الفصل الحادي عشر

فتح «محسن» عينيه في الصباح، على شبه صوت ملائكي ينادي اسمه! … أتراه صوتًا آتيًا من السماء؟ … ولكن النداء تكرر واضحًا عذبًا، فوثب الفتى من فراشه وأصغى، ثم ابتسم: إنه آتٍ من النافذة السفلى عجبًا! … إنها «سوزي» تقول في نغمة موسيقية: «محسن»! … «محسن»!

فأسرع الفتى إلى النافذة كالمجنون: أتنادينني؟

فرفعت الفتاة أهدابها الجميلة، في شيء من الدهشة! … ورأى الفتى يدها على قفص الببغاء، تقدم إليه حب «القرطم»، فأدرك كل شيء؛ فتخاذل وارتبك: معذرة! … لقد نسيت … أني أشترك مع ببغائك في عين الاسم!

ورآها تبتسم، ورأى جمالها في ذلك الصباح الباكر أنضر من زهر «النرسيس» في أصص نافذتها، فتشجع وقال: نعم، إني أشترك مع هذا الببغاء في الاسم، ولكن لا أشترك معه في الحظ! … إن الفرق بيننا عظيم … إنه هو الذي يحظى بعنايتك، فتنادينه؛ وتناجينه؛ هذا الأحمق الذي لا يشعر بمقدار ما يناله من سعادة! … آه … لأولئك الاشتراكيين الذين يطلبون المساواة بين الناس في الحظ والنصيب، وأنا لا أستطيع أن أطمع في مساواتي في الحظ والنصيب بهذا الببغاء!

فضحكت الفتاة وقالت: أتراه مطمعًا عسيرًا؟

– أن أكون مثل هذا الببغاء … لست أطلب شيئًا إلا أن أكون مثله بالضبط.

– ولكنك لست في قفص.

– آه يا سيدتي! … إني في قفص، لا يراه كل الناس.

فنظرت إليه الفتاة مليًّا، ثم قالت باسمة: إذا كنت حقيقة كذلك؛ فأنت تستحق إذن شيئًا من ذلك العطف، الذي نمنحه الطيور السجينة في الأقفاص.

فأسرع الفتى يقول في تضرع: ثقي بأني أشد طيور الأرض استحقاقًا لعطفك!

فسألته الفتاة: وما نوع العطف الذي تريده مني؟ … إني بالطبع لا أستطيع أن أقدم إليك قليلًا من «القرطم».

– إنك تستطيعين أن تتناولي معي قليلًا من «القرطم» … هذا المساء في مطعم … في أي مطعم يروقك.

فضحكت الفتاة ضحكة طويلة رقيقة: يا لك من مداعب ماهر!

– أنا يا سيدتي؟! … لأول مرة أسمع من يصفني بالمهارة في شيء … شكرًا لك.

•••

لم يأتِ العصر، حتى كان «محسن» في منزل «أندريه» يقيم الدنيا ويقعدها، وقد أجلسه صديقه الفرنسي أمام المرآة، وجعل ينظم له شعره الأشعث، بينما أخذت «جرمين» تنظف معطفه الأسود بالبنزين، وتزيل عنه البقع … ورأى الفتى اهتمام زميلَيه. فصاح يحمسهما: نعم … اصنعا مني إنسانًا خليقًا بلقاء امرأة جميلة! … فابتسمت «جرمين»، وقالت في سخرية غير واضحة: عرفت اسمها أخيرًا!

– «سوزي».

لفظها الفتى همسًا؛ كمن يرتل صلاة، ولكن «جرمين» سمعته فقالت باسمة: اسم جميل … والموعد: أين؟ … ومتى؟

– هذا المساء في محطة «المترو».

– وبعد؟

– سنتناول العشاء.

– في أي مطعم؟

– آه … صدقت … لست أدري … يا للمصيبة! … نسيت التحري عن المطعم الموافق … أسرع! … أسرع يا «أندريه» وخبرني عن رأيك في «هذا الموضوع الخطير!»

فصاح «أندريه» يائسًا: لا تهتز هكذا … لقد فسد ترتيب شعرك … وتبعثرت خصلاته من جديد … آه … لقد ضاع تعبي فيك سدًى!

– ولكن موضوع المطعم ذو أهمية كبرى.

– لا شيء أتفه من موضوع المطعم … هذا الذي تصفه بالخطورة والأهمية الكبرى! … كل شيء تتخيله أنت دائمًا هائلًا. لو كنت مكانك لأخذتها بكل بساطة، إلى مطعم «بوكاردي».

فضحكت «جرمين» ضحكة طويلة، فنظر إليها زوجها نظرة العجب: لماذا تضحكين؟!

– إنه المطعم الذي ذهبت بي إليه يوم لقائنا الأول، ومع ذلك … لم تشأ يومئذٍ أن تطلب من أجلي «أوردفرفارييه».

– أما زلت تذكرين تلك الحماقات؟!

فصاح «محسن» وهو يلتفت إليهما: آه … أحسنتما صنعًا بهذه الحماقات! … سأطلب لها أنا هذا «الأوردفرفارييه».

فانتهره «أندريه»: قلت لك: لا تهتز! … ولا تتحرك، حتى أفرغ وأطمئن على منظرك.

فالتفت الفتى إلى المرآة وهو يقول في قلق: وهل تعتقد أن الحال سيدعو إلى الاطمئنان؟!

– إن الأمر على كل حال لا ينبغي أن يدعو إلى اليأس.

فسكت «محسن» على مضض … ثم عاد يقول سريعًا؛ كمن تذكر شيئًا مهمًّا: اسمع يا «أندريه»! … في جيب معطفي قارورة «هوبيجان» من الصنف الغالي، اشتريتها عملًا بنصائحك الغالية … أترى أن أتعطر منها قبل اللقاء؟! إنها كفيلة بأن …

– المسألة ليست مسألة «هوبيجان».

– تريد أن تقول …

فألقى «أندريه» نظرة أخيرة على شعر «محسن» ووجهه، ثم صاح بنبرة مرحة: أريد أن أقول إن لك الآن وجه عاشق يستطيع أن يذهب توًّا إلى موعده.

فنهض «محسن» واتجه إلى «جرمين» الباسمة: أهو يخدعني؟!

فقالت «جرمين» للفور وهي تقدم إليه المعطف: إنه يقول الحقيقة … البس معطفك، وانطلق مطمئنًّا، أيها الفتى السعيد.

فارتدى «محسن» معطفه، ووقف أمام المرآة يتأمل هيئته طويلًا: المسألة مسألة ذوق! … ما دام هذا المنظر يصلح في رأيكما للذهاب إلى المواعيد، فليس من الكياسة أن أطعن في ذوقكما! … إلى الملتقى.

قالها وهو يتحرك إلى الباب، رافعًا قبعته السوداء في الهواء. وشيعه «أندريه» وزوجته إلى السلم، وهما يقولان باسمين:

– تشجع.

•••

انتظر «محسن» الفتاة إلى أن جاءت، وذهبا إلى «بوكاردي» فتناولا العشاء، ثم خرجا إلى «الجران بولفار»، فشربا القهوة في أحد المشارب، ودقت الساعة العاشرة، فنهضت «سوزي» طالبة العودة إلى مسكنها … عند ذلك فقط أفاق الفتى وثاب إلى رشده … وأحس فجأة الجوع، فهو لم يأكل شيئًا في المطعم، هو الذي كان قد دخله جائعًا، فخرج منه جائعًا دون أن يشعر! … وهل كان في مقدوره، وهو إلى جانبها، أن يفكر في أكل أو شرب؟! … إن المعدة لتنام عندما تستيقظ الروح! … إنه لا يذكر شيئًا من أمره، لكنه يذكر كل شيء من أمرها هي، يذكر حركة يديها الرشيقتين وهي تتناول «الأوردفرفارييه»، ويذكر جمال فمها وهو يشرب «البرجوني»؛ ويسمع صدى ضحكاتها الرقيقة الخافتة، عندما كانت تراه يذهل عن الطعام بالرنو إليها، أو الكلام الطويل في أشياء لم يعد يذكر ما هي.

ومرت الساعات، كأنها اختلاجة من أهدابها، وها هو ذا قد حان وقت الافتراق عنها! … لا هذا مستحيل … أبهذه السرعة قد وصلا إلى باب النزل؟ … لماذا يقسو القدر على الناس هذه القسوة؟ … إن الساعة لتطول كأنها الدهر عندما نقع في كرب أو بلاء، وإنها لتقصر كأنها ابتسامة عابرة عندما نجتاز النعيم.

ولم يرع الفتى إلا يدها تمتد إليه مودعة قبل أن تدخل النزل.

– لا، إن الوقت ما زال متسعًا، ونحن ما زلنا في أول الليل، وعندي كلام لم أفضِ بعد به إليك.

قالها «محسن» وهو محتفظ بيد «سوزي» في يده في حرص وخوف … فقالت الفتاة: إني لا أستطيع طبعًا أن أستقبلك في حجرتي الساعة، ولا أن أصعد إلى حجرتك؛ فأفضِ إذن بما تريد ها هنا الآن، أو … فلنسر قليلًا في هذا الشارع.

ومشيا جنبًا إلى جنب في ذلك الطريق الطويل ذي الأشجار الكبيرة، إلى أن بلغا حدود «بورت دي ليلاس»، وعادا من عين الطريق إلى أن اقتربا من ميدان «جامبتا» وفاجأتهما الأنوار فرجعا أدراجهما يحتميان في ظلال الأشجار، والفتى لا ينبس، وهي صامتة صمت من ينتظر منه الإفضاء بشيء … وكأنما عيل صبرها فقالت في صوت خافت رقيق: ماذا كنت تريد أن تقول لي؟

– كل شيء.

– إني مصغية إليك.

فأراد «محسن» أن يتكلم، لكن الألفاظ هربت من رأسه؛ كما تهرب العصافير من الأقفاص … إن لديه إحساسًا عاريًا، ولا ينبغي أن يظهره عاريًا أمام سيدة! … لا بد له من ثوب أنيق؛ فالمرأة يسرها دائمًا الثوب الأنيق، وإن كان على جسم نحيل من عاطفة نحيلة! … إن هذه الفتاة لا شك تدرك ما عنده، وهي لا تكتفي بذلك، وهي إنما تدمي قدميها، سيرًا في هذا الليل؛ لتسمع ألفاظًا يلذ لها سماعها في ذاتها … فماذا تراها تفعل بمشاعر قوية في أطمار بالية؟

وخشي «محسن» العاقبة، وتغلب عليه الوهم، فقال كالهامس: لا … لا أستطيع الآن.

فقالت هي أيضًا كالهامسة: لماذا؟!

– غدًا إذا شئت.

– بل الآن!

فتردد الفتى لحظة، ثم تمالك وانطلق انطلاق الهارب الخائف الذي يريد أن يقنع عقله بالشجاعة والثبات، قائلًا كالمخاطب لنفسه: لست جديرًا بأن أقول لك ما أريد الآن، دعيني أبعث إليك غدًا برسول عني يحسن الكلام.

– من هو؟

– الشاعر الإغريقي القديم «أنا كريون»، سأحضره معي عصر الغد عند محطة «المترو»، وسيفضي هو إليك بكل شيء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤