الحَزاز

شيَّد والد ستيلا المكان كمنزل صيفي، على الأجراف الطينية المُطلة على بحيرة هورون. وكانت عائلتها تُطلق دومًا على المكان «الكوخ الصيفي». دُهش ديفيد عندما رآه للمرة الأولى؛ إذ لم يكن في المنزل أيٌّ من ذلك السحر الموجود في خشب الصنوبر ذي العقد، أو الراحة التي تجدها في العوارض الخشبية الداعمة، التي كانت تلك الكلمات تشير إليها. كان من سكان المدن، ممن كانت عائلة ستيلا تُطلق عليهم «ذوي خلفية مختلفة»، ولم يذهب قط إلى أي منزل صيفي. كان المنزل ولا يزال منزلًا خشبيًّا بسيطًا، عاليًا، ومطليًّا باللون الرمادي، نسخة في واقع الأمر من بيوت المزارع القديمة القريبة، وإن كان ربما أصغر حجمًا. توجد أمامه أجراف منحدرة — ليست أجرافًا عالية جدًّا، أيضًا، لكنها صمدت حتى الآن — ومجموعة طويلة من الدرجات المفضية إلى الشاطئ. يوجد خلف المنزل حديقة صغيرة مسيَّجة، حيث تزرع ستيلا الخضراوات بمهارة ومثابرة كبيرتين، وممر رملي قصير، وأجمة من شجيرات التوت الأسود البري.

عند دخول ديفيد بالسيارة إلى الممر، تخرج ستيلا من هذه الشجيرات، حاملةً مصفاة ممتلئة بالتوت. ستيلا امرأة قصيرة، بدينة، ذات شعر أبيض، ترتدي بنطال جينز وتي-شيرت قذرًا. لا ترتدي أي شيء تحت هذه الملابس، قدر ما يستطيع أن يرى، لدعم أو تقييدِ أي جزء من أجزاء جسدها.

يقول ديفيد، وهو يدخن: «انظري إلى ما حدث لستيلا، لقد تحولت إلى قزم قبيح.»

تقول كاثرين، التي لم تلتقِ ستيلا من قبل قط، في أدب: «حسنًا. هي أكبر سنًّا.»

«أكبر من ماذا يا كاثرين؟ من المنزل؟ من بحيرة هورون؟ من القط؟»

ثمة قط نائم على الممر إلى جانب حديقة الخضراوات. قط بنيٌّ كبير أذناه مقطوعة جراء معارك مع قطط أخرى، مع وجود مساحة رمادية فوق إحدى عينيه. اسمه هركليز وكان كبيرًا في السن جدًّا.

تقول كاثرين في تحد: «هي أكبر سنًّا.» حتى في تحديها، لا تزال وديعة. «تعرف ما أقصد.»

يعتقد ديفيد أن ستيلا تفعل ذلك عن عمد. لا يتعلق الأمر باستسلامها لمسألة تقدمها في السن وما يتبع ذلك من تغيرات طبيعية في الشكل؛ لا، الأمر يتعدى ذلك بكثير. كانت ستيلا تضخِّم الأمور دائمًا. لكن ليست ستيلا وحدها في هذا. يوجد نوع من النساء يخرج عن الإطار الأنثوي في مثل هذا العمر؛ فتتباهى بسمنتها أو هزالها الشديد، وتنتشر البثور في بشرتها والشعر في وجهها، وترفض أن تغطِّي ساقيها الهزيلتين بارزتي الأوردة، وتكون سعيدة بذلك، كما لو كان هذا هو ما كانت تريده دومًا. النساء الكارهات للرجال، منذ الصغر. لا يستطيع المرء أن يقول شيئًا كهذا علنًا هذه الأيام.

ركن ديفيد السيارة قريبًا جدًّا من شجيرات التوت، قريبًا أكثر مما ينبغي، بحيث سبب مشكلة لكاثرين، التي كان عليها أن تتفادى الأشجار وتخرج من السيارة من ناحية المقعد المجاور للسائق. كاثرين نحيفة بما يكفي، لكن ثوبها يتألف من تنورة طويلة وأكمام فضفاضة طويلة. ثوب قطني ذو خيوط متشابكة، تتدرج ألوانه من القرنفلي إلى الأحمر، تنتشر فوقه ثنيات صغيرة، غير منتظمة تبدو مثل التغضنات. ثوب جميل لكنه لا يصلح حيث تقيم ستيلا. علقت شجيرات التوت الأسود به من كل موضع، مما كلف كاثرين عناءً كبيرًا حتى تخلص نفسها.

تقول ستيلا: «ديفيد، كان بإمكانك أن تفسح لها مساحة أكبر.»

تضحك كاثرين على ورطتها. وتقول: «أنا بخير، أنا على ما يرام.»

يقول ديفيد، مقدمًا كلًّا إلى الأخرى: «ستيلا، هذه كاثرين.»

تقول ستيلا في تعاطف: «هل تريدين بعض التوت يا كاثرين؟ وأنت يا ديفيد؟»

يهز ديفيد رأسه رافضًا، لكن كاثرين تلتقط حبتين. تقول: «رائعة، دافئة من الشمس.»

تقول ستيلا: «لقد سئمت منظرها.»

عن قرب، يبدو مظهر ستيلا أفضل؛ ببشرتها الناعمة، السمراء، وشعرها المقصوص كالأطفال، وعينيها البنيتين الواسعتين. كاثرين، التي كانت تنحني لتكلمها، امرأة طويلة، ضعيفة البنية، نحيلة، شقراء، وذات بشرة حساسة. بشرتها حساسة أكثر مما ينبغي حتى إنها لا تتحمل وضع مكياج على الإطلاق، وتتهيَّج بسهولة من البرد، والأطعمة، والمشاعر. مؤخرًا، تضع مكياج عين أزرق اللون وماسكرا سوداء، التي يعتقد ديفيد أنها لا تلائمها. يظهر تسويد رموشها الخفيفة عينيها ذات اللون الأزرق الزاهي، التي تبدو كما لو كانت لا تستطيع تحمُّل ضوء النهار، فضلًا عن جفاف البشرة تحتها. عندما التقى ديفيد كاثرين للمرة الأولى، قبل ثمانية عشر شهرًا تقريبًا، كان يظن أن سنها فوق الثلاثين بقليل. رأى آثارًا لا تزال متبقية من أيام الصبا؛ كان يحب شعرها الأشقر وبنيتها الطويلة الضعيفة. ظهرت عليها آثار العمر منذ ذلك الحين. وكانت أكبر مما كان يظن أصلًا، كانت تقترب من الأربعين.

تقول كاثرين لستيلا: «ماذا ستفعلين به؟ هل ستصنعين مربى؟»

تقول ستيلا: «صنعت ما يقرب من خمسة ملايين برطمان من المربى حتى الآن. أضعها في برطمانات صغيرة ذات أغطية مصنوعة من نسيج قطني مخطط، وأعطيها لجيراني الذين من الكسل أو الذكاء بحيث لا يقطفون ثمارهم. في بعض الأحيان، لا أعرف لماذا لا أدع سخاء الطبيعة يتعفن على الأشجار.»

يقول ديفيد: «هذا التوت لا يوجد على الأشجار، بل على تلك الشجيرات الشائكة المريعة التي يجب قطعها وحرقها. وبهذا سيكون ثمة مكان لركن السيارات.»

تقول ستيلا لكاثرين: «استمعي إليه، لا يزال يتحدث كزوج.»

كان ديفيد وستيلا متزوجين لمدة واحد وعشرين عامًا. وانفصلا منذ ثماني سنوات.

تقول ستيلا في ندم: «هذا صحيح يا ديفيد، يجب أن أزيل هذه الشجيرات. توجد قائمة طويلة بالأشياء التي لم أستطع القيام بها. هيا ادخلا وسأبدِّل ملابسي.»

يقول ديفيد: «علينا أن نتوقف عند متجر الخمور … لم يكن لدي وقت.»

مرة كل صيف، يأتي ديفيد زائرًا، جاعلًا موعد الزيارة قرب موعد عيد ميلاد والد ستيلا قدر ما يستطيع. يجلب دومًا الهدية نفسها؛ زجاجة من ويسكي السكوتش. هذا هو عيدُ ميلاد حَمِيهِ السابق الثالثُ والتسعون. يقيم حموه في نُزل لرعاية المسنين على مسافة أميال قليلة من منزل ستيلا، بحيث تستطيع أن تزوره مرتين أو ثلاثًا أسبوعيًّا.

تقول ستيلا: «عليَّ أن أغتسل … وأرتدي ثوبًا زاهيًا. لا من أجل أبي؛ فهو كفيف تمامًا الآن، لكني أعتقد أن الآخرين يحبون ذلك؛ فمظهري وأنا مرتدية ثوبًا قرنفليًّا أو أزرق أو أيًّا ما شابه يُدخل السرور عليهم مثلما تُدخل البالونات السرور. لديكما متسع من الوقت لتناول شراب سريع. حقيقةً، يمكنكما أن تصنعا واحدًا لي أيضًا.»

تسير أمامهما، كلهم في صف واحد، عبر الممر إلى المنزل. لا يحرك هركليز ساكنًا.

تقول ستيلا: «حيوان كسول … تسوء حالته مثل أبي. هل تظن أن المنزل في حاجة إلى طلاء يا ديفيد؟»

«نعم.»

«كان أبي يقول ذلك كل سبع سنوات. لا أعرف، أفكر في كسوة الجدران الخارجية للمنزل بالألواح. سأحصل على المزيد من الحماية من الرياح. حتى عندما هيأت المنزل لفصل الشتاء، أشعر في بعض الأحيان كأنني أعيش في صندوق شحن مفتوح.»

تعيش ستيلا هنا طوال العام. في البداية، كان يمكث معها أحد أبنائها. لكن بول يدرس علم الغابات في أوريجون حاليًّا، وتُدِّرس ديردري في مدرسة لغة إنجليزية في البرازيل.

تقول كاثرين: «لكن هل يمكنك أن تحصلي على لون مثل ذلك في الغطاء الخارجي الذي تريدينه للمنزل … هذا لون جميل جدًّا، ذلك اللون الرائع الحائل بفعل الطقس.»

تقول ستيلا: «كنت أفكر في اللون الكريمي.»

•••

وحدها في هذا المنزل، في هذه البلدة، تعيش ستيلا حياة لا فراغ فيها وفي بعض الأحيان حياة محمومة. الأدلة على هذا في كل مكان حولهما وهما يمران عبر الشرفة الخارجية الخلفية والمطبخ وصولًا إلى غرفة المعيشة. ها هي بعض النباتات التي ترعاها في أصص، والمربى التي أشارت إليها، لم توزعها جميعها بل تنتظر، مثلما تقول، أسواق المنتجات المخبوزة الخيرية ومعرض الخريف. ها هي آلتها لصنع الخمر. ثم في غرفة المعيشة الطويلة، المطلة على البحيرة، آلتها الكاتبة، تحيطها أكوام من الكتب والأوراق.

تقول ستيلا: «أكتب مذكراتي.» تدور عيناها حول كاثرين. «سأتوقف لأتلقى دفعة نقدية. لا، كل شيء على ما يرام يا ديفيد. أكتب مقالًا عن المنارة القديمة.» تشير إلى المنارة لكاثرين. «تستطيعين أن تريها من هذه النافذة إذا نظرت من حافتها لأقصى اليمين. أكتب مقالًا للجمعية التاريخية والجريدة المحلية. مؤلفة ناشئة تمامًا.»

إلى جانب عضويتها في الجمعية التاريخية، تقول ستيلا إنها عضوة في مجموعة لقراءة المسرحيات، وفرقة كورال كنسية، ونادٍ لصناعة الخمور، ومجموعة غير رسمية يرفِّه الأعضاء بعضهم عن بعض من خلال حفلات عشاء أسبوعية تكلفتها ثابتة (منخفضة).

تقول: «حتى نختبر براعتنا … دومًا نختبر شيئًا ما.» هذا تقريبًا الجزء المنظَّم من الأمر. أصدقاؤها متنوعون. أشخاص تقاعدوا هنا، ممن عاشوا في بيوت ريفية أُعيد تجديدها أو أكواخ صيفية أُدخلت عليها تعديلات لتتلاءم مع الشتاء، وشباب من خلفيات متنوعة استقروا في البلدة، واشتروا مزارع صخرية قديمة لا يعبأ بها أصحابها الأصليون من المزارعين. وطبيب أسنان محلي وصديقه، وهما مثليان.

«نتمتع هنا بدرجة كبيرة من التسامح الآن.» هكذا تصيح ستيلا التي دخلت الحمام وتبلغ ما تقول بصوت أعلى من صوت مياه الاستحمام. «لا نصر على مسألة أن يكون لكل شخص رفيق يذهب معه من الجنس الآخر. هذا أمر طيب بالنسبة لنا نحن الزوجات العجائز. يوجد نحو ستٍّ منا. إحدانا تعمل في مجال النسيج.»

يصيح ديفيد من المطبخ قائلًا: «لا أجد ماء الصودا.»

ترد: «في العلب. الصندوق الذي على الأرض بجوار الثلاجة. تمتلك هذه المرأة أغنامًا. المرأة العاملة في مجال النسيج. تمتلك مغزلًا خاصًّا بها. تغزل الصوف ثم تنسجه ملابس.»

يقول ديفيد بصوت خفيض: «اللعنة.»

أغلقت ستيلا الصنبور، وبدأت في رش المياه.

«كنت أظن أنك ستحب ذلك. أترى، لم أشطط بعيدًا. أنا لا أصنع سوى المربى.»

في لحظة، تخرج ستيلا معها منشفة ملفوفة حولها، وهي تقول: «أين شرابي؟» الأطراف العليا من المنشفة مطوية معًا تحت أحد ذراعيها، والأطراف السفلى تتدلى بشكل غير محكم. تتناول شرابًا من مزيج من ماء الصودا والجين.

«سأتناوله وأنا أرتدي ملابسي. لديَّ ثوبان صيفيان جديدان، أحدهما بلون برتقالي مائل للحمرة والآخر فيروزي. أستطيع أن أمزج بين الملابس. في كلتا الحالتين، سأبدو رائعة.»

تخرج كاثرين من غرفة المعيشة لتناول شرابها، وتأخذ أول رشفتين كما لو كانت تتناول كوبًا من الماء.

تقول في حماس خفيف: «أنا معجبة بهذا المنزل … معجبة فعلًا. منزل في منتهى البساطة والتواضع. مليء بالضوء. كنت أحاول أن أفكر بمَ يذكرني، والآن أعرف. هل شاهدت قط فيلم إنجمار بيرجمان القديم، ذلك الذي تعيش عائلة فيه في منزل صيفي على جزيرة؟ منزل متهالك جميل. جُن جنون الفتاة. أتذكر أنني كنت أحدث نفسي قائلةً وقتها، هكذا يجب أن تكون المنازل الصيفية، وهي لا تبدو كذلك أبدًا.»

يقول ديفيد: «الفيلم الذي كان الرب فيه على هيئة هليكوبتر … وكانت البنت تعبث مع أخيها في قاع المركب.»

تقول ستيلا من الجانب الآخر لحائط غرفة النوم: «لم نمر بشيء مثير هنا … لا أستطيع أن أقول إنني أحببت يومًا أفلام بيرجمان. كنت أظنها دومًا أفلامًا تتسم بالكآبة وتتناول الاضطرابات النفسية.»

يقول ديفيد لكاثرين: «تنتشر الأحاديث هنا سريعًا … هل تلاحظين كيف لا يبلغ أيٌّ من التقسيمات الداخلية هنا السقف؟ اللهم إلا غرفة النوم، نشكر الرب. يساعد هذا على وجود حياة عائلية على نحو كبير.»

تقول ستيلا: «متى كنا أنا وديفيد نريد قول شيء خاص، كنا نضطر إلى أن نخفي رءوسنا تحت الأغطية.» تخرج من غرفة النوم مرتديةً بنطالًا فيروزيًّا ضيقًا وبلوزة بلا أكمام. توجد زهور وسعف نخيل فيروزية على البلوزة على خلفية بيضاء. على الأقل، تبدو ستيلا مرتدية صدرية. يمكن رؤية حمَّالة فاتحة اللون، منغرسة في لحم كتفها.

تقول: «أتذكر في إحدى الليالي عندما كنا في الفراش … وكنا نتحدث عن شراء سيارة جديدة، وكنا نتساءل عن عدد الأميال التي تقطعها سيارة بها جالونات وقود عددها كذا، لا أذكر كم تحديدًا. حسنًا، كان أبي دومًا مولعًا بالسيارات، كان يعرف كل شيء، وفجأة سمعناه يقول: «ثمانية وعشرين ميلًا للجالون الواحد»، أو أيما كان ما قال، كما لو كان يجلس هناك على الجانب الآخر من الفراش. بالطبع، لم يكن موجودًا، كان يرقد في الفراش في غرفته. لم يكترث ديفيد كثيرًا لذلك، واكتفى بالرد قائلًا: «أوه، شكرًا سيدي.» كما لو كان أبي جزءًا من حديثنا كله!»

•••

عندما خرج ديفيد من متجر الخمور، في القرية، كانت ستيلا قد فتحت نافذة السيارة وكانت قد بدأت في الحديث مع زوجين قدمتهما إليه باسم رون وماري. كانا في منتصف الستينيات تقريبًا من عمرهما، لكن كانا حَسَنَي المظهر وذَوَيْ بشرة داكنة. كانا يرتديان بنطالين عليهما نقوش مربعة، وقميصين ثقيلين طويلَي الأكمام أبيضَي اللون، وقبعتين عليهما نقوش مربعة.

يقول رون: «سررتُ لمقابلتك … إذن أنتما هنا لتريا كيف يعيش الأشخاص البارعون!» يمتلك صوتًا مبتهجًا يوحي بضربات الملاكمة الخادعة، واللكمات المراوغة. «متى ستتقاعدان وتأتيان هنا وتنضمان إلينا؟»

جعل ذلك ديفيد يتساءل ما إذا كانت ستيلا أخبرتهما عن انفصالهما.

«لم يحن دوري بعد حتى أتقاعد.»

«تقاعدا مبكرًا! هذا ما يفعله الكثيرون هنا! أخرجنا أنفسنا من الروتين كله؛ الجد في العمل، والكدح، وكسب المال، والإنفاق.»

يقول ديفيد: «حسنًا، لا يشملني هذا الأمر … لستُ سوى موظف حكومي. نحصل على أموال دافعي الضرائب ونحاول ألا نقوم بأي عمل على الإطلاق.»

تقول ستيلا، مؤنبةً إياه، مثلما تفعل الزوجة: «هذا ليس صحيحًا … يعمل في وزارة التعليم ويعمل بجد. لن يقر بذلك أبدًا.»

تقول ماري، في سرور: «مجرد مستنزف! كنت أعمل في أوتاوا — كان ذلك منذ وقت طويل جدًّا — وكنا نُطلق على أنفسنا مستنزفين! مستنزفين حكوميين. موظفين.»

لا تعتبر ماري بأي حال من الأحوال بدينة، لكن حدث شيء لذقنها عادةً ما يحدث لذقون النساء البدينات. تقوَّض ذقنها إلى مجموعة من الأخاديد المفضية إلى عنقها.

يقول رون: «لنُنحِّ هذا المزاح جانبًا … هذه حياة رائعة. لن تصدقا كم الأشياء التي نقوم بها. اليوم يكاد لا يكفينا.»

يسأل ديفيد قائلًا: «هل لديكما الكثير من الهوايات؟» يبدو الآن جادًّا تمامًا، رزينًا ومصغيًا.

هذه نبرة منذرة لستيلا، ولذلك تحاول أن تشتت انتباه ماري. «ماذا ستفعلان بالقماش الذي جلبتماه من المغرب؟»

«لم أقرر بعد. يمكن عمل ثوب رائع لكنه لا يناسبني على الإطلاق. ربما ينتهي بي المطاف إلى أن أضعه كغطاء على الفراش.»

يقول رون: «يوجد الكثير من الأنشطة، التي يستطيع المرء المواظبة عليها للأبد. هناك على سبيل المثال التزحلق على الجليد. السير لمسافات طويلة. أمضينا تسعة عشر يومًا في شهر فبراير خارج المنزل. الطقس جميل هذا العام. لا نضطر إلى الذهاب إلى أي مكان بعيد. لا نفعل سوى الذهاب إلى الممر الخلفي …»

يقول ديفيد: «أحاول أن أواظب على متابعة هواياتي أيضًا … أعتقد أن ذلك يحافظ على شباب الإنسان.»

«لا مراء في ذلك!»

كان ديفيد يضع إحدى يديه في الجيب الداخلي لسترته. أخرج شيئًا يحتفظ به في راحة يده، وأراه لرون مبتسمًا في استنكار.

وقال: «هذه إحدى هواياتي.»

•••

يسأل ديفيد لاحقًا: «هل ترغبين في رؤية ما أريت رون؟» كانا يقودان السيارة عبر الأجراف في الطريق إلى نُزل المسنين.

«لا، شكرًا.»

يقول ديفيد في سرور: «آمل أن يكون رون قد أعجب به.»

يبدأ في الغناء. كان قد التقى هو وستيلا بينما كانا يغنيان أغاني المادريجال الجماعية في الجامعة. أو هكذا تقول ستيلا للآخرين. كانا يغنيان أغاني أخرى، أيضًا، بخلاف تلك الأغاني. تحب ستيلا أن تقول: «كان ديفيد شابًّا نحيفًا بريئًا، يمتلك صوتًا عذبًا من أعلى طبقات الصوت الرجولية، بينما كنتُ أنا شابة صغيرة، ممتلئة القوام، شرسة، أمتلك صوتًا عميقًا عريضًا من الطبقة الثانية من طبقات الصوت الرجولية … لم يكن ثمة شيء يستطيع أن يفعله حيال الأمر. قدر.»

«يا حبيبتي، أين تتجولين؟» هكذا يغني ديفيد، الذي ما زال يمتلك صوتًا جميلًا إلى اليوم، قائلًا:

يا حبيبتي، أين تتجولين؟
يا حبيبتي، أين تتجولين؟
أوه، امكثي واسمعي، حبيبك الحقيقي آتٍ،
أوه، امكثي واسمعي، حبيبك الحقيقي آتٍ،
الذي يستطيع الغناء، بصوت مرتفع وبصوت خفيض.

على الشاطئ، على جانبي منزل ستيلا، توجد حواجز منخفضة صخرية وسط سياجات سلكية، ممتدة بطول الماء. هذه الجدران هدفها حماية الشاطئ من التآكل. فوق أحد هذه الجدران، تجلس كاثرين، تنظر إلى الماء، فيما يطيِّر نسيم البحيرة ثوبها الرقيق وشعرها الطويل. يُمكن التقاط صور رائعة لها في هذا الوضع. ربما يمكن استخدام صورتها في الإعلان عن شيء ما، هكذا تحدِّث ستيلا نفسها، سواء أكان شيئًا حميميًّا جدًّا، وربما يكون شيئًا مثيرًا للاشمئزاز، أو شيئًا محترمًا جدًّا ورائعًا جدًّا، مثل التأمين على الحياة.

تقول ستيلا: «كنت أنوي أن أسألك … هل ثمة خطب ما في عينيها؟»

يسأل ديفيد: «عينيها؟»

«نظرها. يبدو أنها لا تستطيع تركيز نظرها جيدًا، عن مقربة. لا أعرف كيف أصف ذلك.»

تقف ستيلا وديفيد عند نافذة غرفة المعيشة. بعد العودة من نُزل المسنين، يحمل كلٌّ منهما شرابًا جديدًا ومنعشًا. لم يكادا يتحدثان في طريق عودتهما إلى المنزل، غير أن الصمت لم يكن مفعمًا بأي مشاعر عدائية. يشعران بالتأدب والأنس معًا إلى حد بعيد.

«لا توجد مشكلة في بصرها حسبما أعلم.»

تذهب ستيلا إلى المطبخ، تتناول الشواية، وتتبل قطعًا من لحم الخنزير بفصوص من الثوم وأوراق المريمية الطازجة.

يقول ديفيد، بينما يقف على مدخل غرفة المعيشة: «أتعرفين، توجد رائحة تفوح من النساء … يحدث هذا عندما يعرفن أن الرجال لم يعودوا يرغبون فيهن. رائحة سخيفة.»

تواصل ستيلا تتبيل اللحم.

تقول: «يجب تجديد أسلاك تلك الحواجز … تهالك السلك وانثنى في بعض المواضع. يجب أن ترى ذلك. قوة الماء. يستطيع الماء نحر السلك الصلب. سأنظِّم حفل عمل هذا الخريف. سأعد الكثير من الطعام، وسأدعو بعض الضيوف، وسأتأكد من أن عددًا لا بأس به يتمتع بصحة جيدة. هذا ما نفعله جميعًا.»

تضع الشواية داخل الفرن وتغسل يديها.

«إنها كاثرين التي كنت تخبرني عنها الصيف الماضي، أليس كذلك؟ هي من قلت إنها تميل إلى الغرابة.»

يزمجر ديفيد قائلًا: «قلت ماذا؟»

«تميل إلى الغرابة.» تصدر ستيلا جلبة في المكان، متناولة التفاح والبطاطس، والبصل.

يقول ديفيد، الذي يدخل إلى المطبخ ليقترب منها: «حسنًا، أخبريني … أخبريني ماذا قلت.»

«هذا هو كل شيء. لا أتذكر أي شيء آخر.»

«ستيلا. أخبريني كل ما قلت عنها.»

«لا أتذكر، حقيقةً. لا أتذكر.»

بالطبع هي تتذكر. تتذكر بدقة نبرة الصوت التي قال بها «تميل إلى الغرابة.» نبرة الكبرياء والسخرية في صوته. في غمار الحب، يمكن الاعتماد عليه في الحديث عن المرأة في نقد رقيق، بل حتى في دهشة. يحب أن يقول إن في الأمر جنونًا، لا يستطيع أن يستوعبه، يستطيع أن يرى بوضوح أن هذه المرأة ليست من النوع الملائم له على الإطلاق. ومع ذلك، مع ذلك، مع ذلك. ومع ذلك فإن الأمر خارج عن إرادته، لا يستطيع مقاومته. قال لستيلا إن كاثرين تؤمن بالأبراج، وإنها نباتية، وترسم صورًا غريبة بها أشكال صغيرة مُحاطة بفقاعات بلاستيكية.

تقول ستيلا، مذعورةً فجأة: «اللحم المشوي … هل ستأكل اللحم؟»

«ماذا؟»

«هل ستأكل كاثرين لحمًا؟»

«ربما لا تأكل أي شيء. ربما تكون مشوشة أكثر مما ينبغي.»

«أصنع مزيجًا من التفاح والبصل. سيكون هذا ملائمًا. ربما ستأكل ذلك.»

في الصيف الماضي، قال: «لا تزال تعد نفسها من الهيبيز، حقيقيةً. لا تعرف حتى إن هذا العصر قد انقضى. لا أعتقد أنها تقرأ الصحف على الإطلاق. ولا تملك أدنى فكرة عما يجري في العالم. إلا إذا سمعت بذلك من عرَّافة. هذا هو تصورها عن الواقع. لا أعتقد أنها تستطيع قراءة خريطة. تسير وفق حدسها فقط. هل تعرفين ماذا فعلت؟ ذهبت إلى أيرلندا لترى كتاب كيلز (مخطوطة الكتاب المقدس المضاءة الكبيرة الشهيرة). كانت قد سمعت أن كتاب كيلز موجود في أيرلندا؛ لذا، ذهبت على متن طائرة إلى مطار شانون، وعندما وصلت، سألت أحد الأشخاص عن كيفية الوصول لرؤية كتاب كيلز. وفي النهاية، وجدت الكتاب!»

سألت ستيلا كيف حصلت هذه المخلوقة الغريبة على المال لتذهب في رحلة إلى أيرلندا.

قال ديفيد: «أوه، لديها وظيفة … وظيفة ما. تدرِّس الفن بدوام جزئي. الرب وحده يعلم ماذا تدرِّس. تعلم الطلبة أن يرسموا حسب أبراجهم، مثلما أظن.»

يقول: «توجد امرأة أخرى. لم أخبر كاثرين. هل تظنين أنها تشعر بذلك؟ أظن ذلك. أظن أنها تشعر بذلك.»

يستند على الطاولة، ويشاهد ستيلا وهي تقشِّر التفاح. يضع يده في جيبه الداخلي، وقبل أن تدير ستيلا رأسها بعيدًا يُخرج إحدى الصور الفوتوغرافية الفورية ويضعها أمام عينيها.

يقول: «هذه فتاتي الجديدة.»

تقول ستيلا، مع توقفها عن التقشير بالسكين: «تبدو مثل الحزاز … فيما عدا أنه داكن قليلًا. تبدو لي مثل طحلب على صخرة.»

«لا تكوني غبية يا ستيلا. لا تتخابثي. انظري إليها جيدًا. ألا ترين ساقيها؟»

تضع ستيلا السكين جانبًا وتدقق النظر في الصورة في إذعان. يوجد صدر بارز بعيدًا في الأفق. وكانت الرجلان تمتدان في مقدمة الصورة. كانت الساقان منفرجتين؛ ناعمتين، ذهبيتين، رائعتين، كأنهما عمودان أثريان. وبينهما توجد تلك البقعة الداكنة التي أطلقت ستيلا عليها الطحلب أو الحزاز. لكنها تبدو حقيقةً أقرب إلى جلد داكن لحيوان، رأسه وذيله وقدماه مقطوعة. جلد داكن ناعم لأحد القوارض سيئة الحظ.

تقول في صوت متعقل: «حسنًا، أستطيع أن أرى ذلك الآن.»

«اسمها دينا. تبلغ من العمر اثنين وعشرين عامًا.»

لن تطلب منه ستيلا أن ينحي الصورة جانبًا، أو حتى أن يتوقف عن حملها أمام وجهها.

يقول ديفيد: «إنها فتاة سيئة … أوه، إنها فتاة سيئة! ذهبت إلى مدرسة الراهبات. لا توجد فتيات سيئات مثل فتيات مدارس الراهبات عندما يقررن أن يتصرفن في طيش! كانت طالبة في كلية الفنون حيث تدرس كاثرين. تركتها. وتعمل الآن نادلة في حانة.»

«لا يبدو هذا تصرفًا منحلًّا أخلاقيًّا بالنسبة إليَّ. كانت ديردري تعمل نادلة في حانة لفترة أثناء دراستها الجامعية.»

«دينا ليست مثل ديردري.»

أخيرًا، ينزل ديفيد يده التي تحمل الصورة، وتلتقط ستيلا سكينها وتواصل تقشير التفاح. لكن ديفيد لا ينحي الصورة جانبًا. يشرع في تنحيتها جانبًا، ثم يعدل عن رأيه.

يقول: «الساحرة الصغيرة … إنها تعذِّب روحي.»

يبدو صوته عندما يتحدث عن تلك الفتاة بالنسبة إلى ستيلا مصطنعًا على نحو مميز. لكن من هي حتى تقرر، خاصةً مع ديفيد، ما هو مصطنع وما هو غير مصطنع؟ صوته المميز هذا نوعًا ما مرتفع النبرة، رتيب، مُصر، ذو عذوبة قاسية متعمدة. من يريد أن يكون قاسيًا معه، ستيلا، كاثرين، نفسه؟ تُطلق ستيلا تنهيدة أعلى صوتًا وأكثر سخطًا مما كانت تقصد، وتضع تفاحة وهي نصف مقشرة. تتجه إلى غرفة المعيشة وتنظر من النافذة.

تصعد كاثرين الحاجز. أو تحاول أن تفعل ذلك. يشتبك ثوبها في الأسلاك.

تقول ستيلا، متعجبةً من نبرة شريرة في صوتها: «هذا الثوب القديم يسبب لها متاعب كثيرة اليوم.»

«ستيلا. أود أن تحتفظي بهذه الصورة لي.»

«أنا أحتفظ بها؟»

«أخشى أن أريها لكاثرين. كثيرًا ما أرغب في ذلك. أخشى أن أفعل ذلك.»

كانت كاثرين قد خلَّصت نفسها، ولمحتهما عند النافذة. تلوِّح، وتلوِّح لها ستيلا في المقابل.

تقول ستيلا: «أنا واثقة أن لديك غيرها … صورًا غيرها.»

«ليس معي. المسألة أنني أريد أن أعذبها.»

«إذن لا تفعل.»

«تجعلني أريد أن أعذبها. تتعلق بي بنظراتها المنتحبة تلك. تتناول أقراصًا. أقراصًا لتحسين المزاج. تسكر. في بعض الأحيان أعتقد أن أفضل شيء أفعله هو أن أفجعها فاجعة كبرى. أطلق عليها رصاصة الرحمة. رصاصة الرحمة يا كاثرين. ها أنت ذي. الفاجعة الكبرى. لكنني قلق مما ستفعله.»

تقول ستيلا: «أقراص لتحسين المزاج … أقراص لتحسين المزاج ورفع الروح المعنوية، رفعها إلى أعلى!»

«أنا جاد يا ستيلا. إنها أقراص قاتلة.»

«هذا شأنك.»

«هذا مضحك جدًّا.»

«لم أكن أقصد أن يكون الأمر على هذا النحو. لكن عندما ينفلت شيء كهذا مني، أتظاهر دومًا أنني كنت أقصد هذا الأمر. أنسب كل فضل ممكن في الأمر إليَّ!»

•••

يشعر هؤلاء الثلاثة بأنهم أفضل في وقت العشاء أكثر مما قد يتوقع أيٌّ منهم. يشعر ديفيد بأنه أفضل؛ لأنه تذكر أن ثمة كابينة هاتف تقع في الجهة المقابلة لمتجر الخمور. تشعر ستيلا بأنها أفضل دومًا عندما تطهو وجبة وتخرج الوجبة في أفضل صورة. أما أسباب كاثرين في الشعور بأنها أفضل فأسباب كيميائية.

الحوار ليس صعبًا. تحكي ستيلا قصصًا صادفتها عند قيامها ببعض البحث لكتابة مقالها، عن غرق السفن في منطقة البحيرات العظمى. تحظى كاثرين ببعض المعلومات عن غرق السفن. لكاثرين رفيق — رفيق سابق — يعمل غواصًا. يتمتع ديفيد بالشجاعة الكافية حتى يقر بشعوره بالغيرة من هذا الرفيق، ولا يأبه بسماعها وهي تتحدث عن قدراته في الغوص في المياه العميقة. ربما تكون هذه هي الحقيقة.

بعد العشاء، يقول ديفيد إنه في حاجة إلى السير قليلًا. تخبره كاثرين أن يذهب وحده. تقول في حبور: «هيا اذهب … لا نحتاجك هنا. سنقضي أنا وستيلا وقتًا طيبًا معًا بدونك!»

تتساءل ستيلا عن مصدر صوت كاثرين الجديد هذا، هذا الصوت الجريء، الأحمق، اللعوب نسبيًّا. لا يفعل الشراب ذلك. إن ما تناولته كاثرين، أيًّا ما كان، جعل ذهنها أكثر توقدًّا، لا أكثر تبلدًا. تطايرت طبقات عديدة من الاعتذار الرقيق، والتملق الحذر، والشجاعة، والأمل عبر هذا النسيم المصطنع السريع.

لكن عندما تنهض كاثرين وتحاول أن تخلي المائدة، يتضح أن التوقُّد ليس جسديًّا. تصطدم كاثرين بأحد أركان الطاولة. إن كاثرين تجعل ستيلا تتصور أنها أشبه بشخص مبتور الأطراف، بترًا لا يشمل جزءًا كبيرًا من الأطراف، بل فقط أطراف أصابع اليدين وربما أصابع القدمين. تتابعها ستيلا ببصرها، وتتناول منها الأطباق قبل أن تنزلق.

تقول كاثرين: «هل لاحظتِ شعره؟» يعلو صوتها ويهبط مثل عجلة الملاهي؛ ينخفض ويتلألأ. «إنه يصبغه!»

تسأل ستيلا في دهشة حقيقية: «هل يفعل ديفيد ذلك؟»

«في كل مرة يفكر في الأمر، يُميل رأسه إلى الخلف، بحيث لا يستطيع المرء أن يقترب أكثر مما ينبغي منه. أعتقد أنه كان يخشى أن تقولي شيئًا. يخشاك قليلًا. حقيقةً، يبدو شعره طبيعيًّا جدًّا!»

«لم ألحظ ذلك حقًّا.»

«بدأ في صباغة شعره قبل شهرين. قلت له: «ديفيد، فيم يفيد ذلك؟ كان شعرك قد بدأ يشيب عندما أعجبت بك، هل تظن أن هذا سيزعجني الآن؟» الحب غريب، يفعل أشياء غريبة. ديفيد حقًّا شخص حسَّاس؛ شخص سريع التأثر.» تنقذ ستيلا كأس خمر كادت تسقط من بين أصابع كاثرين. «قد يجعل الحب المرء خسيسًا، قد يجعله شخصًا خسيسًا. إذا شعر المرء باعتماده على أحد، فيمكن أن يصير خسيسًا معه. أفهم ذلك في ديفيد.»

تشربان عسلًا مخمرًا على العشاء. هذه هي المرة الأولى التي تجرِّب ستيلا فيها هذه الجرعة من العسل المخمَّر المنزلي، وها هي الآن ترى كم هو طيب، وجاف، ولامع. كان يبدو مثل الشامبانيا. تتأكد مما إذا كان لا يزال ثمة أي كمية أخرى متبقية في الزجاجة. نصف كوب تقريبًا. تصبها لنفسها، تضع كوبها خلف الخلاط، تشطف الزجاجة. تقول كاثرين: «تعيشين حياة طيبة هنا.»

«أعيش حياة طيبة. نعم.»

«أشعر أن هناك تغييرًا سيحدث في حياتي. أحب ديفيد، لكنني غرقت في هذا الحب طويلًا. أكثر مما ينبغي. هل تعلمين ماذا أعني؟ كنت في الأسفل أنظر إلى الأمواج وبدأت أقول: «يحبني، لا يحبني.» أفعل ذلك كثيرًا. ثم قلت في نفسي: حسنًا، الأمواج لا نهاية لها، بخلاف زهرة الأقحوان. أو حتى خطواتي، إذا بدأت في عدها حتى نهاية المربع السكني. حدثت نفسي قائلةً، لا تنتهي الأمواج أبدًا. لذا أدركت أن هذه رسالة لي.»

«دعي الأواني يا كاثرين. سأهتم بها لاحقًا.»

لماذا لا تقول ستيلا: «اجلسي، أستطيع أن أفعل ذلك بمفردي أفضل منك»؟ كان هذا شيء تقوله عادةً لمن يقدمون المساعدة ممن هم أقل كفاءة من كاثرين. لا تقول ذلك لأنها تحذر أمرًا ما. تبدو حالة كاثرين غاية في الهشاشة والوهن. قد يؤدي انهيارها إلى نتائج لا تُحمد عقباها.

تقول كاثرين: «يحبني، لا يحبني … هكذا تمضي الأمور. تمضي إلى الأبد. ذلك ما كانت الأمواج تحاول أن تخبرني إياه.»

تقول ستيلا: «فقط من باب الفضول … هل تؤمنين بالأبراج؟»

«هل تعنين أنني قرأت طالعي؟ لا، ليس حقيقةً. أعرف أناسًا فعلوا ذلك. فكَّرت في الأمر. أعتقد أنني لا أُومِن بهذا الأمر بما يكفي حتى أنفق مالًا عليه. أطالع هذه الأشياء في الصحف في بعض الأحيان.»

«هل تطالعين الصحف؟»

«أقرأ أجزاءً منها فقط. تصلني إحدى الصحف. لا أقرؤها كلها.»

«وهل تأكلين اللحم؟ تناولت لحم خنزير على العشاء.»

لا يبدو أن كاثرين تمانع في أن يجري استجوابها، أو أن تلاحظ حتى أن هذا استجواب.

«حسنًا، أستطيع أن أعيش على تناول السلاطات، خاصةً في هذا الوقت من العام. لكنني آكل اللحم من وقت إلى آخر. أنا نباتية لا تتمتع بعزيمة كبيرة. كان رائعًا، هذا اللحم المشوي. هل أضفت ثومًا إليه؟»

«ثومًا ومريمية وإكليل الجبل.»

«كان لذيذًا.»

«يسعدني ذلك.»

تجلس كاثرين فجأةً، وتمد رجليها الطويلتين بطريقة صبيانية، جاعلةً ثوبها يسقط بينهما. يثب هركليز، الذي ظل نائمًا طوال فترة العشاء على المقعد الرابع، على الجانب الآخر من المائدة، وثبة قوية ويستقر في حجرها.

تضحك كاثرين وتقول: «قط مجنون.»

«إذا ضايقك، فاضربيه كي يذهب بعيدًا.»

متحررة الآن من الحاجة إلى متابعة كاثرين بعينيها، تنهمك ستيلا في حك الأطباق ورصها، وشطف الأكواب، وتنظيف المائدة، ونفض المفرش، ومسح أسطح المطبخ. تشعر بالرضا وبالحيوية الكاملة. تتناول رشفة من العسل المخمَّر. تمر كلمات من أغنية عبر رأسها، لكنها لا تُدركها حتى خرجت كلمات قليلة من هذه الأغنية على شفتيها وعرفت أنها نفس الأغنية التي كان ديفيد يغنيها، في وقت مبكر من اليوم. «إن ما هو قادم ليس مؤكدًا!»

تصدر كاثرين صوت شخير خفيف، وتحرك رأسها إلى أعلى. لا يخاف هركليز، لكنه يحاول أن يستقر أكثر، ناشبًا مخالبه في ثوبها.

تقول كاثرين: «هل كان ذلك أنا؟»

تقول ستيلا: «أنت في حاجة إلى بعض القهوة … تماسكي. ربما لا يجدر بك أن تخلدي إلى النوم الآن.»

تقول كاثرين في عناد: «أنا متعبة.»

«أعلم ذلك. لكن يجدر بك ألا تخلدي إلى النوم الآن. تماسكي، وسأجلب لك بعض القهوة لتنعشك.»

تتناول ستيلا منشفة من الدرج، تنقعها في مياه باردة، ثم تضعها على وجه كاثرين.

تقول ستيلا: «ما رأيك؟ … أمسكي بها، وسأعد لك بعض القهوة. لن أدعك تنامين هنا لن يتوقف ديفيد عن الحديث في سخافة عن الأمر. سيقول إن السبب في ذلك يعود إلى العسل المخمَّر الذي أعددته أو إلى طعامي أو صحبتي، أو أي شيء آخر. تماسكي يا كاثرين.»

•••

يبدأ ديفيد، في كابينة الهاتف، في مهاتفة دينا. ثم يتذكر أن المكالمة لمكان بعيد. عليه أن يطلب عاملة الهاتف. يطلب عاملة الهاتف، يسألها عن تكلفة المكالمة، يُفرغ ما في جيبه من العملات المعدنية. ينتقي دولارًا وخمسة وثلاثين سنتًا من فئة ربع دولار وعشرة سنتات، يرصها فوق الرف. يبدأ في مهاتفة دينا مرة أخرى. أصابعه مرتعشة، راحتا يده متعرقتان. تنتشر في رجليه ومعدته وصدره حركاتُ اضطراب متزايدة. تضطرب أحشاؤه عند سماع أول رنة للهاتف، في شقة دينا الضيقة. هذا جنون. يبدأ في وضع أرباع الدولارات في ماكينة الهاتف.

تقول عاملة الهاتف: «سأقول لك متى تضع العملات … سيدي؟ سأخبرك متى تضع العملات.» تصلصل أرباع الدولارات في طريقها للنزول إلى مكان استعادة المبلغ المتبقي، ويستطيع ديفيد إخراجها بصعوبة بيده. يرن جرس الهاتف مجددًا، الموجود على تسريحة منزل دينا، وسط كومة مستحضرات المكياج، والكولونات، والعقود والسلاسل، والأقراط الطويلة المريشة، وفلتر سجائر سخيف، ومجموعة من الألعاب الصغيرة. يستطيع أن يراها، الضفدعة الخضراء، البطة الصفراء، الدبة البنية، جميعها في حجم واحد. الضفادع والدببة متساوية. توجد أيضًا بعض الوحوش الفضائية، مصنوعة وفق شخصيات في أحد الأفلام. عند تشغيلها، ستتمايل هذه الألعاب وتصلصل على الأرضية أو على المنضدة، مصدرةً شررًا من فمها. تحب أن تقيم سباقات، أو تضع لعبتين في مسار اصطدام. ثم تطلق صرخة حادة، بل تصرخ في إثارة، أثناء تحرُّك الألعاب بطريقة غير متوقعة.

«لا يبدو أن ثمة أحدًا يجيب يا سيدي.»

«دع الهاتف يرن بضع مرات أخرى.»

يقع حمام دينا عبر الردهة. تشاركها إياه فتاة أخرى. إذا كانت في الحمام، حتى ولو في حوض الاستحمام، فكم تستغرق من الوقت حتى تقرر ما إذا كانت ستجيب على الهاتف؟ يقرر أن يبدأ في عد عشر رنات أخرى، بدءًا من الآن.

«لا تزال لا توجد أي إجابة، سيدي.»

عشر أخرى.

«سيدي، هل ترغب في أن تحاول مرة أخرى لاحقًا؟»

يضع سماعة الهاتف، مفكرًا في شيء. في الحال، في حماس بالغ، يطلب دليل الهاتف.

«لأي مكان، سيدي؟»

«تورونتو.»

«تفضل، سيدي.»

يطلب رقم شخص يُدعى مايكل ريد. لا، لا يعرف عنوان الشارع. لا يعرف إلا الاسم، اسم آخر رفيق لها، والذي ربما لم تقطع علاقتها به بعد.

«لا يوجد أحد لدي اسمه مايكل ريد.»

«حسنًا. جرِّبي ريدي، ر-ي-د-ي.»

يوجد بالفعل شخص يُدعى إم ريدي، يقطن في طريق دافينبورت. لا يُدعى مايكل لكن على الأقل الحرف الأول من اسمه إم تحققي من ذلك، إذن. هل يوجد أحد يُدعى إم ريد؟ ريد؟ نعم. نعم، يوجد إم ريد، يقطن في شارع سيمكو. وشخص آخر يُدعى إم ريد يعيش في شارع هاربورد. لماذا لم تقل عاملة الهاتف ذلك من قبل؟

يختار الشخص الساكن في شارع هاربورد بالحدس. لا يبعد هذا الشارع كثيرًا عن شقة دينا. تخبره موظفة الهاتف بالرقم. يحاول أن يتذكره. لا يوجد لديه ما يكتب به. يشعر بأهمية عدم الطلب من موظفة الهاتف تكرار الرقم أكثر من مرة. يجب ألا يكشف عن وجوده هنا في كابينة هاتف دون قلم حبر أو قلم رصاص. يبدو له أن طريقته الملحة الماكرة جليَّة، وأنه في أي لحظة من اللحظات قد تُحجب عنه أي معلومات، لن يُسمح له بمعرفة أي معلومات أخرى عن إم ريد أو إم ريدي، في شارع هاربورد أو سيمكو أو طريق دافينبورت، أو أي مكان آخر.

عليه أن يبدأ من جديد الآن. كود تورونتو. لا، بل إعادة مهاتفة موظفة الهاتف. الرقم الموجود في الذاكرة. سريعًا، قبل أن يفقد أعصابه، أو ينسى الرقم. إذا كانت ستجيب، فماذا سيقول؟ لكن، أليس من غير المحتمل ألا تجيب، حتى إذا كانت موجودة. سيجيب إم ريد، ثم سيسأل ديفيد عن دينا، لكن ربما لن يكون هذا بصوته الطبيعي. ربما لن يجيب بصوت رجل على الإطلاق. اعتاد على التحدث بأصوات مختلفة عبر الهاتف. استطاع خداع ستيلا في إحدى المرات.

ربما يقلِّد صوت امرأة، تتحدث في صوت رفيع. أو صوت طفلة، صوت أخت صغيرة. «هل دينا هنا؟»

«أستميحك عذرًا يا سيدي؟»

«لا شيء. آسف.»

«الهاتف يرن الآن. سأخبرك متى تضع العملات.»

ماذا إذا كان إم ريد امرأة؟ ليس مايكل ريد على الإطلاق. ماري ريد. امرأة عجوز على المعاش. فتاة ذات تطلعات مهنية. لماذا تهاتفني؟ معاكسة. أعود إلى دليل الهاتف إذن. جرِّبي إم. ريد في شارع سيمكو. جرِّبي إم ريدي في شارع دافينبورت. واصلي محاولات الاتصال.

«أنا آسفة. لا يبدو أن ثمة أي إجابة.»

يرن جرس الهاتف مرة بعد أخرى في شقة، أو منزل، أو غرفة إم ريد. يستند ديفيد على الرف المعدني، حيث تقبع العملات المعدنية. تتوقف سيارة في الساحة أمام متجر الكحول. يراقبه الزوجان في السيارة. يبدو أنهما يريدان استخدام الهاتف. ومن يدري فقد يأتي رون وماري بعد ذلك.

توجد شقة دينا فوق متجر لبيع المنتجات المستوردة من الهند. تفوح من ملابسها وشعرها دومًا رائحة الكاري، وجوزة الطيب، والبخور، بالإضافة إلى ما يظن ديفيد أنه رائحتها الطبيعية، من السجائر، والمواد المخدرة، والجنس. شعرها مصبوغ باللون الأسود الفاحم. يحمل خداها آثار لون صارخ، ويبدو جفناها في بعض الأحيان باللون الأحمر الطوبي. حاولت ذات مرة أن تؤدي دورًا في فيلم كان بعض الأشخاص الذين كانت تعرفهم يصنعونه. فشلت في الحصول على الدور بسبب امتناعها عن وضع فأر مروَّض بين رجليها. أشعرها هذا الفشل بالمهانة.

يتصبب ديفيد عرقًا الآن، محاولًا ألا يمسك بها متلبسة، بل أن يلحق بها بأي حال من الأحوال، لسماع صوتها الفتيِّ القاسي، ذي الارتعاشة العفوية والبذاءات اللصيقة به. حتى إذا كان سمعه له، في هذه اللحظة، يعني أنها تخونه. بالطبع تخونه. تخونه طوال الوقت. لو أنها فقط تجيب (كاد ينسى أن إم ريد هو من يُفترض أن يجيب)، فيمكن أن يصرخ فيها، يعنِّفها، وإذا شعر أن قواه تخذله — سيشعر أن قواه «تخذله» — يمكن أن يرجوها. سيرحب بالفرصة، أي فرصة، على العشاء، متحدثًا بحماس إلى ستيلا وكاثرين، ظل يكتب اسم دينا بأصبعه على الجانب السفلي للمائدة الخشبية.

لا يوجد لدى الناس أي صبر في ظل معاناة كهذه، لماذا يجب عليهم أن يتحلوا بالصبر؟ يجب على الشخص الذي يعاني أن يتخلى عن التعاطف، ينحي كرامته جانبًا، يتكيَّف مع النوائب. وبالإضافة إلى كل ذلك، سيستقطع الناس من وقتهم ليقولوا له إن هذا ليس حبًّا حقيقيًّا. نوبات الرغبة والاتكال والعبادة والانحراف، هذه التحولات المرغوبة والرهيبة في آن واحد، ليس هذا حبًّا حقيقيًّا.

كانت ستيلا تخبره كثيرًا بأنه لم يكن يعبأ بالحب، أو حتى الجنس. «لا أعتقد أنك مهتم حتى بالجنس يا ديفيد. أعتقد أن كل ما أنت مهتم به هو أن تكون فتًى كبيرًا مشاغبًا.»

الحب الحقيقي، يعني ذلك الاستمرار في الحياة مع ستيلا، أو كاثرين. ربما يكون رون هو الشخص الذي من المُفترض أنه يعرف كل شيء عن الحب الحقيقي.

يعرف ديفيد ما يفعله. يعتقد أن هذا هو الجانب المثير في الأمر، وقد قال ذلك. يعرف أن دينا ليست حقيقةً على هذا القدر من الشراسة، أو النهم، أو الفشل، مثلما يتظاهر أنها كذلك، أو مثلما تتظاهر هي في بعض الأحيان. في غضون عشرة أعوام، لن تتحطم جراء حياتها الطائشة، لن تصير عاهرة ساحرة. ستصير امرأة يحيط بها أطفالها في المغسلة التي تعمل بالعملة. لا تنطبق كلمة «مومس» اللذيذة، القديمة في استخدامها، التي يستخدمها في وصفها، عليها؛ حقيقةً، لا علاقة لها بها مثلما لا علاقة لكلمة «هيبيَّة» بكاثرين، شخص لا يحتمل التفكير فيه الآن. يعرف إن عاجلًا أم آجلًا، إذا كشفت دينا عن قناعها، مثلما فعلت كاثرين، أن عليه أن يمضي في حياته. عليه أن يفعل ذلك على أي حال، يمضي في حياته.

يعرف كل هذا ويراقب نفسه، ولا تؤتي هذه المعرفة والمراقبة أي أثر على الإطلاق على معدته المضطربة، وغدد عرقه المنهمكة، وآماله المحمومة.

«سيدي؟ هل تريدني أن استمر في المحاولة؟»

•••

يُطلَق على نُزل المسنين الذي زاروه، في وقت سابق من اليوم، نُزل بلسان جلعاد. سُمي النزل بهذا الاسم على غرار اسم أشجار بلسان جلعاد، وهي أحد أنواع أشجار الحور، التي تنمو بكثرة قرب البحيرة. النُّزل عبارة عن قصر حجري ضخم شيِّد من قبل ثري كان يعيش في القرن التاسع عشر، وصار الآن منظره مشوهًا بسبب الممرات المنحدرة وسلالم الطوارئ.

نادى أشخاص على ستيلا، وكانوا مقعدين على كراسي متحركة في مرج الفناء الأمامي. حيتهم بأسمائهم، وذهبت لتسلم على بعضهم وتلقي لهم بالقبلات. تتحرك هنا وهناك مثل طائر طنَّان بدين.

كانت تغني عندما انضمت إلى ديفيد مرة أخرى:

أنا شعاع شمسك الصغير، قصير وعريض،
أمِلْني، وصبَّني!

تقول في نفس متقطِّع: «لا، إنه برَّاد الشاي. لا أعتقد أنك ستشهد تغيرًا كبيرًا في والدي. فيما عدا أن العمى صار كليًّا الآن.»

قادته عبر الممرات المطلية باللون الأخضر، ذات الأسقف المنخفضة الاصطناعية (لتقليص نفقات التدفئة)، والصور التقليدية، وروائح المطهرات وغيرها. في الخارج وحيدًا في إحدى الشرفات الخلفية، جلس أبوها ملفوفًا في أغطية، مربوطًا في كرسيه المتحرك حتى لا يسقط.

قال أبوها: «ديفيد؟»

بدا الصوت آتيًا من كهف عميق مبتل داخله، لا يؤثر في نبرته شفتاه، أو فكاه، أو لسانه. لم يكن بالإمكان رؤية أيٍّ من تلك الأعضاء تتحرك. ولم يحرك حتى رأسه.

اتجهت ستيلا إلى خلف الكرسي ووضعت ذراعيها حول عنقه. تحسسته في رقة شديدة.

قالت: «نعم، هذا ديفيد يا أبي … تعرَّفت على خطوته!»

لم يجب أبوها. انحنى ديفيد للمس يدي الرجل الشيخ، اللتين لم تكونا باردتين، مثلما توقَّع، بل كانتا دافئتين وجافتين جدًّا. وضع زجاجة الويسكي فيهما.

قالت ستيلا في رقة: «احذر. لا يستطيع الإمساك بها.» ظل ديفيد واضعًا يديه على الزجاجة بينما دفعت ستيلا أحد المقاعد، بحيث يستطيع أن يجلس قبالة أبيها.

قال ديفيد: «نفس الهدية القديمة.»

أصدر حموه صوتًا يؤمِّن على كلامه.

قالت ستيلا: «سأذهب لأحضر بعض الأكواب … هذا مخالف للقواعد أن تتناول الشراب في الخارج، لكنني أستطيع أن أجعلهم يتجاوزونها قليلًا. سأخبرهم أن هذا احتفال.»

حتى يعتاد النظر إلى حميه، حاول ديفيد أن يفكر فيما حدث له كنوع من النمو لما بعد الإنسان، حدث جديد في الجنس البشري. لم يحافظ بقاؤه على قيد الحياة عليه بل غيره. بشرة رمادية مائلة إلى الزُّرقة، ذات بقع داكنة الزرقة، وعينان مبيضتان، رقبة تظهر فيها أخاديد عميقة رقيقة، مثل زهرية من الزجاج المدخَّن. كانت تأتي أصوات أخرى عبر هذه الرقبة، دعوة إلى الحديث. كانت جوهر كل مقطع يصدر، حرفًا متحركًا واهنًا لا يكاد تتضح معالمه إلا من خلال الحروف الساكنة المحيطة به.

«المرور، سيئ؟»

وصف ديفيد الأوضاع على الطريق السريع الرئيسي وعلى الطرق السريعة الفرعية. أخبر حماه أنه اشترى سيارة مؤخرًا، سيارة يابانية. أخبره كيف أن سيارته لم تستطع، في البداية، أن تقترب في عدد الأميال التي تقطعها لكل جالون من عدد الأميال المُعلن عنها. لكنه تقدَّم بشكوى، وأصر على موقفه، وأعاد السيارة إلى الشركة مرة أخرى. أُجريت تعديلات كثيرة، وتحسن الحال الآن، وصار استهلاك الوقود مرضيًا، وإن لم يكن يتطابق تمامًا مع ما وُعد به.

بدا هذا حوارًا مرحبًا به. بدا حموه متابعًا له. أومأ وعلى وجهه النحيف، الطويل المائل إلى الزرقة الذي ينتمي إلى مرحلة ما بعد الإنسان، كان ثمة آثار من تعبيرات قديمة؛ تعبير من الاهتمام الحاد والمهيب؛ شك في الإعلانات وفي السيارات المستوردة وفي بائعي السيارات. كان ثمة حتى علامة شك — مثلما في الأيام الخوالي — في إمكان الوثوق في ديفيد للتعامل مع أمور كهذه جيدًا. وشعر بالراحة أنه فعل ذلك. في نظر حميه، سيظل ديفيد دائمًا شخصًا يتعلم كيف يصبح رجلًا، شخصًا ربما لن يتعلم أبدًا ذلك، ربما لن يتعلم رجاحة العقل والتحكم في تصرفاته أبدًا؛ النطاق المناسب للتصرف في الأمور. كان ديفيد، الذي كان يفضِّل الجين على الويسكي، يقرأ الروايات، ولم يكن يفهم في أمور البورصة، وكان يتحدث إلى النساء، وكان قد بدأ حياته المهنية معلمًا. ديفيد، الذي كان يقود دومًا سيارات صغيرة، سيارات مستوردة. لكن لم يعد في أيٍّ من هذا مشكلة الآن. لم تعد السيارات الصغيرة تشير إلى الأشياء التي كانت تشير إليها عادةً. حتى هنا على الأجراف فوق بحيرة هورون في أقصى أطراف الحياة، حدثت بعض التغيرات، بعض التحولات التي فهمها رجل لم يعد باستطاعته الاستيعاب أو الرؤية.

«هل سمعت عن السيارة لادا؟»

من حسن الطالع أن لديفيد زميل عمل يمتلك سيارة من طراز لادا، وقد تحدث إليه خلال العديد من فترات الراحة المملة لتناول الغداء أو القهوة عن مواطن القوة والضعف فيها وصعوبة الحصول على قطع غيارها. ذكر ديفيد هذه الأشياء، وبدا حموه راضيًا عن ذلك.

«جراي. دورت، جراي-دورت. من أولى السيارات التي ظهرت. في شارع يونج. ستون ميلًا. ستون ميلًا. في الساعة.»

قالت ستيلا بعدما أدخلا أباها والزجاجة إلى غرفته، وودعاه، وكانا يتحدثان وهما يسيران عبر الممرات الخضراء: «قطعًا لم يقد سيارة جراي-دورت قط في شارع يونج بسرعة ستين ميلًا في الساعة … قط. سيارة جراي-دورت؟ كانوا قد توقفوا عن إنتاجها قبل وقت طويل من امتلاكه المال الكافي لشراء سيارة. ولم يخاطر قط بقيادة سيارة شخص آخر. ليس هذا إلا محض خياله هو. لقد بلغ مرحلة يعيد فيها خلق الوقائع؛ إصلاح الماضي بما يجعل أي شيء كان يرغب في حدوثه واقعًا. أتساءل عما إذا كنا سنبلغ هذه المرحلة؟ عم سيدور خيالك يا ديفيد؟ لا، لا تخبرني!»

قال ديفيد: «ما تصوراتك أنت؟»

«أنك لم ترحل؟ أنك لم ترد أن ترحل؟ أراهن أن ذلك هو ما تظن أنها تصوراتي، لكنني لستُ متأكدة تمامًا أن هذا صحيح! كان أبي سعيدًا جدًّا لرؤيتك يا ديفيد. يعني الرجل أكثر بالنسبة لأبي. أعتقد أنه إذا كان قد حدَّث نفسه بشأنك وشأني، فسيختار أن يأخذ جانبي، لكن أفضل شيء أنه لم يفكر في الأمر.»

بدت ستيلا، في نُزل المسنين، كأنها استعادت بعض رقتها ورشاقتها التي كانت تتمتع بها في الماضي. أعادت لَفَتَات الاهتمام بأبيها، بل حتى بهؤلاء المقعدين على كراسي متحركة، أثرًا من البهاء المهيب إلى حركاتها، الأسى إلى صوتها. كان ديفيد يمتلك صورة لها عمرها اثنا عشر أو خمسة عشر عامًا. كانت قادمة عبر حديقة في حفل بإحدى ضواحي البلدة، وهي تحمل طاجن طعام. كانت ترتدي فستانًا صيفيًّا مكشوفًا. كانت تزعم دومًا في تلك الأيام أنها كانت بدينة جدًّا لدرجة أنها لا تستطيع أن ترتدي بنطالًا، على الرغم من أنها لم تكن في نصف بدانتها الآن. لماذا كانت هذه الصورة تسرُّه كثيرًا؟ ستيلا آتية عبر الحديقة، بشعرها الذي يتخلله ضوء الشمس — جعلته خصلاته الرمادية يبدو أشقر بصبغة رمادية — وكتفيها العاريتين المائلتين للسمرة، ملقيةً التحيات على من يجاورها، ضاحكةً، مشيرةً إلى بعض الأخطاء الطفيفة في طهي الأطعمة. بالطبع كان الطعام الذي جاءت به إلى الحفل رائعًا، ولم تجلب الطعام فقط بل جلبت معها الروح المنشودة في الحفل. فمن خلال طبيعتها الاجتماعية، جمعت الحاضرين. ولم يكن ديفيد يشعر بأي حنق، على الرغم من أنه في بعض الأوقات، بالتأكيد، كانت هدايا ستيلا هذه تسبب له الحنق. كان حنقها الحماسي، ومبالغتها، ومناشداتها المازحة البريئة من أجل التعاطف يثير حنقه. وحتى تسلي الآخرين، كان قد سمعها تختلق قصصًا من حياتهما؛ سوء تصرفات واستفزازات الأطفال اليومية، زيارة الطبيب البيطري من أجل علاج القط، المتاعب التي صادفها ابنها في أول مرة يشرب فيها الخمر، تعطل آلة جز الحشائش المدارة بمحرك، لصق ورق الحائط في القاعة العلوية. زوجة ساحرة، شخص رائع في حفل، تمتلك طريقة مسلية للنظر إلى الأشياء. في بعض الأحيان تثير الشغب. «زوجتك تثير الشغب.»

حسنًا، سامحها على ذلك — فقد كان يحبها — بينما كانت تسير عبر الحشائش. في تلك اللحظة، كان يلمس بقدمه العارية على السمانة الباردة البنية الحليقة والحساسة، لزَوجة جار آخر، التي كانت قد خرجت لتوها من المسبح ولبست رداءً طويلًا قرمزيًّا مغطيًا لجسمها. امرأة ذات شعر أسود، بلا أطفال، مدخنة شرهة، تميل — على الأقل في تلك المرحلة من علاقتهما — إلى لحظات صمت محيرة. (كانت هذه هي المرأة الأولى التي يقيم علاقة معها أثناء زواجه بستيلا. روزماري، اسم غامض عذب، على الرغم من أنها امرأة شديدة الابتذال.)

لم يكن الأمر هكذا فقط. الإعجاب غير المتوقع بستيلا على طبيعتها، الشعور غير المعتاد بالسلام معها، لم يتأتَ من خلال ذلك فقط؛ الحركة المحرمة لإصبع قدمه الكبير. بدا الأمر عميقًا، هذا الكشف عن علاقته هو وهي، كيف كانا مرتبطين معًا على الرغم من كل شيء، وكيف ملأته دومًا المشاعر الخيِّرة تجاهها، كان ما يفعله سرًّا من جانبه يجري بمباركتها بشكل أو بآخر.

لم يبدُ أن هذه فكرة كانت ستيلا تشاركه فيها على الإطلاق. ولم يكونا مترابطين هكذا، أو إذا كانا كذلك، فكانت رابطة أراد أن يتخلص منها. قالت له ستيلا ذات مرة: قضينا وقتًا طويلًا معًا، ألا نستطيع فقط أن نستمر في ذلك؟ محاولةً أن تجعل من الأمر مزحة. لم تفهم، ربما لم تفهم بعد، كيف كان ذلك من الأشياء التي جعلت الأمر مستحيلًا. كانت المرأة ذات الشعر الأبيض السائرة إلى جواره في نُزل المسنين تجرجر حملًا ثقيلًا معها، حملًا لا يقتصر على أسراره الجنسية بل يشمل تأملاته في منتصف الليل حول الرب، آلام صدره التي تعود إلى أسباب نفسية، حساسية الهضم لديه، خطط هروبه، التي شملتها ذات مرة وكانت تتضمن الهروب إلى أفريقيا أو إندونيسيا. بدت حياته العادية والاستثنائية — حتى بعض الأشياء التي كان من غير المحتمل أن تعرفها — مخزنة داخلها. لم يكن يستطيع الشعور بأي نوع من الخفة، بأي نوع من التحرر السري والمنتصر، مع امرأة تعرف عنه الكثير. كانت تعرف عنه أكثر مما ينبغي. على الرغم من ذلك، وضع ذراعيه حول ستيلا. تحاضنا، بإرادة الجانبين.

كانت شابة صغيرة، صينية أو فيتنامية، ضئيلة الحجم كطفلة في زيها ذي اللون الأخضر الفاتح، واضعةً أحمر شفاه ومساحيق على خديها، آتية عبر الممر، تدفع عربة. كان على العربة أكواب ورقية وحاويات بلاستيكية من عصير البرتقال والكرم.

كانت الفتاة تنادي، بصوتها الرخيم الصافي العفوي قائلةً: «وقت تناول العصير … وقت تناول العصير. برتقال. كرم. العصير.» لم ترَ ديفيد وستيلا، لكن ابتعد كلٌّ منهما عن الآخر، وواصلت هي السير. شعر ديفيد بعدم راحة طفيفة، طفيفة جدًّا، لرؤيته من جانب شابة صغيرة وجميلة كهذه في أحضان ستيلا. لم يكن ذلك شعورًا مهمًّا — فقط مر به وانقضى — لكن ستيلا، بينما كان لا يزال يمسك بالباب مفتوحًا لها، قالت: «لا عليك يا ديفيد. يمكن أن أكون أختك. ربما تهدئ من روع أختك. أختك «الكبيرة».»

«السيدة ستيلا، قارئة العقول المعروفة.»

كان الطريقة التي يقولان بها هذه الأشياء غريبة. كانا معتادَين على قول أشياء مريرة وجارحة، ويتظاهران، عندما كانا يقولانها، بأنهما يشعران بالمتعة قليلًا، بالهدوء، بل حتى بالحنو. أما الآن فتعمقت هذه النبرة التي كانت قبل ذلك نبرة متصنعة أكثر، وأكثر، عبر جميع مشاعرهما الفظة، وماتت المرارة، على الرغم من عدم اختفائها، وأصبحت بلا فائدة، ورسمية.

•••

بعدها بأسبوع أو ما يقرب من ذلك، بينما ترتِّب غرفة المعيشة، حتى تستعد لاجتماع للجمعية التاريخية سيقام في بيتها، تجد ستيلا الصورة، صورة فورية. كان ديفيد قد تركها معها بالرغم من اعتراضها، مخفيًا إياها، ولكنه لم يخفِها جيدًا، خلف الستائر في أحد أركان نافذة غرفة المعيشة الطويلة، عند الموضع الذي يقف المرء فيه ليرى المنارة.

وجودها في الشمس أدى إلى بهت ألوانها، بالطبع. تقف ستيلا ناظرةً إليها، ممسكة فوطة تنظيف في يدها. اليوم رائع. النوافذ مفتوحة، منزلها مرتب ترتيبًا رائعًا، وعلى الموقد يوجد حساء سمك طيب يسوى ببطء. ترى أن البقعة الداكنة في الصورة حال لونها إلى اللون الرمادي. يبدو لونها الآن رماديًّا مائلًا إلى الزرقة أو الخضرة. تتذكر ما قالته عندما رأتها للمرة الأولى. قالت إن البقعة حَزاز، لا، قالت إن البقعة تبدو مثل الحزاز. لكنها عرفت في الحال ماذا كان حقيقةً. يبدو لها الآن أنها عرفت ماذا كان تحديدًا حتى بينما كان ديفيد لا يزال يضع يده في جيبه. شعرت بالشق القديم ينفتح الآن بداخلها. لكنها تماسكت. قالت: «حَزاز.» وها هو الآن، انظر، تحقق ظنها. اختفى الخط المحدد لشكل الصدر. لم يكن المرء ليعرف قط أن الساقين كانتا ساقين. تحوَّل اللون الأسود إلى الرمادي، إلى اللون الخفيف، الجاف لنبات يتغذى بطريقة غامضة على الصخور.

هذا من فعل ديفيد. تركها هناك، في الشمس.

تحققت كلمات ستيلا. سيظل هذا الخاطر يعاودها: وقفة، دقة قلب ضائعة، انكسار قصير قوي في خضم تدفق الأيام والليالي التي تمر بها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤