قرار التقسيم

أخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة في ٢٩ نوفمبر ١٩٤٧م، قرارًا بتقسيم فلسطين، وقد استندت الدول العربية في رفضها لقرار التقسيم إلى عدم أحقية أية منظمة دولية — حتى لو كانت الأمم المتحدة — في أن تغيِّر الواقع التاريخي للدول، وزاد من تحمُّس الأقطار العربية للرفض، ممارسات الدول الكبرى، منذ أواسط القرن التاسع عشر، ونقضها لتعهداتها في الحرب العالمية الأولى، وفرض الأمر الواقع بالقوة على شعوب المنطقة.١ وكما يقول عصام الدين حفني ناصف في أوراقه الخاصة، فقد أضافت الأمم المتحدة بقرار التقسيم «صفحة فاحمة السواد إلى سفر الديمقراطية الزائفة، وجاهرت — في غير حياء — بأن المبادئ التي تنتحلها ليست نواميس تلتزمها، وإنما هي أساليب للدعاوى، وشعوذة تتخذها للتغرير بالشعوب، ولتسويغ سياستها الاعتدائية، وليس هذا القرار الذي تواطأت عليه ثلاث وثلاثون دولة بالحل الصحيح لمشكلة فلسطين، وإنما حلُّها الصحيح هو إجلاء الصهيونيين كافة عن فلسطين، طوعًا أو كرهًا.»٢ وأشار الكاتب إلى أن الانتظار قد طال بالجماهير المتوترة الأعصاب، دون أن تقدِم الحكومة على فعل شيء، ولما بدأ موظفو الحكومة في جمع التبرعات لمجاهدي فلسطين، أصدرت الحكومة بلاغًا رسميًّا، تطلب التريُّث حتى يُوضَع نظام لجمع التبرعات، لكنَّ الوقت مرَّ «ولم نرَ بعد جيوشًا تقاتل، ولا طائرات تساقط، ولا مدافع تقذف، ولا جيوشًا تقاتل، ولا مجندين يُدرَّبون، ولا عتادًا يُرسَل إلى المجاهدين، ولا أموالًا تُجمَع لتُنفَق في إمدادهم بالميرة والذخيرة، ولا بعثات طبية تُبعَث لإسعاف جرحاهم، ولم نتبيَّن من أمارات الجد غير الخُطب النارية، وهي إن زادت عن الحد انقلبت إلى الضد، فأدَّت إلى فتور الحماسة، وتطرق الشك واليأس وذيوع الشائعات المقلقة.»٣
وانتهى عصام ناصف إلى القول: «البدار البدار إلى العمل، فقد سئمنا الأقوال، وإلى العمل في وضح النهار، فقد سئمنا التستر والاحتجاب، العدو لا يضيع وقته، ونحن لم يبقَ لنا من الوقت شيء نضيِّعه.»٤
أما الفلسطيني إبراهيم، فقد كان من القلة الذين وجدوا في تقسيم فلسطين ما يعود بالنفع على أهلها، «لأن اليهود سينعشون تجارتها، وسيجلبون إليها المدنية والرخاء.»٥
سبق قرار التقسيم، مشروع للتقسيم عرضته اللجنة الملكية البريطانية (١٩٣٨م) لإيجاد حل جذري للصراع العربي الصهيوني، وقد وافق المؤتمر الصهيوني في زيورخ، في أغسطس من العام نفسه، على مشروع إنشاء دولة يهودية صغيرة، ويمكن — والعبارات من مسودة مشروع التقسيم — أن تشكِّل هذه الدولة قاعدة صلبة من أجل الانطلاق للتغلغل الاقتصادي في كل الشرق الأدنى، لكنَّ تطورات الأحداث — لصالح الحركة الصهيونية للأسف — أرجأت تنفيذ ذلك المشروع، رغم أنه يبيح لليهود أرضًا ليست ملكًا لهم.٦

وفي ١٤ فبراير ١٩٤٧م قرر أرنست بيفن وزير خارجية بريطانيا، تحويل القضية الفلسطينية إلى الأمم المتحدة، حتى لو أدى ذلك — حسب قوله — إلى تخلي بريطانيا عن الانتداب، ومغادرة فلسطين، وجاء تقديم القضية إلى الأمم المتحدة، فإصدار قرار التقسيم، أشبه برش الملح والتوابل على «الطبخة» التي كان قد انتهى إعدادها.

وقد استطاع اليهود أن يتسللوا إلى المنظمة الدولية من خلال سكرتيرها العام — تريجفي لي — الذي لم يخفِ مناصرته للتحركات الصهيونية، إلى حد أنه تولى توزيع نشرات وكراريس الوكالة اليهودية على ممثلي الدول الأعضاء، وعلى وكالات الأنباء، ومراسلي الصحف.٧
ثم وافقت الدول الكبرى — على حد تعبير الفنان — على تقسيم فلسطين،٨ فقد أُجري التصويت على مشروع التقسيم، وكان عدد الدول الأعضاء في الجمعية العامة ٥٨ عضوًا، وكانت الدول الكبرى تسيطر على مناقشات وقرارات الجمعية العامة، في حين كان معظم دول آسيا وأفريقيا تعاني الاحتلال الأجنبي، ووافقت على قرار التقسيم ٣٣ دولة من بينها الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وفرنسا، وصوتت ضده مصر والعراق ولبنان والسعودية وسوريا واليمن وبعض الدول الإسلامية كأفغانستان وإيران وباكستان وتركيا، وكذلك الهند واليونان وكوبا.

والحق أنه لولا حملة الضغط الهائلة على دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية التي جنَّدت لها دول الغرب قواها، لما أمكن تمرير قرار التقسيم.

ويشير الحاج أمين الحسيني في مذكراته، إلى أن الرئيس الأمريكي ترومان أظهر أنه صهيوني أكثر من الصهيونيين أنفسهم، فقد أمر الوفد الأمريكي في الأمم المتحدة، بأن يصر على التقسيم، وعلى أن تكون العقبة وأراضي النقب كلها لليهود. أما جيمس فورستال وزير الدفاع الأمريكي — آنذاك — فقد كتب في يومياته: «إن الأساليب التي استُخدمَت ضد الدول الأخرى في الجمعية العامة بلغت حد الفضيحة.»٩
كان اليهود يشكِّلون نسبة ٣٥٪ من عدد سكان فلسطين، منحهم قرار التقسيم ما يقرب من ٥٥٪ من مساحة البلاد، وكان قرارًا ظالمًا، وبالأرقام، فقد كانت مساحة فلسطين — كما تم تسجيلها أيام الانتداب البريطاني — هي٢٨١٢٠٠ كيلومتر مربع، استولت إسرائيل على ٨٢٪ منها، وأقامت عليها دولتها في ١٩٤٨م وما بعدها، وقد أعطى قرار التقسيم إسرائيل ٥٥٪ من الأرض، وأعطى الفلسطينيين النسبة المتبقية، وكان من الصعب على الفلسطينيين بخاصة، والعرب بعامة، أن يقروا بمنح اليهود ٥٤٪ من الأرض بينما ملكيتهم — آنذاك — لا تتجاوز ٦٪.١٠

زاد القرار، فألغى وجود حدود للدولة الفلسطينية المقترحة مع سوريا والبحر الأحمر، واكتفى بمنفذٍ وحيدٍ بالقرب من يافا على البحر المتوسط.

انعكس ذلك كله في تشابك الأوضاع وتعقدها؛ فالدول الكبرى وافقت على تقسيم فلسطين، وإنجلترا تعارض استرداد مصر للأرصدة الإسترلينية، والحالة الاقتصادية في تدهور … والحل؟ المقاومة؟ الإضرابات؟ التمرد المسلح؟١١

وكتب عصام الدين حفني ناصف يعقب على قرار الأمم المتحدة بأنه قد أضاف صفحة فاحمة السواد إلى سفر الديمقراطية الزائفة، وجاهر — في غير استحياء — بأن المبادئ التي تنتحلها — الأمم المتحدة — ليست نواميس تلتزمها، إنما هي أساليب للدعاوى، وشعوذة تتخذها للتغرير بالشعوب، ولتسويغ سياستها الاعتدائية، وليس هذا القرار الذي تواطأت عليه ثلاث وثلاثون دولة، بالحل الصحيح لمشكلة فلسطين، وإنما حلها الصحيح هو إجلاء الصهيونيين كافة عن فلسطين، طوعًا أو كرهًا.

أضاف عصام الدين حفني ناصف — في دراسة مخطوطة — أن هذا هو الحل الوحيد الذي كانت، ولا تزال تقول به، كل الأحزاب والجماعات السياسية العربية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فقد قرأنا — من أربع سنوات خلت — في صحيفة «صوت الشعب»، لسان الحزب الشيوعي السوري ما يأتي: «إن العرب لم يرضوا، ولن يرضوا، بفكرة الوطن اليهودي في فلسطين، وهم يتطلعون إلى يوم الانتصار على الهتلرية بأملٍ وثقة، لا ليتحمَّلوا وطأة جديدة، بل لينفسح المجال أمام الموجودين في فلسطين من اليهود الذين اضطهدوا في أوروبا، للرجوع إلى بلادهم، هذا ما يريده العرب، ولن يقبلوا عنه بديلًا.»١٢

•••

يقول الشيخ المهدي: «إنها كارثة، مصيبة يا أستاذ فوزي هذا القرار العالمي بتقسيم فلسطين، ولكني أؤكد لك أننا سننتصر بالرغم من كل شيء، إن كتاب الله صريح يا أستاذ فوزي، إن اليهود لا يمكن أن يخرجوا أبدًا إلا بالخيبة والدمار واللعنة.»١٣
والملاحَظ أنه عندما اتخذت الأمم المتحدة قرار التقسيم، كان عدد السكان اليهود قد بلغ — بتأثير الهجرة — حوالي ٦٥٠ ألف نسمة، بينما بلغ عدد السكان العرب — بمعدل زيادة الطبيعة — مليونًا و٣٥٠ ألف نسمة، أي أن العرب كانوا يكوِّنون نسبة ٦٧٫٥٪ ألف نسمة، بينما كان اليهود يكوِّنون ٣٢٫٥٪ فقط، وكانت نسبة الأراضي المملوكة لليهود في فلسطين ٦٪ فقط من المساحة الكلية للبلاد.١٤

كانت دولة فلسطين — حسب قرار التقسيم — تشمل الأراضي الواقعة شرقي ووسط فلسطين، من أريحا إلى بير سبع، بالإضافة إلى الجزء الغربي من منطقة الجليل، وشريط ساحلي كبير على طول البحر المتوسط، بموازاة الحدود المصرية إلى البحر الأحمر، وأيضًا مدينة يافا وما حولها. أما دولة إسرائيل فتشمل المنطقة الشرقية من الجليل، ثم تمتد من حيفا إلى خليج العقبة، وتضم جانبًا من صحراء النقب. وأما القدس وبيت لحم فإنهما يُوضَعان تحت وصاية الأمم المتحدة.

أعطى قرار التقسيم دولة إسرائيل أكثر من ٥٥٪ من المساحة الكلية للبلاد، أي أكثر من عشرة أضعاف الأرض التي كان يملكها اليهود، وأعطى الدولة العربية ٤٢٫٥٪ من مساحة البلاد، وكانوا يمتلكون أكثر من ٩٤٪ من المساحة الكلية، بينما أنشئت منطقة دولية تضم القدس، وخُصصَت لها ٦٫٥٪ من المساحة الكلية.١٥
ويقول وحيد الدالي في مذكراته: «بدأ اقتسام فلسطين بين اليهود والملك عبد الله قبل يومين من قرار الأمم المتحدة بتقسيمها إلى دولتين، تم التفاهم على ذلك في أول لقاء بينه وبين جولدا مائير، ثم تعثَّر في اللقاء الثلاثي، ثم دخل العرب الحرب، فتوقفت الاتصالات، ولكن الملك ألزم جيشه بعدم تجاوز الحدود المُتفَق عليها سرًّا، وما كاد القتال يتوقف بسبب الهدنة التي فرضتها الأمم المتحدة، حتى عاد الملك يتفاوض، وبلغ من لهفته على اقتسام الغنيمة أنه لم يعُد يكتفي بإجراء المباحثات عن طريق رجاله، وإنما طلب أن يُحضِر إليه قادة اليهود داخل قصره.»١٦ ولعل ذلك هو الدافع لقول وايزمان — كما ذكر اللورد كيلرن في مذكراته — إنه يعتقد أن الزعماء العرب الذين يعارضون التقسيم، مثل الملك عبد العزيز آل سعود، لا تهمهم فلسطين بقدر ما يهمهم ألَّا يستولي الأمير عبد الله على الدولة العربية التي ستقام في فلسطين.١٧
والحق أن رفض قرار التقسيم — على المستويَين الرسمي والشعبي — كان غلابًا في امتداد الوطن العربي، ويمثِّل ما حدث في شرقي الأردن تصرفًا شاذًّا، يجد صداه في تصرفات فردية، كذلك الخلاف بين نسرين وزوجها (الخرز الملون) حول تقسيم فلسطين، بتقطيع أوصالها ما بين دولة يهودية، وأخرى عربية، ومنطقة ثالثة دولية. كان رأي إبراهيم أن تقسيم فلسطين سيعود بالنفع على أهلها، لأن اليهود سينعشون تجارتها، ويجلبون إليها المدنية والرخاء. أما نسرين، فلم تكن ترى في العصابات الصهيونية إلا غزوًا تتريًّا جديدًا يحطم مع كل يومٍ جديدٍ معالم الحضارة العربية الممثَّلة في فلسطين.١٨

لقد بلغ الرفض العربي لمجرد قيام دولة إسرائيلية على أرض فلسطين، إحدى ذراه في عام ١٩٤٥م، عندما قام العديد من المظاهرات العنيفة بمناسبة ذكرى وعد بلفور، وحدثت — في أثناء المظاهرات — عمليات تخريب ضد ممتلكات اليهود، شملت — في القاهرة — مستشفى، وبيتًا للمسنين، ومعبدًا يهوديًّا بالقرب من ميدان العتبة، ومحالًا تجارية، وحارة اليهود.

اتهم حزب «مصر الفتاة» بتدبير تلك الأحداث، وقيل إن الحزب وجَّه إنذارًا إلى الطائفة اليهودية في مصر — قبل نشوب المظاهرات — يطلب فيه أن تعلن الطائفة انفصالها عن اليهود الصهيونيين في فلسطين، وإلا اتُّهم أفرادها بعملٍ عدائي ضد البلدان العربية.١٩
وفي تقدير الفنان، أن حارة اليهود تعرضت لغاراتٍ من الأحياء المجاورة، كما كان يحدث بين أحياء القاهرة المختلفة، لكن حارة اليهود «لم تُحرَق وتُدمَّر كما حُرقت ودُمرت في جميع أنحاء العالم عبر التاريخ.»٢٠

أحدث قرار التقسيم ردودَ أفعال عنيفة؛ راح الإسرائيليون يرقصون في شوارع تل أبيب والقدس والمناطق ذات الكثافة اليهودية، وهم يغنون: أصبحت لنا دولة أخيرًا!

لكن القرار — رغم جوره ضد حقوق الشعب العربي في فلسطين — لم يكن في نظر القيادات الصهيونية — إلا مرحلة، تتلوها — في مخططاتهم — مراحل أخرى، وكما قال جوداه ماجنس رئيس الجامعة العبرية بالقدس في رسالة إلى «نيويورك تايمز»: «إن مشروع التقسيم لن يُوقِف النشاطات الإرهابية للجماعات اليهودية، فهذه الجماعات — بعد أن تحقق التقسيم بواسطة الإرهاب — ستحاول كسب بقية البلاد لليهود بالطريقة نفسها.»٢١
كان النقب — في قرار التقسيم — تابعًا للدولة العربية، فقال وايزمان ببساطة: «النقب لن يهرب!» في حين أكد بن جوريون أن الدولة اليهودية أُنشئت على جزء من أرض إسرائيل (كان هرتزل قد أعلن — في البداية — أن حدود فلسطين اليهودية تخضع لاعتباراتٍ عملية)، وأعلن بن جوريون في ٧ أبريل ١٩٥٠م أنه «لن يكون سلام لشعب إسرائيل، ولا فوق أرض إسرائيل، حتى ولا للعرب أنفسهم، ما دمنا لم نحرر وطننا بأجمعه، ولو وقَّعنا معاهدة صلح بهذا المعنى» (الشرق الأوسط ومشكلة فلسطين، أحمد سويلم العمري، ٢١٨)، ويرى الكوماندور أ. ﻫ. هتشيسون أن العرب كانوا ينظرون إلى تنفيذ مشروع التقسيم، كمجرد خطوة في مشروعات الصهيونية لغزو فلسطين كلها، وكان يداخلهم الشك في قدرة الأمم المتحدة على كبح جماح الفلسطينيين، فضلًا عن أن المشروع كان يمنح الصهيونيين أكثر من نصف أرض فلسطين،٢٢ لكن اللجنة العربية العليا رفضت القرار على أسسٍ مغايرة، وتحدد رأيها فيما يلي:
  • إن التقسيم يؤدي إلى إنشاء دولة يهودية مستقلة، في بقعة من أهم بقاع الوطن العربي من النواحي السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية.

  • إن إنشاء هذه الدولة اليهودية المستقلة، إلى جانب أنه خطر هائل على فلسطين وسائر الأقطار العربية، فإنه أيضًا يحرم العرب من شطرٍ مهم من الساحل الشرقي للبحر المتوسط، ومن منافعه وخيراته، كما يجعل منها — أي الدولة اليهودية — قواعد بحرية وجوية وبرية، تهدِّد باستمرار كيان الأقطار العربية واستقلالها.

  • يجعل منها بؤرة للدسائس الأجنبية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية ضد الوطن العربي.

  • يمهد السبيل للصهيونية العالمية والرأسمالية اليهودية، بما لديها من الثروات الطائلة، أن تنشئ الأساطيل الجوية والبحرية والجيوش البرية العظيمة بدون رقابة، وذلك من أجل التوسُّع الصهيوني في البلاد العربية المجاورة؛ إذ لا يخفى أن الدولة اليهودية التي تنشأ في جزء من فلسطين لا يمكن — بحالٍ من الأحوال — أن تستوعب العدد الذي تحاول الصهيونية حشدَه في فلسطين، تحقيقًا للمطامع الصهيونية التي تمتد إلى سوريا ولبنان وشرقي الأردن والعراق ومصر الشرقية (المقصود سيناء).

  • يجعل جميع الأماكن المقدسة في فلسطين في خطر دائم.

  • ينشئ رأس جسر يهوديًّا خطيرًا في البلاد العربية، ويشكِّل إسفينًا يفصل بين أجزاء الوطن العربي والإسلامي، في نقطة حساسة على مفترق طرق القارات الثلاث.

  • يمكن للصهيونية من تقوية نفوذها السياسي أضعافًا مضاعفة، بما تستطيع إنشاءه بصورة رسمية من مراكز التمثيل السياسي، كالسفارات والقنصليات ونحوها في جميع أطراف العالم، وبما يكون لهذه المراكز من الحصانة، ومن الامتيازات الدبلوماسية.٢٣

وحظرت اللجنة العربية العليا على أعضائها مقابلة وفد الأمم المتحدة في فلسطين، وإن التقوه — فيما بعد — في بيروت، للتأكيد على رفض العرب لتكوين دولة يهودية بواسطة القوة، وشددوا على إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية، تهب حقوقًا متساوية لكل مواطنيها بصرف النظر عن دياناتهم، وأعلن الشعب الفلسطيني الإضراب العام ثلاثة أيام متوالية، ونظمت المظاهرات في أرجاء الوطن العربي، وفتحت الحكومة السورية باب التطوع، وأحرق المتظاهرون في شرق الأردن سيارات شركة التابلاين، وتعدَّدت المصادمات الدامية بصورة شبه يومية بين العرب واليهود في مدن فلسطين.

كانت ردود الفعل العربية في عمومها عنيفة وحادة، وإن لم تجاوز — كالعادة — حدود الانفعال الوقتي. يقول اللورد كيلرن في مذكراته: «زارني مصطفى النحاس باشا، وبعد العشاء دار بيننا حديث طويل حول فلسطين، وقال لي النحاس باشا — صراحة — إنه يكره بشدة الاقتراح بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، وقال إنه واثق أن العرب لن يقبلوا بالمرة فكرة التقسيم، وإنه كرئيس وزارة مصر، لن يقبل حتى مجرد التفكير في وجود دولة يهودية على حدود مصر، وتساءل النحاس: أليس من الممكن — بعد إنشاء دولة لليهود في فلسطين — أن يطالبوا بعد ذلك بأن لهم حقًّا آخر في سيناء؟ وقال النحاس إنه يرى أن الحل الحقيقي المناسب للمشكلة الفلسطينية، هو إنشاء دولة عربية متحالفة مع بريطانيا، ومع توافر ضمانات محددة، وأكيدة، للحريات الدينية لجميع السكان من يهود أو مسلمين أو أقباط.٢٤
ويشير الراوي إلى أن الحزب الاشتراكي — في ضوء قرار التقسيم — عرض على الإخوان المسلمين أن ينضم إليهم، وبصرف النظر عن رفض الإخوان لهذا الطلب، فإن مجرد عرضه من قِبَل الاشتراكيين يؤكد الإحساس بخطورة الحدث، وما يشي به من دلالاتٍ وتوقعات.٢٥

لقد اتجه فوزي السيد إلى دار الإخوان المسلمين، وناقش مع الشيخ المهدي — زعيم الجماعة — تطورات الأحداث، وخطورة قرار التقسيم.

قال فوزي السيد: ولعلَّك توافقني يا شيخ مهدي أنَّ أول مراحل العمل والاستعداد، هو ضم الصفوف، والاتحاد بدل التفرق.

قال الشيخ المهدي: حق، حق، إن ما تقوله هو عين الحق، واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا.

قال فوزي السيد: لقد سهَّلت عليَّ مأموريتي، إن هذا هو سبب مجيئي اليوم، إن قوى الشر قد تجمَّعت لتضرب مصر والعرب، إنجلترا وفرنسا وأمريكا.

– وسيحبط الله كيدهم أجمعين، إن النصر محققٌ لنا بإذن الله.

– هذا هو ما نرجوه ونأمل فيه، ولكنه لن يكون إلا ثمرة جهدنا وإخلاصنا، وأولًا وقبل كل شيء ثمرة اتحادنا.»٢٦

وعلى الرغم من البداية المتفائلة، فإن فوزي السيد عاد — بعد انقضاء مهلة الأسبوع الواحد التي طلبها منه الشيخ المهدي — ليستشير زملاءه في مجلس الإرشاد، ويُفاجَأ برفض الإخوان عرض الاشتراكيين.

وقال الشيخ المهدي: لم يوافق عليه سوى عضو واحد، ورفضه باقي أعضاء المجلس الخمسة والعشرين.٢٧
وأبدى فوزي السيد دهشته من أن خمسة وعشرين عضوًا رفضوا، وواحدًا فقط هو الذي وافق، هو الشيخ المهدي، وقال: «اسمع يا شيخ مهدي، لقد خطوت هذه الخطوة لتكون الفيصل النهائي بيني وبينك، فإما تعاون صادق مخلص، وإما حرب لن تنتهي إلا بكشف النقاب عن الأكذوبة الكبرى التي تمثِّلها.»٢٨
وأضاف فوزي السيد: «إنك لا يمكن أن تكون داعية خيرٍ في نظري، لأنه لا يوجد داعية، ولم يشهد التاريخ داعية، يأتيه نفرٌ من الناس يرغبون العمل تحت لوائه، فيقول لهم لا، فلو أننا عصاة مجرمون، أوَليست لنا توبة على يدك يا داعية الخير؟ هبنا كفرة أو مشركين، أوَليس من حقنا أن نسلم، والإسلام يجبُّ ما قبله؟ ماذا تتصور يمكن أن يكون رأيي فيك وفي جماعتك، وأنا أعلم من نفسي، والله يعلم من خبيئة سري، أنني وإخواني جئناك بقلبٍ طاهرٍ نقي، نعلم استعدادنا لحل كياننا الصغير، والفناء في كيانكم الكبير، لإظهار عزم المسلمين على التكتل والتوحُّد في مواجهة العدو المشترك، فتقول لي: لا، قل لي أنت لو كنت في موضعي ماذا يكون حكمك على تصرفك … إلخ؟!»٢٩
ويعبِّر عصام الدين حفني ناصف عن نظرة قطاع مهم من المثقفين المصريين إلى القضية الفلسطينية، بأنه قد يصاب المرء بفقد أخ له، فيلقى نفسه مضطرًّا للإنفاق على أولاد أخيه، إنها مصيبة وقعت عليه، ولا بد له من تحمُّلها، لا فائدة من تجاهلها، أو محاولة الهرب منها، نتكلف ألف مليون من الجنيهات، لا بأس من ذلك، إنها مصيبة رمتنا بها إنجلترا، فليشمل انتقامنا إنجلترا وأمريكا وفرنسا.٣٠

وعمومًا، فقد كان قرار التقسيم إشارة انطلاق فعلية للأحزاب والهيئات السياسية، في اتجاه وضع الخطط اللازمة لتعبئة الشعب المصري، مناصرة للقضية الفلسطينية.

هوامش

(١) أحمد عباس صالح، عمر في العاصفة، هيئة الكتاب، ٣٨٥.
(٢) من الأوراق الخاصة لعصام الدين حفني ناصف، في حوزة المؤلف.
(٣) المرجع السابق.
(٤) المرجع السابق.
(٥) محمد سلماوي، الخرز الملون، دار ألف للنشر، ١٣.
(٦) مجلة «التضامن»، ١٧/ ١٢/ ١٩٨٣م.
(٧) مذكرات الحاج أمين الحسيني.
(٨) حديقة زهران، الرواية.
(٩) الوطن الكويتية، ٧/ ٤/ ١٩٨٩م.
(١٠) فهمي هويدي، الأهرام، ١٩/ ٥/ ١٩٩٨م.
(١١) حديقة زهران، الرواية.
(١٢) من أوراق عصام الدين حفني ناصف.
(١٣) واحترقت القاهرة، ٢٣٤.
(١٤) الحرب والسلام في غرب آسيا، ٣٥.
(١٥) المرجع السابق، ٣٥.
(١٦) روز اليوسف، ٢٢/ ٦/ ١٩٨١م.
(١٧) الدبابات حول القصر، ٤٤.
(١٨) الخرز الملون.
(١٩) يهود البلاد العربية، ١٨٢.
(٢٠) أين صديقتي اليهودية؟
(٢١) الوطن الكويتية، ٧/ ٤/ ١٩٨٩م.
(٢٢) الكوماندور أ. ﻫ. هتشيسون، ت. محمد محبوب، أحمد نافع، مطابع البلاغ، ٢٣.
(٢٣) مذكرات الحاج أمين الحسيني.
(٢٤) الدبابات حول القصر، ٣٨.
(٢٥) واحترقت القاهرة، ٢٣٥.
(٢٦) المصدر السابق، ٢٣٥.
(٢٧) المصدر السابق، ٢٣٨.
(٢٨) المصدر السابق، ٢٤٠.
(٢٩) المصدر السابق، ٢٤٠.
(٣٠) من أوراق عصام الدين حفني ناصف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥