الفصل الثالث

رحلة عددية حول العالم اليوم

إنَّ المُختصِّين بدراسة عِلم الإنسان، سواءٌ أكانوا من علماء الآثار أم من علماء اللغة أم من غيرهم من العلماء، يجتازون الثقافات ماديًّا وزمنيًّا؛ لكي يتعرَّفوا على الحياة التي يعيشها البشَر، والحياة التي عاشُوها. ويعتمد الهدف الأسمى لمشروعنا، وهو أن نتوصَّل إلى فَهمٍ أعمقَ لما يَعنيه كونُ المرء أحدَ أفراد نوع «الإنسان العاقل»، على هذه الدراسة العابرة للثقافات. في الوضع المثالي، ما الإنسان سوى إسفَنْجةٍ تمتصُّ المعرفة من التفاعُلات المباشِرة مع الثقافات المُعاصِرة الأخرى، أو التفاعُلاتِ غير المباشِرة مثل دراسة بقايا الثقافات البائدة. وهذه التفاعلاتُ والتبادُلات ليست دائمًا مُستويةً بشكلٍ أو بآخر؛ فعادةً ما يكون ما نأخذه أعلى قيمةً مما نَتركه، بصَرْف النظر عن نوع المُقابل الذي ندفَعُه.

مما يدعو إلى الامتنان أننا نَحظى بالفُرصة أحيانًا في أن نُشارك مظاهرَ ثقافاتنا التي تُمثِّل قيمةً لمن نتعلم منهم؛ ففي يومٍ خانق قبل بِضْعة مواسمَ مَطيرة في إقليم الأمازون سنَحَت لي هذه الفرصة. كنتُ ألعب كرة القدم الأمريكية مع مجموعةٍ من البرازيليِّين الذين يَقْطنون بالقُرب من أحد الأنهار، ولاحظتُ انضمام لاعبَين من السُّكان الأصليِّين، وقد كانا قِصيرَيِ القامة، لكنهما يتمتعَّان بالسرعة والقوة الشَّديدتَين. وبعد المباراة (التي لم يكن من قبيل المصادفة أنهما قد أحرَزا فيها معًا القدرَ الأكبر من الأهداف) بدأتُ معهما محادثةً بذلك القدر المحدود الذي يَعرِفانه من اللغة البرتغالية. اكتشفتُ أنَّهما ينتمِيان إلى ثقافة الجاراوارا (التي ذكرتُها في الفصل الأول)، وهي مجموعة من السُّكان الأصليين يبلغ عدد أفرادها مائة فردٍ تقريبًا. وقد أصبحتُ مُتحمسًا على الفور إلى أن أتعلَّم من هذَين الرجلَين؛ إذ إنهما يتحدَّثان واحدةً من اللغات القليلة التي كان يُزعَم أنها لا تتضمَّن أي كلماتٍ للأعداد. وسرعان ما اكتشفتُ أنهما أيضًا كانا مُتحمِّسَين إلى أن يَكتسِبا منِّي شيئًا، وهو معرفة كيفية ركوب الدرَّاجة النارية التي شاهداني وأنا أصِل بها. على مدار الأسابيع العديدة التالية، تبادَلْنا هذه المُكوِّنات من ثقافاتنا الأصلية بعضنا مع بعض: تعلمتُ أنا عن لغتهما، وتعلَّما هما كيفية ركوب درَّاجة نارية للطرُق الوَعْرة. خلال هذا الوقت الذي قضيتُه معهما، ومع بعض أصدقائهما وأفراد عائِلتَيهما (والذين كانوا مِثلَهما في رحلة قصيرة بعيدًا عن حياة القرية)، أدركتُ أمرَين أساسيَّين: أولهما أنه على العكس من المزاعم السابقة، يَمتلك هؤلاء الأفرادُ نظامًا عدديًّا أصليًّا مُذهلًا، وأما الأمر الثاني فهو أنهما بارِعان وجَسوران في تعلُّم كيفية ركوب الدرَّاجة النارية.

يَعيش أفراد الجاراوارا في قريتَين أساسيَّتَين تقَعان بالقُرب من نهر بوروس، وهو أحد الروافد الرئيسة لنهر الأمازون. وهم يتحدَّثون واحدةً من مجموعة من اللغات المُترابِطة الموجودة في هذا الإقليم، وهي تَنحدر عن لغةٍ بائدة تُسمَّى «أراوا الأولية» وقد كانت تُستخدَم على الأرجح قبل ما يَزيد عن ١٠٠٠ عام. ونحن نعرِف الآن أنَّ جميع هذه اللغات المُترابِطة تتضمَّن بضع كلمات أساسية تُعبِّر عن الأعداد، وهي تتشابَه مع بعضها. فعلى سبيل المثال الكلمة التي تُعبِّر عن العدد «اثنَين» مُتشابهةٌ في جميع لغات الأراوا، مما يُشير إلى أنَّ هذه الكلمات تَنتمي إلى الفئة التي يُشير إليها علماء اللغة باسم «الكلمات ذات الأصل الاشتقاقي المُشترك»، وهي كلمات تُشتَقُّ من الكلمة نفسِها في لغةٍ سالفة، فهي لم تُستعَرْ من لغة أخرى في وقتٍ أحدث، وهي تساعد علماء اللغة على إعادة بناء الكلمات البائدة التي تَنحدِر منها. وفي حالة لُغة أراوا الأولية فإننا نثِق الآن أنَّ الكلمة التي تُشير إلى العدد «اثنَين» كانت «باما». (في علم اللغة، تُشير علامة النجمة إلى كلمةٍ أُعيدَ بناؤها وكانت توجَد في لغةٍ سالفة.) وفي معظم عائلات اللغات في العالم، يمكننا إعادةُ بناء الكلمات القديمة التي تُشير إلى الأعداد مثل «باما»؛ إذ إنَّ الغالبية العُظمى من لغاتِ العالَم الحاليَّة تتضمَّن كلماتٍ تعبر عن الكميات المُحدَّدة. حتى اللغات الأسترالية، التي تفتقر عادةً إلى وجود مخزونٍ كبير من مفردات الأعداد، تتضمَّن كلماتٍ تُعبر عن بعض الكميات. كل ذلك يوضِّح أنَّ الأعداد المنطوقة هي اختراعٌ بشري قديم للغاية، وتَشترك فيه جميعُ لغات العالم الحالية، إضافةً إلى اللغات السالفة التي كانت تُستخدَم قبل فترةٍ طويلة. في هذا الفصل سوف نستعرِض بعض الاكتشافات الأساسية التي تتَّضِح في أعداد العالم المنطوقة، والتي أشيرُ إليها ببساطةٍ باسم الأعداد. (تمييزًا لها عن «الأرقام» وهو المصطلح الذي أستخدمه للدلالة على الأعداد المكتوبة.)1
يتَّضِح أنَّ الكلمة التي تُعبر عن العدد «اثنَين» في لغة الجاراوارا هي «فاما»، ومن الواضح أنها تُشبه كلمة «باما» التي استخدمها مُتحدِّثو لغة أراوا الأولية. وخلال المقابلات التي أجرَيتها مع معارفي من الجاراوارا، اتَّضح لي أنَّ نظامهم العددي الأصلي، يتضمَّن العديدَ من الأعداد إلى جانب «فاما». في مُقابَلاتي الفردية معهم، طلَبتُ منهم أن يُخبروني بكلمةٍ من لغتهم تَصف عددَ مجموعة من الأغراض قد وضعتُها أمامهم على طاولة، وتطابَقَت إجاباتُ البالِغين السبعة الذين تطوَّعوا لمُساعدتي. إضافةً إلى ذلك، حين طلبتُ منهم بعد ذلك ترجمة بعض مفردات الأعداد البرتغالية إلى لغتهم، تطابقَت إجاباتهم أيضًا. ونتيجةً لهذه الجلسات؛ استنتجتُ أنَّ الجاراوارا لدَيهم نظام أصلي للأعداد، على عكس المزاعم السابقة. ومثلما هي الحال في العديد من لغات العالم، فالكلمات الأصلية التي تُعبِّر عن الأعداد، قد استُبدِلت بها في لغة الجاراوارا كلماتُ الأعداد الأكثر نفعًا، التي تنتمي إلى القوة الاقتصادية المُهيمِنة التي يُضطَر الأفراد إلى التفاعُل معها. (راجع مناقشة الأنظمة العددية المُعرَّضة للخطر في الفصل التاسع.) وبالرغم من استخدامهم للأعداد البرتغالية التي تُستخدَم في البرازيل، فإنَّ مَن قابَلتُهم من أفراد الجاراوارا البالغين، تمكَّنوا من تذكُّر أعدادهم الأصلية التقليدية.2 ونوضِّح فيما يلي بعضَ مفردات الأعداد في لغة الجاراوارا (الكلمات المكتوبة بين قوسَين هي كلمات اختيارية):
الكلمة بلُغة الجاراوارا الكمية
ohari 1
fama 2
fama oharimake 3
famafama 4
(yehe) kahari 5
(yehe) kahari famamake 7
(yehe) kafama 10
(yehe) kafama ohari 11
(yehe) kafama kafama 20
يُمثِّل النظام العددي للجاراوارا مدخلًا مفيدًا لِما سنقوم به من استعراض الأعداد في لغات العالم المنطوقة؛ إذ إنَّ الأنماط الواضحة في الأنظمة تُشير إلى وجود قواسمَ مشتركة بين مُعظم اللغات في العالم. وعلى وجه التحديد تَظهر أُسُس أعداد الجاراوارا في العديد من الأنظمة العددية في العالَم. والأساس هو كلمة تتكرَّر في الأعداد المنطوقة بلُغةٍ مُعيَّنة، بصورةٍ واضحة في معظم الأحيان، أو بصورة مُستتِرة في بعضها، وهو وَحْدة بناءٍ لأعدادٍ أخرى.3 (ومثلما رأيْنا في الفصل الثاني، يمكن استخدام هذا المصطلح أيضًا للإشارة إلى القيمة التي تُرفَع إلى قوة أُسِّية محدَّدة في نظام الأعداد المكتوبة). فلنُلقِ نظرةً سريعة على أُسُس أعداد الجاراوارا. في البداية، نلاحظ تَكرار الكلمة fama في الأعداد كلها؛ فالعدد «اثنان» يعني fama «وأربعة» هو famafama؛ أي إنه صيغة مُضاعفة من الكلمة «اثنَين». وينطبق الأمر نفسُه على الكلمة التي تُعبِّر عن العدد «عشرة»، وهي (yehe) kafama أي «مع (يدَين)» ونجد أنَّ الكلمة التي ترمز إلى يد yehe فيها مُستترة لا ظاهرة؛ ومِن ثَمَّ يُمكننا أن نستنتِج أنَّ الجاراوارا يَستخدِمون ما يُعرَف باسم الأساس الثنائي (الأساس ٢)، أي إنَّ العدد «اثنين» يُستخدَم بصفته وحدةَ بناء لبعض الأعداد الأكبر على الأقل، بالرغم من ذلك فهو ليس الأساسَ الوحيد الذي يتَّضح لنا. بداية من العدد «خمسة» نلاحظ أنَّ yehe مُستخدَمة في جميع الأعداد المُتبقِّية، ولو بشكلٍ ضمني على الأقل. إنَّ أفضل ترجمةٍ ممكنة للكلمة التي تُشير إلى العدد «خمسة» هي «مع يد» ويظهر هذا الأساس الخماسي (الأساس ٥) على مدار النظام العددي. وأفضل ترجمة للكلمة التي تُعبر عن العدد «سبعة» هي «يد مع زوجين» أما الكلمة التي تُعبِّر عن العدد «عشرة» فترجمتُها «مع يدَين» وتُستخدَم هذه الكلمة أساسًا لبقية الأعداد مثل «أحد عشَر» و«عِشرين».

من الواضح أنَّ نظام أعداد الجاراوارا يَستخدم أساساتٍ مُتكررةً لا أسماء أصلية لكل كمية بعَينها، وهو يُشبِه في ذلك معظم أنظمة الأعداد المنطوقة، وهو يُشبهها أيضًا في أنَّ العدد خمسة له مكانة مُميزة بصفته أساسًا مُتكررًا. إضافةً إلى ذلك، نجد أنَّ العدد عشَرة يتكرَّر، مع أنه هو نفسُه يقوم على أساس العدد خمسة. عادةً ما تكون أنظمة الأعداد المنطوقة في العالم عشرية — أي أنها تعتمد على الأساس عشرة. غير أنَّ الأنظمة الخُماسية كثيرة أيضًا، مثلما هي الحال في نظام الجاراوارا. وأحيانًا تكون عشرينية أيضًا، أي إنها تعتمد على أساس العدد عشرين. وأخيرًا فإنَّنا نجد الأساس الثنائيَّ الذي يَستخدمه نظام الجاراوارا في بعض اللغات الأخرى في العالم. موجز القول إنَّ هذا النظام العددي المُكتشَفَ حديثًا يعكس بعض خصائص الأنظمة العددية الأخرى التي تتضمَّنها لُغات العالم؛ إذ تُستخدَم بعض الكلمات المُحدَّدة وحداتٍ للبناء في الأعداد المنطوقة، وعادةً ما تُشير هذه الأساسات إلى كميات مثل ٥ و١٠ و٢٠، وكذلك ٢ في بعض الأحيان. بعبارةٍ أخرى، تعكس الأعداد نزعتَنا الكبيرة إلى تفسير الكميات من خلال الوحدات المُفرَدة في طبيعتنا البيولوجية، أو أصابعنا بصفةٍ أساسية.

ولنتناوَلْ مثالًا آخَرَ من إقليم الأمازون، وهو من لغة قبيلة كاريتيانا، التي كانت موضوعًا لبعض أبحاثي. إنَّ هذه اللغة لا ترتبط على الإطلاق بلغة الجاراوارا. ومثلما هي الحال في معظم أنظمة الأعداد بالعالم، فإنَّ المصطلحات التي تعبِّر عن الكميات الصغيرة في هذه اللغة، لا يمكن تحليلُها بدون وجود أساساتٍ مُميزة، مثل الأساس الثنائي «فاما» في لغة الجاراوارا. وفي القائمة التالية سأوضح حفْنة من الأمثلة على مفرَدات الأعداد في لغة الكاريتيانا (من الصعب تجاهلُ الأيدي عند الحديث عن الكميات، حتى في الإنجليزية).

المصطلح بلُغة الكاريتيانا الكمية
myhint 1
sypom 2
myjyp 3
otadnamyn 4
(«يدنا») yj-pyt 5
(«نأخذ واحدًا ويدَنا الأخرى») myhint yj-py ota oot 6
(«نأخذ إصبعًا واحدًا من أصابع القدَم») myhint yj-piopy oot 11

إنَّ الأنماط التي نراها في هذه القائمة توضِّح مُجددًا وجودَ قواسمَ مشتركةٍ بين كلمات الأعداد في العالم؛ فمن الواضِح أنَّ الكلمة التي تُعبِّر عن العدد «خمسة» ترتبط بالكلمة التي تُشير إلى «اليد» وهي تُستخدَم أيضًا بصفتها أساسًا للأعداد الأكبر مثل «ستة». إضافةً إلى أساسها الخماسي فإنَّ أعداد الكاريتيانا تعكس وجود الأساس العشري الأكثر انتشارًا في لغات العالم. فلنُلقِ نظرةً على أفضل ترجمةٍ ممكِنة للكلمة التي تُشير إلى العدد «أحد عشر»، وهي «نأخذ إصبَعًا واحدًا من أصابع القدم.» إنَّ هذه الكلمة تَستنِد ضِمنيًّا إلى العدد ١٠؛ إذ إنه لا يلزم سوى إصبع قدمٍ واحدة للإشارة إلى العدد ١١. وينطبق الأمر نفسُه على غير ذلك من الأعداد الأكبر في لغة الكاريتيانا، التي تستنِد هي أيضًا إلى الأساس العشري.

والواقع أنَّ الغالبية العُظمى من أنظمة الأعداد في العالم، وفي لغاته التي يقترِب عددها من ٧٠٠٠ لغة، تعكس وجود النظام العشري، بشكلٍ أو بآخَر؛ إذ إنَّ الأعداد الكبيرة عادةً ما تُبنى على العدد ١٠، أما الكميات الأقل، فغالبًا ما تستند إلى النظام الخماسي (مثلما هي الحال في أعداد الجاراوارا والكاريتيانا)، أو تكون أعدادًا لا يمكن تحليلُها (مثل أعداد الكاريتيانا الصغيرة). وقد أدركْنا لبعض الوقت هذا الدافعَ الذي ينبُع منه تركيزُ مخترِعي الأعداد من البشَر على الأساس الخماسي والعشري، هو أنَّ البشر في جميع أنحاء العالم، يَميلون إلى الاعتماد على أيديهم عند تشكيل كلماتٍ للأعداد؛ إذ إنَّ أصابِعَنا تسمح لنا بتمثيل المفاهيم العددية في العالم المادي بصورةٍ بسيطة. وهذا التجسيد الذي يتمُّ من خلال العدِّ على الأصابع والمُمارسات المرتبطة به، يتجسَّد مرةً أخرى في العالم اللفظي، من خلال استخدام كنايات المُصطلحات البيولوجية مثل «يد» «وإصبع» «وإصبع قدَم» في تسمية الكميات.

في العديد من اللغات تُمثَّل الأعدادُ الكبيرة بمصطلَحات أشبَهُ بعباراتٍ تتضمَّن أصولًا ماديةً واضحة، مثل العدد ١١ في لغة الكاريتيانا، «نأخُذ إصبعًا واحدًا من أصابع القدم.» وأحد المبادئ التي تقوم عليها نظرية اللغة الحديثة هو أنَّ المُصطلحات التي تُستخدَم كثيرًا، تُختزَل صوتيًّا، أي إنَّ الكلمات الشائعة تُصبِح أقصرَ بمرور الوقت؛ فالكلمات المُركَّبة والمصطلحات التي كانت تَطُول إلى عباراتٍ في بداية تشكيلها، تُصبح أقصر؛ ولهذا السبب، وغيره من الأسباب، فإنَّ الكلمات التي يَكثُر استخدامها، تكون مصادرُها التاريخية أقلَّ وضوحًا في أغلب الأحوال. ومعنى هذا أنَّ المصادر التاريخية الواضحة لبعض الأعداد في لُغات مثل الكاريتيانا والجاراوارا، تدلُّ على قلَّة استخدامها. وعلى العكس من ذلك ففي مُعظم اللغات التي تؤدي الأعدادُ فيها دورًا أكثرَ بروزًا، وتُستخدَم بدرجةٍ أكبر، حتى الأعداد الكبيرة فيها، لا تكون أصولها الاشتقاقية واضحةً بهذا القدْر. (لعلَّك تتذكَّر أنَّ أعداد الجاراوارا لا تُستخدَم إلا فيما ندُر، حتى إنَّ البعض قد افترَضوا أنها ليست موجودةً على الإطلاق.) في الإنجليزية على سبيل المثال، لا تدلُّ الأعداد الكبيرة على أي إشارةٍ واضحة للأصابع أو الأيدي أو أصابع القدَم أو الأقدام.4
إنها لا تتضمَّن أي إشارة «واضحة»، لكنَّنا قد نجِد بعض الإشارات الأقل وضوحًا. نظرًا إلى أنَّ كلمات الأعداد الإنجليزية، بصرْف النظر عن طريقة كتابتها، عشرية تمامًا، فلنتأمَّل كلمة thirteen وكلمة fourteen وغيرَهما من الكلمات التي تنتهي بالمقطع teen. إنَّ هذه الكلمات تُشير إلى أنَّ الكميات مُضافة إلى عشرة ten؛ فكلمة thir+teen هي ١٣، وكلمة four+teen هي ١٤، وهكذا. وحتى الأعداد الأكبر من العشرات هي أعداد عشرية أيضًا، لكنَّ مفهوم العدد ١٠ فيها قد اتَّخَذ الشكل ty في هذه الكلمات، بدلًا من الشكل teen. إضافةً إلى ذلك فإنَّ هذه الأعداد الكبيرة تقوم على أساس الضرب لا الجمع. ومع ذلك فإنَّ الأعداد التالية: twenty وthirty وforty وfifty وsixty وseventy وeighty وninety من الواضح أنها تعكس بعض المسائل الحسابية البسيطة التي تَرتكز على الكمية ١٠: ٢ × ١٠ و٣ × ١٠ و٤ × ١٠ وهكذا. وهذا التركيز على الأساس العشري ينبُع من الجذور البيولوجية نفسِها، التي نجدها في لغة الكاريتيانا. إنَّ البشر يَعُدُّون على أصابعهم، وعلى أصابع أقدامهم في بعض الأحيان، وحين يُسمُّون الكميات، فإنهم يَختارون أسماءها بِناءً على تمييز تلك الكميات من خلال الأصابع البشَرية.

ويَنتشِر هذا النمَطُ في لغات العالم. لنتناول مثالًا آخَر من لغةٍ أوروبية أخرى تَستخدِم الأساس العشري، وهي اللغة البرتغالية؛ فبالرغم من انتمائها إلى عائلة اللغات الهندية الأوروبية الكبيرة، فهي لغةٌ من أصلٍ لاتيني؛ ولهذا فهي ليست وثيقةَ الصِّلة بالإنجليزية، التي تنتمي إلى فرع اللغات الجرمانية في شجرة اللغات الهندية الأوروبية. في بعض الحالات نجد أنَّ كلمات الأعداد في اللغتَين تكون مُتشابهة، وفي حالات أخرى لا تكون كذلك. وبصرْف النظر عن التفاوت في المُصطلحات، نجد أنَّ طبيعة اللغة البرتغالية في توجُّهها العشري واضحةٌ للغاية:

المصطلح باللغة البرتغالية الكمية
Um 1
Dois 2
Tres 3
Quatro 4
Cinco 5
Seis 6
Sete 7
Oito 8
Nove 9
Dez 10
Onze 11
Doze 12
Treze 13
Quatroze 14
Quinze 15
Dezesseis 16
Dezessete 17
Dezoito 18
Dezenove 19
Vinte, vinte um, vinte dois, … 20, 21, 22, …
مرةً أخرى نرى أنَّ صِيغ كلمات الأعداد من ١ إلى ١٠ تبدو اعتباطية، لكن بدايةً من العدد ١١، نبدأ في رؤية درجةٍ من الانتظام؛ فعند العدد «أحد عشر» يبدأ العدُّ من جديد؛ لذا فإنَّ العدد السابقَ يكون هو الأساس. في الأعداد من ١١ إلى ١٥، يُمكننا أن نلاحظ وجود تَشابُه خفي بينها وبين الأعداد من ١ إلى ٥، إضافةً إلى المقطع ze الذي يبدو بمُفرده بلا معنًى، لكن من الواضح أنه يعكس التقليد القديم المُتمثِّلَ في إضافة العدد ١٠ إلى الأعداد من ١ إلى ٥. وينطبق الأمر نفسُه على الأعداد من ١٦ إلى ١٩؛ إذ نرى مرةً أخرى أنها تُشبِه الأعداد من ٦ إلى ٩، مع دمجها مع العدد ١٠. وفي هذه الحالة نجد أنَّ الدمج أكثرُ وضوحًا؛ إذ إنَّ e هي أداة العطف «و» في اللغة البرتغالية الحديثة؛ ومن ثمَّ فإنَّ ١٦ هي حرفيًّا «عشرة وستة». وفي الأعداد الأكبر من ذلك، فإنَّ النظام يُولَّد مرةً أخرى من مضاعفات العدد عشرة، وبهذا يُصبح العدد ٢١ مثلًا vinte um أو «واحد وعشرون». وينطبق الأمر نفسه على ٣١ و٤١ وما إلى ذلك. وباختصار فإنَّ الأعداد البرتغالية عشريةٌ بالطبع.5
يَجدُر بنا أن نؤكد على أنَّ السبب في الطبيعة العشرية التي تتَّسِم بها هذه الأنظمةُ العددية لا يعود إلى الملاءمة الرياضية فحَسْب، كما يُفترَض في بعض الأحيان؛ فالأساسات العشرية تَظهر في العديد من المجتمعات التي لم تتطوَّر فيها الرياضيات، مثل الكاريتيانا، وأما في اللغات الأوروبية، فإنَّ ظهورها يَسبق ظهورَ الأعداد المكتوبة والممارسات الرياضية الحديثة بألف عام. ويتَّضِح هذا النظامُ العددي الذي أُعيدَ بناؤه من اللغة الهندية الأوروبية الأولية، وهي اللغة التي تُمثِّل سلفًا للإنجليزية والبرتغالية و٤٠٠ لغة أخرى ذات صِلة.6 كانت اللغة الهندية الأوروبية الأولية مُستخدَمة قبل ما يقرُب من ٦٠٠٠ عام في محيط البحر الأسود. (وما زال المُختصُّون يخوضون نقاشاتٍ حاميةً بشأن المكان الذي كانت تُستخدَم فيه تحديدًا، إما في سهول ما يُعرَف اليوم بأوكرانيا أو في الأناضول.) ومن خلال مجموعة من الأحداث، تمكَّن متحدِّثو اللغة الهندية الأوروبية الأولية واللغات المُشتقَّة منها من التأثير في العالَم بشكلٍ منقطع النظير، وقد أصبح نصفُ عدد السكان في العالم اليوم يتحدَّثون شكلًا من أشكال اللغة الهندية الأوروبية. وسنوضِّح فيما يلي بعضَ الأعداد المُعاد بناؤها من هذه اللغة الأصلية المؤثِّرة. ولتتذكَّر أنَّ علامة النجمة تُشير إلى الأعداد المُعاد بناؤها. ومعنى هذا أننا لا نملك أيَّ نصوصٍ مكتوبة أو تأكيدات تاريخية لهذه الكلمات، لكن بِناءً على التشابُهات بين اللغات الحديثة التي تنحدِر من اللغة الهندية الأوروبية، يُمكننا أن نثِق بدرجةٍ كبيرة في أنَّ مصطلحات الأعداد المُستخدَمة في تلك اللغة قد كانت على هذا الشكل الذي نُقدِّمه.7
المصطلح بالهندية الأوروبية الأولية الكمية
Hoi(H)nos 1
duoh 2
treies 3
kwetuor 4
penkwe 5
(s)uéks 6
séptm 7
hekteh 8
(h)néun 9
dékmt 10
duidkmti 20
trihdkomth 30
kweturdkomth 40
penkwedkomth 50
ueksdkomth 60
septmdkomth 70
hekthdkomth 80
hneundkomth 90
dkmtom 100
وتتجلَّى الطبيعة العشرية للأعداد الهندية الأوروبية الأولية، بصرْف النظر عن التفاوتات الطفيفة، في الأعداد البديلة التي أُعيدَ بناؤها؛ فالأعداد من ١١ إلى ١٩، التي لا تَظهر في القائمة الموجودة بالأعلى، تتَّخِذ الصيغة «عشرة» و«س» حيث «س» هو أي عدد من ١ إلى ٩. أما الأعداد بدايةً من ٢٠ وما فوقها، فهي أيضًا تعكس نمَط الأساس العشري بوضوح؛ إذ تتضمَّن هذه الأعدادُ شكلًا من أشكال المقطع الصوتي dkmt ويُعزَى ذلك إلى الكلمة القديمة التي تُعبِّر عن العدد ١٠، وهي dékmt. بالرغم من ذلك فهي تقوم على أساس الضرب لا الجمع، مثلما رأيْنا في اللغة الإنجليزية والبرتغالية؛ فالعدد ٢٠ على سبيل المثال هو duidkmti، أو «عشرتان» (تقريبًا)، والعدد ٣٠ هو trihdkomth أو «ثلاث عشرات» … وهكذا.
تتَّضِح المكانةُ القديمة للأساسات العشرية في الأعداد المنطوقة في بعض عائلات اللغات الأساسية الأخرى في العالم. وسوف نتناول ثلاثًا من هذه اللغات، وهي: اللغات الصينية التِّبتية واللغات النيجيرية الكونغولية واللغات الأسترونيزية. مثلما هي الحال في اللغات الهندية الأوروبية، يوجَد ما يَزيد على ٤٠٠ لغة من اللغات الصينية التبتية التي تُستخدَم اليوم، ويَزيد عدد المُتحدِّثين بها على مليار نسَمة؛ إذ إنَّ هذه اللغاتِ تتضمَّن لغة الماندرين واللغة الكَنتونية. ونظرًا إلى أنَّ الحديث عن الأعداد في اللغات الصينية التبتية البدائية سيستلزم توضيحًا مُتخصصًا للخصائص الصوتية لتلك اللغة، فإننا سنتحدَّث عن الأعداد في اللغة الأكثرِ استخدامًا من عائلة هذه اللغات في العصر الحالي، وهي لغة الماندرين. وكالأعداد في اللغات الهندية الأوروبية، فإنَّ الأعداد من ١ إلى ١٠ في لغة الماندرين، لا يمكن فكُّ رموزها؛ فما من وحداتٍ مُتكرِّرة تُستخدَم في بناء الأعداد الصغيرة. إنَّ الكلمة التي تُعبِّر عن العدد ١٠ في لغة الماندرين هي shí وجميع الكلمات التي تُعبِّر عن الأعداد من ١١ إلى ١٩، تتضمَّن هذه الكلمة، إضافةً إلى عدد آخر يُستخدَم لتمثيل العدد الأصغر من العشرة؛ فالكلمة التي تُعبِّر عن العدد ١١ على سبيل المثال هي shíyī أو «عشرة واحد» والكلمة التي تعبر عن العدد ١٧ هي shíqī أو «عشرة سبعة». وحتى الأعداد الأكبر تُبنى أيضًا على الأساس العشري، وتَعكس تجميعَ الكميات وَفقًا لعشرة عناصر، غير أنه في الأعداد من ٢٠ إلى ٩٩، يأتي الرقمُ الأصغر قبل الأساس العشري؛ فالعدد ٧٠ على سبيل المثال هو، qīshí أي «عشر سبعات»، وذلك على العكس من طريقة الترتيب في العدد ١٧. وينطبق الأمر نفسُه على غير ذلك من مُضاعَفات العشرة. وباختصار فإنَّ أعداد الماندرين تُبنى على الأساس العشري، وهو أكثرُ وضوحًا فيها من الأعداد الإنجليزية.
اللغات النيجيرية الكونغولية، هي أيضًا من عائلات اللغات الأساسية في العالم. وفيما يتعلَّق بعدد اللغات فهي عائلة اللغات الأكبر على مستوى العالم؛ إذ تتضمن ١٥٠٠ لغة، وَفْقًا لدراسةٍ حديثة. ومن أكثر اللغات استخدامًا في هذه العائلة اللغةُ السواحلية، وهي تنتمي إلى فرع البانتو الذي يُستخدَم على نطاقٍ واسع في شرق أفريقيا. في الأمثلة التالية يَتَّضح الأساس العشريُّ في الأعداد السواحلية، الذي يدلُّ على الاستراتيجيات العشرية التي تنتشِر في جميع لغات العائلة النيجيرية الكونغولية. وتُوضِّح الأمثلةُ أنَّ الكميات من ١١ إلى ١٣ على سبيل المثال، تُمثَّل بإضافة المصطلحات التي تُعبِّر عن الأعداد الأصغر، مثل tatu أي «ثلاثة» إلى الكلمة التي تُعبر عن العدد «عشرة» وهي kumi.
المصطلح باللغة السواحيلية الكمية
moja 1
mbili 2
tatu 3
kumi na moja 11
kumi na mbili 12
kumi na tatu 13
أما عائلة اللغات الأسترونيزية، فهي تتوزَّع على نطاقٍ جغرافي مُتسِع للغاية؛ فهي تتضمن ١٢٠٠ لغة تتوزع في أماكنَ يبتعد أحدُها عن الآخر، مثل مدغشقر وجنوب شرق آسيا وهاواي. وهي تنتشر أيضًا في بعض جزر المُحيط الهادي؛ بسبب التوسُّع البحري لمُتحدِّثي اللغات الأسترونيزية البدائية، على مدار ما يقرُب من ٢٠٠٠ عام. ويبدو أنَّ اللغات الأسترونيزية الأولية كانت تَستخدِم النظام العشري، الذي تتَّسِم باستخدامه معظمُ اللغات الأسترونيزية. وينطبق ذلك على سبيل المثال في الفرع البولينزي من هذه العائلة، الذي اتَّضح أنه يستخدِم نظامًا عشريًّا منذ فترة طويلة.8 ومما يُثير الاهتمامَ أيضًا أنَّ بعض اللغات الأسترونيزية تُبدي بعض الدلائل على استخدامها للنظام الخماسي أيضًا. وكالأساس العشري، فإنَّ هذا النمَط الخماسي يرتبط بدوافع تشريحية لا يمكن إنكارُها، ولا سيما أنَّ الكلمة التي تُعبر عن العدد ٥ في اللغات الأسترونيزية الأولية، هي الكلمة نفسُها التي تُستخدَم للتعبير عن «اليد» وهي: lima.9
لقد وضَّحَتْ لنا رحلتُنا العددية حتى الآن، أنَّ كُبرى عائلات اللغات في العالم، ومنها عائلة اللغات الهندية الأوروبية والصينية التبتية والنيجيرية الكونغولية والأسترونيزية، هي كعائلات اللغات الصغيرة في إقليم الأمازون وغيرها من الأماكن، تعكس التأثير المُتغلغِل للنظام العشري. ومن الجَليِّ أنَّ هذا التأثير يعود إلى آلاف الأعوام في الماضي؛ فمنذ فترةٍ طويلة توصَّلَت الثقافات البشرية، كلٌّ على حِدة، إلى أنَّ الأعداد تُقسَّم تلقائيًّا إلى مجموعات تتكوَّن الواحدة منها من عشرة عناصر أو خمسة. ومثلما رأيْنا في مُناقشتنا بشأن الأرقام المكتوبة، فإنَّ هذه العادة الإدراكية تُعْزَى إلى طبيعتنا البيولوجية. غالبًا ما تُشتَقُّ الكلمات التي تعبر عن الأعداد من الكلمات التي تُعبر عن الأيدي. وحتى حين لا يكون ذلك صحيحًا، فإنَّ الأساساتِ العشريةَ في مُعظم الأنظمة العددية (وكذلك العشرينية والخماسية بدرجة أقل) تَعكس الأساس التشريحي لمفردات الأعداد. وفي دراسةٍ حديثة قد أُجرِيَت على ١٩٦ لغة تنتمي إلى مختلِف العائلات اللغوية والمناطق الجغرافية، اكتشف عالمُ اللغويات المرموق برنارد كومري أنَّ ١٢٥ من هذه اللغات تَستخدِم أساسًا عشريًّا خالصًا للكميات التي تَزيد عن العشرة. وقد اكتشَف أيضًا أنَّ الأنظمة العشرية/العشرينية الهجينة، والأنظمة العشرينية الخالصة، تَنتشر بدرجةٍ كبيرة؛ فقد وجد ٢٢ لغة تُمثل الحالة الأولى، و٢٠ لغة تمثل الحالة الثانية.10
ينتشر الأساسُ العشريني على نطاقٍ كبير إلى حدٍّ ما في بعض المناطق مثل أمريكا الوسطى والقوقاز وغرب وسط أفريقيا، لكنَّ هذه الأنماط العشرينية تَظهر بدرجةٍ أقلَّ في بعض اللغات الأوروبية. فهي تَظهر على وجه التحديد في اللغة الفرنسية، ونجد أنَّ تركيب بعض الأعداد الكبيرة يعكس نمَط الأساس ٢٠؛ فالكلمة التي تُعبر عن العدد ٩٩ على سبيل المثال هي «أربع عشرينات وتسعة وعشرة» (٤ × ٢٠ + ١٠ + ٩)، وقد بُنِيَت باستخدام الأساسَين: العشري والعشريني. وحتى اللغة الإنجليزية تحمِل في القليل من الأحيان بعضَ آثار النظام العشريني. لنُلقِ نظرةً على مُقدِّمة الخطاب الشهير الذي ألقاه أبراهام لينكولن في جيتيسبيرج (قبل أربعة عشرينات وسبعة من الأعوام) التي يُشير فيها إلى استقلال الولايات المتحدة قبل خطابه بسبعةٍ وثمانين عامًا. إنَّ وجود كلمة في اللغة الإنجليزية تَعني «مجموعة مكوَّنة من عشرين عنصرًا» وهي كلمة score، بالرغم من نُدرة استخدامها، يعكس التصنيف اللغوي للكميات باستخدام الأساس العشريني.
في بعض الحالات، قد يَظهر في اللغة الواحدة الأساسُ الخماسي وكذلك العشري والعشريني أيضًا؛ ففي لغة المامفو، وهي لغة تتبع عائلةَ لغات وسط السودان المُستخدمة في أفريقيا، نجد أنَّ الأصول الاشتقاقية لمفردات الأعداد من ١ إلى ٥ مُبهمة، أي إنَّ مصادر مفردات الأعداد الصغيرة غامضة كما هي الحال في معظم الأحوال. وعلى العكس من ذلك، فمفرَدات الأعداد من ٦ إلى ٩، تَستند إلى الأساس الخماسي. فأفضل ترجمة ممكنة للكلمة التي تعبر عن العدد ٦ elí qodè relí هي «اليد تأخذ واحدًا.» أما عبارة qarú qodè relí التي ترمز إلى العدد ١١، فأفضل ترجمة لها هي «القدم تستحوذ على واحد.» وعلى العكس من ذلك، فالمُفردات التي تُعبِّر عن الكميات التي تَزيد عن ٢٠، فهي تتشكل بِناءً على العبارة العددية múdo ng-burú relí ومعناها «شخص كامل». إنَّ لُغاتٍ كلغة المامفو تُقدِّم أدلةً في غاية الوضوح على أنَّ الأنظمة العددية تُؤسَّس في العادة بِناءً على وحداتٍ ترمُز إلى أصابع اليد الواحدة واليدَين والشخص بأكمله، والتي يُفهَم منها أنَّ الشخص بأكمله يُشير إلى جميع أصابع يدَيه وقدمَيه.11
بالرغم من شيوع هذه الأساسات في لغات العالم، فيجب التأكيد على حقيقة أنَّ الأساس العشري على وجه التحديد يؤدي دورًا بارزًا في الأعداد. ومن الواضح أنَّ السبب في هذا الدور البارز الذي يُؤدِّيه النظام العشري، يعود إلى الطبيعة البيولوجية لجسم الإنسان، وليس إلى مَيلٍ فطري لتصنيف الأغراض إلى مجموعاتٍ من ١٠، أو إلى فاعلية ذلك كما يُفترَض في بعض الأحيان. ومن الواضح أيضًا أنَّ السبب في غلَبة الأساس العشري مقارنةً بالأساس العشريني، يعود إلى طبيعتنا البيولوجية؛ فأصابعُ يدَينا أكثرُ وضوحًا وأسهل في الوصول إليها من أصابع قدَمَينا. إنها تقع في مجال بصَرِنا، وهي أسهلُ في استخدامها والتعامل معها؛ فهي وسيلةٌ أكثر تلقائيةً لعدِّ الأشياء. واستخدامها في أنماط العدِّ يُسهم في التشجيع على تسمية مصطلحات الأعداد. وربما يكون السبَب في اعتماد البشر بصورة أكبر على أنظمة الأساس العشري لا أنظمة الأساس الخماسي؛ أقل وضوحًا، غير أنه يمكن تفسيرها هي أيضًا من خلال بعض الحقائق التشريحية البسيطة، ومنها أنَّ الأصابع مُتماثلة في اليدَين تقريبًا، لكنَّ ثَمة فرقًا واضحًا بين أصابع اليدَين وأصابع القدمَين. وينطبق ذلك على موقعها من الجسم، وكذلك مظهرها المادي. ومثلما يقول عالِم اللغويات بِرند هين: «نظرًا لأنَّ الاختلاف الإدراكي الحسِّي بين اليدَين والقدمَين أكبرُ مما هو عليه بين اليد واليد الأخرى، فإنَّ العدد «١٠» يُشكِّل أساسًا أكثر بروزًا من العدد «٥».»12
مثلما يتَّضح في بعض الأمثلة التي تناولناها، نجد أنَّ المصطلحات التي تُعبِّر عن كمياتٍ تَزيد عن الخمسة، غالبًا ما تتمثَّل في عبارات؛ ففي لغة الكاريتيانا على سبيل المثال، نجد أنَّ الكمية ٦ تُمثَّل بالعبارة العددية «نأخذ واحدًا ويدَنا الأخرى.» وغالبًا ما تتحوَّل هذه العبارات إلى تعبيراتٍ مفرداتية مع الوقت (أي إنها تصبح كلماتٍ أقصرَ وتُصبح معانيها أقلَّ وضوحًا)، وهذا هو ما حدَث مع الأعداد الإنجليزية، غير أنه في بعض اللغات تظلُّ هذه العبارات العددية واضحة، وتتكوَّن من تعبيرات الضرب أو الجمع؛ فمثلما رأينا في حالة لغة الماندرين، فإنَّ الكلمات التي ترمُز إلى الأعداد من ١١ إلى ١٩ تعبيراتٌ تَستخدِم الجمع، أي إنها تتكوَّن من العدد ١٠ زائد «س»، أما الكلمات التي ترمُز إلى الأعداد ٢٠ و٣٠ و٤٠ وما إلى ذلك، فهي تعبيرات تَستخدِم الضرب؛ إذ تتَّخذ الصيغة «س» مضروبة في ١٠. ومعظم الأنظمة العددية تستنِد ضمنيًّا إلى الجمع والضرب لبناء أعداد كبيرة من الأعداد الصغيرة، مثلما هي الحال في لغة الماندرين. وفي أحيانٍ أقلَّ كثيرًا، يُستخدَم الطرح حتى في الأنظمة التي تَستند إلى المجموعات العشرية. ففي حالة لغة الأينو الأصلية في اليابان، نجد أنَّ الكلمة التي تُعبر عن العدد ٩ هي shine-pesan ومعناها «ناقص واحد» ونجد أنَّ الأعداد من ٦ إلى ٨، تَستند إلى الطرح أيضًا. بالرغم من ذلك، فلم يكن الطرحُ أبدًا هو القاعدةَ الأساسية المُستخدَمة في تكوين الأعداد في لغةٍ ما. وفي التسلسل الهرمي الذي يتضح في الأنظمة العددية في العالم، نجِد أنَّ الجمع يؤدي دورًا أبرز من الضرب الذي يؤدي دورًا أبرز من الطرح. وتُستخدَم القسمة أيضًا، غير أنَّ ذلك في حالات نادرة للغاية.13
ومع دور الصدارة الذي يَحتله الجمع في تكوين مفردات الأعداد، يتَّضح لنا أمر آخر مُرتبِط به في العديد من الأعداد التي نُعبر عنها بعبارات في لغات العالم، وهو أنَّ مفهوم الجمع يُشار إليه من خلال الاستخدام الشائع لكلماتٍ مثل «يأخذ» أو «يستحوذ»؛ فمثلما رأينا في لغة الكاريتيانا، تُترجَم الكلمة التي تُعبر عن العدد ١١ إلى «نأخذ إصبعًا واحدًا من أصابع القدَم.» وفي لغة المامفو تُترجَم الكلمة نفسُها إلى «تستحوذ القدم على واحد.» وإضافةً إلى الكلمات على غِرار «يأخذ» «ويستحوذ»، فمن الطرُق الأخرى المنتشِرة لإضافة الأعداد الصغيرة من أجل تشكيل مفردات الأعداد الأكبر منها، استخدام كلماتٍ أو مقاطع تعني «مع»، وهو ما ينطبق على لغة الجاراوارا، التي نجد فيها أنَّ البادئة ka تُستخدَم في تعبير yehe kafama الذي يُترجَم حرفيًّا إلى «مع يدَين» أو «عشرة».

ويتَّضح تكوين مفردات الأعداد بالاعتماد على أعضاء الجسم، في بعض التوجُّهات الأضعف في لغات العالم؛ فعلى سبيل المثال، نجد أنَّ الكلمات التي تُعبِّر عن فعل العدِّ غالبًا ما تُشتَقُّ تاريخيًّا من الكلمات التي تُعبر عن الأصابع أو عن ثَنيِها. (تتَّضِح العلاقة الأخيرة بين الكلمات التي تُعبر عن العد والكلمات التي تُعبر عن ثَنْي الأصابع، في لغات الفرع الشمالي من عائلة اللغات الأثاباسكانية الأمريكية على سبيل المثال، وفي لغة الزولو.)

يُمكننا أيضًا أن نُورِد بعض التعميمات الأخرى عن الأشكال المُعتادة التي ترِد فيها الأعداد، بعيدًا عن ارتباطها بأعضاء الجسم. فنحن لم نُناقِش مثلًا الأعدادَ الكبيرة للغاية مثل «الآلاف» «والملايين» التي تَعكس هي أيضًا في نهاية المطاف أساسًا عشريًّا؛ إذ إنها تتكوَّن من العدد ١٠ مرفوعًا إلى قيمةٍ أُسِّية مُعيَّنة، حتى وإن كانت مصادرها الاشتقاقية مُختلِفة، مقارنةً بالأعداد الأصغر منها. وتختلف هذه الأعدادُ الكبيرة عن الأعداد الصغيرة أيضًا في أنها تُعامَل عادةً على أنها أسماءٌ بخلاف الأعداد الصغيرة التي تُعامَل عادةً على أنها صفات. فعلى سبيل المثال يُمكنني أن أقول بالعربية (والإنجليزية أيضًا): «مئات» من الناس، أو «آلاف» من الناس، ولا يُمكنني أن أقول إنه كان ثَمَّة «سبعات» من الناس أو «ثمانيات» من الناس. إضافةً إلى ذلك، فإنَّ هذه الأعدادَ الكبيرة نادرةٌ نِسبيًّا في الحديث الفعلي، وهي أقل انتشارًا في لغات العالم كذلك. فبينما تتضمَّن معظمُ لغات العالم تقريبًا نظامًا من الأعداد الأساسية،14 فإنها لا تتضمَّن عادةً كلماتٍ تُعبِّر عن الكميات التي تَزيد عن ١٠٠ أو ٢٠٠، أو غير ذلك من مضاعفات ١٠ و٢٠. والواقع كما سنرى في القسم التالي، أنَّ سقف المُصطلحات الدقيقة الأصلية التي تُعبر عن الأعداد في العديد من اللغات في أستراليا والأمازون وغيرها من الأماكن أقلُّ من عشرة.

من هذا الاستعراض المُختصَر يُمكننا أن نتوصَّل إلى بعض الاستنتاجات العامة عن الأعداد في الحديث؛ أولًا: أنها تنتشِر في جميع لغات العالم تقريبًا؛ فبالرغم من أنَّنا لم نستكشِف سوى جزءٍ صغير من الأمثلة المُمكِنة من تلك اللغات، فإن هذه الأمثلة تُوضِّح أنَّ مفردات الأعداد الأساسية هي عامل مُشترك بين العديد من اللغات غيرِ المُترابطة التي تتوزَّع على مناطقَ جغرافية بعيدة عن بعضها البعض. وثانيًا: أنَّ هذه المناقشة قد وضحَت أنَّ مفردات الأعداد في اللغات غير المُترابطة غالبًا ما تَعكس تَشابُهاتٍ صارخة؛ إذ إنَّ معظم اللغات تُوظِّف نموذجًا بيولوجيًّا يَستند إلى أعضاء الجسد، يتَّضِح في أساسات أعدادها. ثالثًا: أنَّ الأدلة اللغوية تُوضِّح أنَّ النموذج القائم على أعضاء الجسد لم يُشجِّع على ابتكار الأعداد على مستوى العالَم فحسْب، بل هو يَمتدُّ أيضًا إلى أبعدَ ما تأخُذنا إليه البيانات اللغوية في التاريخ؛ إنه يتَّضِح في إعادة بناء اللغات السالفة مثل اللغة الصينية التبتية الأولية، واللغة النيجيرية الكونغولية الأولية، واللغة الأسترونوزية الأولية، واللغة الهندية الأوروبية الأولية، وهي اللغات التي أصبحَت اللغات المُشتقَّة منها هي الأفضلَ تمثيلًا في العالم اليوم.

إنَّ أجسامنا تؤدي دورًا بارزًا في أنماط تفكيرنا، وفي كيفية فَهْمنا للعالم حولَنا. ويتَّضِح هذا التأثيرُ الجسدي على التفكير في الكثير من الأبحاث الحاليَّة في عِلم الإدراك، بشأن كيفية تشكيل جسدِنا لعملياتنا الإدراكية، وهو ما يُعرَف باسم الإدراك التجسيدي. والتفكير الكمِّي الأساسي مثال مُمتاز على الإدراك التجسيدي؛ إذ إنَّنا نفهم الكميات من خلال أجسادنا. (وسوف نشرَح هذه النقطة بقدرٍ أكبر من التفصيل في الفصل الثامن.) ومثلما رأيْنا في الفصل الأول، يبدو أنَّ البشر قد واجَهوا صعوبة في فَهْم مرور الوقت بدون استخدام أجسادهم وكذلك الحيِّز المحيط بها، بصِفتها أساسًا مَجازيًّا راسخًا للتفكير بشأن الوقت. وبطريقةٍ مُشابهة، فإنَّ استعراضَنا لمفردات الأعداد الأساسية في العالم، يدلُّ على أنَّ الطريقة الأولية التي نَستخدمها في فَهم الكميات المُجرَّدة، هي من خلال أصابع يدَينا وقدمَينا، لكنَّها أصابعُ يدَينا هي التي نستخدِمها بصفةٍ أساسية.

قد يبدو كلُّ ذلك واضحًا للغاية من بعض الجوانب؛ فبالرغم من كل شيءٍ قد استخدَمْنا جميعًا أصابعنا في العدِّ في صِغَرنا، ولا نزال نفعل ذلك في بعض الأحيان. غير أنَّنا كثيرًا ما نُقلِّل من أهمية الأساس المادي للأعداد، لا سيما على ما أعتقد في ضوء وجود نموذج أجزاء الجسم في جميع الأعداد المنطوقة بالعالم. إنَّ هذا الانتشار في كل مكان يدلُّ على أنَّ مفردات الأعداد هي ابتكارٌ قد انبثَق نتيجةَ الارتباط بين أصابعنا وبين الكميات التي يمكن أن تُستخدَم في تمثيلها (وسوف نناقِش هذه النقطةَ بالمزيد من التفصيل في الفصل الثامن). وبدلًا من ذلك يُمكننا أن نرى أنَّ الأعداد مفاهيمُ مُستقلة، ربما تكون مُتأصِّلة في العقل البشري، وما نستخدِم أصابعنا إلَّا لتسمية هذه المفاهيم. ومثلما سنرى في الفصل الخامس، فإنه مِن الصعب لهذا الرأي أن يَصمُد في وجه الأدلة التجريبية بشأن وجود شعوبٍ لا تَعرف الأعداد. غير أنه يَجدُر بنا أن نُشير هنا إلى أنَّ طبيعة مفردات الأعداد، التي نجد أنها تستنِد إلى الأصابع في لغات العالم، يجِب أن تَستوقِف هؤلاء الذين يعتقدون أنَّ الأعداد مفاهيمُ مُتأصِّلة تنتظِر التسميةَ فحسب. فمن المؤكد أنه إن كانت الحال كذلك لمَا اعتمدْنا في معظم الأحيان على أصابعنا لتسميتها، ولوَجَدنا في لغات العالم جميع أنواع الأساسات المختلفة التي ما كانت لِتدلَّ على الاستخدام التاريخي للأصابع. إنَّ الأدلة المُتعلقة بمختلِف اللغات وحدَها تؤيد الرؤية القائلة بأنَّ الأعداد أدوات مفاهيمية، لا مجرَّد أسماء اخترعناها بعد أن فَهِمنا الكميات من خلال أصابعنا.15

إنَّ اختراع الأعداد ممكن للعقل البشري، لكنه قد أصبح ممكنًا من خلال الأصابع؛ إذ تقترِح البياناتُ اللغوية، القديمة منها والحاليَّة، أنَّ الأعداد قد ظهرَت في الثقافات المختلِفة بصورة مستقلة، وفي مناسبات غير محدَّدة، عن طريق إدراك البشر أنَّ بإمكانهم استخدامَ الأيدي لتسميةِ الكميات مثل ٥ و١٠. يمكن استخدام الأصابع للإشارة إلى الكميات، وقد اكتَشف العديد من الأشخاص فائدة ذلك، غير أنَّ الأصابع محدودةٌ من الناحية الرمزية، ولا تُمثِّل وسيلةً مجردة تمامًا للتعبير عن الكميات. أما الكلمات فهي أدواتنا الملائمة للترميز المجرد، ولحُسن الحظ أنه يمكن استخدامها للإشارة إلى الكميات، غيرَ أنها لا تُستخدَم عادةً إلا بعد أن يؤسِّس الأفرادُ بين أصابعهم والكميَّات تطابُقًا متجسِّدًا ملموسًا بدرجةٍ أكبر. إنَّ اختراعنا للأعداد مُتأصِّل في أجسادنا، ثم في أصابعنا التي مكَّنَتنا من اشتقاق رموزٍ مجردة تمامًا للتعبير عن الكميات، وهي مفرَدات الأعداد. وهذه الرموز المجرَّدة يمكن أن تنتقل إلى الجماعات البشرية وفيما بينها ويتعلَّمونها بسهولة، وقد أصبحَت تُلبي مجموعة كبيرة من الاحتياجات؛ فهي أدواتٌ لفظية ومفاهيمية حقَّة.

دوافعُ أخرى لتصنيف الكميات في مجموعات

بالرغم من الانتشار الواسع على مستوى العالم للأنظمة العددية التي تَعتمد ضمنيًّا أو صراحةً على الأصابع البشرية، يمكن أن تتأسَّس الأعدادُ أيضًا على عواملَ أخرى. علاوةً على الأنظمة الخماسية والعشرية، توجَد الأنظمة الثنائية أيضًا؛ ففي حالة الجاراوارا على سبيل المثال، رأيْنا قدْرًا من تأثير النظام الثنائي في الأعداد الصغيرة، وفي نظام الأعداد التقليدي الذي كان يُستخدَم ذات يومٍ في جزيرة مانجريفا، نجد أنه كان يُستخدَم نظامٌ ثنائيٌّ أكثرَ تعقيدًا، كما سنرى في الفصل التاسع. وإضافةً إلى النظام الثنائي أو الأعداد التي تستنِد إلى الأساس ٢ والتي توجَد في بعض الثقافات، نجد أنَّ أساساتٍ أخرى تتَّضِح في بعض الثقافات، ومنها الأساس الثلاثي (الأساس ٣) والرباعي (الأساس ٤) والسداسي (الأساس ٦) والثماني (الأساس ٨) والتساعي (الأساس ٩). وعِلاوةً على ذلك، فإنَّ بعض الثقافات تَستخدِم الأساس الاثنَيْ عشري (الأساس ١٢)، أو كانت تستخدِمه، وكان غيرُها يستخدِم الأساس الستِّيني (الأساس ٦٠). وكما أشرْنا في الفصل الأول، فإنَّ استخدام النظام الستِّيني على يد السومريين أولًا، ثم البابليين من بعدهم، هو السببُ في أننا لا نزال نُقسِّم الساعاتِ إلى دقائق، والدقائقَ إلى ثوانٍ.

ومن المُثير للاهتمام أنَّ الأساس الثمانيَّ والاثنَي عشري والستِّيني، قد يكون مُنبثقًا من الأيدي البشرية كذلك، وإن كان ذلك بطرُقٍ أقلَّ وضوحًا مما هي عليه في المجموعات الخماسية والعشرية. فبالرغم من أنَّ البشر يمتلكون عشرة أصابع في اليدَين، فليستْ كل الطرُق المعروفة للعدِّ على الأصابع تستند إلى المطابقة بين الأصابع والكميات؛ فثَمَّة طرقٌ أخرى لتمثيل الكميات من خلال ترتيباتٍ مختلفة لليدَين. وهذه الترتيبات البديلة، وإن كانت أقلَّ وضوحًا، هي السبب بصورةٍ جزئية في وجود اختلافٍ فيما بين الثقافات بشأن الكيفية التي يَعُدُّ بها الناس على أصابعهم. ومن الأمثلة الغريبة على ذلك أحدُ الأنظمة الهندية التي يَستخدمها التجار في العدِّ على أصابعهم. وفي هذا النظام تُمثِّل أصابعُ إحدى اليدَين الوحداتِ المفرَدة، أما أصابعُ اليد الأخرى فتُمثِّل مضاعفاتِ الخمسة؛ ومن ثَمَّ فإنَّ إصبعَين على يدٍ زائد ثلاثة أصابع على اليد الأخرى تُمثل الكمية ١٧ (٢ × ١ + ٣ × ٥) وليس ٥.

الفراغات الموجودة بين الأصابع يَسهُل عدُّها أيضًا، والواقع أنَّ عدد الفراغات في اليدَين قد يكون هو السببَ في ظهور الأساس الثماني (العدد ٨) النادر. أو فلنتأمَّل الأساس ١٢، أو النمَط الاثنَي عشري؛ حيث يُوجَد اثنا عشَر خطًّا متجاورًا على أصابع اليد الواحدة فيما عدا الإبهام (خط في كل عُقْلة)، ويمكن استخدام هذه الخطوط بمثابة علاماتٍ بارزة للإشارة إلى الكميات، من خلال عَدِّها بإصبعٍ من اليد الأخرى. (انظر الشكل ٣-١) إضافةً إلى ذلك، بخلاف هذا الأساس الحيوي الذي قد يكون هو السببَ في ظهور استراتيجية العدِّ بالأساس ١٢، يجدُر بنا الإشارة إلى أنَّ ١٢ × ٥ = ٦٠. وإذا أخذْنا في الاعتبار أنَّ الأيديَ البشرية تُمثل دافعًا واضحًا مُحتملًا لظهور استراتيجية الأساس ١٢، واستراتيجية الأساس ٥ كِلَيهما، فإنَّ ظهور نظام الأساس الستيني في بلاد الرافدَين قديمًا، يَغْدو أقلَّ غرابةً. وليس ذلك لكي نَزعُم بشكلٍ مؤكَّد أنَّ استراتيجية الأساس ٦٠ قائمة على الأيدي، غير أنَّ ذلك أمر مُحتمَل بالتأكيد، ومن غير المرجَّح أن يكون استخدامُ أساس يَقبل القسمة على ٥ و١٠ و١٢ مجردَ مصادفة.16
إنني لا أرغب في الاستفاضة في تفاصيل جميع هذه الأساسات العددية الأقل انتشارًا، غير أنه من الضروري أن أُشير إلى وجودها كيلا أُقدِّم انطباعًا بأنَّه ثَمة آليةٌ جوهرية أو غيرها من العوامل، تُلزِم البشَر بفَهْم الكميات عن طريق أصابعهم بالطريقة نفسِها. إضافةً إلى ذلك يُمكننا أن نستخدم عناصرَ مختلفة من بيئاتنا لِفَهم الكميات، وهو ما يحدُث بالفعل، وغالبًا ما تكون هذه العناصرُ سِماتٍ أخرى من طبيعتِنا البيولوجية؛ فربما يعود السبب في نشأة الأنظمة الثنائية بصفةٍ جزئية، إلى حقيقة أنَّ السِّمات البيولوجية للبشر في مُعظَم الحالات، تتمثَّل في أزواج. ومن الأمثلة المُحدَّدة على ذلك رأسُنا الذي يحتوي على عينَين وأُذنَين وفتحتَي أنفٍ وخدَّين. وثمة أدلةٌ ضعيفة من بعض اللغات على أنَّ الكلمة التي تُعبِّر عن العدد «اثنَين» تُشتَق من إحدى هذه الكلمات؛ ففي لغة الكاريتيانا على سبيل المثال، نجد أنَّ الكلمة التي تُعبِّر عن «اثنَين» هي sypo والكلمة التي تُعبِّر عن «العين» هي sypom. (وليس من الواضح لنا ما إذا كان ذلك مجرَّدَ مصادفة أم لا.)
fig5
شكل ٣-١: تستنِد مُعظم الأنظمة العددية في العالم إلى كمية الأصابع في اليد البشرية، غير أنَّ سماتٍ أخرى في أيدينا قد تؤثر في الأنظمة العددية؛ فالفراغات الأربعة الموضَّحة بالخطوط البيضاء، والمفاصلُ الاثنا عشَر المتجاورة، والموضَّحة بالخطوط السوداء المُنقَّطة، تُسهِم في تشكيل الأعداد، وإن كان ذلك بدرجةٍ أقلَّ انتشارًا. الصورة من التقاط المؤلِّف.
وثمَّة أنواع أخرى من استراتيجيات العدِّ التي تستنِد إلى أجزاء الجسم، وقد تكون غريبةً في بعض الأحيان. ففي مقاطعة سيبيك الغربية في نيو غينيا، توجَد لغة تُدعى أوكسابمين، التي كانت تَستخدِم من قبل استراتيجية عدٍّ تتضمَّن ٢٧ عددًا يتطابق كلٌّ منها مع أعضاء الجسد بالترتيب، بما في ذلك الأصابع والعينان والكتِفان. تبدأ النقاط المعدودة في الجسم بيَدٍ واحدة، وتستمرُّ إلى ذراع واحدة، صعودًا إلى الرأس ثم نزولًا إلى الذراع الأخرى. وقد سُجِّلَت أنظمة مُشابهة في مناطقَ أخرى في نيو غينيا، ومنها ذلك النظام المُستخدَم بين شعب اليوبنو. ففي لغتهم ترتبط مفردات الأعداد بأصابع اليدَين وأصابع القدمَين مع نقاطٍ أخرى من الجسم، ويصِل مجموعها إلى ٣٣ كلمة. ونظرًا إلى أنها لا تؤدي إلى تشكيل أساساتٍ عددية منتظمة في الحديث، فلن نُناقِش مثل هذه الأنظمة العددية هنا بأكثرَ من ذلك. بالرغم من ذلك، يجدُر بنا الإشارة إلى وجودها؛ إذ إنَّها تدلُّ على وجود طريقةٍ أخرى يحفز بها تركيب الجسم البشري على تصميم استراتيجيات العد.17
لقد شاهدنا بعض الأمثلة على وجود أساساتٍ عددية نادرة، مثل الأنظمة الرباعية (الأساس ٤) في لغات قبائل السالينان التي تعيش في كاليفورنيا، أو الأنظمة السداسية (الأساس ٦)، التي توجَد في جنوب نيو غينيا. وقد حَظِيَت الأنظمة السُّداسية بقدْرٍ جيدٍ من انتباه الباحثين في اللغات، وقد نتَج عن هذا الانتباه أنهم قد زعَموا أنَّ السبب في استخدام الأساس السداسي للأعداد في بعض لغات نيو غينيا، يعود إلى أحد مظاهر الثقافة الإقليمية، وهو نبات البطاطا الذي يؤدي دورًا أساسيًّا في اقتصاد هذه الجماعات الأصلية التي تعيش في هذا الجزء من العالَم، ونمَط حياتها. فمن المُذهِل أنَّ الترتيبات التي تُستخدَم في تجميع محصول البطاطا وتخزينه، والتي تكون عادةً على هيئة ستة في ستة، قد شجعَت ظهور أنظمة الأعداد السداسية المُستخدَمة في هذه المنطقة. وهذه الاستراتيجية المُستخدَمة في عدِّ شيءٍ مُحدَّد، قد أصبحَت أكثر تجريدًا في وقتٍ ما بعد ذلك، وامتدَّ استخدامُها إلى مجالاتٍ أخرى، حتى أصبح من الممكن عدُّ الأشياء كلِّها باستخدام نظام الأساس السداسي.18

وقد تأثرَت بعض أنواع الأعداد الأخرى باستراتيجيات العَدِّ المُرتبطة بأشياء خارج الجسم، أشياء تؤدي دورًا مهمًّا في ثقافات مُتحدِّثي اللغة. فالعديد من اللغات في ميلانيزيا وبولينزيا تَستخدِم، أو كانت تستخدِم من قبل، أنظمةً عددية تختلف وفقًا لنوع الشيء المرادِ عدُّه. ففي لغة الفيجي القديمة الفصحى على سبيل المثال، نجد أنَّ الكلمة التي تُشير إلى العدد ١٠٠ هي «بولا» عند عد الزَّوارق، لكنها «كورو» عند عد جوز الهند. وبالرغم من أنَّ أساس الأعداد كان لا يزال مُتأثرًا بالنظام العشري، فإنَّ تخصيص العدد بِناءً على الشيء المعدود كان واضحًا. أما الأعداد البولينزية فسوف نتناولها بالمزيد من التفصيل في الفصل التاسع، الذي سنرى فيه أنها توفِّر بعض المزايا الإدراكية.

من المُثير للاهتمام أنَّ بعض الأنظمة العددية النادرة تعكس تأثير ظواهر ثقافية أكثر تعقيدًا؛ فقد اكتشَف عالم اللغويَّات في جامعة تكساس بيشَنس إبس أنَّ بعض اللغات في شمال غرب الأمازون، تَستخدِم علاقات القرابة أساسًا لأعدادها. وينطبق ذلك الأمر على لغة «دُو» ولغة «هاب» وهما لُغتان قريبتان من اللغات المُستخدَمة في المنطقة. يَستخدم مُتحدِّثو اللغة الأولى أصابعَهم مع الكلمات عند العدِّ من ٤ إلى ١٠، حيث تُشير الأصابع إلى كمية الأشياء المراد عدُّها، أما الكلمات فتُستخدَم لتوضيح ما إذا كانت الكمية فردية أو زوجية. فإذا كانت الكمية زوجية، استخدَم المتحدثون الكلمة: «لها أخ.» وإذا كانت فردية استخدموا: «ليس لها أخ.» وينطبق الأمر نفسه في لغة «الهاب»؛ فأفضل ترجمةٍ ممكنة للكلمة التي تُعبِّر عن ٣ هي «دون إخوة»، وأفضل ترجمة للكلمة التي تُعبر عن أربعة هي «مع إخوة مرافِقة». ويبدو أنَّ هذا النظام العددي «الأخوي» ينبُع من طريقة تبادُل الإخوة في الزواج، التي يتَّبِعها هذا الجزء من أمريكا الجنوبية. ومثل النظام العددي السداسي المُستنِد إلى البطاطا، والمُستخدَم في نيو غينيا، فإنَّ هذه الأعداد القائمة على العلاقات، تُوضِّح أنَّ حقيقة استخدام أجزاء الجسم في بناء الأعداد في معظم الحالات، لا تَعني أنَّ ذلك هو ما ينبغي أن يكون الأمر عليه. ومثلما هي الحال في بعض المظاهر الأخرى للغة، فكلُّ ما يُمكِننا القول به هو وجود أنماط شائعة بين الأنظمة العدديَّة في العالم، لكنها ليست أنماطًا عالمية.19

الأنظمة المحدودة للأعداد المنطوقة

نظرًا لأنَّ الأعداد من ٤ إلى ١٠ في لغة «الدو» تَستلزِم استخدام الأصابع مع الإشارة إلى «الإخوة» فهي ليست أعدادًا لفظية بالمعنى الأدق؛ إذ لا تتضمَّن لغة «الدو» أعدادًا مُفرداتية فِعلية إلَّا للأعداد من ١ إلى ٣. ومثل لغة «الدو»، فإنَّ الأعداد في بعض اللغات الأخرى محدودةُ النطاق؛ فبعض هذه اللغات يَستخدِم أنظمةً عددية عديمة الأساس. وفي دراسةٍ حديثة عن الأنظمة العددية المحدودة، اكتُشِف أنَّ أكثر من اثنتَي عشْرة لغة في العالم لا تَستخدِم هذه الأساسات على الإطلاق، وأنَّ العديد من اللغات لا يتضمَّن كلماتٍ تُعبِّر عن الكميات الدقيقة فيما هو أكبر من ٢، أو أكبر من ١ في بعض الحالات. ولا شكَّ في أنَّ هذه الحالات تُمثِّل جزءًا صغيرًا للغاية من اللغات في العالم، فالغالبية العظمى تستخدِم أساساتٍ عدديةً تعكس نموذج أعضاء الجسم. علاوةً على ذلك، فإنَّ معظم الحالات المُتطرِّفة المعنيَّة تنحصِر جغرافيًّا في نطاق منطقة الأمازون. وأيضًا فإنه يصعُب القول بكل ثقة: إنَّ الأساسات لم تُستخدَم أبدًا في بعض هذه اللغات التي من المفترَض أنها عديمة الأساسات؛ ففي بعض الحالات قد تُهمَل الأعداد الأصلية نظرًا إلى تَبنِّي نظامٍ عددي جديد أكثر فاعلية. (ولعلك تتذكَّر مُناقشتنا عن الجاراوارا.) في بعض الثقافات قد يُخفِق المُتحدِّثون الأصغرُ سنًّا في اكتساب نظام الأعداد الأصلي القديم، وقد يُعطي انقراضُ هذا النظام انطباعًا خاطئًا بعدَم وجود مثل ذلك النظام الأصلي على الإطلاق. بالرغم من ذلك فحتى في ضوء العامل الاجتماعي اللغوي يُمكِننا الوثوق بأنَّ الأعداد في بعض اللغات هي أعداد محدودة ليس لها أساسات. ففي حالة لُغتَين من منطقة الأمازون، وهما لغة «زيليكسانا» ولغة «بيراها»، زعم البعض أنَّهما لا تَستخدِمان أي مفرداتٍ مُحدَّدة من أي نوع تُعبِّر عن الأعداد. وسوف نتناول حالة لغة «بيراها»، التي أُلِمُّ بها بعض الشيء، ببعض التفصيل في الفصل الخامس. أما في حالة لغة «زيليكسانا» الأقلِّ وضوحًا، فقد أشارت بعضُ التقارير إلى أنَّ الأعداد الثلاثة في اللغة ترمُز بشكلٍ تقريبي إلى «واحد أو بِضْع» و«اثنين أو بِضْع» و«ثلاثة أو أكثر».20
إن بعض الأنظمة العددية المحدودة في منطقة الأمازون تُتيح الإشارة بدقَّة إلى شيءٍ واحد أو اثنين، لكنها لا تَسمح إلا بالإشارة غير الدقيقة إلى الكميات الكبيرة. وينطبق ذلك على لغة «المَندوروكو» التي حَظِيَت بقدرٍ كبير من الاهتمام في الأبحاث النفسية اللغوية الحديثة. (راجع الفصل الخامس.) ويشتهر عن معظم اللغات في أستراليا أنَّ أنظمتها العددية محدودة، وقد زعَم علماء اللغويات قبل ذلك أنَّ معظم اللغات الأسترالية تفتقِر إلى وجود مصطلحاتٍ دقيقة للإشارة إلى الكميات الأكبر من ٢. بالرغم من ذلك، يبدو أنَّ هذا الزعم مُبالَغ فيه، والواقع أنَّ العديد من لُغات هذه القارة تَستخدِم أساليبَ أصلية لوصفِ مختلِف الكميات بدقَّة، وفي بعض الأحيان يمكن دمجُ مفردات الأعداد التي تَرمُز إلى الكميات الصغيرة في هذه اللغات، واستخدامها في التعبير عن الكميات الكبيرة من خلال استخدام خاصية الجمع، أو حتى خاصية الضرب في الأساسات. ومثلما أشارت الدراسة الموسَّعة التي أجراها عالِمَا اللغويات كلير بويرن وجيسون زينتز، على اللغات الأسترالية، فإنَّ معظم أنظمتها العددية غالبًا ما تكون محدودة بالفعل. بالرغم من ذلك، فلا يمكن وصفُها بالتأكيد على أنها أنظمة «واحد واثنين والعديد» مثلما كنَّا نظنُّ قبل ذلك؛ فغالبًا ما تكون أكثرَ فعالية من الأنظمة العددية التي كانت تَستخدمها الجماعات الأمازونية التي تَعتمد على الصيد والْتِقاط الثمار. فاللغات الأسترالية التي تضمَّنَتها الدراسة، والتي يَقترِب عددُها من المائتين، تحتوي جميعها على كلماتٍ تعبِّر عن العددَين ١ و٢، غير أنَّ العدد الأكبر في ثلاثة أرباع هذه اللغات تقريبًا هو ٣ أو ٤. ومع ذلك فإنَّ العديد من هذه اللغات تَستخدِم الكلمة التي تَرمُز إلى العدد «اثنين» أساسًا لأعدادٍ أخرى. والعديد من هذه اللغات يَستخدِم الكلمة التي تُعبِّر عن العدد «خمسة» أساسًا لتكوين أعداد أخرى، وفي ثمانٍ من هذه اللغات نجد أنَّ أكبر عددٍ تستخدِمه هو العدد «عشرة» (بينما لا توجَد أي لغةٍ أخرى تشير على سبيل المثال إلى ٧ أو ٨ أو ٩ أو ١١، بأكبر عددٍ فيها). إذن، فحتى في أستراليا توجَد بعض الإشارات المُتناثِرة التي تدلُّ على الدور الأساسي للأصابع في استراتيجيات تكوين الأعداد. ثَمَّة دلالة خاصة لهذا الأمر نظرًا إلى العزلة النسبية التي اختبرَتْها هذه الشعوب على تلك القارة منذ استيطانهم لها قبل ٤٠٠٠٠ عام. فمِثلما هي الحال في مناطقَ أخرى من العالم، فإنَّ بعض جماعات السكَّان الأسترالية قد ابتكرَت، بصورةٍ مستقلة، نموذجَ أعداد يعتمد على أعضاء الجسم لتمثيل الكميات لغويًّا.21

خاتمة

بالرغم من أنَّ معظم الباحثين في اللغات كانوا يعتقدون قبل ذلك أنَّ الاختلافات اللغوية سطحيةٌ إلى حدٍّ ما، وهي تُخفي السِّماتِ العالمية الأعمق التي تشترك فيها جميعُ اللغات، فقد أصبح عددٌ كبير منهم يعتقد الآن أنَّ الاختلاف في اللغات البشرية الموجودة عميقٌ للغاية، حتى إنه لا يُمكن تقديمُ مُسوِّغات تجريبية تدعم القول بوجود سِمات عالمية بارزة تشترِك فيها جميع اللُّغات.22 وفي رحلتنا القصيرة إلى الأعداد المنطوقة في العالم، رأيْنا أنه لا يُمكننا أن نجد أيَّ سماتٍ عامَّة في هذا الصدد، مما يُناقِض التوقُّعاتِ القديمةَ المُتمثلة في وجود مفرداتٍ محددة للأعداد في جميع اللغات. علاوةً على ذلك، فقد رأيْنا أنَّ اللغات تختلف في كيفية تأسيس أنظمتها العددية؛ فبعض هذه الأنظمة محدود النطاق بعض الشيء، وبعضها كنِظامنا الذي قد يكون لا نهائيًّا. وقد رأيْنا أيضًا أنَّ اللغات الأصلية تتضمَّن في بعض الأحيان أعدادًا أكثرَ مما تُوحي به الانطباعاتُ الأولية، مثلما هي الحال في لغات أستراليا أو الجاراوارا على سبيل المثال. إنَّ التوثيق اللغوي المُتأنِّيَ يوفِّر لنا صورةً أدقَّ للأعداد في العالَم.
بالرغم من ذلك، تتراكَب فوق هذه الصورة المُتبلوِرة لتنوُّع الأعداد أنماطٌ واضحة، تتجلَّى في الأعداد المنطوقة بالعالم. وهي أنماط بسيطة تتمثَّل في أنَّ مفردات الأعداد غالبًا ما تُشتَقُّ من المفردات التي تُعبِّر عن الأيدي، وهي توضح عادةً تقسيم الكميات إلى خمساتٍ أو عشرات أو عشرينات، أو بعض التوليفات الأخرى منها. وهذه الحقائق البسيطة التي تتجلَّى في اللغات القديمة والمُعاصِرة في جميع القارات الآهِلة بالسكان، تُشير إلى أنَّ أساسات الأعداد هي تمثيلاتٌ لفظية لبعض المفاهيم التي تتَّضِح لنا بصورة أفضل من خلال تجسيد الكميات. وقد أصبح هذا التجسيدُ ممكِنًا بفضل مجموعات العناصر التي نشهدها في الطبيعة باستمرار، والتي تَكمُن على أطراف أصابِعنا حرفيًّا في انتظار مَن يَستوعبها. (وسنتناول كيفية حدوث هذا «الاستيعاب» على وجهٍ أكثرَ تحديدًا، في الفصل الثامن.) إنَّ أصابِعَنا المُتمايزة والمتناظِرة، قد مكَّنَتْنا من تجسيد المفاهيم المجرَّدة التي لا يمكن إدراكُها بشكلٍ كامل، مما سهَّل عملية انتقال تمثيل الكميات إلى أفواهنا، ومن ثَمَّ إلى عقول الآخرين.23

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤