ساندرسون

من أحسن وألذ ما قرأت هذا الأسبوع (١٩ أغسطس ١٩٢٥) ترجمة حياة ساندرسون، كتبها الأديب المعروف ولز، وفي هذه الترجمة غذاء دسم للأذهان وخاصة لأذهان المعلمين.

فقد كان ساندرسون ناظرًا لمدرسة شهيرة إنجليزية تدعى مدرسة أونديل، تولَّى نظارتها وقد تدركت إلى الانحطاط، وتركها وهي قدوة المدارس في جميع أنحاء بريطانيا، بل في جميع أنحاء العالم، وقد اختطَّ خططًا جديدة في التعليم، وانتهج من المناهج ما يخالف المألوف، حتى أقام عليه عاصفة من الاحتجاجات، لم يلبث — بعد أنْ ظهرت الفوائد التي يجنيها التلاميذ من هذه الخطط والمناهج — أنْ هدأت وانقلب خصومه أنصارًا، يؤيدونه ويدعون إلى تأسيس المدارس على غِرار مدرسة أونديل.

وهذه المدرسة قديمة، مضى على تأسيسها أكثر من خمسمائة سنة، أسسها أحد الأبرار ووقف عليها أوقافًا، ولكنها منذ أقل من أربعمائة سنة تولى إدارتها نقابة للبقالين، وهم لا يزالون يُشرفون عليها للآن.

والتعليم في أوروبا منذ بدء النهضة الحديثة قد تدرج وتطور، ولكن يمكن أنْ نستخلص من تطوره هذا ثلاث حقائق بارزة، فقد بدأت النهضة بالعناية باللغة الإغريقية واللغة اللاتينية، ولا تزال هذه العناية ظاهرة في المدارس القديمة، وكانت مدرسة أونديل إحدى هذه المدارس، فكان عنوان التربية الحقة عند أبناء السادة أنْ يعرفوا هاتين اللغتين قراءة وكتابة، بل تأليفًا.

ثم لما كان القرن السابع عشر أخذ تعليم الرياضيات — كما تمارس الآن في المدارس — ينتشر؛ أي أنه عندما بدأ القرن التاسع عشر لم تكن مواد الدرس في المدارس الأوروبية غير هاتين المادتين الرياضيات واللغات القديمة، ومضى أكثر القرن التاسع عشر على هذه الحال، ثم نزعت ألمانيا نزعة علمية عنيفة في المدارس، حوالي أواخر القرن الماضي، وبدأ رجال الصناعة في إنجلترا يتوجسون شرًّا من المنافسة الألمانية، ويبحثون عن أسباب الرقي الاقتصادي في ألمانيا، ويعزونه إلى تعليم العلوم في المدارس، وأخذ الرأي العام في إنجلترا يميل إلى تعليم العلوم بدلًا من اللغات القديمة، وقد انتصر هذا الرأي إلى حدٍّ ما، ولكنه لم ينتصر الانتصار كله؛ إذ لا تزال للقديم مكانته في جملة مدارس، ومما كان يجعل لتعليم اللغات القديمة مكانة في المدارس أنَّ الجامعات كانت لا تقبل أي طالب بها إذا كان يجهل هذه اللغات.

ونقابة البقالين التي كانت تدير مدرسة أونديل هي هيئة قديمة، وهي مؤلفة من تجار، وهي لذلك سريعة الإحساس بالمنافسة التجارية في العالم، فلما شاع في الربع الأخير من القرن الماضي أنَّ ألمانيا تعلِّم العلوم في مدارسها، وأنَّ هذا التعليم سيؤدي إلى فوزها في الصناعة، رأى بعض أعضاء نقابة البقالين أنْ يدخل هذه العلوم في مدرسة أونديل، واشتد الحوار والمحاجة بين الأعضاء بشأن هذه البدعة، ولكن أنصار الجديد تغلبوا وكانت أكثريتهم واحدًا فقط.

وعين المستر ساندرسون منذ ثلاثين عامًا؛ لكي يغير منهج الدراسة ويدخل تعليم العلوم فيه.

هذه هي المهمة الأولى للمستر ساندرسون، وقد نجح فيها أكبر نجاح، ولكن غيره فعل مثل ذلك في مدارس أخرى، فليس فضله كبيرًا من هذه الوجهة، وإنما أكبر فضله أنه غير خطة الدراسة، وإليك البيان:

كانت خطة التدريس في القرون الوسطى وإلى بعيد النهضة، قائمة على الإجبار واستعمال العصا، ثم ظهرت مدارس اليسوعيين، فتقدم التعليم على أيديهم تقدمًا عظيمًا، بل هم أصحاب الفضل في نشر التعليم في أوروبا، بل ربما كانوا أول من أوحى إلى الناس فكرة التعليم العام الإجباري، وكانت خطة اليسوعيين تنحصر في منع العصا، وتحريك المنافسة بين التلاميذ بواسطة الجوائز، ولا تزال هذه خطتهم التي عمَّ اصطناعها في سائر المدارس، وجميع مدارس العالم الآن تجري على مبدأ اليسوعيين، وهو مبدأ المنافسة بين التلاميذ، إمَّا للحصول على جائزة وإمَّا للحصول على درجة، ولكن ساندرسون حاول أنْ يغير هذا المبدأ، ونجح في محاولته نجاحًا كبيرًا، فإنه بث بين التلاميذ روح التعاون بدل المنافسة القديمة، فكانت الفِرق تشتغل في أي موضوع علمي أو أدبي، فيختص كل فرد بفرع من الموضوع، ويبحث بنفسه مستقلًّا، ثم تجمع أبحاث جميع التلاميذ وتقرأ عليهم، فينتفع كل تلميذ بمباحث الآخر، فعلاقة التلميذ بإخوانه هي علاقة التعاون، فهم ليسوا خصومه أو أنداده الذين يجب عليه أنْ يفوز عليهم؛ لكي ينال درجة أو جائزة، بل هو يشعر أنه عضو في هيئةٍ كل أفرادها عامل معه لإتمام البحث، فهو محتاج إلى معونتهم كما أنهم محتاجون إليه، وكل ما فيهم من نقص أو إهمال ينعكس أثره فيه، فكل عضو مضطر إلى أنْ يناصح سائر الأعضاء، وأنْ يخلص ويطلب نجاحهم ويعمل له.

هذه هي الفكرة الجليلة الخطيرة التي اتجه إليها ساندرسون وحققها، والذي ألهمه هذه الفكرة هو نظام الهيئة الاجتماعية التي نعيش فيها، فإنه كما هو ظاهر لنا جميعًا نظام منافسة، يعمل كل منَّا فيه لمصلحته، لا يبالي بمنفعة الآخرين أو ضررهم، ولكن المدرسة في رأي ساندرسون يجب أنْ تكون أنموذجًا للهيئة الاجتماعية، فإذا بثثنا فيها روح التعاون بدل روح المنافسة، خرج منها التلميذ وهو مشبع بهذه الروح، فيعمل لتغليب نظام التعاون على نظم المنافسة الموجودة الآن.

هذه هي الفائدة الاجتماعية للخطة الجديدة التي اختطها المستر ساندرسون، ولكن ثَمَّة فائدة تعليمية لهذه الخطة، وهي أنه لا يمكن تلميذًا أنْ يهمل في أداء واجبه، بل هو لا يمكنه أنْ يؤثر الكسل على أداء واجبه، فهو مكلف بالبحث في فرع خاص من فروع الموضوع الذي تدرسه الفِرقة، ولن تتم الفِرقة موضوعها إلَّا إذا أتم بحثه، فكل منهم مضطر إلى مساعدته إذا هو عجز، ثم هو يدخل فيه بروح المتحمس الذي يرغب في كشف الحقائق المجهولة، فوظيفة المدرس تقتصر في هذه الحالة على الإرشاد والهداية، فهو يخبر التلميذ عن مظان البحث، ويذكر له أسماء الكُتب، ثم يطلقه في مكتبة المدرسة يبحث عما يشاء.

وقد تمكن تلاميذ ساندرسون في فِرقة الميكانيكيات من أنْ يصنعوا متعاونين آلة بخارية قوتها ستة خيول، كما صنعوا أشياء أخرى أقل أهمية من هذه الآلة، وكانوا في درس البيولوجية — علم الحياة — مثلًا لا يقعدون أمام المدرس يلقنهم المعارف الجافة، بل يرشدهم إلى الأماكن التي يستطيعون أنْ يجدوا فيها الأحياء المختلفة حية ومتحجرة، فيخرج كل تلميذ، هذا بشبكة يصيد بها الفراش، وهذا بمشرط، وهذا يجول في الشاطئ يبحث عن الأصداف، ثم يأخذ كل واحد منهم في درس ما وجده، ويطبقه على ما يجده في الكتب التي يرشده إليها المعلم، ثم يكتب شرحًا وافيًا يلقيه أمام التلاميذ والمعلم، الذي يقف موقف الناقد فقط، أمَّا المعلم الحقيقي فهو التلميذ يعلم إخوانه.

وكذا الحال في الموضوعات الأدبية؛ يبحث التلاميذ بالتعاون وبروح البحث العلمي، فإذا كان نابليون مثلًا موضوع درس الفِرقة أخذ كل تلميذ على عاتقه أنْ يدرس ناحية من حياة هذا الرجل، فتلميذ يبحث في خططه الحربية، وآخر في أخلاقه الشخصية، وآخر في نتائج حروبه الاجتماعية، وآخر في أغراضه السياسية، وكل هذا بإرشاد المعلم، ثم يعود كل تلميذ ويقرأ ما كتبه عن البحث الذي وكل إليه أمام سائر إخوانه، وهلمَّ جرًّا.

والآن يحسن بي أنْ أقتبس بضع فقرات من محاضرات ساندرسون وخطبه، مما يزيد في إيضاح التلخيص السابق، قال:
يجب أنْ تكون المدرسة صورة للعالم الذي نحب أنْ نجده، ولنوضح ذلك بمثل المعمل، فأعمال المعامل هي أشق ما في المدرسة إذا مارسها التلاميذ بالروح التي أبغي بثها، وهاك ثلاثة شروط يجب استيفاؤها في هذه المعامل:
  • أولًا: يجب ألَّا يشتغل التلاميذ لأنفسهم، وألَّا يكون شغلهم تمارين يقصد منها الحفظ، بل يجب أنْ يشتغل كل تلميذ لقضاء حاجة من حاجات الجماعة الذين حوله.
  • ثانيًا: يجب أنْ تتاح الفرصة لكل تلميذ بأن يقوم بنفسه بعمل أهم ما في التجربة، وأنْ تكون كل التجارب في المعمل.
  • ثالثًا: إذا ذهب التلميذ إلى المعمل ينبغي أنْ يجد فيه عملًا يملأ كل فراغه، وألَّا يكون في عمله تَكرار ممل، وألَّا يشتغل لنفسه بل للجماعة.
وقال أيضًا:

إنَّ إلغاء المنافسة بين التلاميذ يؤدي إلى شيء آخر، وهو أننا نجد جماعة ليس يعرف بينها العقاب … إني أعتقد من تجاربي واختباراتي أنَّ العقاب جريمة، بل هو ليس جريمة فقط، بل غلط فادح، وسبب ذلك أنه طريقة سهلة رخيصة؛ لأنه من السهل أنْ نعاقب كل من يرتكب ذنبًا، ولكن من الشاق الذي يحتاج إلى التفكير والعناية والبذل أنْ نرتب الجماعة وننظمها، بحيث ينعكس من هذا النظام أثر على الفرد يمنعه من أنْ يأتي أمرًا مكروهًا.

يجب أنْ تخرِّج المدارس رجالًا قد بُثَّ في قلوبهم العزم على البحث عن الحقائق، تلك الحقائق التي هي ضمان الحرية، وأنْ يتوقوا في بحثهم تلك الطرق التي تغشى على الحق.

وأنا مضطر إلى الاختصار في هذه المقتبسات؛ لكي أعالج ناحية أخرى من حياة ساندرسون، فإنه لما نشبت الحرب الكبرى تزعزع إيمان أكثر الناس، وخاصة المستنيرين منهم في جميع عقائدهم القديمة، فإن هذه الحرب كانت بمثابة العاصفة تهب على الشجرة قد كمن فيها السوس ونخرها، فتقع وتتحطم لأول ريح، وكذلك الحال في هيآتنا الاجتماعية، كانت تتراءى لكل من ينظر إليها كأنها راسخة لا تتزعزع، وإذا بالحرب تفاجئنا، فتهدم الأسس، وتفضح النقائص، وتكشف عن القروح، وأخذ من ذلك الوقت كل إنسان مفكر يحسن الظن بالهيئة الاجتماعية في مراجعة نفسه؛ يسائل نفسه عن هذه المؤسسات: هل هي مفيدة أم مضرة؟

وهذا كان حال ساندرسون، فإنه خرج من دائرة التعليم إلى السياسة والدين، وأخذ يُسائل نفسه: هل الإمبراطورية الإنجليزية توافق الديانة المسيحية أو لا توافقها؟ وهل المسيحية الآن توافق العصر الحاضر وترضي شهوات النفس العليا أم لا ترضيها؟

وخلاصة ما انتهى إليه أنه أنشأ في مدرسة أونديل ما دعاه: «معبد الرؤيا»، وقد مات قبل أنْ يتمه، ولكن يؤخذ من إيضاح صديقه ولز أنه لم يقصد من هذا المعبد أنْ يتعبد فيه الناس جماعة، ولا أنْ يكون غرفة محاضرات أو متحفًا، وإنما قصد منه أنْ يكون مكان وحي للمفكرين، فلم يكن به سوى كرسي واحد يقعد فيه من يريد التفكير لمصلحة الإنسان برهة، بعيدًا عن الضوضاء والمصالح الشخصية، وكان المعبد غرفة كبيرة تحتوي على تاريخ الإنسان الماضي، وبه الخرائط التي تدلُّ على تقدمه وخروجه من حال الحيوانية إلى الإنسانية، بحيث يعبر عن قوة الابتكار في الإنسان؛ وذلك لكي يكون لنا من الماضي مرآة ننظر بها إلى المستقبل، قال ساندرسون: «يمكن كل مدرسة، أو كل حي في مدينة، أو كل هيئة صناعية أنْ تشيد معبدًا تجمع فيه آيات الأعمال الإنسانية العظمى وتقدم الإنسان.»

ولكن المعبد لسوء الحظ لم يتم، وإنْ كان كل منَّا يشعر أنَّ نفسه تتشوق إليه، وإنه قد آن لكل إنسان أنْ يغذي الجانب الروحاني من نفسه غذاءً صحيحًا على النمط الذي أراده ساندرسون؛ لأنه من البديهي أنَّ عبادة إيسيس العذراء وابنها هورس، قد قدمت وبليت ولم يعد فيها مقنع لنفس إنسان متعلم مثقف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤