الفصل الثالث

إعادة التفكير في طريقة إنجاز المهام في أماكن عملنا

مثلما تزايَدَتْ أهمية إعادة التفكير في منظومة المعرفة التقليدية، تزايَدَتْ صعوبةُ فعل ذلك. إن زيادة التعقيد، والتقلُّب، والغموض في عالم الأعمال والمنافسة؛ تتطلَّب باستمرارٍ وجهاتِ نظرٍ جديدة. لكن هذه البيئة غامضة وتعجُّ بالمخاطر، ومن طبيعة البشر التمسُّك بالطرق المجرَّبة والصحيحة في مثل هذه الأوقات المتقلِّبة. وعند مواجهة هذا التناقُض، يختار كثير من القادة الخيارَ الأخير — التقليدي بطبيعة الحال — لا سيما في الشركات الناجحة ذات الثقافات القوية.

إن القدرة على إعادة التفكير ليست من الأمور المندرجة تحت السمات القيادية، على الأقل في معظم التعريفات التقليدية للقيادة. وعلى الرغم من ذلك، فمثل كثيرٍ من السمات التي نتناولها في قسم العقل، أصبحت هذه السمة ملائمةً للعصر على نحوٍ متزايدٍ، ومفيدةً بصفةٍ خاصةٍ في ظل هذه البيئة العالمية المعقدة.

يلزم أيضًا أن نقول إننا على الرغم من مناقشة هذه السمة باعتبارها جزءًا من سلوكيات العقل، فإن إعادة التفكير تتضمَّن أيضًا سلوكيات القلب والشجاعة؛ فأنت تحتاج إلى البدء بالجانب المعرفي من خلال إعادة التفكير في إجراءات التشغيل القياسية، وبعد ذلك تحتاج إلى القلب لفهم تأثير إعادة التفكير على الأشخاص من حولك، وتحتاج أيضًا الشجاعة للمخاطرة وتحويل هذا الالتزام إلى أفعال. أما في الوقت الراهن، فدعونا نركِّز على الجانب المعرفي من هذه السمة، ونُبين لماذا يصعب جدًّا على الكثير فهم هذه السمة.

(١) إيجاد وجهة نظر جديدة أمرٌ قولُه أسهلُ من فعله

يدرك معظم قادة الشركات أن التغيير حتمي، وأنه لا بد من تطبيق أساليبَ سلوكيةٍ جديدة ومبتكرة ومطورةٍ كي يظلوا متقدِّمين على منافسيهم، ولتلبية مطالب العملاء. إلا أن هذا الإدراك نادرًا ما يتحوَّل إلى سلوكٍ واعٍ أو إلى تصوُّرٍ جديدٍ عن الحالة. من الناحية النظرية، فإن فكرة إعادة التفكير تبدو منطقية تمامًا، وقليل من الناس قد يختلف على كونها ضرورية، إلا أنه عندما يصل الأمر إلى اتخاذ إجراءاتٍ محددةٍ ذات عواقبَ، فإن تغيير السلوك والاستراتيجيات والتكتيكات والطقوس والتقاليد يصبح أكثر صعوبةً.

صاغ توماس كون، الخبير في تاريخ العلوم ومؤلِّف كتاب «بنية الثورات العلمية» وغيره من الكتب، مصطلحَ «تغيير النموذج الفكري»؛ إذ وجد أنه على النقيض من التوقعات السائدة، فإن معظم العلماء ليسوا مفكِّرين موضوعيين مستقلين، بل إنهم يعملون داخل إطار نماذجهم الفكرية. ويذكر على سبيل المثال بطليموس وإصراره على أن الشمس تدور حول الأرض، وهي فكرة اعتُبِرت حقيقةً علميةً لمئات السنوات حتى جاء كوبرنيكوس وأعاد التفكير في منظومة المعرفة التقليدية تلك.

ما نقصده أن كثيرًا من قادة الأعمال يُشبهون العلماء؛ فهم مقتنعون أنهم مفكرون مستقلون، لكنهم في واقع الأمر واقعون تحت رحمة النموذج الفكري السائد. وهذا يمكن أن يُسفِر عن خداعٍ خطيرٍ للذات. وكما لاحظ كون: «إن الإنسان الذي يسعى لحل مشكلةٍ محددةٍ من قبل المعرفة الحالية والأسلوب الحالي، ليس مجرد شخصٍ يبحث عن حلٍّ. إنه يعلم ما يريد تحقيقه، ويصمِّم أدواته ويوجِّه أفكاره وفقًا لما يريد تحقيقه.»

علاوةً على الميل الطبيعي إلى البقاء داخل إطار النموذج الفكري، توجد عوامل أخرى، مثل العوامل التالية، تجعل القادة ميَّالين إلى تجنُّب إعادة التفكير:
• «الضغط من أجل تحقيق النتائج»: إن الضغط الشديد من أجل تحقيق النتائج يجعل من الصعب إيجاد المساحة المعرفية الضرورية للتفكير في طرقٍ بديلة. أو ربما سيكون من الأدق لو قلنا إن القادة يفكرون في المستقبل ويُدرِكون أن الأمور سوف تتغيَّر، لكن هذه الأفكار سرعان ما تبدِّدها حاجاتُ العمل الفورية. إن المسئول التنفيذي الذي لديه منتجٌ ناجح يحقِّق جزءًا كبيرًا من إيرادات الشركة، لا يستطيع استيعابَ فكرة أن المنتج ربما يقترب من نهاية دورة حياته؛ بل يعزو ذلك الموقف إلى كسل فريق المبيعات، أو إلى تأثيرٍ مؤقتٍ من قِبَل قوى السوق، أو ربما يعزوه إلى حالة الطقس. إن إطالة التفكير في احتمالية زوال المنتج يعني أيضًا إمعان النظر في تغيير طبيعة تشكيلة المنتجات أو سمات المنتجات ككلٍّ، وهذا يمكن أن يكون شديدَ الوطأة ومن السهل تأجيله؛ ونتيجةً لذلك، سوف يركِّز هذا القائد على زيادة الإيراد الذي يخفِّف الضغط على نحوٍ مؤقتٍ من أجل تحقيق النتائج. ويبدو هذا بديلًا أفضل بكثيرٍ من إعادة التفكير في كل شيء، فإعادة التفكير مهمة ضخمة سوف تسبِّب صداعًا هائلًا.
• «الحاجة إلى الشجاعة»: إن إعادة التفكير تتطلَّب الشجاعة، والقادة الكاملون يستطيعون رؤية الأمور على نحوٍ مختلفٍ والتصرف وفقًا لما يرونه لأنهم يمتلكون الشجاعة. إن تأمُّل فكرة القيام بتغييراتٍ كبرى يثير كافةَ أنواع السيناريوهات المربكة، ومجرد التفكير في إمكانية إعداد نموذجِ عملٍ جديدٍ يتطلَّب شجاعةً يفتقدها معظم كبار المسئولين التنفيذيين. لقد تحدَّثنا مع قادة شركاتٍ أخبرونا أنهم يدركون احتمالية توقُّف شركاتهم عن العمل في غضون خمس سنواتٍ إذا لم يبدءوا في عملية التغيير، لكنهم يفتقرون إلى الشجاعة لمواجَهة الحقيقة، ويأملون أن يستطيعوا تدبُّرَ أمورهم قبل هذه الفترة، أو أن يحدث شيءٌ ما، أو أن يتطوَّع أحد الأشخاص لتدبُّر الأمر. من الممكن أن يبرِّروا افتقارَهم إلى الشجاعة بطرقٍ كثيرةٍ، من بينها حقيقة أن موظفيهم ليسوا مستعِدِّين بعدُ للتغيير؛ فهم يدركون جيدًا المقاوَمةَ الهائلة التي يمكن أن يُظهِرها الموظفون عندما تحاوِل الشركةُ إنجازَ المهام بطريقةٍ مختلفة، وبدلًا من التعامل مع هذه المقاومة، يفضِّل القادةُ الحفاظَ على الوضع الحالي. إن الأشخاص يتوقَّعون من القادة حلَّ المشكلات، لا أن يطلبوا منهم — معشر الموظفين — أن يتغيَّروا. ولتجنُّب تخييب آمال الموظفين، ينفِّذ القادة إصلاحاتٍ مؤقتةً بدلًا من الحلول الطويلة المدى التي تتطلَّب من الموظفين تقديمَ تضحياتٍ وتعلُّمَ طرقٍ جديدةٍ للقيام بالأمور.
• «عدم وجود وقتٍ للتفكير»: يقع كبار المسئولين التنفيذيين في شَرَك العمل، ولا يمنحون أنفسهم وقتًا لإعادة التفكير. ومعظم التنفيذيين الذين نعمل معهم في الوقت الراهن يواجِهون مئاتٍ من رسائل البريد الإلكتروني يوميًّا، بالإضافة إلى الاجتماعاتِ المستمرة (وأحيانًا يكون لديهم اجتماعان في الوقت نفسه)، وفيضِ المعلومات الهائل عبر الإنترنت، وطلباتِ الأداء المتزايدة دائمًا من قِبَل الزبائن والعملاء، فضلًا عن المرءوسين المباشِرين الذين يرغبون في المزيد من الانتباه والتوجيه. وفي وسط هذا الصخب، يكون من الصعب أحيانًا رؤية الإشارات الدقيقة الصعبة الملاحظة التي تدل على تغيُّر المجريات؛ ومن الأسهل نكران تلك الإشارات في ظل الظروف العصيبة. إن هؤلاء التنفيذيين في حركةٍ دائمة، ويسافرون حول العالم، ويحضرون مؤتمراتٍ حول موضوعاتٍ جديدة، ويُجِيبون على الهواتفِ الخلوية، وأجهزةِ البلاك بيري، ورسائلِ الاستدعاء العاجلة، ورسائلِ البريد الصوتي، وغيرها من التنبيهات التكنولوجية. وفي وسط هذه الحركة المستمرة، يخدعون أنفسَهم باعتقاد أنهم يرَوْن العملَ من منظورٍ جديدٍ ومثير. أما في واقع الأمر، فالأشخاص يستبدِلون جداولَ الأعمال الصاخبة والتفكيرَ التجريدي في الأفكار الجديدة المهمة، بالمهمة الأكثر صعوبةً المتمثلة في التفكير كثيرًا وجديًّا في الطريقة التي ستتغيَّر إليها الأمور، وفي الحاجة إلى التغيير، وكذلك وضع خطةٍ وعمليةٍ تنظيميةٍ لمواجَهة المطلوب؛ فكثير من القادة الذين قابَلْناهم لا يفهمون الفَرْقَ بين امتلاكِ فكرةٍ جديدةٍ وإلزامِ أنفسهم بتنفيذها.
• «التكلفة المتزايدة لعملية التغيير الكلي»: التعقيد أمرٌ مثبط للهمة، وحشدُ كلِّ القوى اللازمة لتغيير الشركة أو حتى لتنفيذ برنامجٍ جديدٍ أو سياسةٍ جديدةٍ يمكن أن يبدوَ معقَّدًا لدرجةٍ مستحيلة. كما أن تكلفة التغيير الكلي ترتفع دائمًا، والإطار الزمني لتنفيذ عمليةٍ جديدةٍ أو برنامجٍ جديدٍ يتضاءل، والمنافسين، بطبيعة الحال، يُحرِزون التقدُّمَ ويضيِّقون نطاقَ خيارات الاستراتيجيات الجديدة. وفي ضوء كل ما سبق، فإنه من الأسهل إلى حدٍّ كبيرٍ الاستمرارُ في السير في الاتجاه القديم نفسه.
• «قوة الطقوس»: الطقوس الثقافية قوية، وعلى الرغم من أن الأشخاص قد يكونون صادقين في رغبتهم في إعادة التفكير في طريقة إنجاز المهام، فإنهم خاضعون لتأثير التقاليد وقوانين السلوك غير المكتوبة للشركة. والمؤسسات التي أدارها دومًا ذكورٌ بيض من خلفياتٍ متشابِهةٍ، قد يعترفون بأهمية التنوُّع لكنهم يجدون صعوبةً في تحقيقه في الوقت الراهن. إن المؤسسات التي طالما اعتادَتْ على إنجاز كثيرٍ من وظائفها على يد طاقم عملٍ شاملٍ داخل الشركة، يتولى تحليل وتركيب وتقديم بياناتٍ مهمةٍ من المنظور الثقافي؛ قد تجد صعوبةً في أن تعهد لموظفين خارج البلاد في الهند أو في الصين تنفيذَ مهامَّ تتعلَّق بالرواتب، والفواتير، وغيرها من أنشطة الموارد البشرية والأنشطة المالية. إن التخلِّيَ عن هذه الأعراف من خلال إعادة التفكير يتطلَّب المخاطَرة؛ فاجتماعات الموظفين، وفعاليات المبيعات، والمذكرات الداخلية، والتقارير الشهرية؛ كلُّ هذه الأمور وأمثلة أخرى كثيرة تمثِّل طقوس المؤسسة، وبالنسبة إلى التنفيذيين المخضرمين الذين طالما مارسوا هذه الطقوس المؤسسية لسنوات، تصبح مطالبتهم بالتغيير أشبه بمطالبة زعيم قبيلةٍ معزولةٍ التخليَ عن طقس تقديم القرابين الذي يُرضِي الآلهة. فإذا كانوا قد مارسوا هذا الطقس طوال عشرين سنة، وكانت الآلهة تُزوِّدهم عادةً بالمطر اللازم لنمو المحاصيل، فلماذا يجب أن يتخلَّوْا عن هذا الطقس؟

(٢) لماذا يُعَدُّ الوقت الراهن وقتًا جيدًا للبدء في إعادة التفكير؟

إننا نعيش ونعمل في وقتٍ أصبحت فيه الدورات الاقتصادية أقصر على نحوٍ متزايد، وأصبحت الحاجة إلى تحدِّي نموذج العمل حاجةً مستمرة؛ فالثورة المعلوماتية، والقدرة التكنولوجية المتزايدة، وسوق العمل العالمية، بالإضافة إلى عددٍ لا حصرَ له من العوامل الأخرى؛ تجعل اتخاذ القرار أصعب إلى حدٍّ كبيرٍ ممَّا كان عليه الوضع في الماضي. وأصبح لزامًا على قادة اليوم التعامُل مع التناقض، ومواجهة الأفكار المعقدة، وتكوين نظرة عالمية متكاملة؛ فمعظم حلول المشكلات المجرَّبة والمثبتة فعاليتها لم تَعُدْ مجديةً، ومعظم الطرق التقليدية للاستفادة من الفُرَص يفتقر إلى السرعة والابتكار الضروريَّيْن. من دون القدرة على إعادة التفكير في الطرق التقليدية، سوف يتخلَّف القادة. ونحن نرى كثيرًا من القادة الذين يعتقدون أن نماذج العمل وُجِدت كي نتحدَّاها، لكنهم لم يخلقوا البيئة التي تُمكِّن من حدوث ذلك، أو هم عاجزون عن خلقها.

إن الاستعانة بنظرةٍ تاريخيةٍ مختصرةٍ ستوضِّح لنا إلى أي مدًى أصبحت إعادة التفكير ضروريةً في الوقت الحاضر. منذ عشرين عامًا عندما كانت المنافسة تعتمد على المنتج، كان الجزء الأكبر من عملية إعادة التفكير يركِّز على ما إذا كان لزامًا على الشركة تغيير أحد الأمور المتعلِّقة بالمنتج (مثل التعبئة، والسعر، وهكذا). وفي مرحلةٍ ما في ثمانينيات القرن العشرين، بدأت الشركات تُعيد تعريفَ المنافسة، ليس فقط فيما يتعلَّق بالمنتجات التي تُنتجها، بل أيضًا فيما يخصُّ طريقةَ تقديم تلك المنتجات. بدأت السرعة والتوافُر والتخصيص وغيرها من العوامل تمنح ميزةً تنافُسية؛ ولذلك، لم يَعُدِ البحث والتطوير نقطةَ التركيز الأساسية عند إعادة التفكير في منظومة المؤسسة، وأصبح من الضروري القيام بمخاطراتٍ تنظيميةٍ أكبر مثل إعادة هيكلة الشركة من أجل توصيلٍ أسرع للموارد المحلية. إن مثل هذا النوع من التغيير في النظام ينطوي على قدرٍ أكبر من المخاطَرة، وقدرٍ أكبر من الصعوبة في التنفيذ.

وعلى الرغم من ذلك، فالتغيير ضروري بالتأكيد. ومعظمُ القادةِ الناجحين والشركاتِ الناجحة، مثل جنرال إليكتريك، وجونسون آند جونسون، وبنك أوف أمريكا، وغيرها الكثير، يميلون إلى إعادة التفكير في هوية عملائهم، ويتساءلون عن مجال العمل الذي يعملون فيه، ويعيدون هيكلة مؤسساتهم بجرأةٍ من أجل تقديم خدمةٍ أفضل لعملائهم. لقد أعادت شركة نوكيا ابتكارَ نفسها بعد وجودها لمدة مائة عامٍ باعتبارها شركة أخشاب، وفعلت ذلك من خلال التخلِّي عن كافة نشاطاتها، ما عدا نشاط صناعة الرقاقات الإلكترونية الصغيرة والهواتف؛ وتلك كانت خطوةَ إعادةِ تفكيرٍ هائلةً في مجالٍ مترسِّخٍ تاريخيًّا. وكلٌّ من شركة آي بي إم وشركة إي إم سي تحوَّلت من شركة تصنيعٍ إلى شركة خدمات، وتحوَّلت تايم وارنر من دار نشرٍ للمجلات إلى شركةٍ متكاملةٍ لخدمات الإعلام والاتصالات والترفيه، واندمجت شركة ترافلرز إنشورَنس مع سيتي بنك لتصبح أكبر شركة خدماتٍ ماليةٍ في العالم.

ومع ذلك، فإن هذا النوع من إعادة التصوُّر ليس ضمانًا للنجاح؛ فمن الممكن أن تعيد التفكير في الأمور بطريقةٍ خاطئة؛ على سبيل المثال: أنفقت شركة إيه تي آند تي مليارات الدولارات في صناعة الكمبيوتر، ولم تحقِّق إلا القليل؛ فقد أعادوا هيكلة الشركة منذ عدة سنواتٍ بعد مرسوم التراضي، لكنهم واجَهوا مشكلةً في المُضي قدمًا بعد هذا التغيير الهيكلي. وسعت شركة جنرال موتورز لأن تصبح شركةَ بياناتٍ ثم تصبح شركة أقمار صناعية، فاستحوذت على شركتَيْ إي دي إس، ودَيريكت تي في، ثم تخلَّتْ عنهما. وعلى مدار السنوات، استحوذَتْ شركةُ سوني على شركاتٍ لا حصرَ لها وتخلَّت عنها، بدءًا من شركات عصير البرتقال وحتى استوديوهات الإنتاج السينمائي؛ ولذلك، فإن إعادة تخيُّل المؤسسة ليست كافية، بل من اللازم أن تكون إعادة التخيُّل على النحو الصحيح.

ومع ذلك، تحتاج المؤسسات قادةً مستعِدِّين لتحدِّي الوضع القائم، والتفكير في بدائل للأمور التي ساعدت الشركة في تحقيق نجاحٍ هائلٍ في الماضي، بل قد لا تزال تساهم في نجاحها حاليًّا أيضًا. هؤلاء القادة هم أكثر قدرةً على التعامُل مع المواقف غير المتوقَّعة والمُقلِقة التي يبدو أنها تظهر يوميًّا؛ فهم يمتلكون الوسائل اللازمة للتعامُل مع مختلِف الأشخاص بطرقٍ مختلفة؛ فهم يستطيعون التعامُل مع الخبير التقني الشاب العبقري الذي لا يرغب في اتباع أعراف الشركة، أو الذي يطالِب الشركةَ بالإقدام على مخاطراتٍ لم تُقدِم عليها من قبلُ؛ وهؤلاء القادة هم الأشخاص الذين سوف يساعدون في إدارة المبادرات العالمية الجديدة؛ ومن ثَمَّ سيتعلَّمون العمل بكفاءةٍ في عوالم لم تَعُدِ القواعد القديمة تنطبق عليها.

إن الحاجة إلى قادةٍ قادرين على إعادة التفكير لن تتلاشى؛ بل على العكس من ذلك، سوف تشتد في السنوات القادمة مع تزايُد معدل سرعة التغيير، وابتعاد المبادرات العالمية عن الأسواق الآسيوية والأوروبية واتجاهها إلى الدول النامية التي لا تُطبَّق فيها الأساليب التقليدية لإدارة الأعمال.

(٣) كيف تحفِّز وجهات نظر جديدة؟

ممَّا لا شكَّ فيه أن بعض الأشخاص لن يكونوا مستعدين مطلقًا لتغيير وجهات نظرهم وإعادة تقييم معتقداتهم. وبناءً على أسبابٍ كثيرة (منها مَيْلهم الفطري إلى النزعة المحافظة، أو أن لهم مصالح في الوضع القائم) يرفضون التفكير في طريقةٍ جديدةٍ لرؤية الأمور أو للقيام بها؛ ونتيجةً لذلك، فإنهم إما يرفضون إعادة التفكير وإما يتظاهرون فحسب بأنهم يعيدون التفكير.

وعلى الرغم من ذلك، فإن الغالبية العظمى من التنفيذيين يمكن أن يتعلَّموا إعادة التفكير، وربما أفضل طريقةٍ لصياغة ذلك هي قول إنهم يستطيعون إيجاد أسبابٍ وجيهةٍ للتغلُّب على مخاوفهم ورؤية الأمور بطريقةٍ مختلفة. وكل عقبات إعادة التفكير التي ناقشناها في السابق — التعقيد المثبط للهمة، وقوة النماذج الفكرية، والوقوع في شَرَك أنشطة العمل — يمكن التغلُّب عليها في ظل المنهج التطويري الصحيح. إليكم بعضَ طرق القيام بذلك، التي وجدنا أنها فعَّالة في كلٍّ من توجيه وتعليم المسئولين التنفيذيين في مجموعةٍ مختلفةٍ من الشركات والصناعات:
•«الصدمة بالبيانات»: إن التفسير العقلاني لبيان أهمية رؤية الأمور بمنظورٍ جديدٍ نادرًا ما يُحقِّق نجاحًا؛ فمن الممكن أن تُقدِّم أكثرَ الأسباب الممكنة إقناعًا لرؤية الاتجاهات العالمية بمنظورٍ جديدٍ، أو للتفكير في بدائلَ لعملية متبعة، لكنك ستفشل في اختراق الدفاعات الخارجية المعارِضة لتلك الأفكار الجديدة. يحتاج الأشخاص إلى بياناتٍ مُقنِعةٍ كي يُغيِّروا من طريقة تفكيرهم، وهذه البيانات يمكن أن تكون خاصة بهم أو معتمِدة على سوق العمل؛ فعلى سبيل المثال: قد تتخذ البياناتُ شكلَ تعقيبٍ من المرءوسين المباشِرين حول أسلوبِ الإدارة التفصيلية غيرِ الفعَّال لدى أحد الأشخاص، أو قد تتخذ شكلَ دليلٍ ديموغرافيٍّ يفيد بأن السوق تتجه نحو أحد المنافسين. وبصرف النظر عن الشكل الذي ستتخذه البيانات، لا بد أن تنقل رسالةً واحدة قوية تتمثَّل في التالي: «طريقتك التي تنفِّذ بها الأمورَ حاليًّا ليست ناجحة.» إن ذلك الفشل الواضح يمثِّل حقيقة صادمة — خاصةً إذا كان الشخص يعتقد أن أسلوبه الحالي كان ناجحًا — تمحو المبرِّرات التي تجعل الأشخاص متمسِّكين بطرقهم التقليدية؛ ومن ثَمَّ لا بد أن تكون البيانات مُقنِعة. وليس كافيًا أن يعترض أحدُ الأشخاص على أسلوب الإدارة التفصيلية، أو أن يُقدِّم للقائد دراسةً مشكوكًا فيها حول الحصة السوقية. إن البيانات يجب أن تكون قاطعة؛ ففي مواجهة البيانات المقنعة لا يكون الإنكار خيارًا متاحًا. ومعظم برامج القيادة التي نُجريها تبدأ بإحدى صور مواجَهة الحقيقة. وفي أغلب الأحيان نشجِّع الشركات على إحضار أقسى النقاد (أحيانًا يكون أحد محلِّلي وول ستريت) إلى القاعة للتحدُّث مع الموظفين، كي يقدِّم لهم نظرة خارجية تدفعهم أكثر نحو إدراك الواقع فيما يتعلَّق بأساسيات الشركة. ولقد وجدنا أن هذا النوع من التنبيه لا يُقدَّر بثمن.
• «تشجيع تقبُّل الغموض»: كنَّا نوجِّه مسئولًا تنفيذيًّا كبيرًا يتَّسم بالمهارة والخبرة، لكنه كان غارقًا حتى أذنيه في اتباع طقوسٍ سلوكيةٍ خاصةٍ به. وعلى الرغم من أنه كان منظَّمًا للغاية، وكان يدير الاجتماعات بكفاءةٍ فائقة، فإنه نادرًا ما كان يستخدم تلك الاجتماعات في استثارة حوارٍ حقيقيٍّ، أو في تشجيع التفكير الابتكاري وحل المشكلات. وكي نساعده في الخروج من هذه الرتابة، طلبنا منه البدء في الذهاب إلى الاجتماع دون أن يضع في ذهنه نتائجَ محدَّدة منه. وكان معنى هذا أنه لن يمكنه تدوين الأهداف التي يريد أن يحقِّقها الاجتماع، سواءٌ أكان ذلك على ورقةٍ أم في ذهنه. بل شجَّعناه أيضًا على أن يُجرِّب عقد اجتماعٍ أو اجتماعين دون جدول أعمال، ودون إحصائياتٍ ماليةٍ أو شرائحِ عروضٍ تقديمية. وعوضًا عن ذلك، عليه أن يتقبَّل غموضَ المناقشة ذات النهاية المفتوحة، والأفكارَ التي تتدفَّق بِحُريةٍ. اعترف المسئول أن هذه الاحتمالية أخافته، لكنه حاوَلَ، ربما لإرضائنا. وتدريجيًّا، وجد أن مرءوسيه المباشِرين أصبحوا أكثر استعدادًا للتعبير عن آرائهم، واستكشاف الخيارات، وتقديم الأفكار التي كانت أكثر إبداعًا ومخاطرةً من ذي قبلُ. إن فكرته الثابتة عن مكونات الاجتماع الناجح، تلك الفكرة التي اعتنقها لمدة عشرين عامًا، بدأت في التغيُّر.
• «كسر إطار التقاليد الثقافية»: في الغالب لا ينجح تطوير القيادة لأن عملية التطوير تستنسخ الثقافة وتُعزِّز الرؤى السائدة. وسواءٌ على نحوٍ ظاهرٍ أم خفي، فإن هذه العملية تحظر المعلومات والأفكار التي تتعارض مع أعراف المؤسسة. قد يرغب التنفيذيون بصدقٍ في تكوين عقليةٍ جديدةٍ أو سلوكياتٍ جديدةٍ بين القادة الرئيسيين، لكن عملية التطوير ذاتها تُعزِّز على نحوٍ خفيٍّ الافتراضات الثقافية نفسها التي تُدمِّر الرسالة الواضحة. إن التصاميم المبتكرة لتطوير القيادة التي تتَّخذ عادةً شكلَ التعلُّم أثناء العمل (مثل الجمع بين حلِّ مشكلات العمل والوعي بالذات والوعي بالمجموعة)، يمكن أن تساعد في كسر إطار التقاليد الثقافية. يمكن تحقيق التنمية الإبداعية من خلال المزج بين التعليق على الأداء الشخصي، وتحدِّي ظروف العمل، والرؤى والمعلومات الجديدة؛ حيث يُؤخَذ الأشخاص خارج البيئات المألوفة ويُجبَرون على الاعتماد على أفكارٍ وطرقٍ جديدةٍ للنظر إلى الأمور، من أجل حل مشكلات العمل المعقدة. وعندما يصبحون غيرَ قادرين على العودة إلى الطرق المجربة والمثبتة، أو العمل في ظل نظامٍ مريح، عندها يبدءون في رؤية الأمور وإنجازها بطريقةٍ مختلفة. وعندما يكسرون الإطار مرةً، تزيد احتمالية فعلهم ذلك مرةً أخرى. وفي بعض الأحيان، تحدث عمليةُ كسر الإطار على نحوٍ طبيعيٍّ لا من خلال برنامج تطويرٍ رسمي؛ فمهمةٌ خارج البلاد أو حتى وظيفةٌ في مؤسسةٍ جديدةٍ يمكن أن تُقدِّم فرصًا لإعادة التقييم وإعادة التفكير. كذلك قد يستثير التوجيهُ طرقًا بديلة لرؤية المواقف المألوفة. وعلى الرغم من ذلك، فالمهم هو جعل إعادة التفكير تستمر لما بعد هذه التجربة المعينة، كما أن البرامج الرسمية مثل التعلم بالعمل أثبتَتْ فعاليةً في تحقيق هذا الهدف؛ فهي تُزوِّد الأفرادَ بتدريبٍ يدمج العقل والقلب والشجاعة، ويمتد أثره لأَجَلٍ طويل.

حريٌّ بنا أن نضيف أن هذه الطرق الثلاث تحقِّق أدنى مستوًى من الفاعلية في المؤسسات «المهذبة» الفائقة النجاح؛ حيث لا يوجد برنامجٌ مُلِحٌّ للتغيير، وحيث يُجمَّل النقد السلبي؛ أيْ في المؤسسات التي يمنعها التهذيب من مواجهة المشكلات. تفتقر هذه المؤسسات إلى محفزات إعادة التفكير المتمثِّلة في المعلومات والأفكار الجديدة؛ ونتيجةً لذلك، يتشجَّع الأفراد على الاحتفاظ بعقلياتهم وتجنُّب تقديم مفاهيمَ مثيرةٍ للجدل أو استفزازيةٍ إلى ثقافة الشركة. وفي هذه البيئة، تكون إعادةُ التفكير فكرةً منغصة.

إليكم مثالًا على ما نقصده:

كارل أحد كبار المسئولين في مؤسسةٍ كبرى للسلع المعبَّأة، ويتمتع بنقاطِ قوةٍ مهمة؛ فهو قائد على قدرٍ عالٍ من الذكاء العاطفي، شقَّ طريقه عبر إدارة الموارد البشرية. وعلى مدار سنواتٍ كان معلمًا وموجِّهًا للكثير من الأفراد، إلا أنه في السنوات الأخيرة انخفض أداء الشركة، وفقًا لمقياس الحصة السوقية وسعر السهم. ومع أن الشركة لا تزال ناجحةً إلى حدٍّ كبير، فإنها تحاول أن تُنمِّيَ بين قادتها منهجًا جديدًا أكثر اهتمامًا بالأداء. وكجزءٍ من هذه التنمية، عمل أحد الموجهين مع كارل كي يساعده على أن يصبح قائدًا مبتكرًا أكثر اهتمامًا بالأداء، خاصةً فيما يتعلَّق بخلق بيئةٍ معينةٍ لفِرَق العمل يزدهر فيها الابتكار. ولسوء الحظ، عندما جمع الموجِّه تعقيباتِ الآخرين، كان معظم الانتقادات لأسلوب إدارة كارل مغلفًا بالمديح؛ ولذلك كان من الصعب ملاحظة أي سلبيات. كان الجميع يعلمون أن رغبة كارل في أن يكون محبوبًا تعترض أحيانًا طريقه عند مواجهة الصراع، والوفاء بالمواعيد النهائية لإنجاز المهام، وتحقيق النتائج، لكن لا أحد في هذه الثقافة البالغة التحضُّر كان مستعِدًّا لإخباره بذلك. بل إن مدير كارل كان متردِّدًا في مصارحته؛ ونتيجةً لذلك، رفض كارل مقترحات الموجِّه القائلة بضرورة النظر إلى أسلوب قيادته للفريق بطريقةٍ مختلفة، وأنه ربما لا يُسدِي إلى أصحاب الأداء الهامشي معروفًا بإبقائهم في أماكنهم، وأن رغبته في إثارة إعجاب الجميع والانتماء إليهم تمنعه في بعض الأحيان من اتخاذ قراراتٍ صعبةٍ لكنها ضرورية. إن كارل عاجز عن إعادة التفكير في هذه الموضوعات لأن ثقافة شركته لا توفِّر الحافزَ اللازم لفعل ذلك.

لكنْ فيما يلي مثالٌ معاكس:

كارول بارتس، الرئيس التنفيذي لشركة أوتوديسك، بارعة في إعادة التفكير في طريقة إنجاز الأمور في شركتها. ومنذ أن أصبحت الرئيس التنفيذي للشركة عام ١٩٩٢، ساعَدَتِ المؤسسة في إعادة التفكير في مفاهيمها الأساسية أكثر من مرة. عندما انضمَّتْ إلى الشركة — المتخصِّصة في برمجيات التصميم المعتمِد على الكمبيوتر — كان لها منتجٌ أساسي واحد وسوقٌ ضيقة من المصمِّمين والمعماريين. بدأت بارتس على الفور في التوسيع والتنويع، وفي نهاية المطاف أعادَتْ ترتيب قاعدة العملاء لتضمَّ شركاتِ التصنيع، وصناعة البناء والتشييد، وشركات البنية التحتية (الطرق والجسور). وفي عام ١٩٩٩، أخذت الشركة في اتجاهٍ جديد؛ حيث اشترتْ شركةَ ديسكريت لوجيك مقابل ٤١٠ ملايين دولارٍ أمريكيٍّ، واستحوذت على تكنولوجيا تُستخدَم في أفلام الرسوم المتحركة والمؤثرات الخاصة في هوليوود. وخلال فترةٍ من الزمن قصيرةٍ نسبيًّا، أصبحت شركة أوتوديسك لاعبًا مهمًّا في مجال الإعلام، وأصبحتْ منتجاتُ ديسكريت تُستخدَم في أفلامٍ مثل «تيتانيك» و«لورد أوف ذا رينجز»، محقِّقةً ١٥ بالمائة من إيرادات أوتوديسك. وعقب بضع سنوات، واجهَتِ الشركة انكماشًا اقتصاديًّا؛ فأعادت بارتس تصوُّرَ الشركة مرةً أخرى، وفي هذه المرة ركَّزت على بيع البرمجيات بنظام الاشتراك؛ ممَّا مكَّنَ العملاءَ من استخدام البرمجيات خلال فترةٍ زمنيةٍ محدَّدة، وسمح لهم بالتحديثات المجانية أثناء تلك الفترة. إن هذه الخطوة التي أعادَتْ تشكيلَ نموذج عمل شركة أوتوديسك جذريًّا، لم تحقِّق فحسب تدفُّقَ إيراداتٍ يمكن توقُّعه بدرجةٍ أكبر، لكنها أدَّتْ أيضًا إلى دورةٍ زمنيةٍ أسرع لإنتاج برمجياتٍ جديدة.

وفي مقابلةٍ أجرَتْها مع مجلة «فورتشن»، تصف بارتس قدرتَها على إعادة التفكير على النحو التالي: «لقد غيَّرتُ هذه الشركة تغييرًا جذريًّا ثلاثَ مرات. إن الأمر يُشبِه ركوبَ قاربٍ شراعيٍّ يجب تغيير وجهته مع تغيُّر اتجاه الريح. لقد تغيَّرَ الاقتصاد، وتغيَّرَتِ التكنولوجيا، ولحسن الحظ كان لديَّ مجلسُ إدارةٍ صبورٌ.»

(٤) إعادة التفكير أمر نسبي

ربما يوجد قادة يُعِيدون التفكيرَ باستمرارٍ في عملهم، ومستعِدُّون لإعادةِ النظر حتى في أنجح أفكارهم ومناهجهم، ثم التخلُّصِ منها لصالح مفاهيمَ جديدةٍ ومحسنة. إلا أننا وجدنا من خلال تجربتنا أن هذا النوع من القادة الذين يتمتعون بعقليةٍ متفتحةٍ للغاية؛ هو نوع استثنائي. ولحسن الحظ، فإننا لا نحتاج إلى قادة يُعِيدون التفكير باستمرارٍ في طريقة إنجاز الأمور؛ فتحدِّي المرء لنموذج العمل الخاص به، أو قِيَمه، أو افتراضاته حول ما هو صحيح، يتطلَّب قدرًا كبيرًا من مهارات الشجاعة والقلب، والقادةُ الذين يستطيعون تحقيقَ هذا الهدف سوف يُعزِّزون كفاءتهم إلى حدٍّ كبير.

والأهم من ذلك، لا بد أن يتعلَّم القادةُ اختيارَ النقاط التي تتطلَّب إعادة التفكير؛ فإذا تطرَّفوا في إعادة التفكير، فقد يؤدِّي ذلك إلى نتائج عكسية؛ فالأشخاص الذين يُعِيدون التفكير في معتقداتهم الشخصية لا إراديًّا، يراهم الناسُ أشخاصًا متهوِّرين أو متقلِّبين أو حتى غرباء الأطوار. وإذا استمرَرْتَ في الإتيان بمنهجٍ جديدٍ في كل يوم، فسرعان ما سيتعلَّم فريقك أن يتخلَّص جديًّا من آخِر فكرةٍ توصَّلت إليها. على الجانب الآخَر، تظهر الفرص عندما يكون من الحكمة رؤية الأشخاص والمواقف بطريقةٍ مختلفة. وقد تسنح الفرصةُ في أحد برامج تطوير القيادة أو أثناء التوجيه، وهذا هو الهدف الأساسي من كلتا العمليتين. وربما تأتي الفرص عندما يُعاني القائد من إخفاقٍ ما، ويصبح منفتحًا على طرقٍ جديدةٍ لإنجاز المهام. وقد تأتي عندما تنتكس الشركة أو يتراجع أداؤها، ويصبح النظام «متحرِّرًا من القيود» أو منفتحًا على أسلوبِ تفكيرٍ جديد. وفي أي وقتٍ تُقدِّم فيه تلك الفرصُ نفسَها (ونزعم من واقع خبرتنا أنها لا تُقدِّم نفسَها بانتظام)، يصبح لزامًا على القائدِ الاستعدادُ لتحليل تلك الفرص من منظورٍ جديدٍ ومركَّز.

توجد، أيضًا، أمثلة أخرى لا تصبح فيها إعادة التفكير بالضرورة علامةً على قائدٍ يمزج بين مهارات العقل والقلب والشجاعة. فذات مرةٍ قدَّمْنا اقتباساتٍ مباشِرةً من أقوال خمسة عشر شخصًا أوضحوا أن قائدهم ينتهج استراتيجيةً خاطئةً، وأنه معانِد ومنعزِل وغير قادرٍ على التحلِّي بالمرونة عندما تصبح المرونةُ ضروريةً. قرأ القائد هذه الاقتباسات ورفضها على الفور، وأصَرَّ على أنها أقوال صادرة عن خمسة عشر شخصًا غير متفقين مع رؤيته.

هل كان هذا الشخص غبيًّا لأنه تجاهل الدليل الموجود أمامه، ورفض إعادة التفكير في استراتيجيته؟ أم كان قائدًا شجاعًا يتبع حَدْسه بدلًا من البيانات وتدريجيًّا سيُقنِع مؤسسته المقاوِمة لنهجه؟

وأخيرًا، يجب أن نعترف أنه في كثيرٍ من الأحيان تستأجر المؤسسات مستشارين لتولِّي إعادة التفكير نيابةً عنها. وحقيقة الأمر تكمن في أن الشركات تَوجُّهُها مُنصبٌّ في المقام الأول على الأنشطة، ومواردُها شحيحة، وتريد قيادة الموظفين نحو إنهاء المهام؛ فهي تفتقر إلى الوقت أو حرية التفكير اللازمة لإجراء تغييرات تختلف ١٨٠ درجةً عن ممارساتها المتبعة. وفي الوقت نفسه، تدرك الشركات أنها من الممكن أن تستفيد من التفكير الجديد، وفي هذه الحالة يستعينون بالمستشارين الذين يحفزونهم ويحثونهم على سلوك اتجاهاتٍ جديدة.

نحن لا نقترح إمكانية تجاهُل قادة المؤسسات لهذه المهارة إذا استعانوا بالمستشارين، بل نأمل أن يسمح القادة للمستشارين بتحفيزهم على إعادة التفكير وتقديم عناصرَ جديدةٍ إلى الثقافة تُجبِر الشركات على رؤية الأمور بطريقةٍ جديدة.

•••

أحد الجوانب التي لزامًا على القادة إعادة التفكير فيها هو كيفية ترسيم الحدود حول دورهم، وحول عملهم، وحول المؤسسة. وفي الفصل التالي سوف نستعرض الطرق المختلفة التي من خلالها يفرض العالَمُ المتغير على القادة إعادةَ ترسيم الحدود التي حدَّدوا بها أنفسهم وأدوارهم في العالَم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤