الفصل الأول

مطر غزير، قد ألجأ الناس إلى مظلات المشارب والحوانيت، وإلى الحيطان وأفاريز البيوت ومداخل المترو … ولم يبقَ في ميدان «الكوميدي فرانسيز» غير مياه تتدفق من الميازيب، وسيارات تخوض في شبه عباب … آدمي واحد ثبت لهذا المنظر، وجعل يسير الهوينى، غير حافل بشيء؛ عيناه الواسعتان تتأملان نافورة الميدان، وهي زاخرة بالماء، وفمه ذو الشفاه العريضة يلوك شيئًا كالبلح، ويلفظ شيئًا كالنواة، ويده اليمنى كالرسول الأمين — من جيبه إلى فمه — تواتيه بالمدد في غير انقطاع … هذا الآدمي فتًى نحيل الجسم، أسود الثياب، على رأسه قبعة سوداء عريضة الإطار، في قمتها فجوة غائرة؛ كطبق الحساء، قد امتلأت بماء المطر.

وفرغ الفتى من تأمل النافورة، فغادرها إلى جانب آخر من الميدان، يقوم فيه تمثال الشاعر «دي موسيه» وهو يستوحي عروس الشعر … فوقف الفتى ينظر إليه، وقد نُقش على قاعدته: «لا شيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم!» … ثم تطلَّع إلى وجه الشاعر، فألفى قطرات المطر تتساقط من عينيه كالعبرات؛ فتحرك قلبه، وسكت فمه! … ثم همس مردِّدًا كالمخاطب لنفسه: لا شيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم! … نعم.

ومرَّت في رأس الفتى صور من ماضٍ بعيد … ثم همس: حتى هنا أيضًا يعرفون هذا؟!

وغرق في التفكير، وغرقت قبعته في الماء، حتى فاض فسال على وجهه … وإذا بصوت خلف ظهره يصيح به: أراهن، بمائة فرنك، أن لا مخلوق يقف هكذا أمام هذا التمثال إلا أنت.

فاستدار الفتى سريعًا: «أندريه»؟!

– قبل كل كلام، انجُ بي وبنفسك من هذا المطر؛ ليس هذا وقت النظر إلى التماثيل.

– بل هذا وقته! … تأمَّل يا «أندريه»! … هذه الدموع في عيني الشاعر.

– لو لم يكن هذا الشاعر من رخام، لولَّى الساعة هاربًا، هو وعروسه، إلى أقرب قهوة، وتركاك وحدك، وسط هذه المياه.

ولم ينتظر الفرنسي جوابًا من صاحبه، بل جذبه إلى مظلة قهوة «الريجانس» القريبة، ثم نظر في وجهه، فوجد فمه يتحرك: عجبًا! … ماذا في فمك؟

فلم يجب الفتى … ولفظ من فمه نواة، وقعت في الماء الجاري إلى «البلاليع»، فصاح به «أندريه»: تأكل بلحًا؟!

– نعم … وفي شوارع باريس.

– آه أيها العصفور القادم من الشرق.

– في مصر نسميه «عجوة» … هذا النوع من البلح … إني أتخيل نفسي الآن في ميدان المسجد بحي السيدة زينب! … وأتخيَّل هذه النافورة … ذلك «السبيل»، بنوافذه ذات القضبان النحاسية.

– كفى تخيُّلًا! … تعالَ … لقد سكن المطر.

– إلى أين؟

فلم يجب «أندريه» … وأخذ ينظر إلى ملابس الفتى، ويتأمله؛ من قبعته السوداء، ومعطفه الأسود، ورباط عنقه الأسود، إلى حذائه الأسود، ثم قال: عظيم جدًّا.

– ما هو العظيم جدًّا؟!

– إنك الآن خير من يصلح للذهاب.

– إلى فاتنتي الجميلة؟

– بل إلى المدافن … هلم معي؛ لتشييع جنازة زوج بنت مدام شارل! … إن عليك «طقم» حداد كامل … لكأني بك دائمًا على أتم استعداد لمثل هذه الطلبات! … إنه ليسرني أن أصحب مثلك إلى هذه النزهة القصيرة.

– النزهة؟!

قالها الفتى وهو ينظر إلى صاحبه شزرًا؛ ولكن صاحبه تجاهل النظرة؛ وجذبه من يده؛ وقال: تعالَ نؤدي معًا هذا الواجب.

– نحو من؟

– نحو الفقيد المرحوم زوج بنت مدام شارل.

– ومن هي أولًا مدام شارل؟

– هي والدة أحد زملائي في المصنع.

– وما ذنبي أنا؟

– ذنبك أنك صديقي! … فلتتحمل ما أتحمل … لا شيء يثقل على نفسي مثل المشي صامتًا؛ خلف عربات الموتى.

سنتحدث، على الأقل سويًّا؛ في شئوننا، بل في شئونك أنت … إني أعدك وعدًا صادقًا، بالحديث طوال الوقت، عن فاتنتك ذات الأنف؛ الذي تقول إنه — في نظرك — غير المثل الأعلى للأنف الجميل … وقلِّب في رأسك كل الصور والأوضاع؛ التي كنت قد تخيلتها للجمال.

– نعم؛ نعم! … لقد كنت أعتبر الجمال …

وانطلق الفتى يتكلم متحمسًا … ولم يفطن إلى «أندريه» وقد قاده من ذراعه؛ ونزل به إلى إحدى محطات المترو، وابتاع له تذكرة في الدرجة الثانية؛ وأركبه قطارًا مرق بهما في جوف الأرض مروق لسان «محسن» بذلك الحديث اللذيذ … وابتسم «أندريه» آخر الأمر في خبث؛ ابتسامة من يقول في نفسه «إن معي الآن مفتاح قياده؛ فلألوِّحن له «بها» يتبعني صاغرًا؛ بغير أن يشعر؛ إلى أقاصي الأرض».

•••

دقَّت نواقيس كنيسة «سان جرمان» احتفالًا باستقبال الجثمان؛ ولم تكن الجنازة قد وصلت بعد؛ ولم يكن بباب الكنيسة أحد غير «محسن»؛ فقد تركه «أندريه» عند الباب وذهب يشتري مظلة؛ يتقيان بها المطر في أثناء السير في الطريق من الكنيسة إلى المقبرة. وأبطأ «أندريه» على صديقه؛ وبدت طلائع الجنازة؛ واشتد دق النواقيس … ثم فُتح باب الكنيسة على مصراعيه؛ واقتربت عربة الموتى تتهادى حاملة التابوت ثاويًا تحت باقات الزهر، وخلفها المشيعون تحت مظلاتهم. ووقفت العربة، وحُمل التابوت إلى داخل الكنيسة، ومرت أفواج المشيعين ﺑ «محسن»، في ملابسه السوداء الكاملة، فانحنوا له حاسبين أنه من أهل الميت الأقربين! … هنا أدرك الفتى حرج موقفه؛ فأسرع واندس في فوج الداخلين، قبل أن تقع عليه أعين أهل الميت الحقيقيين، والناس تنحني له، فيظنوا بشأنه الظنون.

دخل «محسن» الكنيسة، ولم يكن قد دخل كنيسة قط، ولا حضر صلاة ميت من أموات النصارى، ولا رأى ما يجري فيها من المراسيم، ولا ما يُتبع من الطقوس؛ فأحس برهبة، وخيِّل إليه أنه باجتيازه العتبة قد ترك الأرض، وارتقى إلى جو آخر، له عبيره، وله نوره! … هنا أيضًا عين الخشوع وعين الشعور، الذي كان يهز نفسه كلما دخل في القاهرة مسجد السيدة زينب! … هنا أيضًا عين السكون، وعين الظلام في الأركان، وعين النور الضئيل الهائم كالأرواح في جو المكان! … إن بيت الله هو بيت الله في كل مكان وكل زمان.

وُضِع التابوت في الصدر، وأضيئت حوله الشموع، وأخذت أصوات الرهبان تعلو، مرتلة الصلاة على أنغام الأرغن، ثم تقدَّم الناس في صف طويل نحو التابوت يمرون به — الواحد تلو الآخر — ينضحونه بماء مقدس من «قمقم» فضي، ومشى «محسن» في الصف ذاهلًا خائفًا أن يحدث صوتًا على أرض الكنيسة. وانتبه قليلًا، فرأى القمقم في أيدي من أمامه في الصف، يرسم به الواحد علامة الصليب، وهو ينضح به الميت ثم يسلمه في صمت إلى من خلفه، وراقب الفتى هذا الفعل يتكرر أكثر من خمسين مرة، وهو يحسب ألف حساب لنوبته. وأذهلته الرهبة، فما راعه إلا القمقم يسلم إليه ممن أمامه فتناوله بيد ترتجف، ولوَّح به نحو التابوت، راسمًا في الهواء علامة، لا يدري من فرط اضطرابه: أدلت على صليب أم على هلال! … ثم نضح التابوت على نحو خشي معه أن يكون قد أكثر فبلل الغطاء، ولكنه فرغ من مهمته على أي حال، فتنفس الصعداء، ومدَّ يده بالقمقم يسلمه إلى من يليه، فلم يجد خلفه أحدًا … كان هو الأخير في الصف … يا للكارثة! … ما العمل؟! … وحار وارتبك بهذا القمقم في يده لا يدري ما يصنع به، وقد اشتغل عنه القوم بتعزية أهل الميت الواقفين عند باب الخروج، وتصبَّب العرق باردًا من جبينه … إنه يحمل في يده شيئًا مقدسًا … كيف يتصرف إذن من تلقاء نفسه، في شيء مملوك لله داخل بيت الله؟! … إنها لمسئولية عظمى! … ولمحه أحد القسيسين في هذا الموقف؛ فبادر إليه وحمل عنه العبء؛ فانصرف الفتى؛ وكأنه يقول في سذاجة: «ما أقوى كواهل أولئك الرجال الذين يتحملون كل تلك التبعات، في إدارة ممتلكات السماء!» … وأسرع «محسن» إلى اللحاق بالصف؛ كي يعزي أهل الميت؛ فما كاد يتقدم إليهم في ملابسه السوداء؛ حتى حملقوا فيه؛ كأنما هم يتذكرون أو يتساءلون عن هذا الصديق الحميم، الذي أتى يشاركهم مصابهم في ثياب حداد كاملة، لم يرتدِ مثلها بعض أقارب الميت ولا ذووه! … وأعياهم التذكر؛ وفهم «محسن» ما يجول بخاطرهم؛ فلفظ سريعًا بضع كلمات غير مفهومة؛ وانطلق إلى الخارج … فوجد «أندريه» واقفًا تحت مظلة جديدة؛ بين بقية المشيعين المنتظرين خروج التابوت.

ورأى الفرنسي صديقه فابتدره محملقًا في وجهه: ما لك أصفر الوجه؟!

فلم يجب «محسن» بغير قوله: اذهب وادفن زميلك؛ أما أنا فإني أنتظرك في قهوة «الدوم».

واختفى سريعًا؛ قبل أن يترك لأندريه وقتًا للكلام.

جلس «محسن» وصاحبه «أندريه» في قهوة «الدوم» بحي «مونبارناس»، وهي ملتقى أهل الفن: من مصورين ومثَّالين وشعراء، ومن أجل ذلك أصبحت ذات شهرة وصيت، وهبط في ذلك العام سعر الفرنك الفرنسي، فهبط باريس سائحون كثيرون، أغلبهم الأمريكان، انتشروا كالذباب في كل مكان.

وطلب «محسن» قدحًا من عصير البرتقال، جعل يرشف منه في بطء من خلال ذلك العود المجوَّف من القش.

كان الجو خانقًا عصر ذلك اليوم، ورطبًا ثقيلًا … وأخذ «محسن» يتأمل لون الشراب الأحمر لحظة، ثم ما لبث أن ارتعد جسمه فجأة.

لقد تذكَّر حلمًا غامضًا رآه الليلة الماضية … قد يكون كابوسًا … لا … لم يكن بالضبط كابوسًا، ذلك لأنه لم يرَ فيه شيئًا مزعجًا، أو شيئًا مبالغًا فيه … لقد كانت أحداثه طبيعية، ومنطقية.

لقد رأى «محسن» نفسه متهمًا بجريمة قتل، ورأى ضحيته رجلًا يجهل اسمه، وشخصيته.

أي سلاح استخدمه في جريمته؟! … ولأي سبب كان كل هذا؟ … هو لا يعلم شيئًا … كل ما يعلمه أنه كان متهمًا، وأن يديه كانتا ملطختين بالدماء، ومكبلتين بالأغلال … ثم رأى نفسه يستيقظ من نومه وهو يصيح؛ أنا بريء! … أنا بريء.

كان الوقت لا يزال ليلًا … قام فأضاء المكان ليرى يديه … لِمَ كان هذا الحلم؟ … هل هو قاتل حقًّا؟ … ثم ماذا؟! … ألم يقم بأداء فريضة الصلاة قبل النوم؟

إن منظر الدم كان شيئًا غير محتمل بالنسبة له … إنه لم ينسَ قط بعض أيام الثورة … ثورة ١٩١٩.

لم يكن قد أكمل بعدُ عامه العشرين … لقد كان أبوه المستشار يريده محاميًا … وكان هو يرى أن رغبته كانت تتجه ناحية الفن، والأدب.

ولذلك كانت مهمته في أثناء الثورة تأليف الأغاني الوطنية التي كان يلحنها هو بنفسه، والتي كان يغنيها زملاؤه — شباب القاهرة — خلف قضبان السجن بحماسة، بينما كان هو لا يحمل سلاحًا غير سلاح الحماسة … لم يكن يحمل — في وسط الزحام — غير قلب مشتعل، وأغانٍ وطنية حماسية.

لقد رأى يومًا منظرًا من قريب بقي أثره مدى الحياة … رأى جنديًّا بريطانيًّا شابًّا يقف وحده، وقد لمحه الثوَّار، فأحاطوا به وضربه واحد منهم بقضيب من حديد على رأسه، فشجَّه ووقع صريعًا … الدم كان يملأ وجهه، وقد تناثر مخه في كل مكان.

لقد غُشي الفتى «محسن» عليه واعترته دوخة، وكاد يُغمى عليه … وبينما ظهر الجنود البريطانيون مسلحين بالمدافع الرشاشة، تفرَّق الثوار في الحواري المظلمة، وبقي «محسن» وظهره إلى الحائط يحدِّق فيما يرى.

لقد كان من الصدفة أن الجنود لم تلمحه … ولمَّا تنبه طار مسرعًا يخطو فوق جثث القتلى في حواري مهجورة.

إن منظر الجندي الشاب المضرج بدمائه لم يترك مخيلته، لقد نسي أنه عدوه … عدو وطنه … إنه لم يعد يذكر إلا ذلك المنظر المحزن … ذلك الموت الفظيع.

وعندئذٍ تخلَّص «محسن» من أحلامه، واستيقظ على صوت «أندريه» الضاحك.

وطلب «أندريه» كأسًا من «البرنو» أخذ منه جرعة، ثم التفت إلى صديقه قائلًا: أتدري أين دفنوا زوج بنت «مدام شارل»؟

– لا أريد أن أعرف أين دفنوه.

– لماذا؟

فضاق «محسن» ذرعًا: وبعد؟ … أخبرني بحق ربك، متى تعتقني من هذا المدعو زوج بنت مدام شارل؟! … أما كفاك أني صليت على روحه في الكنيسة ونضحته من القمقم المقدس؟! … آه! … إني لن أغتفر لك هذا التهاون منك … إنك كنت تعرف أني داخل هذا الحرم المقدَّس ولا تقول لي حتى أعدَّ نفسي!

فابتسم «أندريه» وقال: أيها العصفور الشرقي! … تعدُّ نفسك لدخول الكنيسة؟! ما معنى هذا؟ … إنا ندخلها كما ندخل المقهى … أي فرق؟! … هناك محل عام، وهنا محل عام … هناك الأرغن، وهنا الأوركسترا.

فلم يلتفت إليه «محسن» وهمس كالمخاطب لنفسه:

– بل هناك السماء! … وليس من السهل على النفس الصعود في كل لحظة … إنه لمجهود.

فلم يَبْدُ على الفرنسي أنه فهم عن «محسن»، ولم يكلف نفسه عناء سؤاله. ورفع كأسه، وجرع جرعة أخرى، ثم أشار بطرفي عينيه إلى أمريكية حسناء، جالسة مع أسرتها على مقربة منهما، وهي لا تفتر عن النظر إلى من حولها من فنانين، ووقعت عيناها آخر الأمر على «محسن» في ثيابه السوداء، فغمزت من معها وهمست إليهم بكلام.

ولحظ «محسن» نظراتها، فقال لأندريه في صوت منخفض: لماذا يرمقونني هكذا؟!

– يحسبونك من أهل الفن؛ بهذه القبعة وهذه الملابس.

– إنهم ينظرون إليَّ كما ينظر الإنسان إلى طائر غريب! … أَوَلمْ يروا فنانًا قط؟! … يخيل إليَّ يا «أندريه» أن هؤلاء الأمريكان قوم خلقوا من الأسمنت المسلح؛ لا روح فيهم، ولا ذوق، ولا ماضي! … إذا فتحت صدر الواحد منهم وجدت في موضع القلب «دولارًا»! … إنهم ليأتون إلى هذا العالم القديم، حاسبين أنهم بالذهب يستطيعون أن يشتروا لأنفسهم ذوقًا، ولبلادهم ماضيًا.

ولم يظهر على «أندريه» أنه أصغى إلى كلام صديقه كله؛ فلقد كانت عيناه تتبعان الأمريكية؛ فقال: أهذه بربك من الأسمنت المسلح؟!

– لا تطل إليها النظر هكذا؛ وإلا قلت لزوجتك «جرمين».

فهز الفرنسي كتفيه ومضى في إظهار إعجابه: تأمل هاتين العينين الزرقاوين كأنهما في لون زرقتهما بحيرتان من بحيرات الجنة.

– كلا … بحيرات الجنة في لون الفيروز.

– أيها المفتون! … إنك لا ترى غير عيني فاتنتك التي لا تعرف اسمها.

فنظر «محسن» إلى الفضاء، باسمًا سابحًا بخياله، ثم قال: أعرف صوتها؛ وهذا ليس بالقليل … ليلة الأمس في «الأوبرا» …

– كنتَ في «الأوبرا»؟

– اطمئن … أعلى «التياترو» … وسمعت صوتها … أعني صوتًا كصوتها … كل صوت جميل هو صوتها … سمعته يغني: «قلبي يتفتح لصوتك، كما تتفتح الأزهار لقبلات الصباح».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤