الذهن والبصيرة وبرجسون

كان القرن التاسع عشر قرن الصراع بين العلم والدين، ولكن هذا الصراع عندما ننظر إليه بالنظر الحديث، نجد أنه كان قائمًا على أشياء تافهة لا يبالي بها الآن رجل الدين ولا رجل العلم، فقد كان النزاع بين الاثنين في القرن التاسع عشر قائمًا على التناقض بين ما ترويه الكتب الدينية عن خلق العالم ونظام الكواكب، وصحة الروايات التاريخية ونحو ذلك، فكان العلم يقول قولًا، ويقول الدين قولًا آخر.

هذا النزاع القديم ليس فينا الآن من يبالي به، فإن صحة القصة المروية عن يوسف بن يعقوب مثلًا أو عدم صحتها لا تزعزع إيمان أحد في اليهودية أو المسيحية؛ لأن الإيمان الديني لا ينحصر في هاتين الروايتين، وإنما هو يعم العالم، ويتنوع عقائدَ وأفكارًا، كما نرى في البوذية والإسلام والبرهمية وغيرها، فصحة الدين تقتضي النظر في روح هذه الأديان كلها، واستخلاص لبابها، والبحث بعد ذلك عما يتناقض في هذا اللباب مع العلم.

ويبدو لنا أنَّ الناس — أو بالأحرى العلماء — قد صار للنظر الديني أو الصوفي حرمة عندهم، لم يكن يشعر بها علماء القرن التاسع عشر، ونحن نعزو هذا الانقلاب إلى رجلين اثنين هما؛ كانط الألماني وبرجسون الفرنسي.

فقد شرع كانط في ختام القرن الأسبق ينتقد الذهن الإنساني، ويقول: إنه لا يمكنه أنْ يقف على كنه الحقائق؛ لأنه لا يعرف غير صورتها فقط كما تظهر له، فنحن نعرف الظواهر لا الحقائق، أي أننا لا نعرف الأشياء التي نراها في هذا العالم، وإنما نعرف الأفكار التي تؤلفها أذهاننا عنها، فنحن بإزاء العالم أو الكون كالرجل في غرفته، يتطلع من النافذة إلى الشارع، ويرى السابلة، فالنافذة هي واسطة التعارف بينه وبين هؤلاء السابلة، وكذلك حالنا نحن أيضًا في إدراك حقائق هذا الكون، ننظر إليها عن سبيل حواسنا وأذهاننا ولا نتصل بها مباشرة، فلا نعرف عنها إلا ما ترتئيه هذه الأذهان عنها، وما تكونه من الأفكار، وبإيضاح أكثر يمكن أنْ نقول: إنني لا أعرف هذه الورقة، ولا أقف على كنه حقيقتها، وإنما أعرف فقط فكرتي عن هذه الورقة.

وقد كان من أثر كانط أنْ تزعزعت المادية في القرن التاسع عشر، ثم جاءت نظرية التطور في منتصفه، ومن ينظر إليها يعتقد لأول وهلة أنها زعزعت الأديان؛ لأنها أنكرت روايتها للخلق، وهذا حق، ولكن يجب من جهة أخرى أنْ نذكر أنَّ هذه النظرية قد أضعفت الثقة بالذهن الإنسان؛ لأنها جعلته ناقصًا يتطور ويسير نحو الكمال، وما دامت الأفكار هي عبارة عن العلاقة بين المادة والذهن فإن هذه الأفكار تتطور أيضًا بتطور الذهن، فما نظنه حقائق إنما هو أفكار دائمة التطور، فصحتها هي على الدوام صحة نسبية غير مطلقة.

وجاء برجسون في عصرنا الحديث، فتناول من جهة أخرى هذا الموضوع، أي استنقاص الذهن البشري وعدم كفايته لأن يدرك حقائق الكون، وبرجسون منقوع في نظرية التطور، يسير فيها على هداية ولا يخبط، فهو يقول: إنَّ حياة الحيوان — كما نستقريها الآن — مقسومة إلى قسمين، من حيث الوعي والإدراك، وهذا القسمان هما:
  • (١)

    حياة الحشرات التي تعتمد في الإدراك على الغريزة بلا حاجة إلى معرفة مكتسبة.

  • (٢)

    حياة الإنسان والحيوان الراقية التي تعتمد على العقل المحتاج إلى معرفة مكتسبة.

وليس يشك أحد في اختلاف الغريزة من العقل، وأنهما سبيلان مختلفان جَدَّ الاختلاف للاتصال بحقائق هذا الكون، ولكن لما كانت الأحياء كلها من أصل واحد قد نبعت وتفرعت منه، فإننا نجد فيها جميعًا بذرتي الغريزة والعقل، ففي النملة أو النحلة شيء طفيف من العقل، كما أنَّ في الإنسان جراثيم الغريزة.

والغريزة والعقل نشأ كلاهما لقضاء ضرورات الأحياء من طعام وتناسل ودفاع، ولكن العقل في الإنسان قد عدا هذه الغاية من تزويد الإنسان بحاجاته المعيشية إلى البحث الفلسفي، واستحال ذهنًا صافيًا يبحث عن حقائق الكون بُغية المعرفة، وكذلك الغريزة يمكن أنْ تستحيل إلى بصيرة، وتكون عندئذٍ أصدق نظرًا في استكناه الحقائق من الذهن.

فالعقل المنزه عن الأغراض المعيشية قد استحال ذهنًا.

وكذلك الغريزة المنزهة عن الأغراض المعيشية تستحيل بصيرة، فبرجسون يقول: إنَّ أذهاننا لا يمكنها أنْ تقف على حقائق الأشياء؛ لأنها إنما نشأت من العقل، وهذا العقل نشأ لكي يتناول المادة ويصوغها في القالب الذي يهواه لمصالحه المعيشية، فهو إذا تنزه عن هذه الأغراض المعيشية صار ذهنًا، ولكن خصلته الأولى تبقى فيه، وهي تناول المادة وصياغتها، فيصير ذهنًا مخترعًا، ولكنه لا يمكنه مهما ارتقى أنْ يبلغ سرَّ الحياة، ولكن الغريزة تختلف منه في ذلك، فإن الزنبور الذي يذهب إلى يرقة إحدى الحشرات ويلسعها بحيث تكفي اللسعة للتخدير دون الموت، ثم يبيض فيها بيضه، حتى إذا تفقأ البيض خرجت أولاد الزنبور، وأكلت جسم اليرقة واغتذت منها، هو أقرب إلى سر الحياة بغريزته منا نحن بأذهاننا، فإنه بلا معرفة مكتسبة يغرز حمته في جسم اليرقة فلا يقتلها، وإنما يتصل بأعصابها بحيث يخدرها فقط، فكأنه على اتصال بهذه اليرقة، وعلى معرفة لدُنيَّة بأعصابها، يشبه اتصال أعصاب الإنسان بأمعائه، فهذه الأعصاب في الإنسان تسيطر على الأمعاء، وتجعلها تهضم وتمثل بدون معرفة مكتسبة، ولكن هذه السيطرة لا تقوم بالطبع إلا بتآلف وتفاهم بين الاثنين، ولكن هذا التفاهم غريب عن أذهاننا؛ لأنه من نوع آخر، وكذلك التفاهم بين الزنبور واليرقة، أو بين النملة والمن الذي تحلبه، فإنه غريب أيضًا عن أذهاننا، ولكنه يبين لنا أنَّ هناك طريقة أخرى للمعرفة هي أخصر جدًّا من طريقة الذهن، وهذه الطريقة هي طريقة الغريزة والبصيرة.

ونحن نعيش ونخترع بذهننا، ولكن في كل منَّا بذرة الغريزة؛ لأننا استقينا من معين الحياة نفسه الذي استقت منه الحشرات، وإن كانت الغريزة لم تقوَ فينا قوتها في الحشرات، فإذا أردنا أنْ نقف على كنه الحياة وسرها، يجب أنْ نستخلص من غريزتنا «بصيرة»، نتصل بها بالأحياء، ونقف منها موقف الزنبور من اليرقة، أو موقف النملة من المن، كما استخلصنا من العقل «ذهنًا» نخترع به.

فأداة الاختراع هي الذهن، ولكن أداة الفلسفة هي البصيرة؛ لأن الذهن هو العقل المنزه، وغايته الأصلية معالجة المادة واكتساب المعرفة، ولكن البصيرة هي الغريزة المنزهة، وغايتها الأصلية الإدراك اللدني للأحياء، بحيث يعرف الزنبور أعصاب اليرقة نفسها كأنها قطعة من جسمه هو نفسه، وليست فردًا منفصلًا بعيدًا عنه.

ولكن كيف نستحدث هذه البصيرة في أنفسنا؟

يقول برجسون: إنَّ ذلك ممكن كما استحدثنا السباحة، بعد أنْ نسيناها، أي بالرياضة والمران، ويقول: إنَّ الصوفية ليست في الواقع سوى النظر إلى الكون بالبصيرة دون العقل.

وأظن إلى هنا أني أوضحت رأي برجسون، أما نجاح كل منَّا في أنْ يستخلص لنفسه هذه البصيرة النافذة لأسرار الكون، فهذا ما يجب أن يفحص كل قارئ نفسه فيه، إنما أقول هنا: إنَّ سر الحياة عند برجسون هو الله نفسهُ، وهو سر الكون كلهُ.

•••

والآن لنتبسط قليلًا فيما يقوله برجسون من أنَّ الذهن البشري لا يمكنه وحده أنْ يدرك الحياة.

فإن هذا بأوجز عبارة ما يقوله برجسون، ويدافع عنه، ويحاول أنْ يثبته في كتابه العظيم «التطور الخالق».

فهو يقول: إنَّ الحياة — كما نستقريها الآن — ثلاثة فروع كبرى وهي:
  • (١)

    فرع النبات وطبيعته السبات، وهو خلوٌّ من الوعي، أي الدراية؛ لأنه لا يتحرك، وما دام لا يتحرك فهو لا يتردد، والتردد أصل الوعي.

  • (٢)

    فرع الحيوانات الدنيا التي تنتهي بالحشرات، وطبيعتها الغريزة وبها وعي؛ لأنها تتردد أحيانًا في حركاتها، وهذا التردد يجعلها تعي أنْ تدري بما تفعل.

  • (٣)

    فرع الحيوانات العليا التي تنتهي بالإنسان، وطبيعتها العقل الذي يتردد ويعي.

والحياة تشتمل على هذه الفروع الثلاثة، فإذا أردنا أنْ نفهم طبيعة الحياة على الوجه الكامل وجب أن يكون فينا عقل الإنسان وغريزة الحشرة وسبات الشجرة؛ لأننا نحن فرع من الحياة؛ ولذلك فإننا إذا حاولنا أنْ نفهم الحياة بأذهاننا وحدها، كان موقفنا بمثابة الجزء يحاول أنْ يفهم الكل.

ولكننا نحن والحشرات والنبات من أصل واحد، وهذا الأصل هو الحياة الشاملة لنا جميعًا؛ ولذلك ففي الحشرات جرثومة العقل، وفي الإنسان جرثومة الغريزة، وفينا نحن والحشرات طبيعة النبات، أي هذا السبات الذي يشملنا أحيانًا، فلا نحب أنْ نتحرك أو نعي أو نجهد أيَّ جهد.

ويمكننا أنْ نستغني عن النبات من حيث إدراك طبيعته؛ لأنه لما كان لا يعي — أي لا يدري — فإن أهميته بالنسبة لنا في صدد موضوعنا هذا تسقط؛ لأن الفهم وعي أي دراية، وما دام النبات لا يعي فهو لا يساعدنا في فهم الحياة.

يبقى بعد ذلك حيوان الغريزة وأرقاه النمل أو النحل، وحيوان العقل وأرقاه الإنسان، والعقل والغريزة كلاهما نشأ لقضاء حاجات الحيوان من تحصيل الطعام والتناسل ونحوهما، ولكن ثَمَّ فرقًا بينهما، فالغريزة لا تحتاج إلى تعليم أو تجربة، فإن الحشرة تقف من سائر الأشياء والحيوان موقف البصيرة الكاشفة، التي تتجلى لها الحقيقة فيما يخص طعامها أو أولادها دون أدنى اختبار سابق أو معرفة مكتسبة، ولكن العقل يختبر ويتعلم ويجرب وهو يجهل ما لم يكتسب معرفته بهذه الطرق.

فكأن للحياة أداتين للمعرفة، أداة الغريزة وهي تعرف كنه الأشياء ببصيرة ثاقبة لا تحتاج إلى تعليم أو اختبار، وأداة العقل، وهي تعرف بالتجربة والاختبار، ولكن معرفة الغريزة محدودة؛ لأنها مقصورة على ما ينفع الحشرة من طعام وشراب وسائر ما تسلكه لمصلحتها المعيشية، وتجهل ما سوى ذلك، ولكن الحيوان العالي الذي يعتمد على العقل يتوسع في تحصيل معاشه ويكتسب المعارف، فمداه في المعرفة أوسع من مدى الغريزة.

ولكن للغريزة ميزة على العقل، وهي أنها ألصق بالحياة منه، فالنملة التي تحلب المنة بدون أن تعلم ذلك تقف من المنة موقف الكشف تعرف طبيعتها، وبين الاثنين على انفصالهما علاقة تشبه ما بين رأس الإنسان وأمعائه ويده من العلاقة.

ولكن الغريزة — كما قلنا — ضيقة المدى محصورة المعرفة؛ لأنها مقصورة على مصالح الحشرة، ونحن لا تزال في نفوسنا جراثيم هذه الغريزة؛ لأننا نحن والحشرات قد استقينا من معين واحد هو الحياة.

وقد استنبطنا من العقل الذي لم ينشأ في الأصل إلا لتحصيل الطعام ذهنًا يفلسف ويدرس النجوم والكواكب، فإذا أردنا أنْ ندرك كنه الحياة، وجب أنْ نستنبط من نفوسنا تلك الغريزة، ونستخلص منها بصيرة تستكنه الحياة.

فالعقل إذا نزه عن غرض العيش استحال ذهنًا.

والغريزة إذا نزهت عن غرض العيش استحالت بصيرة.

والبصيرة ألصق بالحياة وأكثر إدراكًا لها من الذهن؛ لأن الذهن يتعلم ويختبر ويزيد معارفه، ولكن البصيرة تكشف لنا وتقفنا من سر الحياة والجماد موقف التجلي والمعرفة اللدنية، فكما أنَّ عند النملة معرفة لدنية بفائدة المنة، حتى إنها لتربيها وتحلبها وتعني بصغارها بلا سابق تعلم، كأنها هي والمنة جسم واحد منفصل المادة متصل الروح، كذلك نتصل نحن ببصائرنا بالأحياء والأشياء بسبيل المعرفة اللدنية التي هي من جنس معرفة النملة بالمنة، وإن كان مداها أوسع، كما أنَّ مدى الذهن أوسع من مدى العقل.

والخلاصة أنَّ برجسون يقول: إنَّ الأحياء التي على الأرض من حيث علاقتها بالمعين الأصلي للحياة — أي بطبيعة الحياة وكنهها وقصدها — ثلاثة أصناف، يمثلها النبات والحشرة والإنسان. والوعي — أي الدراية — مقصورة على الحشرة والإنسان، ولكن سبيل الأولى الغريزة وسبيل الثاني العقل، فالإنسان جزء غير متجانس مع هذه الأجزاء الثلاثة، فلا يمكنه أنْ يدرك كنه الحياة بعقله وحده، ولكن به مع ذلك جرثومة الغريزة، التي هي ألصق بالحياة من العقل، فسبيل الإنسان لكي يفهم الحياة إنما يكون بالبصيرة التي هي من الغريزة بمقام الذهن من العقل؛ لأن علم البصيرة لدني، أما علم الذهن فمكتسب.

•••

ولكننا لم نقل بعد كل ما يقوله برجسون، بل ولا عُشر ما يقوله، فإن كتابه يفيض بالنظريات التي إنْ لم تقنعك فهي تلقيك في حيرة، وتحثك على التفكير ومراجعة نفسك وآرائك.

ولكن هل للحياة أغراض تسير نحوها، وتحاول أنْ تصوغ المادة في القوالب التي تبلغها هذه الأغراض؟ أم هي تيار آلي أي كالآلة ليس لها غرض، تسير في العالم كما يسير الماء على الأرض، فهذا حجر يعوقه، وهذا عائق يحرفه عن استقامته، وهذه وهدة ينحط إليها وهلمَّ جرًّا؟

كلَّا، فإنما الحياة في رأي برجسون ترمي إلى غرضٍ، وتتجه نحو قصد، وهي لا تكف عن الاختراع لكي تبلغ هذا القصد.

ولنضرب لذلك أمثالًا:
  • (١)

    فهذا العقل الإنساني نعرف كلنا أنه يتحيز في الجهاز العصبي الذي يحتوي على الدماغ، وهذه الأعصاب تسيطر على أجسامنا، وهي وسيلة التفكير، فالجهاز العصبي من حيث التطور، ومن حيث محاولة الحياة التسلط على المادة، ومن حيث إنه أصل الذهن، غرض من أغراض الحياة؛ ولذلك فإن الحياة تحافظ على هذا الجهاز أبلغ محافظة، وتحوطه بأكبر ضرب من العناية، فإن الحيوان إذا قُطِع عنه الطعام فإنه يأكل نفسه، فتضمر جميع أعضائه ويهزل، فالكبد ينزل إلى نصف أو ثلث وزنه، والعضلات تنزل إلى ربع أو خُمس ما كانت، إلا الأعصاب فإنها تبقى كاملة لا تمس حتى الموت، فكأن مادة الجسم كلها تخدم الجهاز العصبي، وكأنه لا معنًى لوجودها إلا لهذه الخدمة، وكأنها تضحي بنفسها لأجل الأعصاب.

  • (٢)

    إنَّ الحياة تقصد إلى غاية جمالية قد تكون نافعة للحيوان، ولكن ليس بها أدنى منفعة للنبات، نعني بها اتساق الجسم وتوازنه بحيث يمينه يقابل يساره، وقد سارت نحو هذه الغاية في النخل مثلًا، فنظرت فيه إلى الاتساق والتوازن، مع أننا لا نرى الفائدة للنخل من ذلك، ولكننا لا يمكن أنْ ندرك بالنخل أن فكرة الاتساق والتوازن موجودة قديمة في معين الحياة الأصلي، وأنها أي الحياة تسير نحوه في النبات كما سارت في الحيوان، مهما اختلفت البيئة التي ينشأ فيها النبات أو الحيوان، ومعنى ذلك أنَّ الحياة ليست شيئًا آليًّا كالماء، يسيل ويستقيم وينحرف طبقًا لظروف المكان، بل هي لها غاية رمت إليها في الحيوان والنبات وحققتها.

  • (٣)

    نعرف أنَّ الحياة قسمت أجسام الحيوان إلى جسمين هما الذكر والأنثى، وهذا بالطبع اختراع مفيد للحيوانات، ولكنها سارت هذه السيرة نفسها في النبات مع عدم فائدة ذلك للنبات، ونحن أنفسنا نثبت عدم الفائدة بأننا لا نزرع بزر العنب أو بزر الموز، وإنما نعمد إلى الغصون أو الفسائل فنزرعها، ومعنى هذا أنَّ الحياة رمت إلى غرض وهو تقسيم الحي إلى ذكر وأنثى، وابتدأت بذلك في الحيوان، ثم عادت فحققته في النبات، مع عدم فائدته له.

فهذه أمثلة ثلاثة تثبت أنَّ الحياة ترمي إلى غرض وتسير نحو غاية، فهي تعني أكبر العناية بالذهن الإنساني؛ لأنه وسيلة تحريرها من المادة، ولعله يومًا ما يستطيع أنْ يتسلط على المادة تمامًا حتى يصوغها كما يشاء، ويخلق منها ما يشاء، ثم هي ترمي إلى هيئة الاتساق والتوازن، وقد حققت هذه الهيئة في الحيوان منذ زمن بعيد جدًّا، وعادت فحققته في أحدث النباتات وهو النخل، ثم ازدواج الجنسين غاية أخرى حققتها الحياة في الحيوان، ثم عادت فحققتها في النبات بلا أدنى فائدة للنبات من ذلك.

فالحياة إذن ليست آلية يتسلط عليها الوسط كما يتسلط سطح اليابسة على الماء الذي يسيل عليه، بل هي عنصر مدرك يرمي إلى غرض ويسير نحوه، والمادة تعوقه في سيره، ولكنه يتخطى العوائق أو يزوغ منها حتى يبلغ غايته.

•••

لقد طال هذا المقال حتى صرتُ أخشى أنْ تختلط على القارئ أركانه، فأنا هنا ألخص ما ذكرته، ثم أعقب عليه بنقد يسير.

فبرجسون يعتقد أنَّ النظر الصوفي دون النظر العلمي جدير بإدراك ماهية الحياة، أي سر الكون أو الله نفسه، والنظر الصوفي يعتمد على البصيرة دون النظر العلمي الذي يعتمد على الذهن.

ثم هو يعتقد أنَّ البصيرة كامنة في الإنسان يمكن استنباطها من النفس بالرياضة كما يفعل الصوفيون، وهو يعتقد أنَّ البصيرة أجدر من الذهن في إدراك الكون؛ لأنها تنبع من الغريزة، والغريزة ألصق بالحياة من العقل الذي نبع منه الذهن.

هذا هو الشطر الأول من فلسفة برجسون. الشطر الثاني هو أنَّ الحياة خالقة، وأنها ترمي إلى غاية تحاول أن تحققها، وأن تتغلب على عوائق المادة في تحقيقها.

فأما هذا الشطر الثاني فلا يمكن مناقشة برجسون فيه، فإن الحياة لا تخبط، بل ترمي إلى غاية، وهذه الغاية — كما يبدو لنا من استقراء التطور — غير مضمرة إضمار تعيين وتحديد، وإنما هي مجملة فيها، تتكيف وفق الظروف؛ لأننا لو فرضنا أنَّ هذه الغاية محددة معينة لما كانت الحياة حرة، ولكن استقراء التطور يدلُّ على هذه الحرية.

أما الشطر الأول وهو أنَّ الذهن في حاله الحاضرة قاصر عن إدراك كنه الحياة فصحيح لا غبار عليه، ولكن القول بأننا لن نفهم الحياة إلا بالبصيرة، فقول يحتاج إلى اختبار شخصي، وهو مثل القول بالأرواح إذا لم يختبره الإنسان بنفسه لا يصدقه، ولكن ألا يمكن أنْ يكون قصور الذهن الآن عن إدراك كنه الحياة راجعًا إلى أنه لم يتطور التطور الكافي، وأنه إذا نشأ لنا في المستقبل حاسة سادسة أو سابعة أمكننا أنْ ندرك أشياء تربك أذهاننا الآن، مثل معنى الأزل أو الأبدية، ومثل البعد الرابع عند أينشتين ونحو ذلك؟ ثم ألا نرى أنَّ عناية الحياة بأعصابنا دليل على أنها ترمي من جهازنا العصبي بما فيه دماغنا إلى هذه الغاية، وعندئذٍ تكشف لنا الحياة سرها؟ وإذا كان الأمر كذلك فالذهن يمكنه في المستقبل أنْ يقوم مقام البصيرة البرجسونية.

والمشقة في الإيمان بالبصيرة هي — كما قلت — أنَّ البصيرة اختبار شخصي، وكونها كذلك لا ينفيها ولا يثبتها، ونحن الآن في زمن علمي، لا يمكننا أنْ نقول فيه بوجود البصيرة؛ لأن طائفة من الصوفيين قالوا باختباراتهم الشخصية لها؛ لأن هذه الاختبارات «شخصية» وليست عمومية.

ولست أيضًا أشكُّ في أننا نهتدي أحيانًا في الفلسفة أو الدين، أو حتى في الأدب بما يشبه أنه يعدو الذهن، وبما يشبه أنْ يكون «بصيرة»، ولكن ما أدرانا أنَّ هذه «البصيرة» هي ثمرة الذهن، قد اندست إلى العقل الباطن حتى ضاعت منها العلل والأسباب، ثم بدت لنا كأنها وحي وإلهام؟

وخلاصة ما أقول: إنَّ برجسون يربكني ولكنه لا يقنعني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤