على مفترق الطرق أو خاتمة اليوم والغد

وهو بحث عن الأمة المصرية؟ هل هي أمة أوروبية يجب أنْ تسير مع الأمم الأوروبية وتتثقف بثقافتها، أو أمة شرقية يجب أنْ تحتفظ بما ورثته عن الشرق؟

(١) التردد بين الشرق والغرب

مضى علينا أكثر من ١٣٠ سنة ونحن في موقف التردد، لا ندري هل نحن شرقيون، يجب أنْ نسير على ما سارت عليه آسيا أم غربيون يجب أنْ ننضم إلى أوروبا قلبًا وقالبًا؛ نعتاد عادات الأوروبيين ونلبس لباسهم، ونأكل طعامهم، ونصطنع أساليبهم في الحكومة والعائلة والاجتماع والصناعة والزراعة.

ولقد شرع نابليون يغرس فينا الحضارة الأوروبية، ويزيل عنَّا كابوس الشرق، وكانت أولى بركاته علينا أنْ شتت شمل الأوغاد المخانيث الذين كانوا يدعون المماليك، وكان هؤلاء المماليك عارًا علينا، بل لا يزال تاريخهم عارًا علينا لن يمحى، فقد كان يؤتى بهم صبيانًا لأغراض سافلة، حتى إذا شبُّوا حملوا السيف، وعاثوا في البلاد، وأذلوا آباءنا.

وكانت ثانية بركاته أنه أسس لنا مجلسًا نيابيًّا هو أول الأنظمة النيابية في مصر.

ثم جاء محمد على، فاعتمد على فرنسا في تمدين البلاد، ولكن هذا الرجل لم يكن يثق بالمصريين أو يحسب لكرامتهم؛ ولذلك كانت بعثاته إلى أوروبا مؤلفة من أبناء المخانيث المماليك الذين ذبحهم هو بالقلعة، أو من أبناء الجنود المقدونيين، بل بلغ من احتقاره للمصريين أنه جمع عقود الامتلاك منهم وأحرقها، وادعى أنه هو المالك لأرض مصر كلها، ولكنه مع كل هذه الأعمال كان يؤمن بالحضارة الغربية، فأسس المصانع على النمط الأوروبي، وأوجد في الأهلين روح العمل بعد أنْ كانت طبائع الاستبداد الشرقية قد طبعت في الناس حب الخمول والدعة.

ثم استمررنا نتراوح بين الشرق والغرب حتى زمن إسماعيل، حين رأى بنافذ بصيرته أنه لا بدَّ لنا من أن نتفرنج، ونقطع الصلة بيننا وبين آسيا، فأنشأ مجلسًا نيابيًّا، وأسس مجلس وزراء، وكانت حكومتنا إلى وقته تسير على مبدأ هارون الرشيد أو إمبراطور الصين، ثم جعلنا نلبس الملابس الأوروبية، ووزع بين أعيان البلاد فتيات من الشركس؛ لكي يتحسن اللون ويقارب البشرة الأوروبية.

ثم حاول عرابي بعد ذلك أنْ يؤسس مجلسًا نيابيًّا صحيحًا، ويسير بالوطن في تيار الحضارة الأوروبية، ولكن انضمام الخديوي توفيق إلى الإنجليز وخيانة الأعراب البدو في الشرقية حالا دون تحقيق غرضه السامي.

وجاء الإنكليز فساروا بنا شوطًا بعيدًا في إدخال الأساليب الأوروبية في إدارة الحكومة، ولكنهم كانوا يرمون إلى غرض الاستعمار، فلم يعملوا لنشر الحضارة بين الأمة.

وها نحن أولاء نجد أنفسنا الآن مترددين بين الشرق والغرب، لنا حكومة منظمة على الأساليب الأوروبية، ولكن في وسط الحكومة أجسامًا شرقية مثل وزارة الأوقاف والمحاكم الشرعية تؤخر تقدم البلاد، ولنا جامعة تبعث بيننا ثقافة العالم المتمدين، ولكن كلية الجامع الأزهر تقف إلى جانبها، تبث بيننا ثقافة القرون المظلمة، ولنا أفندية قد تفرنجوا لهم بيوت نظيفة يقرءون كتبًا سليمة، ولكن إلى جانبهم شيوخًا لا يزالون يلبسون الجبب والقفاطين، ولا يتورعون من التوضأ على قوارع الطرق في الأرياف، ولا يزالون يسمون الأقباط واليهود «كفارًا»، كما كان يسميهم عمر بن الخطاب قبل ١٣٠٠ سنة.

فنحن — كما قلنا — في موقف التردد بين الشرق والغرب، ومع أنَّ معظم رجالنا غربيون في أفكارهم ومعيشتهم، فإن معظم نسائنا لا يزلن يعشن كما تعيش الهندية أو الصينية تحتجب، وتقصر حياتها على الطبخ وتنظيف المنزل.

(٢) هل نحن شرقيون؟

إنَّ للألفاظ تأثيرًا كبيرًا في العقول، فإذا نحن غرسنا في أذهان المصري أنه شرقي، فإنه لا يلبث أنْ ينشأ على احترام الشرق وكراهة الغرب، وينمو في نفسه كبرياء شرقي، ويحس بكرامة لا يطيق أن يجرحها أحد الغربيين بكلمة، فينشأ على كراهة الحضارة الغربية ويقاومها ولا يصطنعها إلا مقهورًا مغلوبًا على نفسه.

ولكن الواقع أننا لسنا شرقيين، وإنما جاءنا هذا الاسم من أننا كنَّا تابعين للدولة الرومانية الشرقية عندما انفصلت من الدولة الرومانية الغربية، والأوروبي لا يخطر في باله عندما يسمي أهل القسطنطينية أو أثينا أو مقدونيا أو سوريا أو مصر شرقيين، أنها كلها «شرقية» مثل اليابان أو الصين.

فإطلاق اسم الشرق على مصر خطأ فاحش، فقد عشنا نحن نحو ألف سنة ونحن جزء من الدولة الرومانية، بل في اللغة العربية نفسها أكثر من ألف لفظة رومانية وإغريقية تدلُّ على مقدار شمول النفوذ الروماني والثقافة الإغريقية للعرب، فلا نحن ولا العرب أمة شرقية بالمعنى الذي نفهمه عندما نقول: إنَّ اليابانيين شرقيون، ونحن إذا رأينا أقبح امرأة أوروبية لقلنا إنها جميلة إذا قوبلت بأجمل امرأة صينية؛ لأن ذوقنا ودمنا هما الذوق والدم الغربيان.

ثم نحن في هيئة الوجه أوروبيون، ولو لبس السوري أو العربي أو المصري قبعة، لما استطاع الإنسان تمييزه من الإيطالي أو الإسباني، ولكن مهما لبسنا، فإننا نتميز من الصيني أو الجاوي أو الياباني.

وأخيرًا يجب أنْ نقول: إنَّ إليوث سمث قد أثبت أنَّ الشعب الأول الذي سكن مصر لا يختلف البتة عن الشعب الذي كان يسكن إنجلترا قبل ٤٠٠٠ سنة، وبين المصرية القديمة والإنجليزية الراهنة مئات الألفاظ المشتركة لفظًا ومعنًى.

(٣) الدم الشرقي فينا

ولكن ليس معنى ذلك أنَّ الدم الشرقي لم يتسرب إلى عروقنا، فإنه للأسف قد تسرب، وقد جلبه علينا العرب بما فتحوه من الأقطار الآسيوية، فمنذ القرن الثالث الهجري تسمع عن دولة الإخشيديين التي جاءت من وسط آسيا قريبًا من بخارى، حيث حلَّت في مصر بجيوشها وحكمتنا، واختلطت دماؤها الآسيوية بدمائنا، ثم جاءنا بعدهم المماليك الأتراك، ثم الأتراك العثمانيون، بل قبل ذلك في أيام الفراعنة حلَّ الهكسوس وامتزجوا بالمصريين.

ولكننا مع كل ذلك بقينا أوروبيين في تقاسيم وجوهنا ونزعات نفوسنا، ويجب ألَّا ننسى أنَّ الأسويين قد دخلوا أوروبا وتفشوا فيها، وكثير من الرءوس المستديرة في فرنسا وهنغاريا وسويسرا وألمانيا يرجع إلى أصل آسيوي.

(٤) أوروبا أم آسيا؟

ولكن تعصب بعضنا للشرق هو تعصب للقديم أكثر مما هو للشرق، فهم يستمسكون بالشرق؛ لكي يتعللوا به في كراهية الغرب، ويستمسكون بالقديم كبرياء وأنفة من أنْ يقال: إنَّ حضارتنا باعتبارنا شرقيين قد أفلست أمام حضارة أوروبا.

وقد شعرت أنا نفسي بمثل هذا الشعور سنة ١٩٢٠، حين كتب السر هري جونستون مقالًا في «ذي نيو ستيتسمان» يطلب فيه إلغاء الأزهر؛ لأنه مبعث التعصب، فرددت أنا عليه مع أني قبطي أنكر أنَّ الأزهر مبعث تعصب؛ لأني شعرت أنَّ كرامة هذا المعهد المصري تلصق بكرامتي الوطنية، فما يشينه يشينني، ولكني إذا حاورت مصريًّا في شأنه لا أتردد في القول بإلغائه والاكتفاء بالجامعة المصرية؛ لأنها أداة الثقافة الحديثة النيِّرة، أمَّا هو فأداة الثقافة المظلمة، ثقافة القرون الوسطى.

وخلاصة القول أننا نطلق على أنفسنا صفة الشرق بلا حق؛ لأننا غير شرقيين، ثم نتعصب لهذا الشرق ونقيم في أذهاننا منه غرضًا، نكره به الغربيين والحضارة الغربية، ثم نتعصب للقديم أنفة منَّا، ونسمي هذا القديم أيضًا «شرقًا»، فنتعلل به لكراهة الغرب، ولكن الواقع أنَّ هذا القديم ليس فيه شيء من الشرق، والأزهر الآن لا يختلف عن جامعات أوروبا قبل ٧٠٠ سنة، وهو يعرف أرسطوطاليس الإغريقي، ولكنه لا يعرف بوذا الهندي أو كنفوشيوس الصيني، فحقيقة الأزهر أنه جامعة أوروبية أسسها رجل أوروبي هو جوهر «الصقلي»، وعيبه الوحيد أنه قديم يشتغل بثقافة قديمة بائدة في عصر حديث، وإيثاره على الجامعة المصرية يشبه إيثار الجَمَل على الأتومبيل، أو الحمار على الطيارة.

وإذا كنَّا نحب السير مع أوروبا فليس ذلك لأننا والأوروبيين من دم واحد وأصل واحد فقط؛ بل لأن ثقافتنا تتصل بثقافتهم من عهد مدرسة الإسكندرية ومجمع أثينا، وأيضًا لأن حضارتها هي حضارة العالم الحديث كله.

(٥) ما هي ثقافة العرب؟

إنَّ هذا الاعتقاد بأننا شرقيون قد بات عندنا كالمرض؛ ولهذا المرض مضاعفات، فنحن لا نكره الغربيين فقط، ونتأفف من طغيان حضارتهم فقط، بل يقوم بذهننا أنه يجب أنْ نكون على ولاء للثقافة العربية، فندرس كتب العرب ونحفظ عباراتهم عن ظهر قلب، كما يفعل أدباؤنا المساكين أمثال المازني والرافعي، وندرس ابن الرومي، ونبحث عن أصل المتنبي، ونبحث عن علي ومعاوية ونفاضل بينهما، ونتعصب للجاحظ، ونحاول أنْ نثبت أنَّ العرب عرفوا الفنون كالتصوير والنحت على الرغم من تحريم الإسلام لهما، وكل ذلك إنما يدفعه في أنفسنا كراهتنا للغرب وأنفتنا من جهة، واعتقادنا أننا شرقيون من جهة أخرى.

ولكن الواقع أنَّ ثقافة العرب القديمة لا تختلف عن ثقافة أوروبا القديمة، وقد كانت كلتاهما تستقيان من معين واحد هو الفلسفة الإغريقية، فإذا نحن المتجددين قلنا بترك العرب وثقافتهم، فمعنى ذلك أنه يجب علينا أنْ نتطور ونخرج من تلك القيود الإغريقية القديمة ونسير في الثقافة الحديثة.

وليس علينا للعرب أي ولاء، وإدمان الدرس لثقافتهم مضيعة للشباب وبعثرة لقواهم، فيجب أنْ نعوِّدهم الكتابة بالأسلوب المصري الحديث لا بالأسلوب العربي القديم، ويجب أنْ يعرفوا أننا أرقى من العرب، وأنَّ أقل ما فينا أننا نسبقهم بألف سنة، وليس معنى هذا تحريم درس العرب وتاريخهم وثقافتهم، فإن العرب أمة قديمة يجب أنْ يكون لها أثريون يدرسونها كما يدرسون آشور أو بابل، وإنما يجب أنْ يكون لنا أدب خاص يتسم بسمة القرن العشرين، ويجري على لغته، ويسير على أنماطه، ويجب أنْ ننظر إلى لغة النابغة أو المتنبي كما ننظر إلى اللغة الروسية أو الإيطالية؛ لأنها ليست لغتنا ولسنا نستفيد بدرسها، ثم يجب أنْ نذكر أنَّ إدمان الدرس للعرب يشتت الأدب المصري ويجعله شائعًا لا لون له.

(٦) حكومة العرب

ليس من مصلحة الشباب المصري أنْ يقف على أدب العرب ويتلمسه مباشرة من الكتب القديمة، فأنا لا أحب مثلًا أنْ تقع عين فتًى أو فتاة على الأشعار المذكورة في كُتب الأدب بشأن الغلمان، ومهما أحسنا الاعتقاد في الأثر الذي تتركه قراءة هذه الأشعار، فإننا لا يمكن أنْ نغضي الطرف عما يفعل إيقاع الشعر في نفس الشاب من تحسين الرذائل له، وكم من شاب رأيناه يتغنى بهذه الأشعار ويمارس الرذائل التي تقول بها. والنفسلوجية الحديثة تقرر أنه لا يرد بالرأس خاطر ليس له أثر في النفس والخلق، ثم لستُ أحب أنْ يقرأ الشباب أنَّ أحد قواد العرب وهو يزيد بن المهلب عجن الدقيق بدماء أعدائه وخبز منه الخبز وأكله، وكذلك ليس من مصلحة بلادنا الدستورية أنْ يمدح هرون الرشيد أو المأمون، مع أنَّ كلًّا منهما كان حاكمًا مستبدًّا لا يختلف أي اختلاف عن عبد الحميد الذي خلعه الأتراك عن عرشه.

فالحكومة العربية كانت في أرقى وأحسن أوقاتها حكومة استبدادية، ولا عبرة لما يقال بأن الإسلام يأمر بالشورى، فإن عمر بن الخطاب نفسه لم يكن يستشير أحدًا فيما يراه خيرًا لرعيته، دع عنك أنه ليس في الشورى معنى الإلزام، وجميع خطب الخلفاء تثبت أنهم كانوا ينظرون إلى أنفسهم نظرًا بابويًّا، بل البابا نفسه إذا قيس إليهم في بعض الأشياء يُعدُّ دستوريًّا.

(٧) لنا من العرب ألفاظهم فقط

ولا أقول لغتهم، بل لا أقول كل ألفاظهم، فإننا ورثنا عنهم هذه اللغة العربية، وهي لغة بدوية لا تكاد تكفل الأداء إذا تعرضت لحالة مدنية راقية كتلك التي نعيش بين ظهرانيها الآن، فها أنا ذا في غرفتي هذه لا أعرف كيف أصف أثاثها بالعربية، ولكني أستطيع إجادة وصفها بالإنجليزية، واللغة العربية مع ذلك لغة شاقة تكدُّ الذهن في حفظ قواعدها التي لا تنتهي، كأنه ليس في العالم شيء جدير بالدرس غير قواعدها، وكل من اختبرها يعرف أنَّ قاسم أمين ولطفي السيد كانا على حق عندما نصحا باستعمال العامية المصرية المهذبة بدلًا منها.

وهذا ما يجب نحن أنْ نفعله، يجب أنْ ننظر إلى لغة امرئ القيس وأبي تمَّام كما ننظر إلى لغة شكسبير، فلا نستعملها في لغتنا، وإنما نستعمل العامية المهذبة التي تخاطب بها أمهاتنا وأولادنا؛ لأنها هي اللغة الحية، وهي إنما تجري على ألسنتنا بعد موت اللغة الفصحى؛ لأنها قد نازعتها البقاء وتغلبت عليها لفضلها، وهذا إذا فرضنا أنَّ اللغة الفصحى كانت يومًا ما يتكلم بها الناس، فإن اعتقادي أنها كانت إلى حد بعيد لغة الكتابة فقط؛ أي لغة ميتة حتى في زمن ظهور القرآن.

ولكن تعليم العربية في مصر لا يزال في أيدي الشيوخ الذين ينقعون أدمغتهم نقعًا في الثقافة العربية؛ أي في ثقافة القرون المظلمة، فلا رجاء لنا بإصلاح التعليم حتى نمنع هؤلاء الشيوخ منه، ونسلمه للأفندية الذين ساروا شوطًا بعيدًا في الثقافة الحديثة.

ونحن إنما ننزع للغة العرب القديمة، لما تأصل في أذهاننا من ذلك الغرض السخيف، وهو أننا شرقيون يجب علينا أنْ نحافظ على كرامة العرب وندافع عن تاريخهم، وهذا الاعتقاد في شرقيتنا يجر علينا عددًا من الكوارث قد لا يكون الولاء للغة أهونها.

(٨) الرابطة الشرقية سخافة

وإحدى كوارث هذا الاعتقاد في شرقيتنا اهتمامنا بالشرق دون الغرب، حتى لقد تأسست في القاهرة جمعية تدعى «الرابطة الشرقية» فيها أعضاء من الهند وجاوة ولعل بها أيضًا أعضاء من الصين.

فما لنا ولهذه الرابطة الشرقية؟ وأية مصلحة تربطنا بأهل جاوة؟ وماذا ننتفع منهم، وماذا هم ينتفعون منَّا؟

إني أعتقد أننا لو كنَّا شرقيين حقًّا، لكانت هذه الرابطة من أسخف الروابط، فإن جميع الدول الشرقية التي تدخل في هذه الرابطة من العجز بحيث لا تنفع نفسها، ولا تستطيع رد عادية الأجنبي المستعمر عنها، فكيف تدفع عن غيرها هذه العادية؟ أجل، كيف يقود الأعمى أعمى، وكيف يحمل الأعرج أعرج؟

إننا في حاجة إلى رابطة غربية، كأن نؤلف جمعية مصرية يكون أعضاؤها من السويسريين والإنجليز والنروجيين وغيرهم، نقعد معهم فنستفيد من شرعة إصلاحية أنفذت في بلادهم يشرحونها لنا، فننتفع بذلك، أو فلسفة جديدة ظهرت يعرفوننا شيئًا عنها، أو آلة جديدة اخترعت نتفاوض معهم في استعمالها عندنا.

مثل هؤلاء الناس النظاف الأذكياء نستطيع أنْ نؤلف رابطة معهم، ولكن ما الفائدة من تأليف رابطة مع الهندي أو الجاوي؟

إننا أمة قد سرنا شوطًا بعيدًا في الحضارة الغربية، التي هي منَّا ونحن منها، وإذا أراد الشرق أنْ يسير معنا فنعم ما يفعل، ولكن ليس معنى ذلك أنْ نسير نحن معه ونتأخر عن اللحاق بالأمم الراقية، ونحن بعبارة واضحة في حاجة إلى أنْ نرقي أنفسنا قبل أنْ نشتغل بترقية الشرقيين.

(٩) الرابطة الدينية وقاحة

إذا كانت الرابطة الشرقية سخافة؛ لأنها تقوم على أصل كاذب، فإن الرابطة الدينية وقاحة، فإننا أبناء القرن العشرين أكبر من أنْ نعتمد على الدين جامعة تربطنا، وقد كان مصطفى كامل لجهله بروح الزمن يخبرنا، ولا يزال فلول المحررين من المؤيد والحزب الوطني يخبروننا — نحن المصريين — عن الإسلام في الصين تحت عنوان: «أخبار العالم الإسلامي».

وقد شبعت تركيا من الجامعة الإسلامية ونفضتها عن نفسها وتخلصت منها، لا لأنها أضاعت دينها ولم تعد تؤمن به؛ بل لأنها لم تعد تؤمن بفائدة الجامعة الإسلامية بعد أن خبرتها في الحرب الكبرى، فوجدتها قصبة مرضوضة لا تغني ولا تنفع.

والغريب أننا في الجامعة الإسلامية نتأخر عن الزمن الحاضر بنحو ألف سنة، فقد كان لأوروبا جامعة مسيحية هي أصل الحروب الصليبية، وقد أسفت أوروبا على ارتباطها بهذه الجامعة، ولم تعد إليها بعد أنْ خسرت فيها الأموال والأرواح.

والدين الآن ليس تشترك فيه الجماعات، وإنما هو عقيدة يعتقدها الفرد عن علاقته بالكون، ويبدو لي أنه لا يمكن أنْ يتفق اثنان في العالم في عقيدة دينية، كما لا يتفقان في ملامح الوجه، فديانة المستقبل هي ديانة فردية وليست جماعية، بل هي صوفية حرة لا يتقيد فيها فرد بما يؤمن به فردٌ آخر أو أمة أخرى.

وكيف يمكننا أنْ نعتمد على جامعة دينية بينما في العالم نظرية تقول: إنَّ الإنسان لم يكن راقيًا فانحط كما تقول الأديان، بل هو كان منحطًّا فارتقى؟ نعني بها نظرية التطور، بل كيف يمكن إنسانًا مستنيرًا قرأ تاريخ السحر والعقائد أنْ يطلب منه أنْ يحترم جامعة دينية؟

إنَّ الجامعة الدينية في القرن العشرين وقاحة شيعة.

(١٠) الرابطة الحقيقية

الرابطة الحقيقة التي تثبت على قاعدة وترسخ ولا تتزعزع، هي رابطة الحضارة والثقافة، هي رابطتنا بأوروبا التي عنها أخذنا حضارتنا الراهنة، ومنها تثقفنا ثقافتنا الجديدة.

أجل، يجب أنْ نرتبط بأوروبا، وأنْ يكون رباطنا بها قويًّا، نتزوج من أبنائها وبناتها، ونأخذ عنها كل ما يجد فيها من اختراعات أو اكتشافات، وننظر للحياة نظرها، نتطور معها في تطورها الصناعي، ثم في تطورها الاشتراكي والاجتماعي، ونجعل أدبنا يجري وفق أدبها بعيدًا عن منهج العرب، ونجعل فلسفتنا وفق فلسفتها، ونؤلف عائلاتنا على غِرار عائلاتها، ونسير مع عمالنا بطرق الإصلاح والبر التي سارت عليها؛ نرسل أولادنا إليها ليتعلموا علومها ويتخلقوا بأخلاقها.

فالرابطة الغربية هي الرابطة الطبيعية لنا؛ لأننا في حاجة إلى أنْ نزيد ثقافتنا وحضارتنا، وهما لن تزيدان من ارتباطنا بالشرق، بل من ارتباطنا بالغرب.

إننا إذا ارتبطنا بالغرب تعلمنا فلسفة عالية وأدبًا راقيًا، ووقفنا على اختراعات عديدة واكتشافات لا حصر لها في الطبيعة والكيمياء والصناعة، ولكن بماذا ننتفع إذا نحن ارتبطنا بالشرق؟

إننا إذا ارتبطنا بالغرب نركب الطيارات ونصنعها، ونسكن في بيوت نظيفة ونبنيها، ونقرأ كتبًا مفيدة ونؤلفها، ولكن ماذا نستفيد من الارتباط بالشرق؟

ألا يرى القارئ ما جره علينا تعلقنا بالشرق، وتوهمنا أننا أمة شرقية، حتى إننا ليس لنا ما يغذي عواطفنا الآن من شعر أو موسيقى أو رقص أو غناء؟

فرقصنا هو هذا الرقص الآسيوي اللعين، وهو رقص شهواني بهيمي، لا نطيق أنْ نراه إلَّا ونحن سكارى، وقد احتجنا في النهاية إلى إلغائه إلغاءً تامًّا، ثم هذا الغناء وهذه الموسيقى الباكية المبكية، نحاول إصلاحهما ولكن عبثًا؛ لأنهما صارا لا يتفقان مع مزاجنا، فقد كانا يصلان إلى قلوبنا في العصور الماضية عندما كنَّا نبكي ببكائهما، وإنما كنا نبكي لما كنا نقاسيه من ظُلم الأسيويين وتوحشهم، ولكننا نحتاج الآن إلى ما يهيج قلوبنا، ويملؤها تفاؤلًا بالحياة، ولن نجد ذلك إلَّا بارتباطنا بالغرب واصطناع ما عند الغربيين من رقص وألحان وموسيقى، أمَّا الشعر العربي فقد سئمنا قوافيه الرتيبة التي تشبه دق الطبل عند السودانيين.

(١١) هل من وطنية فرعونية؟

ولكن هل الغاية من التخلص من آسيا والشرق والتاريخ العربي أنْ نعود إلى وطنية فرعونية مقصورة على مصر وتاريخها؟

لستُ أشك في أننا لو فعلنا ذلك لكان أصلح لنا، فمصر وطننا، وماذا يعيبنا إذا كببنا على درس تاريخه؟ وخاصة بعد إذ ثبت أنَّ مصر هي أصل حضارة العالم القديم كله، فكأننا ندرس العالم بدرسها.

خير لنا أنْ ندرس الفراعنة من أنْ ندرس العرب، لا لأنهم جدودنا فقط؛ بل أيضًا لأن في درسهم تفتيقًا للأذهان، إذ نقف من تاريخ نشوء الحضارة المصرية القديمة على تطور الذهن البشري، وإيمانه بالعقائد الأولى، وكيف نشأت الأديان والأساطير، وأسست الملوكية وحقوق الامتلاك ونحو ذلك، فمعرفة تاريخ المصريين القدماء هي تربية جديدة لنا.

ولكن صلتنا بالفراعنة قد انقطعت؛ إذ لا نتصل الآن بهم بثقافة أو حضارة، وغاية ما نرجوه أنْ يختص عندنا شبَّان بدرسهم كما يختص آخرون بدرس العرب، وكلا الفريقين يشتغلان في درسهما بالآثار، وإذا كان المصريون القدماء لا يدخلون الآن في عقائدنا أو أدبنا أو علمنا فليس لأحد أنْ يقحم أدب العرب، أو عقائدهم، أو علمهم، على آدابنا وعقائدنا وعلومنا وحضارتنا.

فالمصري القديم والعربي القديم، من الآثار التي ندرسها كما ندرس الفينيقي القديم، وإنْ كان المصري يمتاز بأنه ينير أذهاننا عن نشوء الحضارات الأولى، ولكن المهم الذي أرى وجوب تأكيده، أننا ونحن نخلع أنفسنا من الشرق لا نفعل ذلك لكي نعود إلى وطنية فرعونية، كلا، إنما نريد وطنية مصرية حديثة تنهج منهج القرن العشرين في الوطنيات والقوميات، وتسير على المبادئ الأوروبية فيهما.

(١٢) تطور الوطنية المصرية

وربما كان إسماعيل باشا أول من بذر بذور الوطنية المصرية؛ لأنه هو الذي جعل الأمة تصطنع الحضارة والمبادئ الغربية، والوطنية مبدأ أوروبي لم يعرفه العرب قط؛ ولذلك لا وجود لهذه الكلمة في المعاجم العربية؛ لأن العرب لم يعرفوا سوى الإسلام جامعة تجمعهم، ولها يجاهدون الكفار ولو كانوا من أهل وطنهم، وكذلك كان حال أوروبا في القرن الحادي عشر والثاني عشر، حين خرج الأوروبيون يقاتلون المسلمين في فلسطين ومصر.

وظهر عرابي وحاول أنْ يقوي هذه الوطنية، ويجعل مصر أمة دستورية، ولكنه خاب في مسعاه، ثم حدث ارتداد في الفكرة الوطنية بظهور مصطفى كامل والخديوي عباس والمؤيد، فإن كل هؤلاء عادوا إلى جامعة الإسلام وكانوا يقولون: إنَّ مصر هي من أملاك الدولة «العلية» أي التركية، وكانت الآستانة عندهم «دار السعادة»، أمَّا القاهرة فهي القاهرة فقط، وكان المصري عثمانيًّا يجب عليه أنْ يحارب المقدونيين للدفاع عن عبد الحميد ورعيته، وكان عبد الحميد خليفة المسلمين الذي يجب على كل مصري أنْ يطيعه، وأوشك مصطفى كامل ومحررو جريدته أنْ يحدثوا فتنة بين الأقباط بهذا السخف والهراء.

ولكن الأقدار هيأت لنا رجلًا آخر هو لطفي السيد «صاحب الجريدة»، فإنه نظر حوله فرآنا شائعين في العالم الإسلامي، ورأى الأذهان قد زاغت عن الصراط الوطني، حتى كان المزارع أو التاجر أو الصانع المصري يبالي بقراءة أخبار المسلمين في أدرنة أو بخارى، أكثر مما يبالي بحادث قتل في الجيزة، وعندما شبت الحرب بين تركيا واليونان سنة ١٨٩٨، جمع المصريون نحو ستين ألف جنيه أرسلوها إلى الآستانة لمعاونة الأتراك، مع أنهم كانوا في حاجة إلى ستين ألف مليم لتعليم صبي مصري.

وشرع لطفي السيد يكتب لنا دروسًا كل يوم عن الوطنية، وأنَّ المصري يجب أنْ يقصر جهوده على مصر، ودأب في ذلك ثماني سنوات، يلطم فيها الخديوي عباس كل يوم لاتفاقه مع الإنجليز وحرمانه الأمة من الدستور، وأخذ يفشي المبادئ الأوروبية بيننا عن العائلة وحرية المرأة، واللغة والأدب والسياسة، ورأى الأقباط بعد أنْ كانوا لا يهتمون بوطنية الخديوي عباس ومصطفى كامل والمؤيد، أنَّ وطنية لطفي السيد مصرية لا شائبة فيها، وأنها لا تزيغ بهم إلى الجامعة الإسلامية أو الجامعة العثمانية، فصاروا يؤمنون بالوطنية حتى إذا كانت سنة ١٩١٩ هبوا مع إخوانهم المسلمين كتلة واحدة للدفاع عن مصر.

فالاتحاد الذي نراه الآن بين الأقباط والمسلمين يرجع إلى لطفي السيد لا إلى الحرب الكبرى كما يظن بعض شبابنا.

(١٣) نحن والعالم

ولكن وطنيتنا يجب أنْ تكون نيرة بارة، فإذا كنَّا نضحي بأنفسنا لأجل مصر، فيجب أنْ نضحي بمصر لأجل العالم، فالعالم هو وطننا الأكبر، وليست ترتكز الوطنية على أننا نحب مصر أكثر من العالم، بل على أننا نستطيع خدمتها أكثر مما نستطيع خدمة العالم؛ لأننا نعرفها ونقف منها على أمكنة الخلل والنقص، فيمكننا أنْ نخدمها، أمَّا العالم فخدمتنا له محدودة بحدود جهلنا له.

ويجب أنْ نطهر وطنيتنا من جميع أفكار القرون الوسطى، من فكرة التوسع والطمع وامتلاك السودان ونحو ذلك، فكل ما نريده أنْ نستقل في شئوننا الوطنية، ونسير في العالم في رقيِّه، نؤدي الفرض الأول الواجب على كل أمة، وهو زيادة المعارف الإنسانية وترقية الحضارة، وإذا شاء السودان أنْ يتحد معنا فله الخيار في ذلك، أمَّا الإجبار والاستعمار فجناية يجب أنْ نترفع عنها.

لقد عشنا في القرن الماضي وأوروبا تعولنا بمخترعاتها ومكتشفاتها، حتى لو أنها قطعتها عنَّا لعدنا إلى عهد المماليك، ومع ذلك لا يزال بيننا شيوخ مأفونون يعدون التفرنج رذيلة، مع أنه عين الفضيلة، حتى لقد نسبوا إليه من المعاني ما ليس منهُ، فإذا رأوا امرأة متبرجة عدوا ذلك منها تفرنجًا، مع أنَّ المرأة الإفرنجية أبعد ما تكون عن التبرج، فمثلًا تزجيج الحواجب والشفاه، وصبغ الوجنات، وكشف الصدر، كل ذلك نراه في المرأة المبرقعة المحبرة، ولا نراه في المرأة الغربية السافرة.

إننا في حاجة إلى تنشئة الوطنية المصرية، ولكن بحيث لا يلابسها أي روح من العدوان، أو التنطع، أو الكراهية لأوروبا، ويجب أنْ تكون غاية كل مصري أنْ يكون بارًّا بالعالم، فقد برَّت أوروبا العالم بمخترعاتها ومكتشفاتها، وحقنا في الحياة والبقاء لا يكون إلَّا بنسبة ما نستطيع أنْ نزود العالم من هذا البر السامي.

وسبيلنا إلى ذلك أنْ نتخلص من قيود الاستعمار البريطاني، وندفع في ذلك الثمن الذي تتطلبه منه أخطاؤنا الماضية، ولكن إذا اتفقنا فيجب أنْ نقضي على جميع مراكز الدسائس والرجعية والشرقية في بلادنا، ولا بأس من أنْ ندفع ثمن ذلك أيضًا.

(١٤) حضارتنا وحضارة أوروبا

إنَّ حضارتنا «العربية» هي في الحقيقة حضارة رومانية، وأنا أذكر لك بعض ألفاظ تنطوي فيها معاني الحضارة، مثل قلم وقرطاس ودينار ودرهم وبلاط وقانون، فهذه الألفاظ تنطوي فيها معاني الكتابة والثقافة والتعامل المالي والحكومة، هي ألفاظ رومانية، وقد عشنا نحن المصريين ألف سنة تقريبًا من دخول الإسكندر لمصر إلى دخول العرب، ونحن على اتصال بثقافة أوروبا عن سبيل الرومان والإغريق.

ونحن المصريين لم نتصل قط بآسيا اتصالًا تامًّا، فإن الإخشيديين أنفسهم لم يعيشوا طويلًا في مصر، ولم يُدخلوا إلى بلادنا إلَّا القليل من عادات آسيا؛ ولذلك ليس مقدار ما تسرب إلينا من دمائهم كبيرًا، ومما نحمد الأقدار عليه أنَّ التتار لم يدخلوا مصر قط.

فالدعوى بأننا أمة شرقية الدم أو الثقافة أو الحضارة، هي دعوى زائفة لا أساس لها البتة، والعرب أنفسهم لم يكونوا في أول خروجهم وتفشيهم أمة شرقية، وإنْ كانوا بتوغلهم في آسيا إلى حدود الصين، وأيضًا بعادة التسري وعادة الضرار اللتين أجازهما لهم الإسلام، قد دخلهم دم آسيوي وخاصة صيني كثير، فإن لفظة أَمَة بمعنى الجارية هي لفظة صينية، وقد دخلت اللغة العربية؛ لكثرة الإماء التي كان يشتريها العرب من الصين.

والأمة المصرية كانت في الأصل — أي قبل ظهور دول الفراعنة — لا تختلف البتة عن الشعوب التي كانت تقطن إنجلترا وفرنسا، فلما كان زمن الفراعنة دخل مصر كما دخل أوروبا قليل من الدم الأرمني، فاستدارت الرءوس قليلًا بعد أنْ كانت مستطيلة، ولم يكن العرب يختلفون من حيث العنصر من المصريين، ثم اتصلنا نحو ألف سنة بالرومان والإغريق، أي من ٣٢٠ق.م إلى ٦٤٠ب.م، ثم دخل العرب ودخل في دمائنا بعدهم قليل من الدم الآسيوي، ثم جاء الأتراك فلم يختلطوا بالأمة إلَّا قليلًا.

وها نحن أولاء نرى أنفسنا في تقاسيم الوجه نشبه الأوروبيين أكثر مما نشبه الصينيين أو اليابانيين، وفي ثقافتنا نسير مع أوروبا دون آسيا، وفي لغتنا أكثر من ألف كلمة إغريقية ورومانية، وفي حضارتنا لا نرى أي اختلاف بيننا وبين أوروبا، إلَّا من حيث الدرجة فقط، أمَّا في النوع فكلتاهما واحدة، وأدياننا لا تختلف البتة من أديان أوروبا، حتى الإسلام نفسه يكاد يكون مذهبًا من المسيحية، ولكن ليس في الإسلام شيء يشبه عقائد البرهمية في الهند، أو الكنفوشيوسية في الصين، أو الشنتوئية في اليابان.

ومنذ القرن الماضي شرعنا نقتبس الحضارة الأوروبية، وسرنا فيها شوطًا بعيدًا، فلنا الآن حكومة لها وزارة وبرلمان مثل حكومات أوروبا، ولنا نظام تعليمي يشبه الأنظمة الأوروبية، وإنْ كان متأخرًا عنها، ونحن في معيشتنا لا نختلف من الأوروبيين إلَّا اختلاف الدرجة لا اختلاف النوع.

فحضارتنا هي حضارة أوروبا، والقول بالسير فيها إلى غايتها ليس سوى القول بالتطور، والانتقال من الحال الدنيا التي نحن فيها إلى حال عليا.

(١٥) الحضارة الصناعية

وهذا التطور يقضي علينا بأن نخرج من نهضتنا الحاضرة، نهضة الزراعة والأدب، إلى نهضة أخرى هي نهضة الصناعة والعلم؛ لأن هذه الزراعة التي نمارسها قد تعلمتها الأمم المتوحشة من جهة، وسلطت عليها الآلات الكبرى عند الأمم المتمدينة من جهة أخرى، فصارت حرفة لا تجدي العامل بيديه كالفلاح المصري، فإن الفلاح الأميركي يزرع بالآلات نحو خمسين فدانًا من القمح أو القطن، بينما الفلاح المصري لا يستطيع أنْ يزرع بيديه سوى فدانين أو ثلاثة؛ ولذلك فالأميركي يستطيع أنْ يبخس الأسعار ويجعل منتجاتنا منخفضة الأثمان، والزنجي الذي تعلم الزراعة يزرع مثل فلاحنا بيديه، ولكن لا يطلب من الأجر مقدار ما يطلب فلاحنا، فهو لذلك أيضًا يمكنه أنْ يبخس أسعارنا.

فنحن في الحالتين قد قضي علينا بالهزيمة من حيث الزراعة أمام هذه المزاحمة العالمية ذات الحدين؛ حد الآلات الكبيرة في أميركا وأوروبا، وحد الأجور القليلة في آسيا وإفريقيا.

فيجب أنْ نخرج من هذا الطور الزراعي ونعمد إلى الصناعة، فنطرقها من جميع أبوابها، وإذا قدرنا أنْ نجعل زراعتنا بالآلات فنعم ما نفعل، ولكن نظام الامتلاك في مصر يمنع ذلك الآن، فلا بدَّ لكي نسير مع أوروبا أنْ نجعل بلادنا صناعية بإنشاء المصانع من كل الأنواع.

لكن انتشار الصناعة يحتاج إلى شيئين:
  • أولهما: إيجاد رأي عام يحترم الصناعة ويساوي بين الموظف والخباز والحداد والنجار والمنجد.
  • والثاني: إيجاد بيئة علمية غير البيئة الأدبية المتسلطة الآن؛ لأن هذه البيئة الأدبية التي تتسلط الآن على عقول شبابنا تجري على أصول السلف من العرب، فتعنى بالألفاظ والعبارات المبهرجة، فأدبها حتى عند معظم من يسمون أنفسهم بغير حق مجددين، هو أدب رث يؤذي الناس ويزيغ أبصارهم؛ لأنه يوهمهم أنَّ التفكير هو اللعب بالألفاظ فقط واجترار أفكار القدماء، ولو كان أدبنا يجري على النسق الروسي التحليلي أو يسير في نزعة الحرية الفكرية مع الأدب الفرنسي، أو في نزعة الإصلاح مع الأدب الإنجليزي لكان منه فائدة، أما وهو في حاله الحاضرة فلا فائدة منه البتة. وهذه النهضة الصناعية التي نحن في أشد الحاجة إليها، لا تقوم إلَّا في وسط علمي، بحيث يلوك الناس النظريات العلمية ويفشونها بين العامة، فتتغير الأقدار والقيم، ويفكر الشباب في الاختراع والاكتشاف، كما يفكرون الآن في قراءة مقال مبهرج، يتمصصون عبارته ويتلمظون بها لحسن جرسها وتآلف إيقاعاتها.

(١٦) ثقافة مصرية

ولست أتنقص الأدب، وإنما أتنقص اللعب واللهو بالألفاظ كما يفعل معظم أدبائنا؛ يجيزون لعبهم ولهوهم على الناس كأنه أدب، فنحن في حاجة إلى أدب مصري، يدرس شئوننا المصرية بلغتنا العامية المهذبة، أو يدرس شئون العالم بنفس مصرية، ونحن أيضًا في حاجة إلى أدب علمي يستغل جميع النظريات العلمية الحديثة، أمَّا درس العرب فهو في نظري نوع من الأركيولوجية يستوي ودرس الآثار المصرية أو الآثار الفينيقية، له قيمته العلمية والثقافية بالطبع، ولكنه لا يسمَّى أدبًا مصريًّا بذلك.

ثم نحن في حاجة إلى ثقافة مصرية، فقد ألفت كتب عن الإسلام وتاريخه، والخوارج والأندلس، ولكن لم يؤلف للآن كتاب عن إخناتون، أو القاهرة، أو المقوقس، أو عقائد الشيعة في مصر، أو تاريخ الرومان عندنا أو المماليك، أو نحو ذلك مما يمس النفس المصرية ويؤثر أو قد أثر فيها.

إني عندما أعرض تاريخ الثقافة الحديثة في مصر، لا أتردد في الحكم بأن المعلمين قد أدوا لها من الخدمة أكثر مما أداه لها من يسمون أنفسهم أدباء، فإن أفضل الكتب المصرية الحديثة هي من أقلام المعلمين، وليست من بهارج الأدباء المضحكة، واعتقادي أنَّ المعلمين سيحملون عبء الثقافة في المستقبل مدة غير قليلة، حتى ينسى أدباؤنا ألاعيبهم وما حفظوه عن ظهر قلب من لغة الجاحظ والجرجاني، وأشعار النابغة وابن الرومي.

ونحن في حاجة إلى ثقافة حرة أبعد ما تكون عن الأديان، ولا بأس من أنْ نعتمد على الترجمة إلى حد كبير؛ حتى يتمصر العلم، وتتمصر ألفاظه، وعندئذٍ نسير فيه بالتأليف.

(١٧) نحن والأجانب

إنَّ الأجانب يحتقروننا بحق، ونحن نكرههم بلا حق.

فقد رأونا منذ دخول الإنجليز ونحن نحاول أنْ يمتلكنا الأتراك دون الإنجليز، وسمعونا نطالب بلسان مصطفى كامل والخديوي عباس والشيخ علي يوسف بالاستقلال، ولكن لا لكي نكون أسيادًا؛ بل لكي نكون عبيد الأتراك، فاحتقرونا لذلك بحق.

ثم نحن كرهناهم وكانت أكثر كراهيتنا لهم حسدًا؛ لأنهم نازعونا البقاء فغلبونا، واشتغلوا بالتجارة والصناعة والصيرفة، ولم يتركوا لنا سوى الزراعة نعمل فيها كالعبيد، ولم يكن لنا حق في كراهيتهم؛ لأن هذه الأبواب التي طرقوها وأثروا منها كانت مفتوحة لنا ولم نطرقها.

والأجانب ما داموا أجانب فهم شوكة في جسم الأمة، فيجب لذلك تمصيرهم والتزاوج بيننا وبينهم، وحضهم على إرسال أولادهم إلى مدارسنا؛ حتى يعرفوا لغتنا ويقرءوا صحفنا وكتبنا، كما يجب أنْ نسمح لهم بالتوظف في الحكومة والانتخاب للبرلمان، حتى تغدو عواطفهم مصرية لا يعرفون لهم وطنًا ثانيًا غير مصر، وبقول آخر ينبغي أنْ ننظر للأجنبي كما تنظر إليه حكومات الولايات المتحدة، فهي بمجرد وصوله إلى بلادها تحاول أنْ تؤمركه، فإن لم تقدر على ذلك تسلمت أولاده وصبغتهم في المدارس بالصبغة الأميركية، فينشئون أميركيين مخلصين تتمثلهم الأمة في جسمها، وهذا ما يجب أنْ نفعل نحن مع الأجانب، يجب أنْ نمثلهم، ويجب أنْ نمنع وساوسهم، فنفصل الدين عن الدولة ونلغي تعليمه في المدارس.

وهم إذا اختلطوا بنا في الزواج وصارت لغتنا لغتهم، فليس يبعد أنْ ننزع لذلك نزعتهم في الصناعة والعلم والتجارة والصيرفة.

(١٨) القبعة رمز الحضارة

وقد يكون اصطناع القبعة أكبر ما يقرِّب بيننا وبين الأجانب، ويجعلنا أمة واحدة.

والقبعة هي رمز الحضارة يلبسها كل رجل متحضر، سواء أكان يابانيًّا، أم صينيًّا، أم إنجليزيًّا، أم أميركيًّا، ونحن إذا لبسنا القبعة فلسنا بذلك نلبس لباس أوروبا فقط، بل نصطنع لباسًا اتفق المتحضرون على وضعه على رءوسهم، كما اتفقوا على أنْ يأكلوا بالسكين والشوكة، أو كما اتفقوا على أنْ يستحموا كل يوم، فإن للمتحضرين عادات يتعارفون بها ويصطلحون عليها، واتخاذ القبعة من هذه العادات، فلسنا نحب أنْ نخرج على العالم المتمدين بلباس خاص يجعلنا في مركز من الشذوذ، يجلب إلينا الأنظار فيعمد السائحون إلى تصويرنا كأننا أمة غريبة عن الأمم التي جاءونا منها.

ومما يدل على أنَّ حركة الوطنية بأيدي أناس غير قادرين على الاضطلاع بها، أنَّ الحركة التي قامت في العام الماضي وكانت غايتها اصطناع القبعة قاومها زعماؤنا وقتلوها في مهدها، فأثبتوا بذلك أنهم لا يزالون آسيويين في أفكارهم، لا يرغبون في حضارة أوروبا إلَّا مكرهين.

وقد أدرك مصطفى كمال الذي لم تنجب بعد نهضتنا رجلًا مثله ولا نصفه ولا ربعة، مقدار ما للقبعة من القيمة والإعلان بالانسلاخ من آسيا والانضمام لأوروبا، ولم يمتنع عن استعمال السيف في سبيل ذلك.

إننا نلبس كل ما يلبسه الأوروبي عدا القبعة، ولكن الإنسان يُعرف بوجهه، والقبعة تنم بصورة الوجه؛ ولذلك سنبقى في نظر أنفسنا وفي نظر الأوروبيين شرقيين، حتى نتخذ القبعة لرجالنا ونسائنا، ونعلن انسلاخنا من الشرق.

(١٩) فلندخل عصبة الأمم

واجبنا لأنفسنا أنْ نرقي بلادنا بالسير فيما ينهجه المتمدنون من الحضارة؛ نتخذ الحضارة بدل الزراعة، والعلمَ بدل الأدب، أو نجعل الأدب والزراعة علميين.

ولكن علينا واجبًا نحو العالم لا يفكر فيه أدباؤنا أو شيوخنا البتة، بل عندنا من الناس من يبلغ تعصبهم للقديم، أنْ يتمنوا زوال الحضارة الأوروبية ووقوع الشر للأوروبيين، وهذا عين الجحود بالإنسان والكفر بالتطور، فإن الإنسان الأوروبي أرقى إنسان ظهر في العالم للآن، والحضارة الأوروبية على ما فيها من عيوب تعد بالمئات هي آخر درجات التطور الاجتماعي، ومن البلاهة البالغة أنْ يظن أحد الشيوخ أنَّ حضارة بغداد أو القاهرة أو الأندلس، كانت تبلغ في السموِّ عشر أو جزءًا من ماية مما تبلغه الحضارة الأوروبية الآن.

وواجبنا نحو العالم إنما يكون بترقيته؛ لأن العالم هو الأمة الكبيرة وليست مصر سوى أحد أعضائه، وإذا كنَّا نعلِّم صبياننا بأنه يجب أنْ نضحي بأنفسنا لأجل مصر، فيجب أنْ نضحي بمصر لأجل العالم.

ولن تكون خدمتنا للعالم شيئًا سوى مساعدته على النهوض والسير في الحضارة الغربية، ويجب أنْ يكف كتابنا عن التنطع والزهو في انتقاد هذه الحضارة، وأنْ يعمدوا إلى الإخلاص في خدمة العالم، ويمكن الصحف أن تربي الجمهور على الاهتمام بالعالم إذا هي خصت صفحاتها المهمة بأخبار العالم، تستوي في ذلك أخبار مصر مع أخبار الأمم الأخرى، كما تفعل الصحف الإنجليزية، أمَّا تنحية أخبار العالم في الصفحات الأخيرة، بل في زوايا الصفحات الأخيرة، فليس مما يبعث في النفس روحًا عالمية تعدو حدود الوطن ودائرة الوطنية.

ثم يجب أنْ ننضم إلى عصبة الأمم ونزيدها قوة بمقدار ما فينا من قوة مهما كانت صغيرة فإنها تكبر بإضافتها إلى قوى الخير والبِر في هذه العصبة، التي هي بذرة حكومة المستقبل للعالم كله.

الخاتمة

يرى القارئ من هذا الفصل الذي ختمتُ به هذا الكتاب أنه تكبير للمقدمة؛ إذ هو مثلها دعوةٌ إلى التنصل من آسيا والانضمام لأوروبا، والإيمان بحضارتها وثقافتها. وكل من يقرأ هذا الكتاب ويرى حماستي لهذه الحضارة، لا يعجب إذا هو تأمل أحوال الأمم الناهضة، فليست أمة تنهض في العالم الآن إلَّا وتنسلخ من قديمها — سواء أكان هذا القديم آسيويًّا أم غير آسيوي — فهذه اليابان قد تفرنجت ودخلت في الطور الصناعي، وصار لها علماء يكتشفون ويخترعون، وهذه الصين قد اصطنعت اللغة العامية وهذبتها، وتركت لغة الشيوخ القديمة والأدبَ القديم، وأخذت تترجم كل ما يجد من المطبوعات الأوروبية، ونحن في مصر ليس لنا من المؤسسات الحسنة كالبرلمان أو المحاكم أو المدارس، إلَّا ما أخذناه عن أوروبا، وكل ما هو باقٍ لنا من القديم سيئ لا يزال يؤذينا، مثل وزارة الأوقاف والمحاكم الشرعية، وكلية الأزهر، والمجالس المليَة، والبطركيات العديدة.

ثم إنَّ الزعامة السياسية في أيدي أناس ليست فيهم الكفاية للقيام بأعبائها، ودليل ذلك فشلهم العظيم في عدم الاتفاق مع الإنجليز، وفي عدم إدراكهم قيمة اتخاذ القبعة، ولكني لا أزال مع ذلك متفائلًا، أرى أنَّ الجمهور يسبق الزعماء، ويجرئهم على السير بخطوات واسعة نحو الاستقلال بجميع أنواعه، فشبابنا قد سئم سخافة أدبائنا، وصار يطلب من الأدب شيئًا جديدًا مغذيًا غير الكلام عن العرب بلغة العرب، وشبابنا أيضًا يوشك أنْ يلبس القبعة؛ لأنه يجد هوانًا في الشذوذ من العالم المتمدين، وهو أيضًا قد أبصر أننا إذا أخلصنا النية مع الإنجليز، فقد نتفق معهم إذا ضمنا لهم مصالحهم، وهم في الوقت نفسه إذا أخلصوا النية لنا، فإننا نقضي على مراكز الرجعية في مصر وننتهي منها.

فلنول وجوهنا شطر أوروبا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤