة، كخطوة لقيام برلمان سوداني.
٢٤
وإذا كانت سلطات الاحتلال البريطاني قد أفلحت — إلى حدٍّ ما — في تصوير المصريين كغزاة
وأعداء
لأماني الشعب السوداني في الحرية والاستقلال، فإنها أفلحت — في المقابل — في بث الرعب
في نفوس المصريين
بواسطة الجنود السودانيين «الهجانة» الذين كانوا أداة — للأسف — في قمع حركات التمرد
بين الفلاحين
وجماهير الشعب (أذكِّرك بما فعله الهجانة في رواية «الأرض»).
ووصلت محاولات بذر الانقسام بين الشعبين في الوادي، إلى الأغنية الشعبية «يا بهية
وخبريني ع اللي
قتل ياسين … قتلوه السودانية — يا عيني — من فوق ضهر الهجين.» ولم يكن ياسين إلا سفاحًا،
قتل العشرات، ودمر
وسلب ونهب، وكان قتله بأيدي «السودانيين» دفاعًا عن حق مواطنيه في حياة آمنة، خالية من
الجريمة، بل لقد
حاولت الحكومات المصرية — في الفترة من يناير إلى يوليو ١٩٥٢م — تجنيد جيش من أبناء السودان
لوأد الثورة
المرتقبة في مصر، وكان عدد الشعب السوداني في ١٩٤٧م، ثمانية ملايين، ولم يكن لديه سوى
مدرستين فقط، يبلغ
عدد طلبتهما خمسمائة طالب.
٢٥
فضحت الصحف التقدمية في السودان تلك المؤامرة، فكتبت «الصراحة» — على سبيل المثال
— «نحن نعلم
لمصلحة مَن يُجنَّد الجيش الذاهب إلى مصر، ونعلم أن الطبقة الحاكمة المصرية تكرهنا، وتحتقرنا،
مثلما تكره
أشقاء الشمال، فهل نسكت عن إرسال جيش سوداني يُعتبَر خنجرًا مسمومًا، مسددًا إلى الشعب
المصري.»
٢٦
من ناحيته، فقد كان اليسار المصري يرفض فكرة الضم، التوسع، الإمبراطورية؛ السودان
لا يسعى إلى
الاستقلال عن الاستعمار البريطاني ليُسلِّم قياده إلى الاستعمار المصري، وإدماج السودان
يتطلَّب استفتاء
للشعب السوداني الذي يملك — وحده — حق تقرير مصيره.
٢٧
وفي ١٩٤٦م، طُرحَت — للمرة الأولى — شعارات مغايرة لما كانت تردده السياسة المصرية
آنذاك، وكانت
شعارات جماهيرية، في مقدمتها «الكفاح المشترك» و«حق تقرير المصير»، وصدرت مجلة «أم درمان»
التي كان
يشرف على تحريرها محمد خليل قاسم ومجموعة من زملائه السودانيين، لتستبدل بشعار «وحدة
وادي النيل تحت
التاج المصري»، شعار «وحدة وادي النيل في الكفاح المشترك ضد الاستعمار».
وفي ١٩ يناير ١٩٤٧م — ذكرى توقيع معاهدة السودان سنة ١٨٩٩م — أفردت الصحف صفحاتها
لشرح قضية
السودان، وردَّت على المزاعم التاريخية البريطانية، وركَّزت على فضح المخططات الاستعمارية
بفصل السودان عن
مصر، ثم تجزئته إلى شمال عربي مسلم، وجنوب أفريقي مسيحي ووثني، بل إنه حين عرضت مصر قضيتها
على مجلس
الأمن لم تستطع الحكومة المصرية أن توضح موقفها من السودان. عرضت ما حمله وفدها من اجتهادات
المؤرخين عن
فتوحات القرن التاسع عشر التي قام بها محمد علي وخلفاؤه، كما تحدث الوفد المصري عن وحدة
وادي النيل،
ومقوماتها الجنسية والجغرافية والتاريخية والدينية والثقافية، وطرح الوفد شعار «وحدة
وادي النيل تحت
التاج المشترك». وكانت المظاهرات في شوارع القاهرة تهتف «نيل واحد، وطن واحد، ملك واحد».
ويذهب إبراهيم طلعت إلى أن تعثُّر المفاوضات بين مصر وإنجلترا منذ ١٩٢٤م، لا يعود
إلى رفض إنجلترا
الجلاء عن مصر، وإنما لإصرارها على استمرار الحكم الثنائي في السودان؛ لذلك كان إقدام
النحاس على إلغاء
اتفاقية ١٨٩٩م الخاصة بالحكم الثنائي في السودان، إلى جانب إعلان إلغاء معاهدة ١٩٣٦م.
٢٨
لذلك، تقدَّم محمد صلاح الدين وزير الخارجية في حكومة الوفد، إلى الجمعية العامة
للأمم المتحدة في
١٩٥١م، بمطلب محدد هو الاستفتاء.
٢٩
وقد واجه الوفد المصري في مجلس الأمن اتهامًا بأن له أهدافًا استعمارية في الشطر الجنوبي
من وادي
النيل، وحين أعلنت حكومة الوفد (١٩٥١م) إلغاء معاهدة ١٩٣٦م، وأعلنت فاروق ملكًا على مصر
والسودان، فإن هذا
الإعلان أحدث ردَّ فعل سلبيًّا لدى حزبي الأشقاء والوطني (الحزب الوطني الاتحادي فيما
بعد) اللذين كانا من
غلاة الداعين لذلك في السودان، ارتكازًا إلى أن الحكومة المصرية لم تأخذ رأي الساسة السودانيين،
ولم
تعلمهم مسبقًا بقرار إلغاء المعاهدة.
ونفخًا في الرماد، ألقى وزير الخارجية البريطاني — في ٣٠ يوليو ١٩٥١م — بيانًا في
مجلس العموم،
أعلن فيه «تمسُّك الحكومة البريطانية بالاحتلال والدفاع المشترك في وقت السلم بحجة القرارات
الدولية،
ومعارضتها وحدة مصر والسودان تحت التاج المصري، بحجة استطلاع مشيئة السودانيين.»
٣٠
هوامش