الفصل الأول

الأعداد منسوجة في حاضِرنا

كم عمرك؟ منذ سنٍّ مبكِّرة، وإجابةُ هذا السؤال طَوْع بَنانك بالمعنى الحرفي، والأرجح أنه لم يَستغرق من تفكيرك سوى قدرٍ ضئيل من الثانية لكي تتوصَّل إلى الإجابة. أيُمكن فعلًا أن يوجَد سؤال أسهل من هذا؟ إنَّ العديد من أوجُه حياتك يتحدَّد بناءً على عدد سنواتك؛ أيمكن لك قيادة سيارة بنفسك؟ حسنًا، يتوقَّف ذلك على عدد السنوات التي عِشتها. هل أنت راضٍ عمَّا تراه في المرآة؟ إنَّ ذلك يتأثَّر على الأرجح بعمرك، بدرجةٍ ما على الأقل، وبما تتوقَّع أن تراه في المرآة. أيجِب عليك أن تعمل في وظيفةٍ أكثر إشباعًا لذاتك؟ من الصَّعب الإجابةُ عن هذا السؤال دون معرفة عمرك. إنَّ الإجابة عن هذه الأسئلة والعديد غيرها، والتي تمَسُّ صميم هُويتك وخبراتك اليومية، لا يمكن معرفتها إلا بعد معرفة إجابة ذلك السؤال الأول البسيط. وهو سؤال عظيم الأهمية، ولا شك، بالنسبة إلى الأفراد الذين ينتمون إلى مصفوفتنا الثقافية.

بالرغم من ذلك، فنحن الذين نعزو أهميةً كبيرة إلى أعمارنا، نجد أنه من الغريب أن يكون ذلك السؤال نفسُه لا يعني أيَّ شيءٍ لأفراد بعض الثقافات الأخرى. وليس ذلك لأنَّ أفراد هذه الثقافات يعجزون عن متابعة دوَران الأرض حول الشمس، بل لأنهم لا يملكون الأدوات التي تُمكِّنهم من تحديد كميَّات هذه الدورات بدقَّة. على سبيل المثال، لا تمتلك قبيلة موندوروكو من سكان الأمازون الأصليين أيَّ كلماتٍ محدَّدة للأعداد فيما بعد العدد «اثنين». وفي حالة نظرائهم من قبيلة بِيراها الأمازونية، فليس لدَيهم أي كلماتٍ على الإطلاق للتعبير عن الأعداد، ولا حتى عن العدد «واحد»، فكيف يمكن إذن لمُتحدِّثي هذه اللغات الإجابةُ عن سؤال «كم عمرك؟» وماذا أيضًا عن غيره من الأسئلة القائمة على الأعداد، والتي تتناول جوانبَ أساسية للحياة بالنسبة إلى معظم سكان العالم؟ فلنتأمَّل بعض الأمثلة الأخرى: ما راتبُك؟ وكم طولك؟ وكم وزنك؟ في عالم بلا أعداد، تُصبح هذه الأسئلة عديمةَ الجدوى؛ إذ لا يمكن سؤالها ولا الإجابة عنها. لا يمكن صياغةُ هذه الأسئلة ولا إجاباتِها المُحتملة في الثقافات اللاعددية، ليس بالدرجة الأدنى من الدقة على الأقل. وعلى مدار الجزء الأكبر من تاريخ نوعنا البشري، كانت جميع الثقافات البشرية ثقافاتٍ لا عددية. إنَّ الأعداد: التمثيل اللفظي والرمزي للكميَّات، قد غيَّرَت أحوال البشر تغييرًا جذريًّا. وفي هذا الكتاب، سوف أستكشف مدى هذا التحوُّل، والذي لم يحدُث إلا مؤخرًا، وهو أمر لافتٌ للنظر. سوف أركز كذلك على قدرة الأعداد المنطوقة على إحداث التغيير، لكنَّني سأتناول أيضًا دور الأعداد المكتوبة. ومن أجل وضوح المصطلحات، فإنني أشير إلى الأعداد المنطوقة باسم «الأعداد،» وأشير إلى الأعداد المكتوبة باسم «الأرقام». وعند الإشارة إلى الكميات المجردة التي تصِفها الأعداد، فإنني أستخدم الرموز مثل ١ و٢ و٣ و٤ وما إلى ذلك.

خلال العقد الأخير، أجرى علماء الآثار وعلماء اللغة وعلماء النفس وغيرُهم من العلماء، قدرًا هائلًا من الأبحاث عن الأعداد والأرقام، ومن تلك الأبحاث تبدأ كتابة قصة جديدة للأعداد، وهي القصة التي نرويها في هذا الكتاب. وباختصار، تسير القصة على هذا النحو: بالرغم ممَّا كنا نعتقد من قبل، فإنَّ الأعداد ليست مجرَّدَ مفاهيم تتولَّد لدى الأفراد بصورةٍ تلقائية وفطرية. وبالرغم من أنَّ الكميات ومجموعات العناصر يمكن أن توجَد مُستقلةً، بعيدًا عن خبرتنا العقلية، فالأعداد ابتكارٌ من العقل البشري، واختراعٌ معرفي قد غيَّر كيفية إدراكنا للكميَّات وتمييزها إلى الأبد. وربما يكون هذا المفهوم مُناقضًا للبديهة بالنسبة إلى العديد منَّا، نحن الذين قد عِشنا حيواتِنا بأكملها في وجود الأعداد، وقد اقتنعَت بها خبرتُنا العقلية منذ الطفولة. بالرغم من ذلك، فالأعداد تُشبِه اختراعًا رمزيًّا آخر مهمًّا لنوعنا البشري ومُرتبطًا به، وهو اللغة، في أنها ابتكار يختلف باختلاف الثقافة. غير أنَّ الأعداد تختلف عن اللغة في أنها لا توجَد لدى بعض الجماعات السكانية في العالم؛ إنها ابتكار يترك أثرًا لا يُمحى بشأن الطريقة التي يُفسِّر بها معظمُ الأفراد، وليس جميعهم، خبراتِهم اليومية. وهذا التأثير الذي لا يُمحى، يَكمُن في صميم القصة التي يَرويها هذا الكتاب؛ فسوف نستكشف فيه كيف كانت الأعداد، وهي أحد الابتكارات الأساسية على مدار تاريخ نوعنا البشري، بمثابة حجرٍ صوَّان قد أضاء التاريخ البشري.

تتضمَّن القصة العديدَ من الأجزاء، وفي جزءٍ لاحِق من هذا الفصل، سأوضح الطريقة التي يحاول بها الكتابُ أن يخطوَ من جزء إلى آخر، على طريقٍ متماسك يؤدي إلى استنتاجٍ لم يتشكل إلا حديثًا. وقبل أن نتحدَّث عن تلك الأجزاء، يجب أن أوضِّح ما أَعنيه حين أقول إنَّ الأعداد قد غيَّرَت الخبرة البشرية. ربما تكون الطريقة الأفضل لفعل ذلك هي التعمُّق في دراسة كيفية إدراكنا لمرور الوقت. لقد أشرتُ إلى أنك لا تستطيع بالطبع، بدون الأعداد، أن تُسمِّيَ عدد رحلات الأرض حول الشمس منذ مولدك، لكنك قد تُعارِض قائلًا: إنه ربما لا يزال بإمكانك أن تُكوِّن فكرةً عن عدد سنوات عمرك؛ فيمكن أن تعرف مثلًا أنك قد وُلِدتَ قبل أختك وبعد أخيك؛ ومِن ثَمَّ تستطيع أن تعرف أنك أكبر من الأُولى وأصغر من الأخير، ويمكن أن تُدرك تغيُّر الفصول، وتُدرك أنك قد عِشتَ في دورات فصول سابقة؛ ومِن ثمَّ يمكنك أن تعرف على الأقل أنك تبلغ من العمر العديدَ من السنوات، وربما تعرف أنك قد عشت عددًا أكبر من السنوات أو أصغر، مقارنةً بمُعاصِريك. بالرغم من ذلك، فسوف نرى في تناولنا للشعوب اللاعددية في الفصل الخامس، أنَّ الوعي بالعمر بهذه الطريقة يكون مبهَمًا إذا لم يَستعِن المرء بالأعداد. ويتَّضح دور الأعداد بصورةٍ أكبر في إدراكنا للزمن، لكنَّ ذلك يتَّضح بصورةٍ أكبر حين نفكر في مرور الوقت عند أكثر مستوًى أساسي له، بخلاف طريقتنا في عدِّ السنوات.

يتطلَّب هذا التفكير استطرادًا مُوجزًا عن كيفية فَهْمنا العامِّ للوقت. ومفهوم الوقت من المفاهيم التي يصعُب فَهمُها إلى حدٍّ ما؛ إذ إنه مفهوم مجرد تمامًا. ما معنى إدراك الوقت أو الشعور به؟ حسنًا، يتبيَّن أنَّ ذلك يتوقَّف على الأشخاص الذين تسألهم والثقافة التي ينتمون إليها، أو اللغة التي يتحدَّثون بها. لقد أظهرَتِ الأبحاث الحديثة أنَّ إدراك الوقت يتبايَن بطرُقٍ عدَّة لدى بعض الشعوب. وفيما يلي، سأتناول قدرًا من هذا التباين الثقافي، وسأقترح بعدها أنَّ الأعداد قد أدَّت دورًا عظيمًا للغاية في تشكيل خِبرتنا عن الوقت، التي تختلف باختلاف الثقافة.

نتحدَّث كثيرًا عن «مرور الوقت» أو «المرور بالوقت»، لقد تحدَّثتُ عن ذلك بالفعل في الفقرات السابقة، وأشكُّ في أنك قد وجدتَ أنَّ مثل هذه الصياغة غريبة. ونحن نتحدَّث أيضًا عن مرور الوقت «ببطء» أو «بسرعة»، غير أنَّ كل هذه التعبيرات مَجازية بالطبع؛ فالوقتُ لا يتحرَّك فعلًا، ولا نحن نمرُّ به. لقد أثبتَ علماء الإدراك منذ فترةٍ طويلة، أنَّ البشر يتَّسِمون بنزعتهم الطاغية لاستخدام الأشياء المادية، كالأغراض التي تتحرَّك في المكان لوصف الجوانب المجرَّدة من حياتنا، مثل الوقت، وصفًا مجازيًّا. ومن ثَمَّ يُمكننا أن نتحدَّث عن «حركة» الوقت، أو نتحدَّث على العكس من ذلك، عن «المرور» بوقتٍ صعب أو «رؤية» وقتٍ صعب «أمامنا» أو عن عدَم قدرتنا على الرجوع إلى «الوراء» للماضي، أو عن اختيار «المسار» المِهني المناسب، أو عن مواجهة خيار صعب في «طريق» حياتنا وما إلى ذلك. إنَّ مُتحدِّثي اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات، يَستخدمون عددًا هائلًا من التعبيرات التي تدلُّ على التأويلات المكانية للزمان، وتُجسِّدها. وأبرز هذه التعبيرات التوجيهية المجازية، هو ذلك الذي يَسُود الأمثلةَ التي ذكرناها للتو، والذي يتمثَّل فيه المستقبل أمامنا، بينما يمرُّ بنا الوقت. بالرغم من ذلك، يتَّضِح لنا أنَّ بعضًا من مُتحدِّثي اللغات الأخرى لا يرَون الوقت بهذه الطريقة؛ فبالنسبة إلى مُتحدِّثي اللغة الأيمرية والعديد غيرها من اللغات الأخرى، لا يَكمُن المستقبل أمام المتحدِّث، بل خلفه، أما الماضي فهو يقَعُ مَجازيًّا أمام المُتحدِّث. ويتجلَّى هذا الاتجاه في العديد من التعبيرات المختلفة عن الوقت، وكذلك في إشارات اليد التي يستخدمها الفُصحاء في اللغة الأيمرية، حين يتحدَّثون عن أحداث الماضي والمُستقبل. (ويمكننا القول بأنَّ مثل هذه الاستعارة الاتجاهية، ترتبط بالخبرة البشرية بصورةٍ أكثر مباشرةً؛ إذ إنَّنا نستطيع بالفعل أن «نرى» ما حدث في ماضينا.) ولهذا، فإنَّ بعض البشر يرَون «حركة» الوقت بطريقةٍ تبدو مُتناقضة تمامًا مع الطريقة التي نصِفه بها ونراه.1
يتَّضِح هذا الأساس المكاني المرِن للأفكار المُتعلقة بالوقت بصورةٍ أكبر حين نفكر في طريقةٍ أخرى يمكننا تصوير الوقت مجازيًّا من خلالها، وهي تصويره مُتحرِّكًا من اليسار إلى اليمين على خطٍّ يمكن قياسه. في ثقافتنا وغيرها من الثقافات، يوجَد عدد هائل من الطرُق التي يُصوَّر بها الوقت على مِثل هذا النحو، ومنها التقويمات وشريط التقدُّم على «نِتفليكس» و«يوتيوب»، والخطوط الزمنية في كتُب التاريخ، وما إلى ذلك. وتقترح بعض الأدلة التجريبية القوية، أنَّ مثل هذه الممارسات الرمزية الافتراضية، تؤثر على كيفية إدراكنا للوقت؛ فعلى سبيل المثال، حين تُقدَّم إلى بعض الأمريكيين، مجموعةً من الصور تُصوِّر أحداثًا في مراحلَ مُختلفة (صور لثمرة موز تُقشَّر وتُؤكَل مثلًا)، ثم يُطلَب منهم أن يقوموا بترتيب الصُّوَر في الاتجاه المناسب من البداية إلى النهاية، فإنهم يُرتِّبونها عادةً من اليسار إلى اليمين، حيث تكون الصُّوَر التي تُمثل المراحل المُبكرة أقربَ إلى الجانب الأيسر من أجسادهم. أما حين يُطلَب من أفراد ينتمون إلى ثقافات أخرى أداءُ المهمة نفسِها، يتغيَّر الترتيب. في وقتٍ قريب، اكتشفَت عالِمة اللغويات أليس جابي وعالمةُ النفس ليرا بوروديتسكي في ثقافة الثايور، التي تقع في شِبه جزيرة كيب يورك، أنَّ الأفراد لا يُرتِّبون الصور من اليسار إلى اليمين، ولا من اليمين إلى اليسار (وهو نمَط يظهر في بعض الثقافات). بدلًا من ذلك، يُرتِّبونها وفقًا لمسار الشمس، حيث تُوضَع الصور التي تدلُّ على المراحل المبكرة باتجاه الشرق، والمُتأخِّرة باتجاه الغرب، بصرْفِ النظر عن الاتجاه الذي يُقابله الشخص الذي يُرتِّب الصور.2

إنَّ مثل هذه الاكتشافات تعكس أمرًا مهمًّا؛ وهو أنَّ كيفية تفكيرنا في الوقت تعود بصورةٍ كبيرة إلى الممارسة اللغوية والثقافية. وهنا تظهر الأعداد في القصة التي تَروي الطريقة التي نفهَم بها مثلَ هذا الجانب الأساسي من حياتنا؛ فمن الواضح أنَّ الأعداد تمَسُّ طريقة تفكيرنا بشأن حركة «الوقت»، وسواءٌ أكنَّا نرى أنَّ الوقت يمرُّ بنا، أم كنا نرى أنه يتحرَّك على خطٍّ زمني أمامنا، فإنَّ هذه «الحركة» يمكن تقسيمُها وعدُّها. فلتفكِّر مرةً أخرى في أشرطة التقدُّم التي نراها في مقاطع الفيديو المُتوفِّرة على الإنترنت، وكيف أنَّ الأعداد (التي تدلُّ على الدقائق والثواني) تتتبَّع الأيقونة التي تُمثِّل اللحظة التي تُعرَض في مقطع الفيديو. والواقع أنَّ الأعداد مُتغلغِلة في التمثيلات المكانية الرمزية للوقت، مثل التقويمات التي تسير من اليسار إلى اليمين والخطوط الزمنية. ويُمكننا القول بأنَّ هذا التصوُّر العقلي للوقت، بهذه الطريقة المُرتكِزة على الأعداد، يَحكُم حياتنا.

ما الوقت الآن؟ بالنسبة إليَّ فالوقتُ الآن، بينما أكتُب هذه الكلمات على الساحل الشرقي للولايات المتحدة، هو ١٠:٤٦ صباحًا. ولأننا في ذلك الوقت من اليوم، فأنا في غرفة مكتبي أجلس عليه، ولستُ في المنزل أو أيِّ مكانٍ آخر. لكن ما الذي يَعنيه ذلك الوقت فعلًا؟ حسنًا، إنه يعني أنه قد مرَّت عشر ساعات وستٌّ وأربعون دقيقة منذ منتصف الليل، لكنَّ ذلك مجرد إعادة صياغة مُطنَبة لا حاجة لها؛ ما الساعات؟ وما الدقائق؟ الواقع أنها لا تُوجَد بمعزِلٍ عن خبرتنا العقلية والعددية؛ إنها ببساطة وسيلةٌ عشوائية لوصْف وجودنا بصورةٍ كَمِّية، ووسيلة لتقسيم هذ المرور المجازي للوقت إلى وحداتٍ منفصلة. إنها تدلُّ على أنَّ البشر قد اختاروا في مرحلةٍ ما أن يُحدِّدوا كَمِّيات الوقت، وأن يَعُدُّوا لحظاتِ التجرِبة. ربما يكون الوقت واقعًا يُوجَد بمعزلٍ عن خبرتنا، لكنَّ الساعاتِ والدقائقَ والثوانيَ لا توجَد إلا في عقولنا، بصفتها وسيلةً للانخراط في العالم. ووسيلةُ الانخراط هذه قد تولَّدَت هي نفسُها عن تقاليدَ ثقافية ولغوية محدَّدة؛ إنَّ وحدات الوقت من الساعات والدقائق والثواني هي نفسُها بقايا نظامٍ عدَديٍّ قديم، وما هذه الوحدات حقًّا إلا آثار لغوية من حضارات مُنقرِضة.

فلنتأمَّل في تقسيم كلِّ دورة من دورات الأرض كلَّ يومٍ إلى ٢٤ ساعة. لِمَ يُقسَّم كلُّ يومٍ بهذه الطريقة؟ ما من سببٍ فلَكي لهذا التقسيم، فعلى أي حال، يُمكننا نظريًّا أن نُقسِّم اليوم إلى أي عددٍ نشاء من الساعات. غير أنَّ النظام الذي نستخدِمه لِضبط الوقت، يَدين بوجوده بصورةٍ كبيرة إلى تقليدٍ قد بدأه قُدماءُ المصريين، الذين اخترعوا الساعات الشمسية قبل أكثرَ من ٣٠٠٠ عام. لقد صُمِّمت هذه الساعات الشمسية لتقسيم ضوء النهار إلى اثنَي عشَرَ جزءًا مُتساويًا. وقد جاء نظام التقسيم إلى اثنَي عشر جزءًا نتيجةً لاختيارٍ اتَّخذه المصريون بتقسيم ضوء النهار وَفْقًا لطريقةٍ تلائم ثقافتهم، وذلك من خلال قياس الظلِّ على الساعات الشمسية. أتاح هذا الاختيارُ وجود عشر وحداتٍ يمكن تقسيمُها بدءًا من شروق الشمس حتى غروبها، وهو اختيارٌ طبيعي إذ كان قُدماء المصريين يستخدمون نظامًا عَشريًّا للأعداد كالذي نستخدِمه الآن. غير أنَّ مُبتكِري الساعات الشمسية قد أضافوا وحدتَين: إحداهما للفجر والأخرى للغسَق، وهما الفترتان اللَّتان لا تَكونان مُظلِمتَين، لكنَّ الشمس لا تَظهر فيهما في الأفق. وذلك القرار البسيط الذي اتَّخذه المصريون بتقسيم ضوء النهار بهذه الطريقة، قد أنتج وحداتِ الوقت التي تستند إلى العدد ١٢، فأصبح للأيام طابَعٌ اثنا عشري. وكما سنرى في الفصل الثالث، تُوجَد العديد من الأساسات المختلفة في الأنظمة العددية المنطوقة في العالم، لكنَّ النظام الاثنَي عَشْري غيرُ مُنتشِر على الإطلاق (وهو مُربك بعضَ الشيء للعديد من الأفراد الذين يستخدمون الأنظمة العشرية على سبيل المثال). بالرغم من ذلك، فبسبب الاختيار الذي اتَّخذَه القائمون على ضبط الوقت من قُدماء المصريين، فإنَّ لُغتَنا وتفكيرنا عن الوقت، يَستندان بدرجةٍ كبيرة إلى نظامٍ هو أشبَهُ ما يكون بالنظام الاثنَي عشري. وقد أصبح هذا النظامُ مُترسِّخًا في حياتنا بشدَّة في الوقت الحاليِّ، وهو يَفرض منظورًا مُحددًا على أيامنا. ويعود السبب في تقسيم الليلة إلى اثنتَي عشْرةَ ساعة إلى قدماء المصريين أيضًا، وكذلك يعود إليهم السببُ في تقسيم دورة الليل والنهار التي تتكوَّن من ٢٤ ساعة، والتي نعرفها جميعًا الآن، وإن كان ذلك بصورةٍ أقلَّ مُباشَرَةً. كان علماء الفلك من الإغريق في العصر الهلنستي، هم الذين قنَّنوا النظام الأخير بصورةٍ أكثرَ نظامية، بالرغم من ذلك، لم يَحظَ تقسيمُ الساعات بدقة إلى وحداتٍ متساويةِ المدة بالتقدير والاستحسان، إلى أن تمَّ اختراعُ آلاتٍ دقيقة لضبط الوقت. (لم تُختَرع ساعة البندول، وهي اختراع أساسي لضبط الوقت، حتى منتصف القرن السابع عشر.) ومن ثمَّ، فإنَّ وجود الساعات هو حادثة تاريخية في نهاية المطاف؛ فلو كانت الساعات الشمسية التي ابتكرَها قُدَماء المصريين قد قسَّمت ضوء النهار إلى عشر وحداتٍ بدلًا من اثنتَي عشرة وحدة، لأصبح لدَينا الآن عشر وحدات في اليوم والليلة على التوالي، بدلًا من اثنتَي عشرة وحدة، ولأصبحت دورة الأرض مُقسَّمة إلى عشرين «ساعة».3 وفي حقيقة الأمر، استُخدم نظام ضبط الوقت العشري في فرنسا بعد الثورة مباشرة، غير أنه لم يصمد بسبب الترسُّخ الثقافي للساعات والدقائق. يبدو أنَّ الإطاحة بالملَكية وضرب عُنق عددٍ كبير من المواطنين، أسهلُ على شعْبٍ من إعادة توجيه تفكيره وَفقًا لوحداتٍ جديدة للوقت.

الدقائق والثواني هي أيضًا نتيجة قرارات ثقافية ولغوية عارضة، قد اتُّخِذت قبل وقتٍ طويل. ويُعْزى وجود هذه الوحدات إلى النظام الستِّيني (على أساس العدد ٦٠) الذي استخدمه البابليون والسومريُّون من قبلهم. ويبدو أنَّ هاتَين الثقافتَين هما أول مَن استخدم هذا الأساس للحسابات الفلَكية؛ وذلك لأسبابٍ لا تزال غامضة. حيث يعتقد البعض أنَّ النظامَ الستِّينيَّ قد اكتسب شُهرة في بلاد الرافِدَين؛ لأنه يَقبل القسمة على الأعداد من ١ إلى ٦، وكذلك على ١٠ و١٢ و١٥ و٢٠ و٣٠. ويعتقد آخرون أنَّ مثل ذلك النظام الستِّيني قد ظهر على الأرجح لأنَّ البشَر لديهم خمس أصابع في اليد، ويمكنهم استخدامها في عدِّ المفاصل الاثنَي عشر الموجودة في أصابع اليد الأخرى، فيما دون الإبهام (و٥ × ١٢ = ٦٠). وبصرف النظر عن هذا، فإنَّ الأنظمة الستِّينية ليست مُنتشِرة بالقدْر الكبير؛ فهي لم تتطوَّر سوى مرَّات قليلة على مدار تاريخ اللُّغات في العالم، لكنَّ الطبيعة الستِّينية لنظام العدِّ البابلي هي السبَب في أنَّ الدقائق والثوانيَ تستغرِق المدة التي تستغرقها؛ لأنَّ تلك هي وحدات الوقت التي تتوصَّل إليها حين تُقسِّم الساعات والدقائق من بعدِها بهذا الترتيب على ستِّين. ويمكن للبشر الآن أن يَعتمِدوا على قياسات مُستقلة لتعريف الثواني، مثل المدة التي يستغرقها عددٌ مُحدد سلفًا من تردُّدات الطاقة في ذرة سيزيوم، وهذا التعريف هو المقياس في الساعة الذرية. غير أنَّ الاختيار لم يقع على مثل هذا المقياس إلَّا لأنَّ قيمته تساوي قيمة الثانية التقليدية تقريبًا، وهي ليست سوى مُنتِجٍ لنظامٍ عددي قديم، قد جاء بطريقةٍ فعَّالة للدلالة على الوقت، لكنها قد تكون غير عمَلية.

خلاصة القول، أنَّ فَهْمنا للوقت يتأثَّر بالربط المَجازي بين الوقت والمكان. لكنَّ الأهمَّ أنَّ منظور الوقت المستنِد إلى المكان، يُقاس بطرقٍ تعتمد كليًّا على وجود الأعداد. وعلى وجهٍ أكثر تحديدًا يعتمِد هذا القياس الكَمِّي على خصائص أنظمةٍ عددية كانت تُستخدَم قبل ذلك في أماكن مثل بابل القديمة. إنَّ طريقة تفكيرنا في الوقت: على هيئة وحداتٍ منفصلة يمكن قياسها من الساعات والدقائق والثواني، تعُود إلى سِماتٍ من اللغات والثقافات المُندثِرة، وهي سماتٌ لا تزال آثارها حاضرةً في حياتنا المُعاصرة. وهذه الآثار تُوجِّهنا باستمرارٍ بشأن كيفية تنظيم خِبرتنا اليومية؛ ومن ثَمَّ فإنَّ الأرقام القديمة ذات الخصائص الغريبة لا تزال تُشكِّل الطريقة التي نختبر بها الوقت، ذلك الجانب المجرَّد والأساسي من الحياة. إنَّ حياتنا، رغم كلِّ شيء، تحكمها الساعاتُ والدقائق والثواني، غير أنَّ الوقت لا يَحدُث فعلًا في هذه الوحدات المُنفصلة، أو غيرِها؛ فتجزئة الوقت إلى وحداتٍ يمكن قياسها ما هي، في حقيقة الأمر، سوى اختراعٍ من العقل البشري.4

إنَّ مناقشة الدور الذي تُؤدِّيه الأعداد في تشكيل إدراكنا للوقت، تُوضِّح لنا ما للأعداد والاختلافات بين الأنظمة العددية من تأثيرٍ فعَّال في الجانب الإدراكي والسلوكي في حَيواتنا. بالرغم من ذلك، فسوف نرى على مدار هذا الكتاب أنَّ اختراع الأعداد قد أثَّر في حياتنا، وفي قصة البشرية بصِفةٍ عامة، بالعديد من الطرق الأخرى التي لا تقلُّ عن ذلك عُمقًا وأهمية. وقبل أن نتحدَّث عن هذه الطرُق، يجدُر بنا أن نعرِض خلفيةً عن نوعنا البشري، وهي أساسية في قصة الأعداد التي يَرويها هذا الكتاب، ووثيقةُ الصِّلة بها.

الإنسان العاقل: ذلك النوع الحديث

تُفيدنا قدرتنا على قياس الوقت عند مناقشة الأصول الحديثة لنوع «الإنسان العاقل». فالأعداد تُساعدنا في تصوير مدى حداثة نوعنا؛ فعُمر الكون ١٣٫٧ مليارًا من الأعوام، وعمر الأرض ٤٫٥ مليارات عام، وعمر حقيقيَّات النوى ٣ مليارات عام تقريبًا. أما ظهور الرئيسات فقد حدَث قبل ٦٥ مليون عام تقريبًا. ويُشير سِجلُّ الحفريات إلى أنَّ أشباه البشَر، ومنهم أسلاف البشَر، لم يَعيشوا إلا لقُرابة عُشر ذلك الوقت. ويدور قدرٌ كبير من الجدَل بشأن تاريخ ظهورنا نحن — البشر المُعاصِرين — لكنَّنا قد ظهرْنا منذ ١٠٠٠٠٠ عام على الأقل. وإذا قَبِلنا بهذا الرقم الأخير فهذا يعني أننا لم نُوجَد إلا لعامٍ واحد مُقابل كل ١٣٠٠٠٠ عام من عمر الكون. وتلك من السمات التي غالبًا ما نغفل عنها بشأن البشر، وهي أنَّنا صِغار للغاية. وبالرغم من ذلك فعلى حداثتنا في السن، قد شكَّلنا بطرُقٍ عدة هذا الكوكبَ الذي لم نَعِش عليه إلَّا لفترةٍ صغيرة للغاية من تاريخ وجوده، في بضعة آلاف من الأعوام الماضية فحَسْب. وسوف نرى أنَّ الأعداد تُمثِّل جزءًا كبيرًا من كيفية حدوث ذلك، والسبب في حدوثه.5
توضِّح البيانات المُستفيضة أنَّ نوع «الإنسان العاقل» وسلَفِه، قد تطوَّر في أفريقيا، وقد بدأت العناصر الأساسية لخصائصنا الجسدية الحالية، تتشكَّل هناك؛ كالسَّير على قدمَين الذي ظهر بوضوحٍ لأول مرة في الأسترالوبيثسينات، التي ظهرَت آثار أقدامِها التي تعود إلى ٣٫٧ مليون عام في الرماد البُركاني في لايتولي، بتنزانيا. وكذلك ظهرَت الأدمغة الأكبر حجمًا في بعض الأنواع مثل نوع «الإنسان المُنتصِب» (منذ ١٨ مليون عام تقريبًا)، ونوع «إنسان هايدلبيرج» (منذ ما يَزيد عن نصف مليون عام)، وهو النوع الذي تمكَّن من استكشاف قارَّات بخلاف أفريقيا، غير أنَّ سجلَّاته المادية لا تدلُّ على حدوث أي قفزةٍ إدراكية إلى الأمام، مثلما هي الحال في نوع «الإنسان العاقل». وهذه النقطة الأخيرة تُشير إلى أمرٍ غايةٍ في الأهمية، وهي أنَّ أسلاف البشر كانوا يتمتَّعون بدماغٍ كبير نِسبيًّا، وإن كان لا يزال أصغَرَ من دماغنا، قبل أن نظهر على المشهد بفترةٍ طويلة. وبالرغم من هذه الأدمغة الكبيرة، فإنَّ سلوك أقرَبِ الأسلاف إلينا لم يكن لافتًا للنظر عند مقارنته بسلوك غيره من القِرَدة العُليا. لم يكن يحمل سوى قدرٍ ضئيلٍ من التشابُه مع سلوك البشَر المُعاصِرين، وكذلك سلوك «إنسان النياندرتال»، وهو النوع الشقيق لنوعِنا، الذي عاش في أوروبا قبل نصف مليون عام تقريبًا، إلى أنِ انقرضَ على نحوٍ مُتسارع نتيجةَ وصولنا على تلك القارة فيما يبدو.6

إذن، فيُمكننا أن نصِف نشوء نوعِنا بأنه تغيير جذري حديث، ومن المؤكد أنَّ سُلالتنا قد ظلَّت تتطوَّر على مدار الملايين من الأعوام؛ مما جعلَنا على ما نحن عليه اليوم من الناحية الفسيولوجية، غير أنَّ أسلافنا قد عاشوا في مُعظم هذا الوقت حياةً قاسية وقصيرة، وقد كانوا في معظم الأحوال فرائسَ لغيرهم من الأنواع الأفريقية الأكبر حجمًا. إنَّنا لم ننجحْ دائمًا في التغلُّب على الأنواع الأخرى في المنافسة بالدرجة التي ننجح بها الآن. وقد تحدَّثتُ مؤخَّرًا مع زميلٍ في مجال علم الإنسان، وهو أيضًا عالِمٌ في الحفريات والآثار، يدرُس حفريات العديد من أنواع أشباه البشر في أفريقيا. وقد ذكَر أنَّ واحدةً من أبرز السِّمات في هذه الحفريات هي ما تدلُّ عليه من عُنف؛ فالعديد منها يحتوي على تمزُّقات وكسور عظمية، وكثيرًا ما تحمِل آثارَ أسنان المُفترسات أو نابِشات الفضلات، وكثيرًا ما توجَد هذه الحفريات في مخابئ المُفترِسات كالأسُود، ومعظمها لأطفالٍ وشباب. ومن المُحزن أنَّ هذه الأدلَّة تُشير إلى أنَّ العديد من أسلافنا قد عاشوا حياةً صعبة وقصيرة، وكانوا يواجهون فيها صعوبة في التنافُس مع الكائنات المُفترِسة المُحيطة بهم.

ويُمكننا القول بأنَّ قدرًا كبيرًا من هذه الصعوبة التي كانوا يُواجِهونها قد جاء نتيجةً للجمود الواضح في قدراتهم الإدراكية، ويتَّضح هذا الجمود في الاختراعات المادية التدريجية التي تَظهر في سجلِّ الحفريَّات على مدار العديد من ملايين السنين؛ فلننظُر إلى الفأس اليدوية الحجَرية، التي يُشير إليها العلماءُ في مجال علم الإنسان باسم الفأس الأشولية، والتي ابتكرها نوعُ «الإنسان الماهر» قبل ما يقرُب من ١٫٧٥ مليون عام. فهذه الفأس المحمولة التي تتميَّز بفائدتها العمَلية البارزة، قد كانت أداةً مهمَّةً للغاية لأسلافنا، غير أنها بسيطة للغاية مقارنةً بالقَوس والسَّهم. وقد اعتمد أشباه البشر عليها وحدَها تقريبًا على مدار ١٥ مليون عام. فمع السير على الأقدام، والأدمغة الكبيرة نسبيًّا، والأدوات البسيطة، يبدو أنَّ أسلافنا قد كانوا على منصَّة الانطلاق إلى الحداثة، منذ مئات الآلاف من السنوات، غير أنَّ هذا الانطلاق قد فشل إلى أن جاء ما أشعل جَذوَتَه حديثًا.

بعد المعارك التي كان يخُوضها أسلافنا من أجل البقاء في العصر الحجري القديم، اتَّخذَت الأمورُ مُنحنًى حادًّا إلى الأفضل. (استمرَّ العصر الحجري القديم من نحو ٢٫٥ مليون عام، إلى نحو ١٠٠٠٠ عام مضت.) وفي مرحلةٍ ما خلال مائتي ألف عام ماضية، قبل مائة ألف عام على الأرجح وفقًا للسجلِّ الأثري، حدَث ما يبدو أنه تغيُّر جذري في تفكير أسلافنا. ويتَّضح هذا التغيُّرُ الإدراكي في الأدوات العظمية المعقدة المصقولة، والتي اكتُشِفَت في كهف بلومبوس في جنوب أفريقيا على سبيل المثال، إضافةً إلى غيرها من الأدوات التي اكتُشِفت في ذلك الكهف وغيره من الكهوف، وهو ما سنتناوله بقدرٍ أكبر من التفصيل في الفصل العاشر. وبعد اختراع هذه الأدوات بفترةٍ قصيرة، بدأ البشر في مغادرة أفريقيا بهِمَّة. وتُوضِّح التحليلات الجينية للبشر الذين يعيشون في العصر الحالي أنَّ الشعوب الحديثة غيرَ الأفريقية، هي أحفاد مجموعة صغيرة من نوع «الإنسان العاقل» الذين قد أخذَتهم هجرتهم من أفريقيا على الأرجح عبر البحر الأحمر عند مضيق باب المندب.7
ما حدث بعد ذلك كان سابقةً من نوعه؛ كما كان غير مُتوقَّع على الإطلاق، ذلك أنَّ النوع البشري كان يواجِه صعوبةً كبيرة، ويواجه تهديدًا حقيقيًّا للغاية بالانقراض. وبالرغم من أنَّ بعض أنواع الرئيسات الأخرى قد غادرت أفريقيا مصادفةً، لينتهوا بعد ذلك بصورةٍ أساسية في إقليم حيوي استوائي آخر، فقد بدأ أسلافُنا عملية الاستكشاف الإرادي والتي ما زالت مُستمرَّة حتى اليوم. وعلى مدار فترة التَّجْوال في أنحاء العالم، التي استمرَّت لعشَرات الآلاف من السنوات، إلى أن وصل البشر إلى حافة أمريكا الجنوبية قبل ما يقرُب من ١٤٠٠٠ عام، تَمكنَّا في النهاية من التأقلُم مع جميع البيئات الموجودة في العالم تقريبًا. لقد تفوَّقنا في المنافسة مع بعض الأنواع الأخرى في بيئاتٍ قاسية مثل التندرا السيبرية، وأدغال تسمانيا، وصحراء أتاكاما، ومعظم البيئات البيولوجية التي تقع فيما بينها. والسجلُّ الأثري يوضِّح تقدُّمنا، وباختصار، فقد تكيَّف البشر على التكيُّف. وهذا التكيُّف المُستحدَث كان سيصبح مُحالًا بدون اللغة والثقافة، وهما السِّمَتان الأبرز لنوعِنا.8
لا تزال أصول نشأة اللغة والثقافة محلَّ جدالٍ كبير، ووفقًا لأعمال العديد من العلماء في مجال عِلم الإنسان، فإنَّ الثورة اللغوية والثقافية لدى البشر قد نتَجَت بصورةٍ كبيرة عن اعتمادهم على التعاون بدرجةٍ أكبر. وقد كان لهذا الاعتماد جانبان: الجانب الأول هو أنَّ البشر كانوا مُجبَرين على التعاون للتفوُّق في المنافسة مع الأنواع الأخرى، وأما الجانب الثاني فهو أنَّ بعض المجموعات المُحدَّدة من البشر قد اعتمدَت على شكلٍ أكثرَ تقدُّمًا من التعاون، عند التنافُس مع مجموعاتٍ أخرى من البشر. ويدعم هذا التفسيرَ حقيقةُ أنَّ البشر ينزعون إلى تحري التعاون مع غيرهم من أفراد النوع البشري، بينما لا يبدو أنَّ مهارة اللغة مُتأصِّلة في شفرتهم الوراثية على وجه التحديد. إنَّ أطفال البشَر الذين يفتقرون إلى بعض الوظائف الإدراكية الأعلى التي تتمتَّع بها بعض الأنواع الأخرى من القِرَدة العُليا، يتميَّزون بملاحظتهم الدقيقة لأنشطة التعاون المُحتمَلة مع أفراد آخرين. يبدو لنا إذن أنَّ تأصُّل التعاون في البِنْية الأساسية البشرية قد كان، على الأقل، مؤشرًا مهمًّا على التحوُّل من أنظمة التواصُل البدائية القائمة على الإشارات، التي كانت تستخدِمها القردة، إلى أنظمة التواصُل الأقوى القائمة على الحديث، والتي استخدمها البشَر. وبعبارةٍ أخرى، فإنَّ ما يجعلنا كائناتٍ لغوية هو ليس أننا مزوَّدون فطريًّا بمجموعة مهارات لغوية محدَّدة، بل أننا قادرون على التعاون، وأننا نُنظِّم وفقًا لمبادئ جماعية مهاراتِنا الإدراكية، التي يتمتَّع بالعديد منها أنواعٌ أخرى من القردة الأقلِّ ترابُطًا. يبدو أنَّ هذا التحرك نحو التعاون كان له دورٌ محوري في مسيرة حياتنا الإدراكية؛ إذ نتَج عنه ذلك التحوُّلُ في نظام التواصل، الذي أسهَم في أن يجعلنا بشرًا على وجه التحديد. لم يكن لوجود اللغة أن يُصبح ممكِنًا دون تركيزنا على التعاون، وما يتَّصِل به من الانتباه الذي بدَأْنا في توجيهه لفَهم أفكار الآخرين ونواياهم. وأيًّا كانت أصولها، فلا شكَّ بأنَّ اللغة قد أعادت تشكيل خِبرتنا البشرية، ومكَّنَتْنا من التفوُّق قبل مغادرة أفريقيا وبعدَها.9
إنَّ اللغة تُشكِّل طريقة تفكيرنا، وهي تُسهِّل أيضًا بعض أنواع عمليات التفكير غير اللغوية. والفائدة الأكبر من ذلك، هي أنَّها تُتيح لنا أشكالًا جديدة من التعاون، وتُتيح للبشَر أن يَنقلوا ما توصَّلوا إليه من حلولٍ للتحديات البيئية إلى بقية أفراد جيلهم والأجيال التالية كذلك. فالكلمات التي هي قنوات الأفكار، أدواتٌ إدراكية تُتيح للأفراد تسجيل حلولهم لتلك المجموعة الكبيرة والمُتنوِّعة من المشكلات الحديثة التي تُواجههم حين يَدخلون بيئاتٍ جديدة، والإفصاح عنها. لقد أتاح اختراعُ اللغة للبشَر أن يتوصَّلوا إلى الأفكار التي تدور في عقول غيرهم من البشر، وأن ينقلوها بكلِّ سهولة، دون أن يُضطَرُّوا إلى إنتاج أفكارٍ جديدة باستمرار. وقد أُتيحت الفرصةُ لوجود تأثير تُرس السُّقاطة الثقافي العابر للأجيال، الذي ذكَرتُه في الافتتاحية. إننا نظلُّ قادِرين على التكيُّف جيدًا على بيئاتنا الحالية، حتى في البيئات الحضرية في العالم الحديث، بفضل الأفكار التي نُقِلت إلينا من عقول الآخرين منذ طفولتنا، عن طريق اللغة؛ فاللغة وغيرها من الممارسات الثقافية الرمزية تُتيح لنا تخزين الأفكار والوصول إليها بسهولة، ومنها الأفكار التي تُمكِّننا من النجاة بأنفسنا وبثقافتنا.10

رغم أنَّ قصة ظهور اللغة قد ضاعت مع مرور الزمن، أو ربما ظلَّت عالقةً في غبَش السِّجل الأثري بعيدةَ المنال، فما من خلافٍ على أهميتها، مثلما أوضحْنا هنا؛ فمن الجليِّ أنَّ الكلماتِ وغيرَها من التمثيلات الرمزية، كانت بمثابة أدواتٍ ناجِعة، وربما هي أعظمُ أدواتٍ قد امتلَكْناها على الإطلاق. غير أنه لا تزال هناك مجموعة مُتفرِّعة من هذه المجموعة من الأدوات اللفظية، وهي الأدوات الإدراكية المُتمثِّلة في الأعداد، والتي أدَّت دورًا مميزًا للغاية في تشكيل الإنسانية منذ هِجرتها من أفريقيا، بل حتى قبل الهجرة من أفريقيا على الأرجح. وقد مكَّنَتنا هذه المجموعةُ الفرعية من الأدوات اللفظية، من رؤية الكميات واستخدامها بطرُقٍ جديدة. وكما ناقَشنا بالفعل، فقد مكَّنَتنا هذه الأدواتُ المحددة التي نتحدَّث عنها، من إدراك الوقت بطرُقٍ جديدة كذلك. وعلاوةً على ذلك يَقترح هذا الكتاب أيضًا أنَّ هذه الأدوات العددية قد أدَّت إلى بَدْء تطوُّر الزراعة والكتابة، ثم أدَّت بطريقةٍ غير مباشرة إلى تطوُّر جميع التقنيات التي انبثقَتْ عن هاتَين الظاهرتَين الأخيرتَين. إنَّ هذه الأدواتِ قد غيَّرت خِبرتنا الإدراكيةَ والسلوكية إلى الأبد.

الكميات في الطبيعة، والأعداد في عقولنا

في كثيرٍ من الأحيان تكون وظيفة الكلمات هي تسمية الأشياء أو الأفكار الموجودةِ مُسبقًا؛ فكلمة «باندا» مثلًا تُسمِّي نوعًا محددًا من الثدييَّات، وهذا النوع موجود بالفعل، بصرْف النظر عن وجود الاسم، غير أنَّ الكلماتِ تُشير أحيانًا إلى مفاهيمَ لا توجَد إلا بوجود الكلمات المعنيَّة. فلنتأمَّل ذلك في ضوء الألوان؛ إننا نتفاعل دائمًا مع الجزء المرئيِّ من طَيف الضوء، وهو جزء ضئيل من نِطاق الأمواج الكهرومغناطيسية، وهذا الطَّيف المرئي من الضوء مُستمرٌّ دون أي فواصلَ ماديةٍ محددة؛ ولذا فما من نقطة محددة على طَيف الضوء تَفصل بين الأخضر والأزرق بدقة. ولهذا السبب تتخلَّى العديد من اللغات عن استخدام مصطلحات مثل «أخضر» «وأزرق»، وتستخدِم بدلًا من ذلك كلمة للفئة اللونية «أخضرق». بالرغم من ذلك، فإنَّ مُتحدِّثي بعض اللغات كالإنجليزية يُشيرون إلى هذا التبايُن اللَّوني على الدوام، ومن ثَمَّ يؤسِّسون فرقًا أوضح بين «الأخضر» «والأزرق»؛ فهم يستخدمون الكلمات للتواصُل بشأن أجزاء من طَيف الضوء يمكن التمييزُ بينها على وجه التقريب، غير أنها تفتقِر إلى وجود حدودٍ واضحة. وبعض مُتحدثي اللغات الأخرى، يقسِّمون طَيف الضوء بطرُقٍ مختلفة؛ فمُتحدِّثو لغة البيرينمو في نيو غينيا على سبيل المثال يَستخدمون المصطلح «وول» والمصطلح «نُر»، اللذَين يُميِّزان بين جزأَين من طَيف الضوء، يُشار إليهما في الإنجليزية بمصطلح واحد هو «الأخضر». وهذه الاختلافات فيما بين اللغات، تؤثِّر في كيفية إدراك المُتحدِّثين بها للألوان وتَذكُّرهم لها، تأثيرًا طفيفًا لكنه أكيد. ومعنى هذا باختصار أنَّ مصطلحات الألوان ليست مجردَ أسماء لمفاهيم موجودة مُسبقًا عن الألوان، ويتَشاركها جميع البشر، بل هي تبعَث إلى الوجود أيضًا مفاهيمَ أكثر تحديدًا للألوان.11

مثلما أنَّ مصطلحات الألوان تُحدِّد أجزاءً معينة من الطيف الضوئي وتُجسِّدها، فإنَّ الكلمات وغيرَها من رموز الأعداد تولِّد في حياتنا الذهنية أنواعًا مُعيَّنة من الكميات؛ إذ يتَّضِح أنَّ البشر لا «يرَون» الفروق بين مُعظم الكميات بدون الأعداد. وفي غياب الأعداد لن نختلف في رؤيتنا لكميَّات الأشياء التي نراها في البيئات الطبيعية عن غيرنا من الأنواع العديدة. فلولا قُدرتنا على ابتكار الأعداد واستخدامها، ما امتلكْنا الأدوات اللازمة للإبحار تجاه هدفٍ واتجاهٍ مُحدَّد، في بحر الكميات المُحيط بنا.

قد يبدو الطرح القائل بأنَّ الأعداد اختراع بشري، أمرًا غريبًا؛ فبالرغم من كلِّ شيءٍ قد يقول البعض: إنَّ وجود بعض الأعداد المُتوقَّعة في الطبيعة، مثل ثمانية (أرجل الأخطبوط) وأربعة (الفصول) وتسعة وعشرين (أيام الدورة القمرية) وما إلى ذلك، كان سيظلُّ قائمًا بصرْف النظر عن وجود البشر على الإطلاق من عدَمه. بالرغم من ذلك، فحقيقة الأمر على وجه الدقة هو أنَّ هذه «الكميات» تحدُث في الطبيعة بانتظامٍ وحَسْب، ويمكننا القول إنَّ الكميات والتناظُرَ بين الكميات، يوجَد منفصلًا عن الخبرة الذهنية البشرية، فسوف تظلُّ أرجلُ الأخطبوط على الهيئة التي توجَد بها في مجموعاتٍ منتظمة، حتى وإن لم نكن قادرين على إدراك هذا الانتظام. أما «الأعداد» فهي الكلمات والتمثيلات الرمزية الأخرى التي نستخدمها للتمييز بين الكميات.12 ومثلما أنَّ مصطلحات الألوان تَخلُق بينها حدودًا ذهنيةً أوضح على الأجزاء المُتجاورة على طَيف الضوء المرئي، فإنَّ الأعداد تخلُق حدودًا إدراكية بين الكميَّات، وقد تعكس هذه الحدود فرقًا حقيقيًّا بين الكميات في العالم المادي، غير أنَّ العقل البشري لا يتمكَّن عادةً من إدراك هذه الفروق بدون الأعداد.
غالبًا ما كانت كلمات الأعداد التي تُمثِّل الكميات، تُرى على أنها تَسميات مُلائمة لأفكارٍ يُزوَّد بها البشر فطريًّا، أو يتعلمونها تلقائيًّا خلال مراحل نموِّهم الحيوي. وعلى العكس من ذلك، تُشير الأعمال الحديثة إلى أنَّ الأعداد ليست مجردَ تَسميات فحَسْب؛ فكما ذكرَت عالِمة اللغة واختصاصية الأعداد هايكا فيسا ملحوظتها الثاقِبة: «تُمِدُّنا اللغة بأمثلةٍ على الأعداد، هي الكلمات التي يمكن أن نستخدِمها مثلما نستخدِم الأعداد، لا كمحض أسماء نستخدِمها للإشارة للأعداد والتفكير بشأنها.»13 إنَّ معظم الكميات المحددة لا تُوجَد في عقولنا في غياب الأعداد. ربما يكون هذا الزعم مُفاجئًا للبعض، غير أنه مدعوم بالعديد من الأدلة التجريبية، أما الزعْم بأنَّ الأعداد هي محضُ أسماء لأفكارٍ موجودة مُسبقًا، فهو زعم لا تؤيِّده أدلَّة كافية؛ لقد اتَّضح أنَّ البشر، كالحيوانات الأخرى، لا يستطيعون دومًا أن يُميِّزوا بين الكميات المحددة فيما يتجاوز الثلاثةَ بدون وجود الأعداد. أما فيما يتجاوز الثلاثة، فلا يُمكِننا سوى تقدير كمية الأشياء التي يستقبلها إدراكُنا، إذا لم نكن نعرِف الأعداد. ويؤيد هذا الاستنتاجَ دراساتٌ تجريبية حديثة أجراها العديد من الباحثين (بمن فيهم أنا) على الأفراد الذين لا يعرفون أي أعداد، وتؤيده أيضًا الأبحاثُ التي أُجرِيَت على الأطفال الرُّضَّع وغيرهم من الأطفال الذين لم يتعلموا الأعداد بعد. سوف نُناقش هذه النتائج بالتفصيل في الجزء الثاني، ومثلما سنرى فإننا لا يُمكننا تفكيك المعوِّقات الفطرية التي تَمنعُنا من تمييز الكميات إلا من خلال أدوات الأعداد.

بالرغم من ذلك، علينا أن نُقِرَّ بأنَّ هذا التفسير يطرَح لنا مفارقة، وهي: إذا كان البشر لا يستطيعون أن يُفكِّروا في الكميات بدقة إلا من خلال الأعداد، فكيف توصَّلوا إلى اختراع الأعداد في المقام الأول؟ والنقطة الأولى التي سنوضحها في الإجابة عن ذلك السؤال هي أنَّ هذه المفارقة تنطبِق على جميع الاختراعات البشرية، في بعض الجوانب على الأقل. فلِكَي يَحدث أي اختراع، لا بدَّ للبشر أولًا أن يُدرِكوا مفهومًا لا يُدركونه عادةً وبتلقائية. إنَّ الاختراعات ليست مُتأصِّلة في شفرتِنا الوراثية، بل نصنَعُها من سلسلةٍ من الأفكار التي نُدركها، وغالبًا ما تكون أفكارًا بسيطة. إننا لم نُفطَر على التفكير في أشياء كنقاط الارتكاز أو المسامير اللَّولبية أو العجلات أو المطارِق أو غيرها من الأدوات الميكانيكية الأساسية، غير أنَّنا قد طوَّرْنا جميع هذه الأدوات عبر مجموعةٍ كبيرةٍ مختلفة من الأفكار. فلنتأمَّل العجلة على سبيل المثال، هذه الأداة البسيطة العمَلية؛ إنَّنا نجِد أنه يكاد يكون من المُستحيل «ألا» يخترع البشَر هذه الأداة، نظرًا إلى وَعْيِنا بدحرجة الأشياء الدائرية في بيئاتنا الطبيعية. بالرغم من ذلك، فالعجلة ومِحْور الدوَران من الاختراعات الحديثة نسبيًّا، والتي لم تُوجَد في العديد من الثقافات السابقة (ومنها بعض المُجتمعات الكبيرة مثل الإنكا)؛ ولهذا، بالرغم من بساطتها وسهولة إدراك مفهومها، لا يمتلك البشر مفهومًا «فطريًّا» للعجلة. وبالمِثل فإنَّ أداةً لفظية كالكلمة «سبعة»، تبدو أمرًا مُسلَّمًا به للغاية حين نعرفها، وبالرغم من ذلك فإنَّ بعض الأفراد لا يعرفون الكمية المُحدَّدة التي تُشير إليها. ومثلما أنهم قد يكونون لا يعرفون العجلات، لكنهم يفهمون فائدتها بسرعة حين يرَون عجلةً فِعلية، فإنهم لا يتعلَّمون مفهوم وجود سبعة أشياء بالتحديد إلَّا حين يتعلمون الكلمة التي تُمثِّل ذلك المفهوم؛ ولهذا السبب البسيط فإنَّ مفردات الأعداد لا تُيسِّر العمليات الحسابيةَ المعقدة فحَسْب، بل تُيسِّر أيضًا مجرَّد التفريق بين الكميَّات التي تَزيد عن ثلاثة، وتمييزَها. (وسنُناقش الأدلة التجريبية على هذا الاستنتاج في الجزء الثاني.)

بالرغم من ذلك، فربما قد لاحظتَ أنَّني لم أَحُل المفارقة تمامًا، وإذا أعَدنا صياغتها بطريقةٍ مختلفة يُمكننا أن نطرح السؤال التالي: كيف تمكَّن أفراد لا يمتلِكون أعدادًا من إدراك أنَّ مِثل هذه الكلمات يمكن أن تُعبِّر عن الكميات، إذا كانت الأعداد ضرورية لإدراك الكميات المُحدَّدة؟ يمكنك أن تعتبِر ما يلي بمثابة تعهُّدٍ على ذِكر تفسيرٍ أكثر تفصيلًا في الجزء الثالث من هذا الكتاب: فلتتخيَّل أنَّ بعض الأفراد من نوعِنا قد أدركوا في نقاطٍ زمنية مختلفة، أنه يمكن أن يمتدَّ معنى كلمة موجودة بالفعل، ليُمثِّل كميةً محدَّدة أكبر من ثلاثة. (فأدركوا مثلًا أنَّ كلمة «يد» يمكن أن تُشير إلى العدد خمسة، وليس الطرَف المادي فحسْب.) إنَّ هذه الفكرة البسيطة هي صميم اختراع الأعداد، غير أنَّ أفراد نوعِنا لا يُولَدون ومثل هذه الفكرة مُتأصِّلة فيهم، مِثلما أنَّنا لم نُولَد وفكرة وجود العجلات مُتأصِّلة فينا، أو فكرة أنَّ السفن المصنوعة من الصلب يمكن أن تطفو، أو فكرة أنَّ الطائرات المصنوعة من الألومنيوم يمكن أن تطير. بالرغم من ذلك، فحين اكتشف مُخترِعو الأعداد أنه يمكن استخدام الكلمات للتمييز بين الكميات، مثل التمييز بين خمسة وستة، مكَّنهم ذلك من تأسيس طريقةٍ جديدة للتفكير بشأن الكميات، وقد بدأ آخَرون في استخدامها. ومن خلال ذلك الاستخدام انتشرَتِ الأعداد.

مثلما سأوَضِّح بقدرٍ أكبر من التفصيل في الفصل الثامن، فإنَّ حقيقة أنَّ بعض البشَر تمكنوا من اختراع الأعداد، يعود بشكلٍ كبير إلى عوامل تتعلَّق بالتشريح. إنَّ الفكرة البسيطة التي تتمثَّل في وجود كمياتٍ كبيرة مُحددة، وفي إمكانية تَسميتها، قد تولَّدت بصفةٍ عامة عن حقيقة وجود كميات تتكرَّر بانتظام أمام أعيُنِنا تمامًا. إننا نمتلك خمسة أصابع في كلِّ يد، وتُقدِّم لنا الحياة دائمًا مجموعاتٍ متطابقة تتكوَّن من خمسة عناصر لم نُزوَّد مُسبقًا بالقدرات الإدراكية اللازمة لتمييزها، مِثلنا في ذلك مثل الحيوانات الأخرى. غير أنَّ البشَر قد تمكَّنوا مُصادفةً من إدراك هذا التناظُر، ويبدو هذا التناظُر واضحًا للغاية، غير أنَّ مجرد إدراك هذا التناظُر البيولوجي، لا يُؤدِّي بالضرورة إلى اختراع الأعداد؛ فمن الممكن ألا يتمَّ تمييز الكميات، وحتى الأصابع الخمسة في كل يد، إلا بطريقةٍ عابرة. بالرغم من ذلك، عند معرفة كلمة مثل «خمسة» ثم استخدامها بشكلٍ مُثمِر لوصف كمية الأصابع في كل يد، فإنَّ ذلك يؤدي إلى اختراع الأعداد. وهذا المسار التشريحي العام الذي يُفسِّر اختراع الأعداد، يدعمه الكثير من البيانات اللغوية، مثل تَكرار التشابُهِ بين كلمة «خمسة» وكلمة «يد» في لُغات العالم. (سنوضِّح هذه النقطة بالتفصيل في الفصل الثالث.)

إنَّ اختراع الأعداد الذي تمَّ في أوقاتٍ مختلفة على مدار التاريخ البشري، لم يُيسِّر تفكيرنا بشأن الكميات فحَسْب، بل مكنَتْنا الأعداد من أن نكون قادرين دائمًا على التمييز بين الكميات التي تَزيد عن ثلاثة، بدقَّة وبصورةٍ منتظمة. وسوف نوضح هذه الفرضية بشكلٍ أفضل على مدار هذا الكتاب، أما في الوقت الحاليِّ فإنَّني آمُل أن أكون قد حدَّدت بوضوحٍ أكبرَ ما أَعنيه حين أقول إنَّ الأعداد أدواتٌ إدراكية ثورية قد اخترعها البشر. ويقترح هذا الكتابُ أنَّ اختراع الأعداد وانتشار استخدامها على نطاقٍ واسع، قد أدَّى إلى إعادة توجيه البشر إدراكيًّا وسلوكيًّا. فربما كانت الأعداد هي الأداةَ الوحيدة الأكثر تأثيرًا في مجموعة الأدوات اللغوية التي أتاحت التحوُّل الحديث لنوعِنا، والذي ناقشْناه في جزءٍ سابق. إضافةً إلى ذلك، فقد مكَّنَتْنا من جميع أنواع الاختراعات الأحدَث منها، والتي سنُناقشها لاحقًا في هذا الكتاب، أو سهَّلتْها لنا على الأقل. وبدون هذه الأدوات الإدراكية، لم تكن الثورة الزراعية لتحدُث على الأرجح، ولم تكن الثورة الصناعية لتحدُث بالتأكيد.

إلى أين سيأخُذُنا هذا الكتاب؟

يُقدِّم هذا الكتاب توليفةً من الأدلة المُستقاة من مجال علم الإنسان، والأدلَّة اللغوية والنفسية، وهو يأخذ في الاعتبار بياناتٍ من الجماعات البشرية وكذلك الحيوانات. وجميع هذه البيانات تؤدي بإصرارٍ إلى الاستنتاج البسيط الذي تَنبَّأنا به بالفعل، وهو أنَّ الأعداد قد كانت بمثابة دعامات إدراكية وسلوكية أساسية، فأسهمَتْ في تأسيس الصرْح الأكبر للحداثة.

في القدْر المُتبقي من الجزء الأول، سوف نبحث في مدى تغلغُل الأعداد في الخبرة البشرية، وسوف نُركِّز على التمثيلات الرمزية للكميَّات في السجلات الأثرية والمكتوبة (الفصل الثاني)، وفي الحديث كذلك، وسوف نستطلِع كلمات الأعداد (الفصل الثالث) وغيرها من الإشارات اللغوية إلى الكميات، في اللغات حول العالم. وتقترح البياناتُ التي سترد في هذه الفصول أنَّ الأعداد مُكوِّن أساسي في جميع لغاتِ العالم تقريبًا، وكذلك جميع الأنظمة الرمزية غير اللفظية القديمة. إضافةً إلى ذلك، فإنَّ جميع النتائج التي فحصْناها، تؤكد أهمية التشريح البشري وعِلم الأعصاب في اختراع الأعداد واستخدامها.

وفي الفصل الثاني سنتناول الدَّور الذي قامت به الأعداد في تاريخ البشرية، وذلك من خلال تفصيل ما يرتبِط بهذا الموضوع من نتائجَ جُمِعت من بالِغين لا يعرفون الأعداد (الفصل الخامس). وسوف نفحَص أيضًا الإدراك العددي لدى الأطفال الذين لم يكتسبوا مهارة اللغة بعدُ (الفصل السادس)، وكذلك المهارات العددية لدى الأنواع الأخرى، التي يرتبِط العديد منها بنَوعِنا ارتباطًا وثيقًا (الفصل السابع). وسيركز هذا الفحص على الدراسات الحديثة التي أجراها علماء الإنسان وعلماء اللغة في أماكنَ بعيدةٍ في مُعظم الأحوال، وكذلك الدراسات المُستنِدة إلى المُختبرات، التي أجراها الباحثون في فروعٍ أخرى من مجال العلوم الإدراكية.

وفي الجزء الثالث من هذا الكتاب، سوف نرى كيف أنَّ الأعداد قد شكَّلَت معظم الثقافات المُعاصِرة، وسوف نتناول الكيفية التي اختُرِعَت بها الأعداد والعمليات الحسابية الأساسية على الأرجح (الفصل الثامن). وأنا أقترح أيضًا أنَّ اللغة العددية قد أسهمَتْ في تغيير أنماط إعاشة البشَر (الفصل التاسع). وسوف نرى كيف أنَّ الأعداد قد أتاحت ازدِهار بعض التقنيات المادية والسلوكية الأخرى، وهي تقنيات قد أدَّت إلى أحداثٍ مهمة في التاريخ البشري الحديث. وأخيرًا ينتهي الكتاب بتناول بعض الطرُق المحورية التي قد غيَّرَت بها الأعدادُ الثقافاتِ البشريةَ من الناحية الاجتماعية والرُّوحية، وإن كان ذلك بطريقةٍ غير مباشرة على الأقل (الفصل العاشر).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤