أحلامنا صورة شهواتنا ومرآة لثقافة أسلافنا

ليس شك في أنَّ الذريات القادمة ستضع «فرويد» في صف «داروين»، فإن كلًّا منهما فتح بابًا لعلم جديد، لا يمر الآن عام إلَّا والكتب التي توضع في شرحه تعد بالعشرات، والعلماء في كل مكان يتدارسونه ويكشفون مجاهله، فإن «داروين» وضع أساس نظرية التطور، ووضع «فرويد» أساس نظرية العقل الباطن، والنظريتان على كثرة ما كتب فيهما، وعلى قدم الأولى التي ترجع إلى سنة ١٨٥٩ وحداثة الثانية التي ترجع إلى سنة ١٨٩٢، لا تزالان تثيران البحث وتكشفان من المجاهل ما لا ننتهي به من العجب منه. وبين العلمين علاقة، بل علاقات، ولكن يمكن أنْ نقول إن نظرية التطور كما فهمها «داروين» ترمي إلى البحث عن طبيعة الجسم الإنساني وأصله وتطوره، أمَّا نظرية العقل الباطن عند «فرويد» فترمي إلى البحث عن طبيعة نفس الإنسان وتطورها.

وكما أنَّ داروين قد أثار عاصفة من العداء والجدل، فإن «فرويد» يثير الآن إعصارًا من البغض والمقت بين بعض الناس، فقد كان أكبر ما أحنق الناس في عصر «داروين» قوله: إنَّ الإنسان والحيوان من أصل واحد، والآن يقول «فرويد» ما هو أسوأ من ذلك، يقول إن الغريزة الجنسية هي أساس خواطرنا وأحلامنا، وأنَّ حبسها هو علة الهستريا عند النساء والنورستينيا عند الرجال، وأنها أيضًا العلة الوحيدة لصنوف الهوس التي تصيب بعض الناس، ثم يتدرج من ذلك إلى أنَّ الأساطير القديمة ترجع إلى هذه الغريزة، وأنَّ الإنسان اهتدى إلى اللغة عن سبيلها أيضًا.

وأكبر ما يعتمد عليه «فرويد» في نظريته هو «التحليل النفسي»، يحلل الأحلام والخواطر — أي أحلام اليقظة — كما يحلل أعراض الأمراض الهستيرية والنورستينية، وهو يرى أنَّ الحلم يعبر عن شهوةٍ ما، ولكنه في أكثر الحالات يعبِّر عن شهوة جنسية.

ولكن فرويد ليس سلطانًا، بل رائدًا فتح الطريق، وجاء بعده تلاميذه فاهتدوا بهديه أولًا، ولكنهم استقلوا عنه وشق كل منهم طريقًا لنفسه.

ففرويد يسود المدرسة النمسوية، ويكاد يقول إن الشهوة الجنسية هي كل شيء في العقل الباطن، وأننا يجب أنْ نتوهمها في الأحلام والخواطر والأمراض النفسية.

ويسود في زوريخ الأستاذ «يونج»، وهو يخرج على «فرويد» من حيث إنه يقول: إنَّ العامل الأصلي في العقل الباطن ليس الشهوة الجنسية، بل شهوة الحياة والرقي. ويتصوف أحيانًا فيقول: إنَّ للأمم والشعوب عقلًا باطنًا يتلخص في كل فرد.

أمَّا في إنجلترا فإن الدكتور «رفرز» يسود ويقود طائفة «المحللين للنفس»، وما يمتاز به إثباته أنَّ الحلم قد يكون أحيانًا محاولة يحاول فيها العقل الباطن إيجاد حل يعاون به العقل الواعي، وأنه لا يدلُّ في كل الحالات على شهوة كامنة، وإنما يدل على التردد واصطراع الشهوات، ومن الإنصاف أنْ نقول: إنَّ في هذا العلم الآن بعض الخبط يرجع إلى أنه في طور البداية، ولكن من الحق أيضًا أنْ نقول: إننا نشعر ونحن نقرأ مؤلفات هؤلاء العلماء أنهم يكشفون لنا مجاهل ما كنا ندري بها، نقف أمامها حائرين متعجبين لهذا العالم الغريب الذي كنا نجهله.

وسيرى القارئ فيما يلي شرحًا لهذه النظرية مع اختبارات قليلة تجرأ كاتب هذه السطور على إثباتها وبحثها هنا.

•••

سرائر النفوس ومنطويات الضمائر، تتضح في الأحلام أكثر مما تتضح في أوقات اليقظة، وهي أيضًا تتضح في فلتات اللسان وقت الغفلة أو الإعياء، وإنْ كان وضوحها هنا أقل من وضوحها في الحلم؛ لأن الإنسان وهو يحلم يفقد وعيه، فتنطلق أفكاره وتجري خواطره طبق مشتهياته؛ وذلك لأننا ونحن في يقظتنا نعمل بعقلنا الواعي، فتتقيد خواطرنا بالظروف التي تحوطنا، حيث ترانا مصطدمين بالحقائق التي لا نستطيع تبديلها، ولكننا ونحن في النوم نحيا حياة غير واعية؛ أي لا نعي ما حولنا، فتنطلق خواطرنا لا تقيدها الحقائق ولا تصدمها، فما انحبس في أوقات يقظتنا من الخواطر والشهوات، ينطلق في أوقات نومنا، وأيضًا في أوقات غفلتنا عندما نسهو ويخمد العقل الواعي فيطمو به العقل الباطن ويتغلب عليه، ويُجرى على لساننا كلمة لم نكن لنقولها لو كنا في وعينا التام.

والخلاصة أننا في يقظتنا نعمل بالعقل الواعي، نعي ما نفعل وما نقول، وفي نومنا وغفلتنا نعمل بالعقل الباطن، فلا نعي ما نهجس به، ويجري عقلنا الباطن على قواعد التفكير القديمة التي كان يجري عليها آباؤنا في العصور المتباعدة، وعلى قواعد التفكير عند الأطفال؛ لأن الطفل يمثل السلف القديم أكثر من الشاب، ومن أحلامنا يمكننا أنْ نعرف اختبارات آبائنا الأقربين قبل الحضارة، كما نعرف شيئًا قليلًا وخاصة وقت طفولتنا من اختبارات جدودنا قبل خروجهم من الأشجار واستقرارهم في الكهوف، فالطفل وهو يحلم بأنه يقع من الشجرة أو من علٍ يستعيد ذكرى الجدود قبل مليون سنة، ويجدد لنا اختبارًا قديمًا اختبرناه، ونحن نمشي على أربع ونعيش على الأشجار ونقع منها، والطفل يمشي على أربع ويقع في حلمه من مكانٍ عالٍ.

لكن الشاب البالغ لا يمشي على أربع، ولا يحلم أنه يتردى من علٍ؛ لأنه قد عدا هذا الطور، ولكنه في أحلامه يعيد لنفسه اختبارات الإنسان الأول، فهو إذا اغتاظ من خصمه لم يعمد في حلمه إلى المحاكم فيشكوه، بل يعمد إلى طُرق العصر الحجري، فيتناول فأسًا أو مُدية ويقتله.

ومعنى ذلك أننا في أحلامنا نسلك في تفكيرنا المسالك القديمة التي كان آباؤنا في العصر الحجري يسلكونها، فأحلامنا الحديثة هي ثقافة آبائنا القديمة، ومما يبصر القارئ بذلك أننا قليلًا ما نستعمل اللغة في الأحلام، فالحلم هو «الرؤيا» التي نراها، فهو ليس شيئًا نسمعه، بل شيئًا نراه؛ وذلك لأن اللغة حديثة العهد، وكان آباؤنا القدماء أشبه بالخُرس منهم بالمعربين، ثم مما يبصرنا أيضًا أننا نستعمل رموزًا في الحلم تشبه الرموز التي يستعملها الأخرس عند الكلام، أو التي يستعملها الهمج من الناس عند التعبير إذا أعوزتهم اللغة، والهمج الآن يمثلون أسلافنا القدماء.

ولذلك فإن درس الأحلام وما فيها من رموز عديدة سيبسط أمام أعيننا ثقافة آبائنا؛ كيف اخترعوا اللغة، وكيف أنشئوا الأديان وألَّفوا الأساطير.

فالحلم في طريقته يجري على النمط القديم، ولكنه في غايته يعبر عن أغراضنا الراهنة التي تشغل بالنا وقت يقظتنا، فإننا وقت اليقظة نتقيد بالظروف، فلا تتحقق كل مشتهياتنا ورغباتنا، فإذا نمنا انطلقت هذه القوة المحبوسة، فنحقق في النوم بالعقل الباطن ما عجزنا عن تحقيقه في اليقظة؛ ولذلك فإن أكثر ما تعبر عنه الأحلام هذه الرغبات والمشتهيات، كالصائم يمنعه الطبيب عن الطعام فيحلم بتناول أشهى المأكولات، وكالشاب يتأجج شوقًا لحبيبته فيرى طيفها في المنام، ولكن ليست كل الأحلام تعبر على الدوام عن شهواتنا ورغباتنا، فإن العقل الباطن يحاول أحيانًا أنْ يحل المشكلات التي تعرض لنا وقت اليقظة، وأحيانًا ينير الحلم طريق الهداية لنا في حياتنا.

وفيما يلي سأذكر للقارئ بعض الأحلام التي وقعتْ لي أو لأصدقائي؛ لننظر إليها في ضوء التفسير السابق:
  • (١)

    كان عليَّ دعوى مدنية قد صرت فيها عُرضة لأنْ أخسر مبلغًا كبيرًا، وكان عندي مستند ينجيني منها ولكني أضعته، فرأيتني في الحلم وأنا واقف أمام الخصم ومعي ثلاثة مستندات أتباهى بها أمامه، وقد طربت بلذة الظفر به. وهذا حلم خلوٌّ من الصنعة كما أنه خلوٌّ من الثقافة، وكل ما فيه أنه عليه مسحة الطفولة، فقد وقف مني عقلي الباطن موقف الصبي المغفل الذي يقول: فيم الغضب والأسف؟ أضعت ورقة فهاك ثلاث ورقات، فرؤياي هنا ساذجة، قد ارتدَّ فيها العقل إلى طُرق الأطفال، فهي تشبه رؤيا الجائع الذي يحلم بالموائد المبسوطة أمامه.

  • (٢)

    صاحب الرؤيا هنا شاب لم يتزوج في نحو الثامنة عشرة، فهو إذن متهم في كل ما يحلمه في غريزته الجنسية، رأى جملة مرار أنه في حفلة عرس يأكل سمكًا مزخرفًا مما يرى عادة في الولائم. وتأويل هذا الحلم أنه يرغب في الزواج، ولكن ظروفه تمنعهُ، فالسمكة رمز للمرأة، وإحساس الجوع قريب من الإحساس بالغرام، وعند سؤالي له: هل تعرف أغنية بها ذكر السمك؟ أجاب على الفور: «سمك يا بني لعبك في المية جنني».

    وعندما سئل: هل كان الطعام طيبًا؟ أجاب: «لذيذ»، فأعدت السؤال بطرق مختلفة، فكان الجواب «لذيذ» على الدوام، وهذا الوصف يدلُّ على الإحساس الذي يخامر نفسه.

    وهذا الحلم ساذج أيضًا ولكن لغة الأحلام — وهي الرموز — واضحة في الرمز بالسمكة للمرأة.

  • (٣)

    ﻓ… يتشاجر كثيرًا مع زوجته، وقد خطر له في يقظته أن ينفصل منها بطلاق، ولكنه كره ذلك للعار الذي يلصق بكل مطلق، فهو يرى في حلمه أنه في زورق صغير يجدِّف ويخرج به إلى البحر كأنه يتنزه، وكان قد أخذ هذا الزورق من صاحبه بالأجرة، فبينما هو عائد إلى المكان الذي استأجر منه الزورق بعد أنْ لقي موجًا مضطربًا، خطر له أنْ يلقيه إلى الشاطئ في نصف الطريق ويتركه ويخرج، وفعل ذلك، وبينما هو خارج وقع في الطين وتلطخ بالوحل، فعاد إلى الزورق وقال لنفسه: «لا يجب أنْ أذهب به إلى صاحبه، ولكن يجب أنْ أريح الزورق بأن أفتح له متنفسًا في طرفه»، وبينما هو يهم بالتجديف رأى فتاة تنزل في زورق آخر ومعها عائلتها.

    وتأويل هذا الحلم أنَّ الزورق هو المرأة أي زوجته، وهنا يجب أنْ نذكر أنَّ العرب أطلقوا لفظ «الجارية» على السفينة، وكلنا يعرف أنَّ «الجواري المنشئات» هي السفن، فالحلم يصف حياته الزوجية، وأنها سارت هونًا على الماء في شبه نزهة، ثم حدث الخلاف الذي رمز إليه بالموج المضطرب، فأراد أنْ يترك زوجته فحسب لعار الطلاق، ورأى أنه في تركها يتلطخ بالوحل، والوحل هو العار، ثم حاول عقله الباطن أنْ يحل هذا المشكل، فنصح له أنْ يستأنف حياته الزوجية ويسير بالزورق بعد أنْ أشار عليه بالتفريج عن زوجته، بأن يقلل من ضغط عواطفها، وعند ذلك رسم له الحياة الزوجية الهنية في فتاة جميلة تسير بين أعضاء عائلتها، ففي الحلم شيء من الثقافة القديمة، وهو الرمز للمرأة بالسفينة، وشيء من الذكاء أبداه العقل الباطن في نهي صاحبه عن الطلاق.

  • (٤)

    هذا الحلم الأخير لي، ابتعثه في ذهني وأنا نائم حادثة حدثت في النهار، فقد وقع في يدي كتاب جديد فتصفحتهُ، فألقيته قائمًا على الصناعة اللفظية مغرقًا فيها، فألقيته باشمئزاز وأنا أقول: ألفاظ، ألفاظ، وفي نومي رأيت أني صبي صغير ألعب وأنا حافي القدمين على جسر مصنوع من الخشب، ثم نظرت وإذا بجنازة عجيبة تسير أمامي، وكان الميت هو الشاعر الجاهلي لبيد الذي يقال: إنه عاش ١٤٥ سنة، ولم يكن ميتًا موتًا مألوفًا؛ لأنه كان قاعدًا فوق نعشه وهو في جرم عشرين رجلًا، والدم يسيل من أنفه، وهو يقول الشطرة الثانية من هذا البيت:

    ولقد سئمت من الحياة وطولها
    وسؤال هذا الناس كيف لبيد؟

ولكنه مع كلامه هذا كان ميتًا، يتبع نعشه مشهد فيه رجال عليهم خشوع الجنازة، ونظرتُ إليه وأنا واقف على الجسر، فشعرت بالراحة والعجب والخوف.

وتفسير هذا الحلم أني أكره الصنعة في الكتابة، وكثيرًا ما أقول في الجدل بشأن أولئك الكتَّاب الذين يعنون بالألفاظ أنهم يحاولون أنْ يجعلونا نكتب بلغة الجاهلية، وقلت مرارًا: إنَّ العرب قد انغمسوا في الصنعة، ومضى عليهم أكثر من ألف عام وهم فيها، فنشأ في عقلي الباطن فكرتان:
  • (١)

    أنَّ الصنعة تجعل اللغة غريبة عنَّا؛ حتى لتشبه عرب الجاهلية.

  • (٢)

    أنَّ الكتَّاب العرب انغمسوا في الصنعة مدة طويلة جدًّا، فرمز عقلي الباطن إلى هاتين الفكرتين بلبيد الشاعر؛ وذلك لأنه: (١) جاهلي، ولأنه: (٢) عاش عمرًا طويلًا، ثم رسمهُ أمامي كما أشتهي أنا؛ أي ميتًا؛ لأني أحب أنْ تموت الصنعة، وجعله ضخمًا جدًّا رمزًا لطول عمره، وجعله ينشد أمامي هذا البيت؛ لأن فيه معنى السأم من طول الحياة، وأنا أيضًا قد سئمت الصنعة.

ولكن بقي شيء آخر، وهو أني في منتصف الجسر وعلى طرفي الجسر طريقان، الطريق الذي حملت فيه جنازة لبيد وهو أمامي، وطريق آخر ورائي، فما معنى ذلك؟ معناه ما اعترك في نفسي في السنوات الأخيرة من الولاء لثقافة العرب أو العداء لها، وهل أتركهم وأسير في الطريق الآخر الذي وراء الجسر، وأقول باللغة العامية المصرية؟ أو أقنع بأن لبيدًا قد مات وأن لنا لغة الآن هي غير لغة عرب الجاهلية؟ دع عنك الشك في موته.

وليس ما شعرت به من «الراحة والعجب والخوف» سوى ما يخالج ضميري عند الكلام عن التجديد، والشرق والغرب، واللغة القديمة والحديثة، وما أشعر به من الشك والتردد، وإلى هنا أنا قانع بهذا التحليل، ولكن يمكنني أنْ أزيد عليه أنَّ عقلي الباطن اختار لبيدًا لعلاقة لفظية، فإني مشغول هذه الأيام بقراءة بعض الكتب في التحليل النفسي، ولا يخلو منها كتاب من ذِكر لفظة «لبيدو»، وهي القوة النفسية التي تبتعث الخواطر والأحلام، وكان قد خطر في بالي أنْ أعرب هذه اللفظة وأجعلها في العربية «لبيد»، وقلت في نفسي: إني كما أشعت ثقافة وطوبى، ومصرلوجية، ويوجنية، ونفسلوجية، وغيرها، فإني أشيع هذه اللفظة، فهجس بي هاجس عن مقاومة الرجعيين والجامدين، فدخلتِ اللفظة في مادة الحلم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤