الفصل الثالث

سياسات الأشياء الصغيرة

(١١) الإعدام والديمقراطية

للفلسفة علاقة قديمة جدًّا بالإعدام، بل ربما كانت تستمد من واقعة الإعدام بذرة روحها الأولى: إن يوم إعدام سقراط (٣٩٩ق.م.) هو اللحظة الاستثنائية التي حولت حكماء الإغريق إلى فلاسفة، نعني إلى «محبين» لذلك النوع من «الحكمة» التي يمكن أن تقتل. كان الإعدام اليوناني يتم في شكل انتحار إجباري. أما من اتهم سقراط فهم ثلاثة: سياسي (أنيتوس) وشاعر (ميليتوس) وخطيب (ليكون). لكن من اقترح عقوبة الإعدام هو الشاعر. لن يتغلب على الحقيقة سوى وهم مناسب. تهمة سقراط هي: عدم توقير آلهة المدينة وإدخال آلهة جديدة، وخاصة إفساد الشباب بالأسئلة. لكن سبب الحكم بالإعدام هو الأسئلة العمومية المزعجة. سقراط كان شيخًا مزعجًا للسلطات بأسئلته الشابة. ذاك الشخص، الذي يقضي ساعات طويلة إما يسأل الناس عن حدود عقولهم، أو يبقى في الساحات العمومية واقفًا لا يتحرك غارقًا في ضرب من التأمل المتجمد يجادل نفسه، دونما حاجة إلى أيٍّ كان، هو الذي تم الحكم عليه بالإعدام. الموت هو الوسيلة الأخيرة لإسكات الأسئلة المزعجة للحكام، ولكن أيضًا لكسر الأصنام العمومية الواقفة أمام سير الدولة نحو بسط سلطتها.

لذلك فالموت له طبيعة واحدة وكل استعمال عمومي له هو قتل محض. لا يمكن للموت أن يتحول إلى أفق أخلاقي لأي مؤسسة مهما كانت نبيلة. من أجل ذلك فإن عقوبة الإعدام، التي ما زالت بعض الدول تعوِّل على خدماتها الاستثنائية، هي أفظع علاقة قانونية يمكن أن تقيمها مؤسسة الحكم في أي عصر مع محكوميها. فإنه لا يجوز لأحد أن يستعمل الموت كتقنية حياة أو كأفق للحياة. طبعًا، ليس الإعدام الحديث بدعة أمنية. بل هو جزء من تاريخ القتل الذي طوره النوع البشري وعول عليه في تأمين بقائه الطويل على الأرض. ومهما تعددت الأسباب فإن القتل كان دومًا أداة بقاء نموذجية لتدبير البشر. ونحن نقع فقط في مرحلة من مراحل تاريخ القتل.

ثمة قتل حيواني (الأمر الغريزي بالقتل)؛ افتراس صِرف للحم البشري، وثمة قتل قَبَلي (أمر العائلة بالقتل) يمنع الأجساد من تغيير الانتماء. وثمة قتل ديني (الأمر الإلهي بالقتل)؛ قتل مؤمن، قتل مقدس، يرتب علاقة الجماعات المتألهة على غيرها بالآخرة، كجهاز خلاص رسمي لمن لا خلاص له على الأرض. وثمة قتل طبي (أمر الطبيب بالقتل) يستمد مشروعيته من اليأس العلمي من قدرة جسمٍ ما على الاستمرار في الحياة، فيقايض نهاية الألم بالموت كإجراء احترازي. وثمة قتل حربي (أمر الجيش بالقتل)؛ قتل عرضي، غير شخصي، قتل بريء لا يقصد موت أحد، لكن ذلك لا يمنعه من قتله. قُتل الناس بالحيوان والقبيلة والدين والطب والحرب والقانون.

لكن القتل القانوني هو القتل الوحيد الذي يدَّعي أنه عادل إزاء المقتول. ومن ثم أنه يصدر عن حق ما في القتل. وهذا الحق الصريح والرسمي في القتل هو عقوبة الإعدام باعتباره الحل الأخير لردع القاتل الذي لم يعد يردعه أي شيء، لا الدم ولا الولاء ولا الدين ولا الأخلاق ولا القانون، عن أن يلحق الموت بشخص آخر أو بمجموعة من الأشخاص. قتل الآخر كعمل وحشي وفارغ من أي تبرير ولامشروط ومحض، هو الذي جعل عقوبة الإعدام تبدو مستساغة ومسوغة وقابلة للتبرير.

ومع ذلك علينا أن نسأل: هل ثمة فرق حقيقي بين الإعدام (القانوني) وبين القتل (غير القانوني)؟ ما الفاصل بين قتل بالدولة وقتل بلا دولة؟ وعندئذٍ ما هو الإعدام؟

الإعدام هو استعمال أداتي واصطناعي للموت ضد جسد بشري أعزل بواسطة مؤسسة القتل المتاحة في عصرٍ ما. الموت كنوع من الهشاشة الأنطولوجية التي لا يمكن إصلاحها في النوع البشري. والقتل هو ابتزاز هشاشتنا، واستثمار قابليتنا للموت كتهمة لانهائية ضدنا.

ولكن ما هو الشيء الذي لا يُغتفَر والذي يبرر اللجوء إلى عقوبة الإعدام؟ إنه ليس شيئًا آخر سوى اقتراف الموت نفسه. ولكن هل الموت ضرب من الدَّين؟ أليس ثمة وسيلة أخرى لإعادة الموت سالمًا إلى مكانه؟ أليس هناك طريقة أخرى لتسديد دَين الموت؟ ولكن، لماذا نعترض على عقوبة الإعدام؟ أليس القتل هو المطهِّر الوحيد للقتل؟ هل نعترض على الإعدام لأنه فعل فظيع، لا يمكن لحواسنا الحديثة المترفة بكل أنواع التحضر أن تتحمل رؤيته أو حتى سماع خبره اللعين؟ لأنه إجراء متوحش، ينطوي على قسوة لا متناهية، تدمر قدرة البشر على الألم وتحولهم إلى مواد أو أشياء ترابية، أم نعترض عليه لأنه جزء خبيث من تصور نسقي للعنف الذي اخترعه النوع البشري وأقام عليه بقاءه الطويل على الكوكب؟ هل فعل الإعدام هو المُشكِل أم أن الجهة التي تصدر عقوبة الإعدام هي المعترض عليها فعلًا؟ هل الموت أم القتل؟

ثمة فرق كبير بين التفكير في الموت وبين ذهنية القتل. لا تصدر عقوبة الإعدام عن تفكير فلسفي في معنى الموت في أفق النوع الإنساني، بل عن تدبير صناعي وخبيث لتقنيات القتل التي طورتها أجهزة السلطة منذ ظهور أول أنواع العيش معًا بين الحيوانات البشرية. وإن التقدم الوحيد الذي حققته الدول المعاصرة إزاء موتنا هو في وسيلة القتل، أما عقوبة الإعدام فلم تتغير.

أجل، لم تعد وسيلة الإعدام هي الرجم أو سلخ الجلد أو تقطيع الأوصال أو نزع الأحشاء أو السلق أو الصلب أو الحرق أو قطع الرأس أو المبارزة … كما أن سبب الإعدام لم يعد هو الثأر أو السبي أو الغزو أو السرقة أو الجنس أو الشرك أو قطع الطريق أو قطع الأشجار أو الغياب أو الهروب أو السلب …

بل صار الإعدام أنيقًا ونظيفًا وخاطفًا. تم التعويل أول الأمر على الموت شنقًا أو رميًا بالرصاص، لكن الغاز أو الكهرباء أو الحقنة أقصر إيلامًا وأسرع موتًا. بعبارة واحدة: صار الإعدام أكثر إنسانية (!)

ولكن هل يمكن فعلًا أنسنة القتل؟

لقد ظل الإعدام دائمًا متعلقًا بجريمة تجاه المجموعة التي ننتمي إليها. وهي جريمة تتم دومًا في الجمع. كل إعدام هو إعدام انتماء، وليس شيئًا آخر. فليس هناك إعدام بسبب جريمة تجاه أنفسنا. ولكن في المقابل، لا يكون الإعدام إلا في المفرد، حتى ولو كان المعدمون شعبًا كاملًا. لذلك ليس ثمة ما يضع قيمة الانتماء إلى أمة أو شعب ما موضع سؤال مثل عقوبة الإعدام؛ لأن من يدعي الحق في إعدامك ينبغي قبلُ أن يكون قد امتلك الحق في حياتك. ثمة توازن رعب بين الحق على الحياة والحق على الموت هو الذي تتأسس عليه ظاهرة الدولة. وهي لم تخترع هذه المفارقة بل ورثتها عن التاريخ السحيق لفكرة الألوهية على الأرض. وحده إله خالق يمكنه امتلاك الحق في الحياة والموت البشريين.

ولذلك مهما كانت طبيعة الجهة التي تصدر عنها عقوبة الإعدام فهي غير مخولة أصلًا لافتكاك النفس الإنسانية من صاحبها. فهل يمكن فعلًا لإله ما أن يأمر بالقتل؟ هل ثمة ألوهية قاتلة؟ هل من معنى لعدالة تقتل؟ وهل يجوز فعلًا إقامة العدل بواسطة القتل؟ أو الدفاع عن الحياة بواسطة الموت؟ هل ثمة قيمة تستحق أن نُقتل من أجلها؟ أي علاقة بين القتل والعقاب؟

يبدو أن القتل جزء لا يتجزأ من ثقافة العدل التي أقامت عليها الشرائع الإنسانية صلاحيتها المعيارية إلى حد الآن. لقد ظل معنى العدل رهين فكرة القانون التي يصدر عنها. لكن القانون إلى حد الآن لا معنى له من دون قدرة على الإساءة، نعني على العقاب. وهكذا نحن أمام مفارقة عميقة في وجود النوع البشري منذ أن وضع مصيره بين أيدي الدولة كشكل مميز ورسمي لحفظ بقاء النوع: لا يمكن إرساء العدل إلا بواسطة القدرة على العقاب، نعني على القتل. الدولة في أي عصر هي جهاز العنف الشرعي الذي تحول إلى قانون يُحترم باعتباره طريقة العدل الوحيدة والرسمية.

لكن عقوبة الإعدام هي الحالة الاستثنائية التي تضع صلاحية الدولة القانونية موضع سؤال؛ لأن هذه العقوبة لا تُطبق إلا على من يضع أمن الدولة نفسها موضع خطر شامل (من يقترف جريمة الخيانة العظمى أو جريمة ضد الإنسانية مثلًا) فهي عقوبة في ظاهرها لا تهم المواطن العادي. إلا أن هذا هو أصل الوهم السياسي الذي منه تستمد الدولة هيبتها.

ليست الدولة مخيفة أو مهيبة إلا لأنها تمتلك سلطة غير مفهومة على المحكومين، سلطة مختلفة عن سلطة القانون: إنها سلطة الموت.

ولذلك فإن عقوبة الإعدام متى صدرت ضد معارضين لسلطة الدولة باسم جريمة «سياسية» هي أكثر الجرائم لؤمًا ميتافيزيقيًّا: نعني استعمال العدالة بوصفها مؤسسة قتل؛ إذ ما معنى «المعارضة»؟ نحن لا نملك إلى حد الآن أي مفهوم مناسب ومتفق عليه حول معنى معارضة الدولة؟ وهذا النقص يؤجل الدرس الديمقراطي إلى أمد غير معلوم.

في الحقيقة ليس هناك «جريمة» سياسية يمكن لمعارض ما إن يقترفها إلا تجوزًا أو توسعًا في المعنى. فكل موقف معارض هو نوع مختلف (وليس مخالفًا) من الحرية. ولذلك لم يفهم حكامنا، أبدًا، منذ الجاهلية، معنى المعارضة إلا عرضًا. لقد ظل الخارج عن الحاكم عندنا مجرمًا نسقيًّا، لا يمكن أن نقيم معه أي ضرب من التفاوض الإيجابي حول الحرية؛ ولذلك تأخر درس الديمقراطية لدينا بشكل لم يعد يمكن احتماله.

إنه لا يمكن الاطمئنان الأخلاقي لأي دولة تطبق عقوبة الإعدام؛ فهي تفهم السيادة بوصفها بالأساس مؤسسة قساوة محضة، مسلطة على رقاب السكان داخل إقليمها منظورًا إليه كغرفة تعذيب أبيض، يمكن أن يتلون إلى الأسود في أي لحظة استثنائية، أي لحظة الاتهام «السياسي».

من أجل ذلك لا يجوز أبدًا تبرير الموت بواسطة الديمقراطية. ليس هناك موت ديمقراطي أو قتل ديمقراطي أو إعدام ديمقراطي. بل ما نحتاج هو التدرب على إعادة بناء المعارضة السياسية ديمقراطيًّا: كل معارضة، أكانت قائمة على وهم ديني أو على مطلب اجتماعي أو على رأي فكري أو على حرية شخصية أو على ضمير أخلاقي أو حتى على اعتراض بيئي … هي ضرب من التحدي السياسي لا يحق لأي جهة مصادرته؛ أي معاملته باعتباره جريمة تستحق الإعدام.

فإن الدولة هي المسئولة أولًا وأخيرًا ليس فقط عن مناخ العنف، بل بخاصة عن سياسة الموت في بلد ما؛ فكل من يموت أو يُقتل هو ميت أو مقتول تحت مسئولية الدولة، سواء بشكل مباشر (من خلال التشريعات القائمة) أو بشكل غير مباشر (من خلال وتيرة العنف المسموح بها).

سياسة الموت في بلاد معينة تعني أن نشاط القتل يتم وفق وتيرة تتحكم فيها مؤسسة العنف الشرعية على وبين السكان في مرحلة ما. وتيرة أو حالة العنف هي هيئة أخلاقية أو مزاجية للمحكومين وفيما بينهم تعدِّلها الدولة بحسب طريقة استعمال السلطة أو التشريع لها. وكمية العنف ووسائله ومداه وطرق استعماله هي البنى التي تعدِّل وتيرة القتل في ضوء سياسة الموت التي تنتهجها دولة ما كجزء لا يتجزأ من سيادتها.

ولذلك لا يمكن تصور ديمقراطية ما بمعزل عن مؤسسة العنف السارية، وبالتالي بمعزل عن سياسة الموت التي تقرها سيادة دولة ما؛ ذلك يعني أيضًا أن الديمقراطية ليس لها معنى واحد أو شكل واحد من التعبير عن الحرية، إنها في كل مرة نتيجة سياسة الموت السارية المفعول كجزء من سيادة دولة ما.

وإن فكرة «الانتقال الديمقراطي» نابعة من الشعور بالمسافة المزعجة بين الحق في الحياة والحق في الموت داخل الفضاء السياسي لدولة ما. نحن ننتقل من حالة حرية إلى حالة حرية أخرى، في شكل انتقال من وتيرة عنف إلى وتيرة عنف أخرى، وفي واقع الأمر من سياسة موت إلى سياسة موت أخرى. لا تطالب الشعوب التي ثارت بإبطال الدولة والعودة إلى الكهوف. وحدهم العدميون يريدون تدمير بنية الدولة باسم الحرية. أما الإرهابيون فهم يريدون تدمير الحرية نفسها باسم دولة فوق الدولة.

لا يمكن تصور عمل الدولة من دون احتكار جهاز العنف وشرعنته. والشعوب لا تريد أكثر من ذلك. لكن المُشكِل هو أن الدول لا تتحمل معارضة الشعوب لكمية العنف المصرَّفة داخل فضاء سلطة ما. ما تريده الشعوب هو الحد الأدنى من العنف والحد الأقصى من العدل. لكن الدول لا توفر إلا الحد الأدنى من الحياة والحد الأقصى من القانون.

وإن الهالة القانونية والأخلاقية التي تنجح الدولة في إضفائها على سيادتها؛ أي على سياسة الموت التي تتأسس عليها، هي التي تمنع المحكومين من التفكير في حياتهم الجسدية تحت وطأة سياسة الموت الرسمية؛ ولذلك تظن الشعوب أنه يمكن المطالبة بالديمقراطية من دون اشتراط إجراء تعديل جوهري يمس سياسة الموت التي تنتهجها مؤسسة الدولة. لكن كل تأسيس للديمقراطية على سياسة الحياة فقط، هو ضجيج أخلاقي بلا نجاعة. اعتناق الديمقراطية دون مراجعة سياسة الموت التي تأسست عليها فكرة الدولة القانونية الحديثة هو مراهقة ميتافيزيقية للشعوب.

إن الديمقراطية هي بمعنًى ما عزمٌ جذري وغير مشروط على تغيير سياسة الموت التي تفترضها السيادة الحديثة، وذلك بواسطة تحرير الحرية نفسها من رواسبها اللاهوتية؛ أي تقديس الحاكم باسم العدل. لا يعني ذلك تدمير فكرة السيادة، بل فقط مراجعة مؤسسة العنف داخلها، وخاصة فيما يتعلق بسياسة الموت.

كما أنه لا يمكن عزل الدولة عن سيادتها، كذلك لا يمكن عزل السلطة عن سياسة الموت التي تفترضها. لا معنى لدولة عزلاء، كما لا معنى لعدالة لا تسيء إلى أحد. بيد أنه في المقابل: لا معنى لأي حرية تؤدي إلى تدمير المجتمع المدني؛ أي تجريده من قدرته على الدولة. وكل من يخرب الدولة الحديثة باسم حرية دينية أو جنسية أو عرقية … إلخ، هو يخرب إمكانية الديمقراطية المتاحة لدى شعب ما.

إمكانية الديمقراطية هي مساحة تمرين مرير على فن استعمال الحرية وذلك بتحريرها من رواسبها اللاهوتية؛ أي من قيم الاستبداد. وكل الاعتقاد الديني في إله مستبد بأمره، مستقل بنفسه، محتكر لعالم الأمر دون مخلوقاته، هو موقف سياسي في الصميم، وليس مزاجًا أخرويًّا شخصيًّا. ولذلك فإن كل مشروع للديمقراطية في أي مكان أو زمان هو يكمن في فرضية تحرير الحرية من ماضيها اللاهوتي؛ أي من الطمع في التأله على الآخرين باسم الإيمان بجهاز تقديس معين. ولذلك ليس الإيمان شعورًا ضعيفًا أبدًا. بل هو طمع غير محدود في المشاركة في الأمر الإلهي في حكم العالم الإنساني وتسخيره. وربما كان كل إيمان ضربًا من «الشرك» الأبيض أو العفوي أو البريء: هو الطمع في المشاركة في الاستبداد المتعالي على الوجود الإنساني، أكان أخلاقيًّا أو دينيًّا أو سياسيًّا.

لكن الإيمان الديني ليس هو النوع الوحيد من الاستبداد أو النوع الوحيد من التأله أو التعالي، فإن الإيمان العلماني بهيبة الدولة أو بحرمة سيادتها أو بنزاهة قانونها أو بقداسة عدالتها أو بجلالة أعضائها … إلخ، هو لا يقل رغبة في التأله أو في المشاركة في الاستبداد باسم مقدس ما، من الإيمان الديني.

إن القتل باسم أي مقدس، أكان دينيًّا أو علمانيًّا، هو تبذير مجاني للحياة. والموت لا يفيد أحدًا. ومع ذلك فإن الإلحاد بكل المقدسات ليس حلًّا. فمن يلحد لا يلحد إلا داخل وفي نطاق تاريخ لاهوتي مخصص جدًّا. ومن ثم، لن يبقى أمامنا عندئذٍ سوى اختراع أنواع من الإيمان تكون أكثر ديمقراطية. ولا فرق إن كانت إيمانًا بالله أو بالإنسان أو بالحقيقة أو بأي قيمة أخرى.

(١٢) أمريكا وحرب الآلهة … أو الجدران اللامرئية

قال سلافوي جيجيك (الموصوف بأنه «أخطر فيلسوف في الغرب» ولكن أيضًا بأنه «إلفيس الفلسفة»): «يبدو لي أن الوجه الآخر للعولمة هو بناء جدران لامرئية جديدة». وعلينا «نحن» أن نسأل: بين من ومن؟ أو بين ماذا وماذا؟ بين الشعوب، ولكن أيضًا: بين الأشخاص والهويات والحضارات والأديان والأعراق والألوان البشرية … وبالفعل فإن ما نجح فيه ترامب (أولًا ملياردير العقارات، ثم مرشح «المثيرين للشفقة» وأخيرًا الرئيس ٤٥ لأمريكا) هو بناء جدار لامرئي جديد، يوشك أن يمد بظلاله الثقيلة على العالم بأسره. وعلينا أن نسأل: هل هو عصر «ما بعد الديمقراطية» إذن؟ ذهب عصر الجدران العازلة، المرئية، بين الشعوب. وجاء عصر الجدران غير المرئية، أي المبثوثة في الفضاء الجسدي، الشخصي، الهووي، الجندري … للذوات ما بعد الحديثة. لكن جيجيك، وذلك على خلاف مثقفين كثيرين في الغرب (مثل ميشيل أونفري الذي وصف ترامب بأنه «دمية رأس المال القابلة للنفخ»)، لا يتردد في التصريح المزعج بأنه لو كان أمريكيًّا لاختار ترامب ضد كلينتون. يبدو له ترامب أقل خطرًا من مواصلة العالم كما هو. إن فوز ترامب حدث خطير لأنه «سوف يدفع بالطرفين، الجمهوريين والديمقراطيين، إلى العودة إلى الأساسيات، أن يعيدوا التفكير في أنفسهم.»

طبعًا، ليس ثمة حدث يقضُّ مضجع الفلسفة مثل شعب بأكمله يختار في يوم واحد جلادًا جديدًا أو يعيد فاشيًّا إلى الخدمة أو ينصب حارسًا مناسبًا لجزء من أوهامه الهووية. ألا ينبغي دومًا أن نتساءل: ما الذي دفع كل هؤلاء «البيض» الذين يؤلفون «العالم الحر» إلى اختيار ترامب رئيسًا جديدًا لأكبر دولة في العالم؟ هل توجد أمريكا أخرى لا نعرفها أو لم تكن موجودة حتى اليوم؟ ولطالما تحير الفلاسفة من ظاهرة أمريكا: هيغل، توكفيل، ماركس، هَيدغر، دولوز، نِغري … لكن الرأي المسبق المريح الذي أخذ يتردد في تعليل فوز ترامب في الغرب هو تهمة «الشعبوية». وحين يتم الزج بهذا الحدث العالمي أو «الكوكبي» في تاريخ الشعبوية في السياسة نكون قد فوتنا الشطر الأخطر والأكثر مدعاة للتساؤل في هذا الفوز المحير. يتعلق الأمر بما «حدث» وليس بدلالته بالنسبة إلى قارئ عجوز. كل رأي «عجوز» هو «عقل كسول» أو رأي هووي، أي سردي أو تاريخي فقط، يرضي أفق انتظار ما، لكنه لم يعد جزءًا من أفق الفهم الذي أخذ يفرض نفسه على الإنسانية «الراهنة». قد يشبه فوز ترامب فن الحدث (happening art). وقد يكون نوعًا من الضجيج الهَيدغري الذي يصاحب دكتاتورية الهُمْ. أم أن «مكر العقل» وراء ذلك؟
قال فيبر سنة ١٩١٩م في مقالته الشهيرة مهنة السياسي: «لا يوجد سوى خطيئتين قاتلتين في السياسة: ألا ندافع عن أي قضية، وألا يكون لدينا إحساس بمسئوليتنا. وهما شيئان غالبًا، وإن ليس دائمًا، متطابقان.» ولكن من قال إن ترامب لا يدافع عن أي «قضية»؟ أو ليس لديه إحساس ﺑ «مسئوليته»؟ ما تغير في الحقيقة هو مفهوم «القضية» ومعنى «المسئولية». يبدو أن الغرب قد أخذ يراجع معجمه السياسي ويعيد تعريف مفرداته، دون علم المتكلمين باسمه. يبدو أن الشعوب قد أخذت تسحب البساط من تحت كل برامج الحداثة الليبرالية، التي تمخضت عن مشروع التنوير الأوروبي، ومن ثم قد أخذت تعاقب نخبها السياسية باسم أفق أخلاقي آخر لم تتم استشارته إلى الآن. طبعًا، هذا النوع من المراجعة العميقة للقضية السياسية في الغرب ليس جديدًا: «حرب الآلهة» (ماكس فيبر)، أي الصيغة المخففة أو المجففة من عدمية نيتشه، تكاد لا تنتهي في كل مساحات العالم الحديث. لكن صوت الليبرالية قد علا دومًا وفرض ضجيج «الغرب» على بقية الإنسانية؛ نعني ضجيج القيم «الكونية» أو ما يسميه هابرماس (٢٠٠٩م) في أوروبا استراتيجية «نزع القومية» (Denationalisierung)؛ حيث يبدو «خلع الأمم» بمثابة شرط إمكان تاريخي للوحدة الأوروبية مثلًا، ولكن أيضًا لتشكيل ظاهرة «الغرب» ثم «الإنسانية» (الأوروبية، حسب تعبير هوسرل الضمني). لقد وُصف ترامب بأنه «صوت الذين لا صوت لهم». وبأنه «وطني غاضب». وقال بنفسه: «نحن سنضع المصلحة القومية أولًا.»

ما فتئت «شعوب» الغرب تراجع نماذج العيش الحديثة، لكن مؤسسة «الغرب» (النخبة السياسية خاصة) كانت دومًا تصم آذانها عن أي مراجعة فعلية لشكل الحياة. في هذا الصدد يمكننا أن نضع كل الثورات في الغرب منذ الثورة الأمريكية إلى سقوط جدار برلين. سنة ١٩٣٣م اختار الشعب الألماني هتلر، وربما لأسباب قريبة من اختيار ترامب. كان ذلك فوزًا للشعبوية (؟) على الديمقراطيات الاستعمارية. وفي سنة ١٩٨٩م ثارت الشعوب السوفييتية على الحبس الانفرادي للشيوعية. وهو ما سُمي عندئذٍ بنزاعات الاعتراف التي انخرطت فيها الشعوب غير الغربية من أجل إثبات ذاتها … في حقيقة الأمر ما حدث هو تخلي الإنسان اليومي، الفقير وغير المتعلم جدًّا، عن مُثُل الدولة الراعية للهوية السياسية الحديثة. ولم يقع في أمريكا شيء آخر، إن الإنسان اليومي، في الغرب، قد تخلى عن مُثُل الحداثة الليبرالية (المساواتية، الفردانية، الحريات الشخصية …)، ليس لأنها لم تعد تصمد أمام الفحص الحجاجي لعلماء الاجتماع أو الاقتصاد أو الدساتير، بل فقط لأن ذلك الشكل من الحياة الذي تعِدنا به لم يعد قابلًا للحياة. إن مبدأ الرأسمالية لم يعد ساريًا: قوة العمل لم تعد قادرة على تحقيق الحلم الليبرالي.

قال هابرماس ذات مرة بصدد حديثه عن داعش: «يجب على المجتمع المدني أن يحترس من أن يضحي على مذبح الأمن بكل الفضائل الديمقراطية لمجتمع مفتوح من قبيل حرية الفرد والتسامح إزاء تنوع أشكال الحياة والاستعداد الجيد للأخذ بمنظور الغير.» ماذا يمكنه أن يقول هذه المرة عندما صار الأمر يتعلق برأس العالم الحر وهو يختار طريقًا «آخر» للنجاح، يستعمل الديمقراطية ضد قيمها الكونية؟ تلك الطريق الأخرى هي أمريكا العميقة، وليس التقاليد الليبرالية. تقنية الحياة وليس قيم الغرب الاستعماري. لقد حدث «عصيان ديمقراطي»: استعمال مجرد الحياة (حياة الأمريكي الأبيض، اليومي، الكادح …) ضد قانون اللعبة. قانون اللعبة نعني به اللعبة اللغوية لِليبرالية في شتى أطوارها، وليس الليبرالية الداخلية، تلك التي تصمد أمام حجاج «المثقفين» أو «النخبة السياسية»؛ لأنه قد تم تخفيفها أو تعقيمها بواسطة التحليل المنطقي للغة القانونية، بل الليبرالية الخارجية، المتوحشة، كما تأتي إلى «الجموع» في أي مكان. لكن العنصر الجديد حقًّا هو أن الجموع هذه، المنسية والعميقة، لم تعد توجد «خارج» الغرب بل صارت في قلب الغرب، وهي أول اعتراض ميتافيزيقي داخلي أو محايث على منطق رأس المال المعوْلَم في أقصى أطواره.

ومتى أردنا أن نؤرخ من الداخل فإن فوز ترامب هو موجة أخيرة فقط من التاريخ البيوسياسي للسلطة في الغرب: هي لحظة التخيير بين الإنسانية وبين الأمن. ويبدو أن الأمريكي العادي — فكل دائرة الخوف التي نصَّبها ترامب هي دائرة «الحياة العادية»، أحد اكتشافات الهوية الحديثة حسب تعبير تشارلز تايلور — هو أمريكي يومي اختار الأمن على مشاركة الإنسانية. ربما هو بذلك لا يعلم بأنه قد رفع الحصانة الأخلاقية عن المثل الكونية في الغرب، ومن ثم أنه قد أسقط ورقة التوت عن قيمة «الحداثة» بأكملها. ولكن لماذا يجب علينا أن نشارك الغرب في هلعه من رفع تلك الحصانة عن مُثُله السياسية؟ لماذا نواصل وضع أنفسنا في خانة «الآخر» النسقي كلما تعلق الأمر بتهديد الديمقراطية؟ وما الداعي لكي نقاسمه الخوف من سقوط ورقة التوت عن خطاب الحداثة وجملة الإعلانات الكونية التي برر بها كل جرائم الإنسان الأبيض على بقية الألوان البشرية منذ قرون عدة؟ أليس في ذلك ما يشبه الفرصة الميتافيزيقية لبقية الإنسانية كي تسترجع مكانتها الأخلاقية أمام نفسها؟ كونها إنسانية لها ما تضيفه إلى النقاش الكوكبي حول مصير النوع، وخاصة أن القيم «القابلة للكونية» ليست اختراعًا منهجيًّا للغربيين بل هي ثروة معيارية ساهمت كل الأمم في بلورة ملامحها منذ أزمان سحيقة، ومن ثمة إنه آن الأوان لإعلانات عصيان رمزي من نوع آخر (روحي، معرفي، مدني، ديمقراطي، جمالي …) لم يفعل الأمريكي «العميق» غير تنبيه الإنسانية إلى طريقها الذي لطالما طمسته جوقة الإنسان الليبرالي الذي نصَّب نفسه في كل مكان.

وعلينا أن نسأل: من يحتج اليوم ضد فوز ترامب؟ هذه اﻟ «لا» التي توجه اليوم ضد ما أفرزته لعبة الديمقراطية، من تكون؟ نحن أمام أكبر تناقض أخلاقي وقعت فيه الإنسانية الغربية منذ قرون، نعني منذ الشروع في استعمال العالم غير الغربي. ترامب، رئيس «أمريكا» (رأس «العالم الحر»، نموذج الريزوم السياسي لدى دولوز)، صار رمزًا لكل هذه المعاني الرديئة: «العنصرية» (ضد السود، الإسبانيين …)، «الميز بين الجنسين»، «كراهية البشر»، «كراهية الأجانب» أو «الغرباء» (ضد المسلمين)، القول بنظرية «المؤامرة»، تضخم الأنا، تشكيكي (مثلًا في مكان مولد أوباما …)، الانعزالية القومية، العقل «الجداري» (بناء جدار عازل مع المكسيك …)، إلخ.

ربما تكون كل هذه الاعتراضات وجيهة. ويجب أن يشعر كل معنِيٍّ بها بأنه في خطر حقيقي، وأن عليه أن ينخرط في مقاومة مناسبة لها. لكن ما يزعج أفق الهوية الذي نقف تحته، أي «العرب» أو الأفارقة أو المسلمون … هو أن ترامب قد أعطانا درسًا ثقيلًا في التعامل مع مُثُل الليبرالية المعولمة ومع خطابات الكونية التي تشرعن بها الحداثةُ مشروعيتها في كل أصقاع الأرض، وما زلنا نخاطب بها بعضنا البعض أو نعلمها لأطفالنا. هذا الدرس الثقيل هو: أن هذه المُثُل والقيم الكونية هي قيم محلية تم تحويلها إلى معايير كونية للإنسانية بواسطة واقعة الاستعمار، والذي هو مستمر بوسائل أخرى، ولكن بخاصة أن على جميع الشعوب أن تعيد اختراع ذاتها باستعمال كل مصادر نفسها، وألا تحتكم إلى القيم «الحديثة» بوصفها المقياس «الليبرالي» الكوني الوحيد لصلاحيتها. قد نسمي هذا الموقف «العصيان الديمقراطي». هو عصيان لأنه لا يواصل حلمًا انتبه منه أصحابه، ولكنه ديمقراطي؛ لأن المكاسب الأخلاقية للنوع الإنساني هي ثروة مشتركة وحقوق نهائية لا يمكن استلابها من أحد. فإذا ما استطاع الفقراء (أي كل الذين لم يستفيدوا من لعبة الحداثة في أي مكان) الاستيقاظ من الحلم الهووي للدولة (أي انتخاب الحكام حسب هوية سياسية جاهزة: دينية، قومية، حزبية، طبقية، طائفية، لغوية …)، واشترطوا كشكل لبقائهم أن تكون حريتهم العارية، أي شكل الحياة الكريمة بما هو كذلك، هي بوصلة الاختيار الوحيدة، فإنهم يكونون قد استفادوا أخلاقيًّا أو تاريخيًّا من فوز ترامب، غول الغيرية الجديد، الذي أقنع العالم بسرعة مذهلة أن العقل الأبيض قد مل من قصص التنوير وعزم هذه المرة على نزع السحر عن عالمه «الحديث» نفسه.

(١٣) من يؤرخ يثأر لذاكرته

حين يموت مؤرخ كبير، ولا سيما عندما يكون موضوع اختصاصه هو تاريخنا الذي يشكل هويتنا العميقة، مثل برنارد لويس (١٩١٦–٢٠١٨م)، يشعر المعاصرون بأن حقبة من تاريخ العالم الحالي قد أُقفلت، بما تحتويه من أسئلة، ولكن أيضًا بما ادعته من أجوبة حول «نفسها»، وبالتالي حول «الآخر» الذي تفترضه. وتزداد خطورة المؤرخ بقدر ما يقترب من قلب العالم الذي يعاصره. وهذا شأن برنارد لويس: هو بريطاني المولد، أمريكي المواطنة، فهو إذن مؤرخ إمبراطوري بشكل مضاعف؛ نعني: يتكلم في نبرة القوى العظمى التي هيكلت صورة العالم كما نعرفه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. كيف نبني العالم على أنقاض الدول القومية التي دمرت بعضها واضطرت إلى الدخول في عصر ما بعد قومي، عصر القانون الدولي الذي تسطِّره القوى العظمى المنتصرة؟ لكن شخصية برنارد لويس أكبر من علمه وأوسع من طيف هويته الرسمية. إنه أولًا من عائلة يهودية لندنية، ولم يصبح مواطنًا أمريكيًّا إلا سنة ١٩٨٢م. إلا أنه يمتلك أيضًا الجنسية الإسرائيلية. ويبدو أن هذا الانتماء المركب والمتعدد (اليهودي/الإسرائيلي/البريطاني/الأمريكي/الغربي/الشرقي …) قد أدى دورًا حاسمًا في إجابة المؤرخ عن السؤال حول سياسة العالم ما بعد القومي الذي نشأ بعد ١٩٤٥م. ومنذ صغره كان برنارد لويس، عندما بلغ سن الرشد الديني («بار متسفا» عند اليهود الذكور في السن ١٣ سنة)، ميالًا إلى تعلم اللغات ودراسة التاريخ — واللغة والتاريخ هما بؤرتا المعنى في كل ثقافة. وعندما شرع في تعلم العبرية أخذ يكتشف القرابات والاختلافات بين اللغات السامية وغير السامية، فأتى لاحقًا إلى دراسة الآرامية ثم العربية ثم بعد ذلك اللاتينية واليونانية، ثم سنة ١٩٣٦/ ١٩٣٧م بدأ في تعلم الفارسية والتركية في باريس. وهو ما وجهه إلى إعداد الإجازة والدكتوراه في التاريخ في مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية التابعة لجامعة لندن. وقد تقاعد سنة ١٩٨٦م في رتبة أستاذ متميز في الدراسات حول الشرق الأوسط في جامعة برينستون، مختصًّا في تركيا خاصة، وفي العالم الإسلامي وعلاقته بالغرب عامة.

إن الخاصية المثيرة في كتابات برنارد لويس هي كونها كتابات مزدوجة النبرة أو ذات سرعتيْن سرديتين. علينا دومًا أن نلْمح صدى المثقف المنتمي (اليهودي الغربي المندمج) تحت صوت المؤرخ الأكاديمي (المستشرق الذي لا تهمه «الذات» التي يدرسها بوصفها «موضوعًا» للدراسة). وحتى لو فرضنا أننا لم نبلغ في حكمنا على أعماله مبلغ أطروحة إدوارد سعيد عن الاستشراق، أي عن «العلم الزائف» الذي «شرقن الشرق» حتى «يعرفه»، أي حتى «يموضعه» ويخضعه إلى «السلطة الإبستمولوجية» للمؤرخ «الغربي»، فإنه لا يجدر بنا أن نغفل الجذر الهووي الذي ظل يحرك برنارد لويس منذ البداية، وبالتحديد منذ كتابه الذي حرره سنة ١٩٤٧م ونشره لأول مرة سنة ١٩٥٠م تحت عنوان العرب في التاريخ قائلًا في أول جملة من تصدير الطبعة الأولى: «هذا ليس تاريخًا للعرب بقدر ما هو محاولة في التأويل.»١ ولأن هذا الكتاب قد تُرجم إلى العربية بشكل سريع منذ سنة ١٩٥٤م على أنه كتاب «موزون يستحق القراءة».٢ فإنه من المفيد أن نعيد قراءة الشاهد الذي أوردناه من الإنجليزية في ترجمته العربية، حيث يقول: «ليس هذا الكتاب تاريخًا للعرب بقدر ما هو رسالة أو مبحث يقصد إلى التعليل والتفسير.»٣ إن ترجمة مصطلح interpretation تكفي وحدها كي نستطلع المسافة المريبة التي تكتنف النص وطريقة فهمه: هل يتعلق الأمر بموقف «تأويلي» من تاريخ العرب أم بإعداد «تعليل وتفسير» علمي حول تاريخ العرب؟ إن قضية الاستشراق ليس لها من رهان آخر غير معالجة هذه الصعوبة.
ربما علينا أن نشير إلى أن نكبة فلسطين سنة ١٩٤٨م قد كانت فاصلًا حاسمًا في مسيرة برنارد لويس: لقد تم منعه من دخول البلدان العربية، وبالتالي من مواصلة البحث الميداني حول تاريخ العرب، ومن ثم كان عليه أن يغير وجهته الأكاديمية، وهو ما فعله عندما توجه نحو دراسة تركيا العثمانية. وقد نشر بعد ذلك كتبًا مرجعية في هذا الاختصاص مثل نشأة تركيا الحديثة (١٩٦١م) وإسطنبول وثقافات الإمبراطورية العثمانية (١٩٦٣م) والمسيحيون واليهود في الإمبراطورية العثمانية: كيف يشتغل مجتمع متعدد (١٩٨٢م) وأتاتورك يغير وجه أمة (١٩٩٥م). لكن تركيا إنما كانت لجوءًا أكاديميًّا، وليس وجهة تأويلية. أما العرب فقد كفوا عن أن يكونوا موضوعًا للاختصاص، وتحولوا ليس فقط إلى مقصد تأويلي، كما هو الحال سابقًا، بل إلى رهان نقدي متعلق بسياسة الغرب حول العالم الإسلامي برمته، ليس في النصوص التراثية، بل في القرارات الدولية في شأن قضاياهم.

ولذلك فإن طرافة برنارد لويس لا تنحصر في اختصاص المؤرخ أو الدارس لتاريخ تركيا أكانت عثمانية أو ما بعد عثمانية، بل في كون هذا المؤرخ لا يقف عند مهنة التأريخ، بل يخلط حرفته الأكاديمية بحريات المثقف المنتمي صراحة، والذي يخوض سجالات منحازة مع مثقفين متمرسين مثل إدوارد سعيد. هكذا يتبدى لنا أن إجابة المؤرخ هي متورطة دومًا، وذلك أن التاريخ هو ورشة هووية (حيث يعمل المثقف المنتمي) ولكن بوسائل الحقيقة (حيث يعمل المؤرخ الأكاديمي). وفجأة يصبح من الصعب على القارئ الغربي وغير الغربي (إذ إن كتب برنارد لويس قد تُرجمت إلى لغات عدة) أن يفرق بين معلومة المؤرخ وبين الرهان التأويلي الذي يخترقها.

ونحن نعثر في كتابه التاريخ: المتذكَّر، المستعاد، المخترَع،٤ على مثال ساطع على هذه الخطة، حيث يميز لويس بين ثلاثة أصناف من كتابة التاريخ، لكنه يجعل القارئ لا يفرق بين الذاكرة «المستعادة» (إعادة بناء الماضي المنسي) وبين الذاكرة «المخترعة» (التأويل من أجل رفض الماضي السيئ وبناء هوية جديدة للمستقبل).٥ لكن اختراع الآخرين من أجل معرفتهم هو خطة تأويلية غير بريئة.
مثلًا: تبدأ مقدمة كتاب العرب في التاريخ بسؤال لا يمكن أن يكون محايدًا، لا في الشكل ولا في الإجابة، ألا وهو: «ماذا يعني عربي؟ … إن العرب قد يكونون أمة، لكنهم ليسوا جنسية بالمعنى القانوني.»٦ أما الترجمة العربية فقد قالت: «من هو العربي؟ … فالعرب قد يكونون أمة، ولكنهم ليسوا بعدُ جنسية بالمعنى القانوني.»٧ لقد حرَّفتْ كلام المؤلف مرتين: نقلَت السؤال من «ماذا؟» (العربي شيء) إلى «من؟» (العربي شخص)، وأضافت حرف «بعدُ» (تعبيرًا عن أمنية قومية لم يقصدها المؤلف ولم تقع). لكن الترجمة العربية بعامة لن تقبض على التلميح الذي يتضمنه النص الإنجليزي في وجه الصلة الاشتقاقية غير المتوفرة في العربية بين nation (أمة) وnationality (جنسية).

طبعًا هذه الصعوبة النقدية في تأمين قيمة موضوعية في صناعة التاريخ لا تخص تاريخ العرب، بل هي معضلة إبستمولوجية تعرض لها فلاسفة كبار في التقليد الغربي مثل ميشيل فوكو وبول ريكور واقترحوا لها حلولًا، أهم مبدأ فيها هو تخفيف الادِّعاء «العلمي» في كتابة التاريخ والتركيز على البعد «التأويلي» و«السردي» لعمل المؤرخ بحيث يخرجه من بوتقة «ادعاء الحقيقة» إلى الأفق الرحب الذي ترسمه «تجارب المعنى». وهو وضع تأويلي شبه إيتيقي لا مخرج منه إلا بتطوير نوع صحي من «تأويلية الذات» (فوكو) أو إرساء سياسة للصفح (ريكور) عما لا يمكن الصفح عنه (دريدا). أما في حالة برنارد لويس فإن وضع الخطاب مغاير بشكل مزعج: إن أعماله نمط ناعم من سوء استعمال فضيلة التأويل أو مهنة السرد من أجل تزويد سياسة الحقيقة السائدة في الغرب حول العرب والإسلام بأدوات إخضاع معرفي تحول الاستشراق إلى آلة حرب رمزية جد خطيرة، وتنقله — حسب تعبير ريتشارد رورتي — من «الرغبة في الموضوعية» إلى «الرغبة في التضامن» مع الجماعة الأخلاقية أو المجتمعية التي ينتمي إليها المؤلف.

وهكذا، فما يقدمه فلاسفة ما بعد البنيوية (فوكو، دريدا …) وما بعد الفينومينولوجيا (ريكور، غادمير، فاتيمو …) وما بعد الحداثة (فرانسوا ليوتار وأزمة السرديات التأسيسية) على أنه مكسب منهجي رائع صار متاحًا للمؤرخين الذين انعتقوا من الحس الوضعاني المغلق للقرن التاسع عشر واعتنقوا الحس التخييلي (fictional) المنفتح لمؤرخي القرن العشرين من أجل نقل التاريخ من ادعاءات الحقيقة إلى تجارب المعنى، نلاحظ أن برنارد لويس يستغله منهجيًّا (من حيث طرق الكتابة) لكنه يوظفه تأويليًّا (بوصفه أداة تخريبية لادعاء الهوية الذي تتأسس عليه تجارب المعنى الخاصة بالعرب والمسلمين). وعندئذٍ نكتشف أن مفاهيم لويس عن «العرب» أو عن «الإسلام» أو عن «الشرق» هي كما وصفها إدوارد سعيد، مجرد «تمثيلات» هووية من صنع الاستشراق، يقع التعامل معها وكأنها «ماهيات» مجردة، أقانيم سردية ذات دلالة موحدة وكلية، وبالتالي لا علاقة لها بتجارب المعنى أو بعالم الحياة حيث يوجد العرب أو المسلمون التاريخيون.
ومن ثم فإن نواة الإشكال لا تهم مهنة المؤرخ بما هي كذلك — فهذا ترف إبستمولوجي خاص بأسئلة الغربيين عن تاريخهم بعد القرن التاسع عشر — بل تتعلق بالانزياح الخفي ولكن المتعمَّد من مهنة المؤرخ إلى مهنة «الخبير». ولئن كان هذا منزلقًا نقديًّا قد وقع أيضًا في تفكير الغربيين، كما سجل ذلك ليوتار في مقالته الشهيرة عن الوضع ما بعد الحديث، حيث يؤكد أنه «فيلسوف» وليس «خبيرًا» في بيع المعرفة من أجل «شرعنة» نوع من سياسة الحقيقة، فإن ما قام به لويس هو تحويل المؤرخ إلى خبير إستراتيجي في تأويل هوية الإسلام وتقديم هذا التأويل للأوساط السياسية الغربية بوصفه معرفة للشرعنة.
فمنذ ١٩٧٤م انقلب برنارد لويس من أستاذ مختص في تاريخ الشرق الأوسط إلى «مثقف/خبير» يتم استدعاؤه للنقاش حول الإسلام. وفي هذه السنة (سنة طلاقه أيضًا) هو قد التحق بجامعة برينستون ومعهد الدراسات المتقدمة. لكن هذا الجانب الوظيفي ليس جديدًا في مسيرته. فقد كتب سنة ١٩٦٤م كتابًا يتخطى مهنة المؤرخ المختص، تحت عنوان الشرق الأوسط والغرب.٨ يصف نشأة الشرق الأوسط الحديث من وجهة نظر كولونيالية، وهو كتاب جعل منه خبيرًا في هذه الجهة من العالم يُستشار في معرفته أو الهيمنة عليه. إن خطورة كتاباته تكمن خاصة في الاشتغال على القضايا الهووية التي تؤرق الضمير الغربي في علاقته التاريخية بالإسلام، وترعب الإنسان الغربي في علاقته اليومية أو السياسية بالمسلمين، بحيث يمكن، بيسر شديد، الوقوع في ربط سردي وتخييلي بين تاريخ العرب في العصور الوسطى وتاريخهم الحديث. مثلًا: إن كتابه عن الحشاشين (١٩٦٧م)٩ قد وجد صدًى خاصًّا بسبب حججه المتعلقة بالربط بين فرقة الحشاشين والإرهاب الإسلاموي، واعتُبر منطلقًا مبكرًا لهذا النوع من البحث.
يبدو برنارد لويس بمثابة ناقوس الخطر الثقافي الذي ينبه الغرب إلى خطر هووي عالمي محدِق به هو ما سماه سنة ١٩٧٦م «عودة الإسلام»١٠ وهي عودة تجد نموذجها — حسب تقديره — في فرقة الحشاشين (كما درسها سنة ١٩٦٧م)، وتمتد من الثورة الإيرانية (١٩٧٨م) إلى أحداث ١١ أيلول ٢٠٠١م، وإلى حماس في غزة، وإلى تجليها الأقصى في تنظيم الدولة الإسلامية (٢٠١٤م). وأكبر سمة يقف عندها لويس في هوية «الإسلاميين» هي ما لا يقبل العقل الغربي الحديث تصوره؛ نعني تأسيس الدولة الإسلامية على تقنية الاستشهاد. صحيح أن لويس لم يدخر جهدًا في بيان «جذور الغضب الإسلامي»١١ (١٩٨٠م)، وهي بالأساس نابعة من الشعور بالضيم والإهانة من «إمبريالية الغرب».١٢ وصحيح أنه يعترف في نصوصه١٣ بأن «التسامح الإسلامي تجاه غير المؤمنين قد كان أفضل من أي تسامح متاح في المسيحية، وذلك حتى ظهور العلمانية في القرن السابع عشر.» وأنه «لم يحدث في أي وقت أن منح الفقهاء القدماء أي موافقة أو شرعية لما نسميه اليوم باسم الإرهاب.»١٤ لكن هشاشة موقف لويس المؤرخ للإسلام وضرره على فهم المسلمين لأنفسهم وخطورته على تلقي الغرب لهم ولثقافتهم، إنما تكمن في إيمانه الراسخ بظاهرة «صدام الحضارات» (فرضية أن الهويات والأديان هي بؤرة النزاع في عصور ما بعد الأيديولوجيات) الذي هو مصطلح كان لويس هو من وضعه في الخدمة سنة ١٩٩٠م، ضمن مقالة «جذور الغضب الإسلامي»،١٥ وإنْ كان في أصله عبارة مرسلة جاءت على لسان ألبير كامو منذ سنة ١٩٤٦م في نقاش حول مآل المسألة الجزائرية. ولهذا فإن الحاجة إلى آراء برنارد لويس قد انحصرت في الفضاءات الغربية في استشارته حول مستقبل الغرب «العلماني» تحت تهديد الإسلام الذي لا يشعر بأي «حاجة إلى العلمانية»١٦ و«لم يكن أبدًا مهيأ، لا في النظرية ولا في التطبيق، للموافقة على المساواة التامة مع الذين لهم معتقدات أخرى.»١٧
ونختم هذه المقالة بما جاء في المقابلة التي أجرتها معه الصحيفة الألمانية «العالم» (Die Welt) في ١٩-٠٤-٢٠٠٦م تحت عنوان استفزازي هو «أوروبا ستصبح إسلامية»،١٨ وتم تقديمها على أنها نبوءة صاغها لويس نفسه. وكانت إجابته كالتالي: «إذا ما بقيت الاتجاهات الحالية للهجرة والديمغرافيا على حالها، فإن أوروبا سوف تصبح إسلامية. وبالطبع لم يحدث أي تغيير كبير في هذه الاتجاهات.» إن المؤرخ يعرف جيدًا المفعول النفسي والتداولي لنبوءات كهذه، ولا سيما إذا كانت صادرة تحت مظلة المعرفة الأكاديمية.

(١٤) التسامح تقنية الغرباء أو الذمي السعيد

تكمن أهمية القول في التسامح في كون هذا المفهوم بمثابة عدسة اختبار لكل إشكالية الحداثة في تاريخ الإنسانية منذ نهاية القرون الوسطى إلى اليوم. وهي قرون لا تريد أن تنتهي في عديد من الثقافات. غير أنه من المنصف أن نشير إلى أن تاريخ فكرة التسامح ليس حديثًا فقط، بل كل الثقافات غير الحديثة قد عرفت إرهاصات ومحاولات خاصة حول مسألة التسامح؛ وذلك لسبب وجيه وهو أنه لا يمكن التفكير في التسامح دون الزوج المفهومي المرتبط به ضرورة؛ نعني مفهوم الاضطهاد. وهكذا فإن تاريخ التسامح هو بشكل بنيوي يعكس تاريخ الاضطهاد الديني ويتواشج معه. ويمكن أن نقرأ تاريخ مفهوم التسامح في ثلاث خطوات أو أسئلة متمايزة:
  • (أ)

    كيف كانت الدول قبل الحديثة (الفرس، اليونان، الروم، المسلمون …) تطرح مسألة التسامح مع «الآخر» الديني بخاصة؟

  • (ب)

    كيف صاغ فلاسفة الحداثة مفهوم التسامح بوصفه أحد مبادئ عصر التنوير؟

  • (جـ)

    بأي وجه عاد الفلاسفة المعاصرون إلى إعادة تأهيل مفهوم التسامح في خضمِّ ما يُسمى «عودة الديني»؟

ما يؤمن به الآخر ليس عدوًّا بالضرورة

لم يكن التسامح في العصور القديمة مُشكِلًا يهم «الفرد»، بل الدولة، وبعامة هو يهم «الجماعة» المدنية أو الدينية التي ننتمي إليها. بل إن موضوع التسامح لم يكن يهم الفرد داخل جماعته، بل فقط يهم «الغريب». وكتب العهد القديم تحتوي على عدد كبير من الآيات التي تقنن طرق التعامل مع الغرباء. وهو معطًى حاولت الفيلسوفة جوليا كريستيفا أن تستنبط منه فلسفة في التسامح تقوم على أن كل البشر غرباء وعليهم أن يدخلوا في حوار بين الهويات بوصفها كلها هويات غريبة. وحسب العهد القديم أيضًا فإن كورش الأكبر، ملك الفرس، كان يعتقد أنه حرر اليهود من الأسر البابلي (٥٣٩–٥٣٠ق.م.) في ضرب من الالتزام بأخلاق الغرباء، وهم يُثنون عليه ويصفونه بالتسامح. وهو وضع تمتع به اليهود أيضًا في مدينة الإسكندرية اليونانية (المؤسسة سنة ٣٣١ق.م.) بوصفهم جماعة دينية غريبة تعيش في مساواة مع السكان المصريين واليونانيين، اعتبرها الفيلسوف الأمريكي ميكائيل والزر مثالًا مفيدًا كي نفهم ملامح صيغة إمبراطورية من التعدد الثقافي بين المواطنين. وهو وضع لم تخل منه الإمبراطورية الرومانية التي كانت تشجع الشعوب الخاضعة لسلطتها على أن تواصل عبادة آلهتها الخاصة، وكان ذلك جزءًا حاسمًا من البروباغندا الرومانية، ولم يكن يتم اضطهاد المسيحيين إلا لأنهم كانوا يجدفون على آلهة روما ويرفضون تمجيد الإمبراطور بوصفه إلهًا، وذلك كان إلى حين، حيث إنه مع سنة ٣١١ للميلاد عمد الإمبراطور الروماني نفسه، غاليريوس ماكسيمينوس، إلى سن مرسوم عام يقضي بنهاية اضطهاد المسيحيين حمل اسمه، ومنح المسيحية لأول مرة منزلة «الدين المسموح به» (religio licita) بجانب الدين الروماني والدين اليهودي. وهو وضع أخلاقي وقانوني كرسته الخلافة الإسلامية من خلال مفهوم «أهل الذمة». ومفهوم «الذمية» يمكن اعتباره الصيغة المكتملة أو القصوى من طروحات الدول والجماعات قبل الحديثة لقضية التسامح مع الآخر بوصفه غريبًا داخليًّا، أي مشاركًا لنا في مساحة العيش دون أن يكون «منا» بالمعنى الهووي. هو جزء من شكل حياتنا أو نموذج عيشنا لكنه ليس جزءًا من عناصر هويتنا الخاصة. لكن ذلك يعني أن التسامح هو هنا وضع قانوني وليس له أي جوهر روحي، هو تسامح بلا موضوع. ولا يبدو أن العصور اللاحقة، ولا سيما في البلاد الأوروبية إلى حد نهاية العصور الوسطى، هي قد أضافت تأطيرًا جديدًا لمسألة التسامح. كان الوضع حول التسامح يتعلق في كل مرة بتحديد منزلة مخصوصة للآخر ولكيفية التعامل معه دون اضطهاده. إلا أنه يمكن التأكيد على أن الدين إنما كان دومًا هو الخيط الإشكالي بأي طرح قانوني حول التسامح: في طورٍ أول كان الآخر يهوديًّا (وهو وضع التسامح في نطاق الدولة الفارسية ثم اليونانية)، وفي طورٍ ثانٍ كان الآخر مسيحيًّا (وهو وضع التسامح في أفق الدولة الرومانية)، وفي طورٍ ثالث صار الآخر متعدد الثقافات والأديان، كان يهوديًّا ونصرانيًّا ومجوسيًّا وصابئة … إلخ، ولذلك كان ينبغي استجماعه في الوصف الفقهي الشهير «أهل الذمة». وهو تغير حاسم في وضعه القانوني: إنه لم يعد يحمل توقيعا هوويًّا خاصًّا (يهوديًّا مثلًا أو مسيحيًّا … إلخ.) بل صار مصنفًا في مجموعة واسعة من «الآخرين» الدينيين ليس لنا أن نتعامل مع هوياتهم الخاصة، بل علينا أن نحترم نوعًا من «المعاهدة» القانونية حول الاختلاف معهم بوصفهم «مواطنين» من درجة معينة يساووننا في أشياء (المجال الدنيوي) لكنهم لا يساووننا في أشياء أخرى (المجال العقدي). وما عرفه المسلمون تحت مسمى «صحيفة المدينة» التي وُضعت سنة ٦٢٣ للميلاد (والتي تُعتبَر أول تقنين مدني لقضية التسامح بين الطوائف والأديان في تاريخ أنفسنا العميقة) إنما كان بمثابة تحديد للمفردات والحدود القانونية الأساسية للعيش المشترك داخل الاختلاف بين جملة من الهويات أو الآخرين المتمايزين دينيًّا. وبلمحة سريعة، ما يجدر بنا الاحتفاظ به من تلك الصحيفة أمران حاسمان؛ أولهما: أن التسامح لا يقف عند «أهل الكتاب» فقط بل هو لا يخلو في بند من بنود الصحيفة من أن يشمل الوثنيين أيضًا في نوع من اﻟ «جوار» المدني الذي يتجاوز الاختلاف الديني، وخاصة فيما يتعلق بالمال والنفس، وثانيهما: أن التمايز الديني لا ينفي أن الدفاع عن المدينة يجب أن يكون جماعيًّا بين جميع الطوائف المشاركة في الصحيفة، وهو تأسيس لطيف لفكرة «الوطن» بوصفها قيمة معنوية تهم الحياة المشتركة وتوجد فوق الأديان والطوائف المختلفة.

تسامح المحدثين

ما بين القرن الثالث عشر والقرن السادس عشر طور الأوروبيون مدونات قانونية بغرض حماية حرية الأديان. وقد رصد مؤرخو الأفكار الحديثة خطًّا متصاعدًا من الوقائع الحقوقية التأسيسية لنوع من «أهل الذمة» المحدثين، من قبيل ١٢٦٤م (معاهدة كاليتسز أو المعاهدة العامة للحريات اليهودية في بولونيا) أو ١٣٤٨م (عندما سن البابا كليمنت السادس مرسومًا لحماية اليهود أثناء الوباء الأسود ويحرم على الكاثوليك قتلهم). وهي خطوات حقوقية ساهمت بشكل حاسم في انتشار أفكار غير مسبوقة حول «حرية التدين» و«حرية الضمير» في جو ثقافي أخذت تغلب عليه النزعة الإنسانوية كبديل أخلاقي وأدبي عن ثقافة الملة المسيحية التي كانت بمثابة المرجع أو المذهب الروحي الوحيد لمصادر الذات في أوروبا. وفي هذا الجو الإنسانوي أخذت فكرة التسامح في التشكل والتبلور على نحو حثيثٍ وغير قابل للسيطرة. ومنذ مطلع القرن الخامس عشر بدأت تظهر آداب التسامح: مثلًا في بولونيا حيث كتب باولس فلاديميري (في مجمع كونستانس، ١٤١٤م) رسالة في سلطة البابا والإمبراطور فيما يخص الكفار، بسط فيها نظرية التعايش بين البلدان المسيحية وغير المسيحية. أو في هولندا حيث كتب إيراسموس (١٤٦٦–١٥٣٦م)، أحد رواد الحركة الإنسانوية، الذي يقول بأنه «أحسن أن نشفي المريض من أن نقتله.» أو توماس مور الذي طمأن سكان اليوتوبيا (١٥١٦م)، المدينة التي لا توجد في أي مكان، بأن الطوباويين يمكنهم أن يتخذوا ما شاءوا من المعتقدات الدينية المختلفة دون أن تضطهدهم أية سلطة. هذا التواتر حول فكرة التسامح مع الآخر الديني، غير المسيحي بعامة، قد أدى إلى ظهور حركات الإصلاح، وخاصة الحركة البروتستانتية التي جعلت من «حرية الضمير» شعارًا أساسيًّا. وفي المجمع الإمبراطوري (الذي انعقد في ألمانيا سنة ١٥٢١م) لم يجد مارتن لوثر من وسيلة للدفاع عن نفسه ضد تهمة الزندقة غير مقولة «حرية الضمير» التي تحولت بسرعة إلى بيان أخلاقي شمل كل ثقافات أوروبا. وقد أسس لوثر هذه الفكرة على اعتبار أن الإيمان هو هبة حرة من الله وأنه لا يمكن إكراه أحد عليه، ومن ثم إنه لا يجدر بنا الانتصار على الهراطقة بالنار بل بالمواعظ المكتوبة.
وفي أواسط القرن السادس عشر صار يمكن التساؤل الرسمي حول أحقية أي سلطة في محاكمة الملحدين، وهو ما كرسه سيباستيان كاستليو، البروتستانتي الفرنسي، الذي نشر سنة ١٥٥٤م تحت اسم، مستعار، رسالة عنوانها ما إذا كان يحق لأحدٍ اضطهاد غير المؤمنين، وهو كاتب يُؤثَر عنه عبارة: «أن تقتل إنسانًا لا يعني حماية مذهب ما، بل أن تقتل إنسانًا فحسب.» وبالطبع لم يكن ذلك دعوة ماجنة إلى مجرد الإلحاد أو الهرطقة، بل فقط التنبيه إلى أهمية حرية الضمير في تأمين مطلب التعايش السلمي بين المختلفين دينيًّا. وهو مطلب جسدته كتابات حوارية أخذت تجمِّع المختلفين وتحولهم إلى شخصيات سردية، كان القصد الروحي من ذلك هو بلورة شروط العيش المشترك القائم على فكرة التسامح المتبادل. ومن أفضل الأمثلة ما افترعه جان بودان، الكاثوليكي الفرنسي، في كتابه ندوة العلماء السبعة الذين لهم مشاعر مختلفة حول أسرار الأشياء الموحى بها، وهو كتاب حرره المؤلف ما بين ١٥٨٧ و١٥٩٣م، لكنه بقي مخطوطًا تتداوله الأيدي الحرة إلى أن ظهرت نشرة جزئية له في سنة ١٨٤١م. وهؤلاء السبعة هم ينتمون إلى الديانات الثلاث المختلفة (اليهودية والمسيحية والإسلام) جسدوا ذلك في شخصيات سردية اجتمعت في مدينة البندقية رمز التسامح والمواطنة العالمية في ذلك العصر. وكانت النتيجة العليا أن بدأ يظهر تمييز حاسم بين ضربين من التسامح: التسامح المدني والذي يهم سياسة الدولة تجاه المعارضة الدينية، والتسامح الكنسي والذي يهم درجات التنوع الديني الذي يمكن لكنيسة مفردة أن تتسامح معه. وهو ما كرسته مجموعة حثيثة ومتتالية من المراسيم والمعاهدات حول سياسات التسامح مثل «مرسوم توردا» سنة ١٥٦٨م حول التسامح الديني الكاثوليكي مع كنائس الأرثوذكس (المجر)، أو مرسوم الإمبراطور الروماني ماكسيميان الثاني حول التسامح الديني مع نبلاء النمسا، أو «مرسوم نانْت» الذي أعلنه ملك فرنسا هنري الرابع سنة ١٥٩٨م مع البروتستانت.

لكن ما عابه التنويريون على هذا النوع من التسامح المدني أو الديني هو كونه لئن كان ينحو نحو إقرار قيمة التسامح بين الطوائف المتنازعة على المقدس، فهو لا يعترف للأفراد بالحق في حرية التدين. ومن ثمة يمكن دومًا ملاحظة الفرق الخطير بين فكرة التسامح وبين الحق في الحرية الدينية.

وهو اعتراض حقوقي وأخلاقي سوف يجد في فلسفة عصر التنوير هالته العليا. فنحن نقرأ عندئذٍ ما نشره جون ملتون (ت. ١٦٧٤م)، وهو بروتستانتي إنجليزي، سنة ١٦٤٤م تحت عنوان خطاب في حرية الطباعة غير المراقبة موجهة إلى برلمان إنجلترا. وهو نص يكرس «حرية المعرفة والتعبير والنقاش بحرية طبقًا للضمير فوق كل الحريات الأخرى.» وإن كان هذا الحق لا يشمل الملحدين واليهود والمسلمين وحتى الكاثوليك، إلا أنه أنشأ نوعًا جديدًا من الحق، وحوَّله إلى مادة للنقاش العمومي تحت مقولة الفرد التي باتت هي موضوع التسامح، وليس سياسات أو مراسيم الدولة أو الكنيسة.
ويمكن اعتبار النصف الثاني من القرن السابع عشر هو الحقبة الحاسمة التي تبلورت فيها ملامح فلسفة في التسامح. وهو طور يمكن ملاحظة قوته الإثباتية في كتاب سبينوزا رسالة في اللاهوت والسياسة (المقدمة والفصل الأخير) المنشور تحت اسم مستعار سنة ١٦٧٠م، حيث تحولت حرية التفكير أو التفلسف إلى مُشكِل قائم برأسه فتح المجال أمام تقاليد نقد اللاهوت السياسي في أوروبا. وهو أكبر دفاع فلسفي حديث ضد تهمة الإلحاد باسم حرية الرأي.
وهكذا لم يأت الفلاسفة إلى الخوض في مسألة التسامح إلا في عصور متأخرة، حيث إن أول التصانيف المفردة إلى هذا المفهوم لم تظهر إلا في ثمانينيات القرن السابع عشر، مع انتشار كتابات فلسفية متزامنة أمضاها كل من جون لوك (رسالة في التسامح، ١٦٨٦م) وبيير بايل (في التسامح: تعليق فلسفي، ١٦٨٧م)، صارت بسرعة شديدة بمثابة مراجع رسمية لآراء كل مفكري عصر التنوير حول التسامح، من قبيل ما كتبه فولتير (رسالة في التسامح، ١٧٦٣م) أو ليسنغ (ناتان الحكيم، ١٧٧٩م). لكن هيغل — الذي لم يكن له قول خاص في التسامح مثل بقية أقرانه في القرن التاسع عشر، عصر الدولة/الأمة الإمبراطورية — قد علمنا أن الفلسفة هي مثل بومة مينارفا لا تأخذ في الطيران إلا في الغروب، عندما يكون عالم أو عصرٌ ما آذن على النهاية. وليس ذلك العالم أو العصر غير ما درج المحدثون على تسميته باسم «العصور الوسطى»، أي عصور الملة الدينية في تلويناتها الإبراهيمية المختلفة، والتي بلغت حضيضها الأخلاقي في صيغتها الأوروبية فيما سُمي «حروب الأديان» والتي أعقبت ظهور حركات الإصلاح البروتستانتية وامتدت ما بين ١٥١٧ و١٦٤٨م، لكن الاضطهادات الناجمة عنها لم تُمْحَ في فرنسا مثلًا حتى تم إيقافها تحت لويس السادس عشر سنة ١٧٨٧م. وهو عصر أغلقته الثورات الأوروبية حين سلمت مهمة تشكيل هوية «الفرد» الحديث إلى الدولة/الأمة التي فرضت بصمة أخلاقية بلا تسامح إلى سنة ١٩٤٥م.

استئناف المعاصرين لفكرة التسامح

كان «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» سنة ١٩٤٨م بمثابة تغيير في براديغم النقاش حول التسامح، وهذه المرة على مستوى الإنسانية. وفي الفقرة ١٨ منه نحن نقرأ: «لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها؛ سواء أكان ذلك سرًّا أم مع الجماعة.» ربما لم يفعل الفلاسفة منذئذٍ سوى شرح هذا البند وترجمته في مسائل حقوقية وأخلاقية مفصلة حسب التنوع الهووي والثقافي لكل شعب أو جماعة. وعلى ما ينطوي عليه هذا الإعلان من تركيز على قيمة «الشخص» و«الحريات الشخصية» فإن موضوع التسامح لم يعد «الفرد» بل «حقوق الإنسان» التي يمكنه التمتع بها داخل الجماعة التي ينتمي إليها. وهذا يعني أن رهان التسامح ليس الفردانية بل نموذج العيش أو شكل الحياة المشتركة التي تكفل الحق في الحرية.

إن المُشكِل هو أن هذا الإعلان حول الحريات الشخصية لا يُقرأ بنفس الرهانات قبل وبعد ظهور ما يُسمَّى «عودة الديني» في أفق الغرب ما بعد الحديث، كما وصَّف ذلك جيل كيبل في كتابه ثأر الله: مسيحيون ويهود ومسلمون في إعادة غزو العالم (١٩٩١م) أو ما سُمي في كتابات كثيرة «إعادة السحر إلى العالم» ما بين ١٩٩٤ و٢٠٠٩م.

ويمكن أن نؤرخ للاستئناف الفلسفي للنقاش حول التسامح بما وقع قبل وبعد انهيار جدار برلين (١٩٨٩م) وانطلاق نزاعات الاعتراف لدى شعوب أوروبا الشرقية من عقالها الدكتاتوري (فوكوياما، أكسيل هونيث …).

ما قبلُ، كان النقاش الغربي حقوقيًّا، أي يتعلق بحق الأفراد أو الأقليات في حريات شخصية تدور حول قضايا الثقافة والأقلية والجنس حيث تحول التسامح إلى قانون. لكن فرض التسامح بقانون الدولة هو سوف يؤدي إلى ما سمَّاه هربرت ماركوز سنة ١٩٦٥م «التسامح القمعي» وهي مقالة نُشرت في كتاب عنوانه نقد التسامح المحض. سوف يُمنع الناس من مقاومة ما يعتبرونه خطيرًا أو مخالفًا لحريتهم أو لنموذج العيش الخاص بهم. وهو معطًى إشكالي ليس بعيدًا عن سؤال جون رولز في نظرية عن العدل: «هل يجب التسامح مع غير المتسامحين؟»
بعد انهيار جدار برلين، دخل نزاع الاعتراف على الخط، وغيَّر مفردات التسامح بشكل مزعج. ما كان شخصيًّا أصبح هذه المرة هوويًّا أو لاهوتيًّا. وإذا بوجه «الآخر» ما قبل الحديث أخذ يطل بشبحه المخيف بشكل حوَّل النزاعات الحقوقية حول الهوية أو الجندر إلى نقاش من درجة ثانية. وفي هذا الصدد ذهب هابرماس، في مقالة مهيبة نشرها سنة ٢٠٠٢م تحت عنوان «التسامح الديني بوصفه ناظمًا للحقوق الثقافية»، إلى أن حقوق الإنسان لم تنشأ عن حرية التدين بل العكس: إنه لا يمكن إقرار التسامح بوصفه واقعًا عمليًّا إلا إذا كان المواطنون قادرين على العمل بشكل «بيذاتي» حيث يأخذون قراراتهم بعد تشاورٍ حرٍّ يستطيعون فيه اتخاذ منظورات متبادلة ومصالح مشتركة. لا يمكن منع عدم التسامح بمجرد إقرار الحق في حرية التدين. ولا يمكن أن تتعايش الحقوق أو الحريات إلا داخل تصور يحترم تعدد رؤى العالم الثقافية أو الدينية. إن التسامح هو وضع حدودي بين نماذج عيش حولت تبادل الحقوق الدستورية إلى سلوكات أخلاقية في فضاء عمومي متقاسم بين مواطنين متساوين. لكن هذا الوعد لا يزال «يوتوبيا» غير لائقة. بل يبدو الفيلسوف في هذه الأثناء متواطئًا ما فتئ يُشيح ببصره عن الضحايا.

(١٥) السعادة مُشكِل سياسي

eudaimonia : هكذا سمى اليونان معنى «السعادة» أو «الغبطة» أو سرور الحكمة، وهو اللفظ الذي عوَّل عليه أرسطو في تخريج معنى أن يكون الفيلسوف «سعيدًا»، ثم صار تقليدًا نظريًّا وأخلاقيًّا في فهم تاريخ مفهوم السعادة في التراث الغربي بعامة. ومن الناحية الاشتقاقية هو مكون من مقطع eu أي «خيِّر» أو «جيد»، ومن مقطع daimon الذي يؤخذ على معانٍ شتى مثل: «الإله، الروح، الجن، المارد، القوة الخفية، القدر، الشيء الإلهي»؛ وفي الترجمات اليونانية للتوراة العربية استُعمل لفظ daimonion مقابل «روح شريرة»، روح أقل رتبة من «الملاك» الذي تمت ترجمته إلى اليونانية بلفظة ángelos. لا تكون النفس «سعيدة» إلا بقدر ما تتمرن على التحول إلى «روح جيدة» (eudaimonèsein)؛ أي قادرة على احتمال حكمة معينة أو نوع من الحقيقة، أو تُنصِت — كما جاء في مختلف محاورات أفلاطون١٩ — إلى ما تبثه أو توحي به «العلامة الإلهية» (to daimonion sêmèion) التي قال سقراط إنها هي التي علمته كيف يكون «سعيدًا»، أي مستعدًّا لتعلم فن العيش في مدينة العدل المنشودة، والتي لا يمكن أن تتأسس إلا على الحقيقة. ولا ننس أن تهمة سقراط التي أدت إلى إعدامه إنما كانت، كما تقول الترجمات الرسمية، إدخال «آلهة» (daimonia) جديدة إلى المدينة،٢٠ ولكن ماذا لو لم تكن تهمته السرية سوى إدخال أشكال جديدة من «السعادة» (نعني من اﻟ eudaimonia/الألوهة الجيدة) إلى المدينة؟ لم يكن «الفيلسوف» يعني — حسب سقراط — إلا ذلك الذي يمتلك الشجاعة على الإنصات إلى «علامة الآلهة» في نفسه، وبهذا المعنى فقط يمكنه ادِّعاء «السعادة». طبعًا ليس من الصدفة أن لفظة «daimonion» في اليونانية متى أُخذت مصدرًا هي تعنى «الألوهية»، لكنها ألوهية لا تأمر بأكثر مما قاله الهاتف في معبد دالف: «اعرف نفسك بنفسك» (gnôthi seauton)، وكان فوكو قد بين في أحد دروسه الأخيرة٢١ أنه أمرٌ حجب أمرًا أكثر دقة وأكثر خطورة هو: «epimeleia heauto»، أي ضرورة «العناية بأنفسنا» وهو عنوان أحد كتبه.٢٢ ويبدو أن التحريف الذي جعل «إله» (daimonion) سقراط ينقلب إلى مجرد «جن» أو «مارد وسيط» (daimon) بين البشر والآلهة هو أمر لم يظهر إلا منذ القرن الثاني بعد الميلاد، وبالتالي هو تأويل «لاهوتي»، أي غير يوناني.

إن محاكمة سقراط تكشف لنا إلى أي حد كان سؤال الفلسفة عن السعادة قادرًا على إقحام الآلهة في شئون المدينة. وبعبارة جامعة: إن السعادة لدى الفلاسفة الإغريق إنما كانت في جوهرها مُشكِلًا «سياسيًّا»، أي متعلقًا بفن العيش داخل المدينة، ولا سيما بوصفها شأنًا هو من الخطورة بحيث يهم العلاقة بين البشر والآلهة. إن السعادة هي لدى أفلاطون وأرسطو الغاية القصوى من التفلسف في كل مرة. ولا وجاهة لفلسفة لا تعِدنا بمفهوم مناسب عن الحاجة الإنسانية إلى السعادة. وفي الواقع يتفاوت الفلاسفة بقدر نجاحهم أو إخفاقهم في طرح مفيد للسؤال الفلسفي عن ماهية السعادة. لكن المتصفح لتاريخ مفهوم السعادة عند المتفلسفة إنما يقف على أن البحث في معنى السعادة هو اختراع فلسفي سنَّه القدماء وبشكل مبكر يدعو إلى التساؤل. إلا أنه سرعان ما يقف أيضًا على معطًى آخر لا يقل مدعاة إلى التساؤل: أن المحدثين — أي كل أولئك الذين تفلسفوا تحت سقف علمنة القيم المسيحية من ديكارت إلى نيتشه وهَيدغر مرورا بكانط — هم فاشلون أساسيون في طرح مسألة السعادة أو الاضطلاع بها.

طبعًا، وحده سبينوزا كان استثناءً، أو كان، كما قال أنطونيو نِغري، «شذوذًا متوحشًا»، في التمسك المثير بقدرة فلسفية «مضادة للحداثة» على مواصلة التفكير في ماهية السعادة٢٣ ليس فقط بوصفها أحد موضوعات الفلسفة الأخلاقية، بل باعتبارها المقام الذي يعبر فيه الإنسان عن ماهيته، بحيث «إن السعادة ليست ثوابًا على الفضيلة بل هي الفضيلة ذاتها.»٢٤ وليس من الصدفة في شيء أن التفلسف حول السعادة، بما هو كذلك، هو لن يعود إلى الاشتغال بشكل رسمي إلا في النصف الثاني من القرن العشرين الذي شهد، خاصة في الأدبيات الفرنسية، عودة مذهلة لفلسفة سبينوزا مع جيل الستينيات (من قبيل جيل دولوز أو تلاميذ ألتوسير).
أما مع نهاية القرن العشرين، وخاصة مع بداية هذا القرن، فإن السعادة قد استعادت منزلتها الفلسفية الرسمية التي كانت تتمتع بها عند اليونان والرومان، بعد تحضيرات غير مباشرة ولكن حاسمة بواسطة بحوث غير مسبوقة حول قضايا الجسد والرغبة واللذة والعنف والجنس والاختلاف والهوية والعيش معًا (كما في كتابات فرويد ووليام رايش وحنَّا أرندت وفوكو ودريدا وريكور …). كان التأليف حول السعادة تقليدًا لدى القدماء (خاصة: أرسطو، أبيقور، سينيكا …)، قطع معه المحدثون بعامة إلى حدود هَيدغر، ثم عاد إليه المعاصرون بشكل هامشي، مع شوبنهاور مثلًا في مقالته الرشيقة: «فن أن تكون سعيدًا»٢٥ أو «علم السعادة» (Eudémonologie)، ثم بشكل رسمي ومثير ومؤسساتي، منذ عودة الفلاسفة إلى القضايا الإيتيقية بوصفها — حسب عبارة ليفيناس — ضربًا من «الفلسفة الأولى»، والتي شملت إيتيقا الحيوان وإيتيقا البيئة وإيتيقا العناية، وبلغت أوجها في الوقت الحالي في عودة رسمية ومؤسساتية لإيتيقا السعادة والتي تدور أسئلتها الأساسية حول مفهوم «الحياة الكريمة» أو «الحياة الجيدة» (good life).٢٦
إن الافتراض الذي يقودنا هو: أن السعادة قد كانت دومًا مُشكِلًا سياسيًّا. ولا يمكن للفلاسفة أن يطرحوا مفاهيم مركزية عن السعادة من دون تقليد سياسي قادر على أن يسمح للناس بتطوير تقنيات وجود مناسبة للعناية بأنفسهم. هكذا كان الأمر مع اليونان: أول شعب فلسفي وأول شعب سعيد في آنٍ. وهكذا تصورهم الغربيون وهكذا حاولوا منذ وقت قليل أن يكونوا. ولا ريب أن أرسطو هو من كرَّس في كتبه الأخلاقية والسياسية هذا الربط المبكر والوجودي بين السعادة والسياسة. وهو تقليد ظل قويًّا إلى حدود الفلسفة العربية، وخاصة الفارابي، لكنه انتكس مع الفلسفة الحديثة ولن يعود إلى نضارته المفهومية إلا في آخر القرن العشرين، كما نرى ذلك بشكل باهر مع كونت سبونفيل٢٧ أو آلان باديو.٢٨
قال: «لما كانت كل معرفة (gnôsis) وكل اختيار عن روية (prohairesis) يصبوان إلى خير ما، فإن علينا أن ننظر في الخير الذي تنزع إليه السياسية، نعني أي خير من جملة الأخيار التي يمكن تحقيقها هو الخير الأسمى (akrotaton). أما عن اسمه، على كل حال، فإن أغلب الناس هم متفقون أنه السعادة، وهذا قول العامة والخاصة. […] وأما فيما يتعلق بماذا هي (ti estin) السعادة، فليس إلى الاتفاق على ذلك من سبيل، بل إن نفس الإنسان يغير رأيه في شأنها» (أخلاق نيقوماخوس، I، ٢).
يثبت أرسطو بشكل واضح أن السعادة ليست فقط الخير الأسمى بل هي الخير الذي إليه تصبو السياسة بما هي كذلك. لكن الخيط الناظم هنا هو فضيلة من نوع خاص: إنها فضيلة العناية بالنفس من أجل معرفتها، وليس يقدر على ذلك إلا الحكيم أو الفيلسوف. إن الفلسفة هي فن تحصيل السعادة بما هي كذلك، في معنى أنها تمرين على السعادة ولكن طبقًا للجزء الأكثر كمالًا من الإنسان بما هو «حيوان قادر على الكلام» (Zôon logon échon) يتفلسف يريد أن يكون «حيوانًا مدنيًّا» (Zôon Politikon) ناجحًا. وهذا الجزء الأكمل من الإنسان هو حسب أرسطو «نفسه» أو «عقله». إن رهان السعادة هو الجمع الحكيم بين القدرة على استعمال «العقل» أو كلام النفس (logos) وبين القدرة على «العيش» (bios) نمط الحياة الخاص بالبشر بما هم معرَّفون في ماهيتهم على أنهم «مواطنون» أي بالمعنى اليوناني «مدينيون» (politai) أو «يعيشون» في المدينة (pólis)، دون بقية الحيوانات التي «تحيا» أو هي على قيد «الحياة» (zoé) فقط.
في هذا الإطار بالتحديد علينا أن نفهم إثبات أرسطو بأن الخير الأسمى للسياسة هو السعادة. قال: «لقد فرضنا أن السياسة هي الغاية الأسمى، وهذا العلم غرضه الرئيس هو أن يجعل المواطنين موجودات من نوع معين (poious linas)، أي أناسًا شرفاء وقادرين على الأفعال النبيلة (praklikous lôn kalôn). وهكذا فإنه من الصواب أننا لا نطلق اسم السعادة لا على العجل ولا على الحصان ولا على أي حيوان آخر، إذْ لا أحد منها هو قادر على المشاركة في فعل (energeias) من هذا النوع. ولهذا السبب أيضًا فإن الطفل لا يستطيع أن يكون سعيدًا؛ لأنه ليس قادرًا بعد على إتيان أفعال كهذه» (أخلاق نيقوماخوس، I، ١٠).
إن السعادة مُشكِل سياسي؛ لأن الأفراد من دون شكل مناسب من «الحكم المدني» لأنفسهم لا يمكنهم أن يطوروا مفاهيم مفيدة عن السعادة. وكان اليونان قد ميزوا، دون أن يفصلوا، بين ميدان السياسة (تدبير المدينة) وبين حقل الإيتيقا (تدبير النفس)، أو بعبارة رشيقة لابن المقفع بين «الأدب الكبير» (تحقيق العدل) و«الأدب الصغير» (تهذيب النفس). لكن السعادة مُشكِل عابر لهذا التمييز: إن السعادة في جوهرها مُشكِل «مدني» لأنه لا يكون «سعيدًا» أو قادرًا على السعادة إلا من يعيش في «مدينة» عادلة. هذا النوع من المواطن يصفه أرسطو قائلًا: «إنسان كهذا هو بلا ريب مثل إلهٍ بين البشر … وبالنسبة إلى أناس من هذا النوع لا يوجد ناموس ليحكمه، فإنهم هم الناموس» (كتاب السياسة، III، ١٣).
بقي أنه علينا أن نسأل: لماذا أهمل «المحدثون» مُشكِل السعادة إلى غاية النصف الثاني من القرن العشرين؟ إن المثال الساطع هنا هو كانط؛ فهو خلاصة التصور المسيحي والتوحيدي لمعنى السعادة: أنه ليس مهمًّا أن تكون سعيدًا بل فقط أن تكون «جديرًا بالسعادة».٢٩ لكن المثير هنا هو تعريفه للأخلاق بأنها تعني بالتحديد: «قيمة الشخص وجدارته بأن يكون سعيدًا.»٣٠ وهذا الأمر نفسه لم يخرج عنه نيتشه، أعتى أعداء كانط، حين ختم كتاب زرادشت قائلًا: «ما همني أن أكون متألمًا أو مشفقًا، هل كنت أصبو إلى السعادة؟ إنما أصبو إلى العمل الذي يخصني.» ولا ينجو هَيدغر من لعنة السعادة لدى «المحدثين» حيث لا يتردد سيوران في وصف مقالة «السكينة» (Gelassenheit)٣١ بأنها كُتبت في «أسلوب حزين». لكن سيوران ليس أقل تعاسة من هَيدغر الذي عرَّف الكيان بأنه «كينونة نحو الموت»، هو الذي كتب كتابًا عنوانه «العيب في أنك وُلدت٣٢
يمكن وصف كتابات ما بعد الحداثة بأنها في عمومها تمرين واسع على إصلاح معنى السعادة في أفق الإنسانية المعولمة. ولنا مثال في كتاب كونت سبونفيل عن السعادة.٣٣ إن الرهان هو إصلاح ما أفسده التصور «الحديث» للسعادة خاصة كما ضبطه باسكال بشكل صريح: بوصفها غير ممكنة إلا كنوع من الرجاء في المستحيل. قال: «هكذا، نحن لا نعيش أبدًا، بل نحن نرجو ذلك، ولكوننا ما فتئنا نهيئ أنفسنا لأن نكون سعداء، فإنه من الحتمي ألا نكون كذلك أبدًا». لذلك لا توجد سعادة إلا ما يسميه سبونفيل «السعادة بالفعل» (bonheur en acte)، أي السعادة التي لا ترجو شيئًا يتجاوزها، أو السعادة التي لم تعد ترجو إلا ذاتها. قال: «توجد لذة وتوجد بهجة عندما نرغب فيما نملك، فيما نفعل، فيما هو كائن. هذا ما أسميه السعادة بالفعل. وبمعنى ما، هي سعادة يائسة لأنها سعادة لا ترجو شيئًا.» وحين تُشفى السعادة من الرجاء فيما يتجاوزها هي تصبح معاصرة لنفسها من الداخل.
ولكن هل يمكن للسعادة أن تستغني عن الرجاء فيما يتجاوزها إلا بفضل العيش الحر داخل مدينة تعاصر ذاتها؟ وحده مواطن في مدينة عادلة يمكن أن يكون سعيدًا. كان درس الفارابي رائعًا حين كتب بيدين متوازيتين عن أهل المدينة الفاضلة من جهة، وعن تحصيل السعادة من جهة أخرى: لن تكون سعيدًا إلا في مدينة «فاضلة» (أي قادرة على تكوين مواطنين جيدين)، ولكن أيضًا لا مستقبل لمدينة فاضلة لا تحقق السعادة. هذا هو الدرس ما بعد الحديث عن سعادة الموطنين، بعيدًا عن كل سرديات الشقاء باسم رجاء لا يلتذُّ به إلا الذين تجاوزوا أفق الإنسان.

(١٦) الفلسفة والشيخوخة. تمارين في سياسة العمر

قال دولوز وغواتاري: «ربما ليس من الممكن أن نطرح السؤال: ما هي الفلسفة إلا بشكل متأخر، حين تأتي الشيخوخةُ، حين تحين الساعةُ التي يكون فيها الكلام لمسًا وعِيانًا. إنه سؤال نطرحه حين لم يعد لدينا شيء نطلبه، لكن نتائجه يمكن أن تكون ثقيلة الاعتبار … ثمة حالات حيث لا تمنحنا الشيخوخةُ شبابًا أبديًّا، بل بعين الضد من ذلك هي تمنحنا حريةً مطلقة العِنان، ضرورةً خالصة، حيث نتمتع بلحظة عفوٍ ورضًا ها هنا ما بين الحياة والموت، حيث تتآلف كل قطع الآلة كي ترسل إلى المستقبل سهمًا عابرًا للحقب والأعمار …» (ما الفلسفة؟).
إن الشيخوخة إذن تُقال على معانٍ عدة.
عذرًا على التسمية: بعض الناس يفضل الكلام عن «المعمر» أو «المسن» أو «العقد السادس» أو «السابع»، وليس عن «الشيخ» أو «العجوز». كأن لياقة المصطلح يمكن أن تحمينا من قساوة الاسم أو شراسة المعنى العاري. في الحقيقة، من يطرح السؤال الفلسفي عن الشيخوخة لا يقصد «التعمير» أو «التقدم في السن»، بل بالتحديد ذلك الشعور المخصوص بأنك صرت أكبر منك على نحو مزعج. لست أكبر من أحد، ولست أصغر من أحد، بل فقط أنت أكبر منك، ولم يعد ممكنًا أبدًا أن تصبح أصغر مما كنت إلى حد الآن. ومتى أردنا أن نقسو على أنفسنا نحن أيضًا، لنقل إن هذا هو تعريف «العمر»: نوع من الفائض في عدد السنين الذي يفرض سياسة المستقبل فقط بوسائل الماضي.

لكن الثقافات لا تؤرخ لآثار الوقت على الأجساد بنفس الطريقة. كان الناس في بعض العصور شيوخًا في الأربعين أو أقل من ذلك. وصرنا اليوم نستعمل «المعمرين» بعد المائة؛ لاختبار الحدود القصوى للنوع البشري في قدرته على تأجيل إمكانية الموت، حتى ينقلب الأمر في عديد من الأحيان إلى مشهد كوميدي. العمر كمشهد كوميدي: عندما يبدأ الوجه البشري في التخلي عن ملامحه والتحول شيئًا فشيئًا إلى كائن فضائي، يرانا ولا ينظر إلينا.

ربما يمكن تعريف الإنسان بأنه هو «الكائن العمري». ومن الطريف أن لغة غربية مثل الفرنسية، تعوِّل كثيرًا على لفظة âge لتنزيل هوية الشخص الإنساني في موضعها من سلم ذاته العميقة:
  • طفل في حداثة سنه: le bas âge؛
  • سن المراهقة: âge ingrat؛
  • الفُتوَّة: bel âge؛ أو في ريعان الشباب: à la fleur de l’âge
  • الكهولة: l’âge mûr؛
  • سن اليأس: âge critique؛
  • سن النضج: la force de l’âge؛
  • سن التقاعد: limite d’âge؛
  • مُسن: d’un certain âge؛
  • الشيخوخة: les effets de l’âge.
من الغريب أن الفرنسيين يسمون المعمرين des doyens: ولهذه اللفظة استعمال عجيب يشبه «الشيخ» في العربية.
من اللاتينية decanus أي بالمعنى الحرفي: «من يقود عشرة رجال». لكن المعنى السائر هو: «الأكبر سنًّا» ومنه «المسئول» على غيره، وبهذا المعنى أُطلق على معنى «الكاهن» في المعجم الكنسي وعلى «عميد» الكلية العلمانية. وفي فرنسا كان مستعملًا إلى حدِّ ١٩٦٨م، ثم تم تعويضه بصفة لائكية دقيقة هي: «مدير وحدة تكوين وبحث» (directeur d’unité de formation et de recherche).

كل هذه التسميات تحولت إلى مصطلحات وتمأسست. تحوَّل «العمر» إلى مؤسسة معنًى. وأخذ يفرض مقتضيات مسبقة على تصورنا لأنفسنا. ربما يتساءل أحدهم قائلًا: لماذا التعويل على الفرنسية هنا لاستكشاف دور مصطلح العمر في تشكيل تصورنا لأنفسنا، نحن «العرب»؟ سؤال وجيه: لكن الإجابة لا يمكن أن تكون إلا مخيبة للآمال. صحيح أننا لم ننقطع أبدًا عن تكلم العربية، لكننا لم نعد نقوِّل أنفسنا بلسانها منذ وقت طويل. ومن المفارقة أن نقر بأن العودة إلى أنفسنا العميقة لا تمر بالعرب القدامى بل بالغرب. لقد فرضت علينا الحداثة أفقًا جديدًا للعمر: عصر التقنية. نحن تقنيات جديدة لأنفسنا، وعلينا التعايش مع ذلك. نحن صيغ ذاتية من ذات كبرى لا وجود لها إلا في أرشيف أخذ يستغلق علينا أكثر فأكثر. وصار السؤال عن «عمر» هويتنا لا يقل خطورة عن أي سؤال شخصي حول من نكون، في هذا المفرد المزعج الذي ضبطته الدولة الحديثة وحولته إلى وثيقة يومية توضع في الجيب، دونما خجل يُذكر. «كم عمرك؟» هو أحد أسئلة المؤسسة. وأمن الدولة يمكن أن يتأثر بنوع ما من الأعمار؛ شباب يفجر نفسه ضد الدولة أو شيوخ تتزاحم على كرسي رئاستها.

كان لغز سيفنكس على أوديب: المخلوق الذي يمشي في الصباح على أربع، وفي الظهيرة على اثنتين، وفي المساء على ثلاث؟ إنه «الإنسان». ما يقع اليوم بفضل عصر التقنية هو رسم ألغاز جديدة حول الإنسان، وسَّعت حدود العمر البشري. لغز سيفنكس وقف عند الأبعاد الثلاثة: المهد والشباب والشيخوخة. لكن الجديد هو أن العمر التقني لا عمر له، لقد تحول فجأة إلى مادة تشكيلية لتقنيات الذات.

الفلسفة والشيخوخة

فلسفيًّا، تعاني مسألة «الشيخوخة» من موضع قلق وندرة كبيرة. مثلًا: في المقالة التي خصصها أرسطو للموضوع، تحت عنوان رسالة «في الشبيبة والشيخوخة وفي الحياة والموت»، هو لا يتطرق إلى القضية إلا عرضًا فقط. قال المتنبي: «عرضًا نظرتُ وخِلت أني أسلم.»

عرضًا، حيث يشترط على القول في الشيخوخة أن يبدأ بذكر علل «التنفس» في الحيوانات، ثم عرضًا، أيضًا، عندما فسر الشيخوخة بطبيعة «النار» بوصفها الاستعارة الداخلية عن «الحياة». وعرضًا، أيضًا عندما نسي موضوع الرسالة وعوضه بقول مسهب في التنفس لدى الحيوانات. وتاهت الفرصة الميتافيزيقية لعقد خطاب فلسفي أساسي في ماهية الشيخوخة بشكل مبكر. وعلينا أن نسأل: لماذا؟

قال: «الحياة نوع من النار، إذا انطفأت من نفسها، مات الحيوان من الشيخوخة، وإذا ما أُطفئت من خارج، مات الحيوان ميتة عنيفة.»

كيف تفهم الفلسفة هذين المعطيين الغريبين من أرسطو: أن تفسير «التنفس» شرط للقول في الشيخوخة، وأن فهم طبيعة انطفاء «النار» هو معنى الشيخوخة.

إن نكتة الإشكال هنا هي الربط الفلسفي بين الحياة والشيخوخة التي تأتي من دون عنف. الموت العنيف ليس شيخوخة.

على عكس ما نراه لدى أرسطو من تردد فلسفي، تصدى سيسرون (أو شيشرون) إلى معنى الشيخوخة في محاورة فلسفية عنوانها «كاتو القديم أو في الشيخوخة»، وذلك من زاوية آداب الشيخوخة أو إيتيقا الشيخوخة.

قال سيسرون مبررًا إقدامه على تأليف مفرد لمعنى الشيخوخة: «إن تأليف هذا الكتاب قد كان في نفسي شيئًا ممتعًا … ولن نستطيع أبدًا أن نقوم بتقريض للفلسفة على هذا القدر من الروعة بحيث إنه يخلِّص الذي ينصت إليه من كل مرارة في أي حقبة من العمر.»

والشخصية التي اختارها كي تعبر عن آرائه الفلسفية في الشيخوخة، والتي تحمل اسم كاتو أو «كاتون»، إنما تتميز بأمر أساسي واحد: أنه أثار دهشة معاصرين من قدرته على «تحمل الشيخوخة بكل يسر».

يصوغ سيسرون مفارقة حول الشيخوخة على هذا النحو: «الشيخوخة هي العمر الذي يتمنى كل الناس بلوغه، لكنه ما إن يبلغه حتى يأخذ في ذمه.»

وفي تقديره أن كل الأعمار هي لا تُحتمل بالنسبة إلى كل من يفتقر إلى مصادر مناسبة لوجوده. يبدو أن الطبع هو المُشكِل وليس العمر. قال: «شيخوخة أفلاطون كانت فاتنة: فاجأه الموت وهو في ورشته يعمل في سن الثمانين.» وسوفوكل في أقصى شيخوخته كان يؤلف التراجيديات ويهمل تجارته حتى اشتكاه أولاده وجروه أمام العدالة وحوكم باعتباره «مجنونًا» يهمل أرزاقه ويتفرغ للشعر.

يحدث أن تُحاكَم الشيخوخة باعتبارها نوعًا من الجنون يتمثل في إهمال العالم. ويبدو أن أروع ما في الشيخوخة حسب سيسرون هو: فكرة ازدراء الموت. وحدهم الشيوخ تدربوا كفاية على احتقار الموت. وبهذا المعنى أمكنه أن يقول: «إن الشيخوخة هي الفعل الأخير للحياة» (la vieillesse est le dernier acte de la vie).

ظل القدماء ينظرون إلى الشيخوخة من جهة الخدمة الأخلاقية التي يمكنها أن تؤديها تجاه غير المسنين، بناء على القرينة المريبة بين الشيخوخة والحكمة. وهذا مبثوث في محاورات أفلاطون (بروتاغوراس، السياسي … إلخ).

قال سقراط: «لنفحص عن المسألة مع أناس أكبر منا سنًّا؛ إذ إننا لا نزال شبابًا وذلك يمنعنا من أن نحسم أمرًا على هذا القدر من الأهمية.»

المسألة كانت تتعلق بإمكانية «بيع العلوم كما تُباع الأغذية» وهل يمكن نقلها من «نفس» إلى أخرى كما تُنقل الأطعمة من إناء إلى آخر.

وتبدو الشيخوخة هنا باعتبارها قدرة استثنائية على الحسم في مسائل تتجاوز سن الشباب.

لكن ديكارت (مقالة المنهج، الجزء ٦، الفقرة ٢) يحذر من أن الشيخوخة تبدو نوعًا من المرض لو تقدم العلم بما فيه الكفاية لتم الشفاء منه. وفي رسالة إلى ويغانز (٥٢ جانفي ١٦٣٨م): لو أصلحنا «نظام حياتنا» (régime de notre vie) من الأخطاء التي تعودنا الوقوع فيها لتحصلنا على «شيخوخة أكثر طولًا وأكثر سعادة مما نفعل عادة».

كما كان سيسرون بالنسبة إلى القدماء، كان كانط بالنسبة إلى المحدثين: رد الاعتبار للشيخوخة بوصفها حالة وجود لها استحقاق خاص بها، وليس حالة علينا التعامل معها بوصفها تنطوي على نقص أنطولوجي أو على ذنب أخلاقي ما.

يقول كانط في مقالة نزاع الكليات (القسم الثالث): «إن واجب إكرام الشيخوخة لا يتأسس على المراعاة المنصفة التي نطلبها من الشبان بإزاء ضعف أو وهن الشيوخ؛ فليس هذا سببًا يوجب الاحترام لهم. بل إن العمر يريد أن يكون منظورًا إليه أيضًا باعتباره شيئًا يستحق الثناء؛ فنحن لا نكف عن أخذه في الاعتبار.»

لكن شيخوخة كانط كانت بحد ذاتها، ولأسباب غير فلسفية بل إنسانية استثنائية، درسًا رائعًا عن تجربة الشيخوخة بوصفها من تجارب المعنى الفذة في حياة النوع.

وهي تجربة ذاع صيتها إلى حد أن حولها عديد من الكتاب إلى موضوع للدراسة وللسرد الروائي. ومن الأمثلة الشهيرة على ذلك، كتاب توماس دي كوينسي (Thomas de Quincey) الذي عنوانه:
The Last Days of Immanual Kant «الأيام الأخيرة في حياة إيمانويل كانط».

وقد كُتب ونُشر في مجلة سنة ١٨٢٧م، ثم في صيغة منقحة في سنة ١٨٥٤م. حيث جمع المؤلف بين الطرافة الأدبية والكتابة البيوغرافية والنقد الفلسفي.

وهذا مشهد من شيخوخة كانط: «كانت قدماه تمتنعان أكثر فأكثر عن وظيفة المشي، كان يتساقط باستمرار، وفي بعض الأحيان ما إن يأخذ في اجتياز للغرفة، وحتى عندما ينتصب واقفًا بلا حراك. ومع ذلك، فهو في كل سقطاته، لا يجرح نفسه أبدًا، وكان لا يكف عن الضحك من هذا الأمر، قائلًا إنه من المستحيل أن يؤذي نفسه بفضل الخفة القصوى لشخصه، الشخص الذي تقلص عندئذٍ إلى أن صار مجرد ظل إنساني.»

لكن أكثر ما كان يزعجه هو أن يشيخ مثل بقية البشر، ولا يمل من ترداد هذا الاستياء: «لم يعد يمكنني أن أخدم العالم، ثم إنني صرت عبئًا على نفسي.»

الشيخوخة هي هذا الشعور المضاعف بشكل مفارق ومزعج؛ العجز عن العالم، والفائض عن النفس. ومن لا عالم له، لا يمكنه أن يواصل الانتماء إلى نفسه. ليست «النفس» غير طريقة معينة في تأثيث العالم، وتحويله إلى مساحة قابلة للسكن. لكن الشيخوخة تأتي لتضع حدًّا يفصل جسدًا ما عن عالمه، وبالتالي يجرده من «شكل النفس» الذي تشكل من خلاله إلى حد الآن.

لكن شكل النفس هو منذ أغسطينوس ولدى كانط وهيغل وهَيدغر، ليس شيئًا آخر سوى «الزمان». إن الشيخوخة هي في جوهرها نوع من سياسة الزمان. وبخاصة سياسة الآتي أو المستقبل.

قالت حنا أرندت: «من زاوية الإرادة، تتمثل الشيخوخة في أن نرى تقلص بُعد المستقبل فينا … قبل فقدانه النهائي.»

ما يتقلص إذن ليس جسد الأعضاء بل بُعد المستقبل الذي يعوِّل عليه الحيوان البشري لترتيب علاقته بنفسه العميقة. وربما نجازف بهذا الادعاء الفلسفي: لم يكن قصد الفلاسفة من فصل النفس عن الجسد أن يحموها من الشيخوخة بل لأنهم يفترضون بشكل جذري أن النفس في جوهرها بلا عمر؛ بلا عمر شخصي، ولهذا السبب فقط هي يمكنها أو من حقها أن تصبو إلى «الخلود»؛ أي — حسب ترجمة كانط — إلى «الحياة المستقبلية». المستقبل هو المعنى المتاح الوحيد للخلود، والنفس التي تصبو إلى الخلود لا تقصد سوى أن تحتفظ ببُعد المستقبل قدر الإمكان. الخلود هو الاحتفاظ ببُعد المستقبل قدر الإمكان.

ربما هذا هو ما سماه فلاديمير يانكليفيتش vieillissement métaphysique «تهرُّم ميتافيزيقي»: نوع من «تعب الحياة» لا علاقة له بأتعاب البدن؛ لأنه عبارة عن «صحة» من نوع آخر، تقوم على قيس مسيرة الوجود بمدى «حجم الذكريات». بعض الناس ذكرياتهم أكثر من وجودهم، وحاضرهم ماضٍ متواصل. لكن ذلك ليس اعتراضًا كافيًا على حقهم في مواصلة الحياة بطرق أخرى.

ربما يكون امتياز الشيوخ هو التحرر من الحياة اليومية. علينا أن نفكر بهذا الموقف الوجودي: شخص بلا حياة يومية؛ نعني: هو شخص بلا عالم معيش. وعلى الرغم من ذلك هو يواصل الإلحاح على أنه جزء من أفقنا التاريخي. قد يغمز عليه أحدهم هزوًا مستعيدًا هذا المثل الغريب: «عليك أن تترك العالم قبل أن يتركك.» وقد يكون غوته على حق حين قال في نبرة حكيم خجول: «أن تشيخ يعني أن تنسحب رويدًا رويدًا من عالم الظواهر.» يعني ذلك: أن تتمرن على كيف تصير أكثر فأكثر كائنًا لا مرئيًّا. كأن الشيخوخة نوع غريب من عدم اللياقة.

ولذلك من الشيوخ من يرفض أي نوع من اللياقة تجاهه، ويفضل شيخوخة لامرئية، متكتمة، كالتي وصفها شاتوبريان قائلًا: «الشيخوخة تشبه مسافرة الليل (une voyageuse de nuit)؛ لأن الأرض محجوبة عنها، هي لم تعد تكتشف سوى مزيد من السماء المتلألئة فوق رأسها.»

قال هيغل: «الشيخوخة هي جسم اللامبالاة المطلقة إزاء كل الأحوال. هي محرومة من الفردية التي هي الهيئة الخاصة بكل مفرد.»

ما معنى شيخوخة بلا فردية؟ شيخوخة خالية من هيئة المفرد؟ تعني «اللامبالاة»، كما يقول ذلك حرف اللغات الغربية (in-différence)، عدم الفرق أو ارتفاع الاختلاف أو هو الهوية الفارغة من نفسها. الشيخوخة هوية فارغة بلا أي فردية، أي بلا أي قدرة على المفرد، نعني على احتمال فرق الكينونة أو احتمال الاختلاف.

كيف نطرح السؤال المناسب عن الشيخوخة؟

تبدو الشيخوخة كنمط من تقنيات «العناية بالنفس» (souci de soi) و«تهذيب النفس» (culture de soi)، وليس كفئة سوسيولوجية قابلة للإحصاء. وكان فوكو في دروس «تأويلية الذات» قد تطرق إلى هذا المبحث من هذه الزاوية. ولكن ماذا يمكن أن نقول عن الشيخوخة في نطاق مشاكل الجندر ومفهوم «إنجازية الذات» (performance de soi)؛ أن الشيخوخة شيء «يُبنى» ثقافيًّا في ضوء «معايير» مفروضة، أي في ضوء نسيج سلطة بعينه، وليس «معطًى بيولوجيًّا». إن خطاب الشيخوخة هو خطاب نوع من السلطة، والأفضل ربما هو تنزيل الشيخوخة في مبحث «فنون الحياة» (les arts de la vie)، بدلًا من مواصلة النقاش التقليدي عن «أعمار» الإنسان بعامة. ودون أن ننسى السؤال الخجول عن الشيخوخة والجنسانية. ربما علينا التمييز بين «سياسة الحقيقة» حول الشيخوخة، وبين «الحقيقة الإنجازية» لهوية الشيخ. ففي بعض الأحيان تُعامَل الشيخوخة كنوع من «الشذوذ»، والحديث عن الشيخوخة لا يخلو من «تمييز جندري»: بين الشيخ واللاشيخ، وقد نلاحظ أن ازدهار البحث في الشيخوخة لا يمكن فصله عن ازدهار مباحث «الجسد» و«الجنس» و«الهوية» و«الجندر» في البحوث الفلسفية والاجتماعية والنفسية. علينا أن نفحص منزلة الشيوخ ﮐ «فاعلين» بالمعنى الذي استعمله فيبر. ربما فاعلون في عالم وليس في مجتمع. وقد ينبغي التمييز بين «الهرم» (sénescence) البيولوجي و«الشيخوخة» (vieillesse) كنوع اجتماعي وتمثل ثقافي، و«التهرم» (vieillissement) السكاني لمجتمع ما من خلال مستوى عدد المسنين أو غير المسنين. لكن الفلسفة تنشد التفكير في شيء آخر: ما سماه يانكليفيتش بعبارة رشيقة: «التهرم الميتافيزيقي».

نحن لا نتصور الشيخوخة، نحن نشعر بها، نحن نجربها. تمامًا كما في الصيغة التي أشار إليها سبينوزا حين نبه الفلاسفة إلى قدرتهم على الأبدية: نحن نشعر، نحن نجرب أننا أبديون.

الشيخوخة نوع من الأبدية، وربما كانت الأبدية نوعًا من شيخوخة الآلهة. لكن الأمر لن يتعلق أبدًا بمفهوم عن الشيخوخة، بل بحالة شيخوخة نشعر بها، نجربها، لكنها لن تتحول أبدًا إلى مفهوم مريح أو كوني إلا عرضًا.

ولذلك تبدو فكرة سبينوزا عن الموت رشيقة جدًّا وعميقة: أن الموت مهما كان نوعه، هو لا يأتي إلا من خارج. وهنا في هذا السياق الاستثنائي يضيف دولوز في أحد دروسه الأخيرة: «الشيخوخة أيضًا تأتي من خارجنا. كل هذا يأتي من الخارج: إنه اهتراء الأجزاء الخارجية» فينا.

ولكن كيف نرسم الحد الذي يفصلنا عما هو خارج عنا؟ أين نبدأ «نحن»؟ وأين يبدأ «الخارج»؟

نحن نعرف منذ هيغل أن «وضع الحدود هو دومًا طريقة لاجتيازها.» ويبدو أنه من الصعب أن نرسم حدًّا فاصلًا عن شيخوختنا، ما دام الخارج أفقًا غامضًا بلا أي توقيع. ولكن ما يوصينا به هيغل هو: «أن ننصت إلى الغابة التي تنمو بدل الإنصات إلى الشجرة التي تسقط». ولكن من الغابة عندئذ؟ ومن الشجرة؟ وماذا لو كنا عشبًا بلا أي علاقة عمودية مع أنفسنا؟ وهو معنى «ريزوم» دولوز.

ما دام «الخارج» بلا ملامح، فإن حدودنا معه تظل ادعاءً أخلاقيًّا، سرعان ما نغفل عنه بشكل نسقي. الحياة هي على الأغلب طريقة انشغال مطولة عن موتنا. ونحن نحرص دومًا على تأجيل أي لقاء معه. ومع ذلك، فإن الفلاسفة يميلون إلى اعتبار الشيخوخة لحظة حرية إزاء الموت. وهذا ينم عن مفارقة مزعجة.

الفلاسفة، أو لنقل المبدعون تحت كل لون من ألوان الروح، هم ضرب نادر من الشيوخ الشبان، أو الشبان الشيوخ، فإن قلب الألفاظ في بعض الأحيان لا يغير من طبيعة الألم شيئًا. إن ألمًا عميقًا واستثنائيًّا هو التفكير. ولا سيما حين يتعلق بتمرين مرعب على الحياة ما إن نشعر أنها التمرين الأخير على أنفسنا، أو ما نقرر يومًا ما أن نكونه دون أي شيء آخر.

الحلم القديم: شيخوخة شابة

«الشيوخ الشبان» هو نوع جديد من الناس، بعد الإنسان التقليدي، ذلك الذي نرثه كجلدتنا، دون أي تعليق آخر. وإن نمط الحياة المعاصر قد دفع بهذا الإشكال القديم إلى أقصاه، حين أنتج رهطا بشريًّا من نوع غير مسبوق: أجسادًا بشرية لا عمر لها. أو لنقل: أعمارًا تتنافس على جسد واحد، دونما انقطاع. قد نظن أن الأمر يرجع فقط إلى دور الطب الحديث في زيادة الأمل في الحياة. وهذا بالفعل هدية لا تُنكر من أطبائنا اليوم وغدًا. لكن المُشكِل الذي تثيره عبارة من قبيل «الشيوخ الشبان» (والعبارة المقلوبة عنها «الشبان الشيوخ») هو من نوع آخر، ولا يمكن اختزاله في مجرد زيادة الأمل في الحياة بعض السنوات الإضافية. «الإنسان المزيد» الذي أخذ يطل برأسه أو بقامته على المشهد البشري ما بعد الحديث ليس مزيدًا في صحته أو في قدرته على مقاومة الأمراض. بل هو كائن توفرت لديه لأول مرة فسحة استثنائية للتفاوض حول عمره الشخصي، ولا نقول حول موته. يظل الموت الخاص مُشكِلًا مطروحًا حتى بعد تدخل الطب الحديث وتأجيل توقف الحياة عن الخفقان. يؤجَّل الموت، لكنه لا يفقد مفاجأته الجذرية.

إن ما هو استثنائي حقًّا في البشر ليس هشاشتنا أمام حدث الموت بل قدرتنا على الحياة. الحياة في معنى تلك القدرة العجيبة على إعادة رسم ملامح العمر بالوسائل المتوفرة. من يحيا يتميز بكونه يمتلك كمية كافية من تجاعيد الروح تمكِّنه إلى حد الآن من أن ينتمي إلى نفسه بتوقيع خاص لا يشاركه فيه أحد. وعلى الرغم من كثرة الأقاويل المريعة حول شيخوختنا، حيث تُقدَّم الشيخوخة عادة بوصفها ضربًا من الجحيم الخاص، ولكن المؤجَّل دائمًا. لكن العمر البشري والعمر الشخصي ليسا مترادفين؛ يمكن لجسدك أن يشيخ طبيًّا دون أن يفقد أي شيء من رونقه الحيوي. كما أنه من السهل بمكان أن يشيخ المرء شابًّا. أجل، لا يبدأ الناس شيخوختهم في نفس التوقيت. هناك من يبدأ شيخوخته مبكرًا، فيسقط في نوع من الشيخوخة المجازية. كما أن ثمة من يؤجلها بوتيرة مثيرة، ومزعجة أحيانًا، فينزلق في شباب بلا غد.

كان أفلاطون يعتقد أن الشيخوخة هي راحة الحواس. وبالتالي هي يمكن، أو يجدر بها، أن تكون وقتًا مناسبًا للحكمة. لكن طريقة البشر في رسم ملامح أعمارهم قد تغيرت منذ ذلك الوقت البعيد. لقد تحول معنى العمر شيئًا فشيئًا إلى مُشكِل شخصي لا علاقة له ضرورةً بوتيرة تآكل الزمن البشري في أي جسد آخر. لقد صار العمر يشبه نوعًا من السفر الأخلاقي نحو أنفسنا. لكنه سفر يُعاش كنوع من الشباب الإضافي، يمكن للمرء أن يقوم به في أي عمر يشاء.

قال فيكتور هوغو: «إن إحدى ميزات الشيخوخة هي كونها، علاوة على عمرها الخاص، تمتلك كل الأعمار الأخرى.» كان يظن أن الشيخوخة هي عمر الرجاء البحت؛ ولذلك فإن «شباب الشيخوخة» يظل أملًا قائمًا مهما وقع التقدم في العمر. الشباب كتقنية رجاء استثنائية تحت جلد كل شيخ، فقد كل علاقة بالوقت «الطبيعي». وعلينا أن نسأل هنا: هل يمكن لأي متقدم في العمر أن ينجح في شيخوخته؟ قال لاروشفوكو ذات مرة: «قليل من الناس يعرف كيف يكون متقدمًا في العمر.»

نحن ننتمي إلى ثقافة وزعت أوقات العمر بطريقة مرعبة، ولذلك هي لم تجد من طريقة لإنقاذ الموقف سوى قصة مناسبة عن موتنا. كل الأديان هي قصص لطمأنة الموتى بواسطة الحياة. لا نقصد الآخرة كنوع آخر من الحياة، بل الحياة نفسها كمجموعة من طبقات الحياة التي تعمل كل ثقافة على الزيادة في سماكتها حتى تصبح أكثر فأكثر قابلة للحياة أو محتملة.

طبعًا حيثما يقف الموت، فإنه يقف دومًا كاهنٌ ما يُطمْئِن القلوب الحائرة على إمكانية الموت دون خطر كبير. كل كهنوت هو جهاز تحويل الحياة إلى موت بلا موت. هو فن استئصال ألم الموت من حادثة الموت. كل تجارب الإيمان بأي لغة كانت، وفي أي عصر كان، هي معامل للموت المريح. ومن ينكر حق البشر في هذا العلاج الفريد من نوعه، دون أن يخجل من طمعه الجذري في الحياة؟

هناك دومًا باسكالٌ ما:

قال: «إن الشبيبة حالة في الذهن أكثر منها حقبة في العمر.» وقال: «إنما عند الشيخوخة وبالشيخوخة يتعلم المرء كيف يظل شابًّا.» … إلخ.

كان هذا النوع من الطمأنة ألقًا أدبيًّا لكاهن متنكر؛ إذ إن كل آثار الحداثة إنما تتجلى في برنامجها عن الحياة: في إعادة ماهية جميع الكائنات إلى عقل الإنسان، ومن ثم إلى جسده، كمساحة سيطرة؛ حيث يعمل الطب والتقنية والأخلاق جنبًا إلى جنب. كل الحداثة هي برنامج ميتافيزيقي لإعادة القدرة على الحياة إلى نصابها من التفكير. وليس التنوير غير محاولة إيصال هذا الخبر إلى الإنسانية، وإن كان ذلك دون طمع كبير في إقناعها حالًا. لقد تم اكتشاف الصحة كمُشكِل ميتافيزيقي من الطراز الأول.

يُقاس كسل الروح في ثقافةٍ ما بقدر ما تمنع جزءًا من الأحياء من علاقتهم بالحياة. وتحولهم إلى قطيع من الموتى المؤجلين. ويميل الوعي العامي إلى اعتبار الشيخوخة فترة مناسبة تمامًا للموت، نعني للكف عن الحق في الحياة، وبالتالي للكف عن تغيير العمر بما هو كذلك. وهنا نعثر على وسيلة تمييز مثيرة بين الشبان والشيوخ: من يكف عن تغيير ماهية العمر هو مؤهل أكثر من غيره كي يصير شيخًا. إن مقولة العمر هي معطًى تشكيلي، وليس جدارًا نكتب عليه أحداثًا ماضية، ونمر. من أجل ذلك يبدو العمر امتحانًا رائعًا يمكن أن نفشل فيه دون تمييز يُذكر بين الشاب والشيخ. على سبيل المثال: ما أكثر الفاشلين في شبابهم. يمكن لأيٍّ كان أن يُفشل شبابَه؛ نعني أن يخفق في مصاحبة قدرته على الحياة بالشكل المناسب. هنا يتبين أن الشباب ليس وقتا بديهيًّا للنجاح في الحياة. لكن ما نلاحظه هو أنه حين تشيخ حضارةٌ ما تنقلب إلى آلة يأس، أي إلى إرهاب.

في فنون الشيخوخة

ينبغي علينا أن نفكر في شيخوختنا: وعلينا أن نسأل للتوِّ: «هل يمكن أن نفشل في الشيخوخة؟» لا نعني بذلك سؤالًا من هذا النوع: «هل ثمة وقاية من الشيخوخة؟» أو «هل هناك سن رسمي للشيخوخة؟» أو «هل فعلًا أن الحياة لها ربيع واحد؟» بل فقط: إن الشيخوخة قدرة على الحياة، مثل أي قدرة أخرى. وعلينا أن نتمرن على النجاح فيها، مثل النجاح في أي تمرين آخر على الحياة. قال أندري مالرو: «ليست الشيخوخة سوى عادة كريهة لا يجد الرجل العامل وقتًا كافيًا لاعتيادها.» ولكن هل يتعلق الأمر بالوقت الكافي لتعلم الشيخوخة أم أننا نفتقد غالبًا إلى القدرة على الشيخوخة؟

لا نعني بالقدرة على الشيخوخة أن ننجح في التعمير وقتًا متطاولًا إلى «أرذل العمر» حتى «نبلغ من العمر عتيًّا». إن المعمرين أحياء ولكن بلا حياة، أي بلا شيخوخة. بل إن ما يعنينا هو القدرة على الاحتفاء بهذا النوع من النداء: «استمتع بالشيخوخة ولكن لا تكن شيخًا.»

هناك شيخوخات عدة: هناك شيخوخة مبكرة، وشيخوخة مراهقة أو متصابية، وشيخوخة مريضة، وشيخوخة هرمة، وشيخوخة منسية، وشيخوخة سردية؛ «كُنتيَّة» (كنت في شبابي)، و«كانيَّة» (كان أبي …)، وشيخوخة حكيمة، وشيخوخة رحيمة (كما نقول «يوثينيزيا» أو «الموت الرحيم»)، وشيخوخة الألزهايمر … لكن الشيخوخة الشابة هي التي ينبغي العمل على اقتنائها من الحياة.

يقول ألبير كامو: «أن نحب كائنًا ما، هو أن نقبل أن نشيخ معه.» الشيخوخة-معًا هي الكينونة-معًا التي تميز الحب عن أي عاطفة أخرى. من لا تحب أن تقاسمه شيخوختك فأنت لا تحبه، مهما أوتيت من بلاغة المتغزلين. الشيخوخة والكينونة تتلاقيان متأخرتين دومًا. وفي ضرب من التهكم على الفلسفة أن ترى إلى ذلك التقابل اللزج بين علم الكينونة (ontologie) وعلم الشيخوخة (gérontologie، وهو مصطلح مؤلف من اللفظ اليوناني gerontos؛ أي الشيخ أو العجوز). وعلينا ألا نتمادى في إزعاج المفاهيم: أيُّ فرق يدعو إلى التفكير بين الأنطولوجيا، التي تسأل عن معنى الكينونة، وبين «الجيرونطولوجيا»، التي تسأل عن معنى الشيخوخة؟ وماذا يمكن أن تعني لنا نظرة «جيرونطولوجية» للغة أو للدولة أو للحداثة؟ للجنس؟ للحب؟ … إلخ.

تبدو الفلسفة مثل طفولة «جيرونطولوجية» متنكرة، نعني قدرة مبكرة أو غير راهنة أو في غير أوانها على إقامة الأسئلة المناسبة حول معنى شيخوخة النفس. هل ذلك لأن شيخوخة الجسد لا مرد لها؟ أم هي في عين الفيلسوف مجرد آثار جانبية عن شيخوخة أعمق؟ هي شيخوخة النفس؟

في سياسة العمر أو الشيخوخة بشكل مغاير

الشيخوخة الشابة إذن لا عمر لها. أو هي لا تتعلق بتواريخ العمر. إن العمر هو نفسه أفق داخلي لأنفسنا، لا يمكن حصره في أي نوع من الحساب. وحده الجسد يمكن التأريخ له بشكل طبي. أما طريقة استعمالنا لأجسادنا، وطريقتنا في رسم ملامح العمر داخله، فهذا شأن سياسي بالمعنى الجذري: سياسة النفس باعتبارها مساحة أخلاقية خاصة، لا نملك بعدُ أي ميزان ميتافيزيقي لها إلى حد الآن سوى الجسد؛ نعني جسدنا الخاص ولحمنا الخاص، ملكية خاصة تغار منها الآلهة والدول.

الشيخوخة الشابة هي نمط من السكن على سطح أجساد خاصة بلا رجعة. «على سطح أجسادنا» وليس فيها. نحن بمعنًى ما لا نوجد خارج أجسادنا كما أننا لا نوجد داخلها. بل على سطحها أو على حدودها. ربما يحق للشباب أن يزعم أنه داخل جسده، وهو يدَّعي ذلك لأنه يعتقد أن جسده غض بض فتيٌّ نضِر … وبالتالي هو مكان لائق ورائق ومثير للسكن. لكن الشيخوخة لا تملك مثل هذا الترف الوجودي. يشعر الشيخ دومًا أنه يقيم في المكان غير المناسب أو في السكن غير المريح. ومن ثم أن عليه أن يبقى خارجه، على أطرافه أو بجواره، دون أن يتجرأ على دخوله. الشيخوخة هي نمط من الجوار مع جسد لم يعد صالحًا للسكن.

ولكن هل يمكن أن نُشفَى من الشيخوخة؟ قال إبراهيم الموصلي:

قالت عهدتك مجنونًا فقلت لها
إن الشباب جنونٌ بُرؤه الكِبر

ثمة جنونٌ ما تحت تجاعيد الروح في كل شيخ. وخاصة حين يكون شابًّا. ولكن ما أبعدنا عن تلك العصور الطرية حين كان الجنون أخطر على الحياة من العقل. ربما كان العقل، ولا سيما العقل الذي أصبح يطيل عمره كما يريد، هو أخطر أنواع المستقبل على الحياة. إن عقلًا لا يشيخ هو عقل غير قابل لأي نوع من الشفاء السردي من الحياة. ما نفكر فيه، في أي رَدَح من العمر، هو آثار أو أطراس نظل نقرؤها دون أن نخلط بينها، عمدًا. هناك دومًا مساحة نسيان متاحة في أي وقت من العمر، لكننا نفضل قصدًا أن نتذكر.

قال امرؤ القيس:

أتت حِججٌ بعدي عليها فأصبحت
كخط زبور في مصاحف رهبان

نحن بعدَ أنفسنا دائمًا، وهكذا نتقدم في العمر. ليست الشيخوخة نهاية لأي شيء. ولا هي بداية لأي شيء. هي قدرة على قراءة الأطراس. خطوط مكتوبة فوق بعضها البعض، تغرينا بقراءتها في وقت واحد، في تزامن مرعب. لكن الانتماء المتعدد لأنفسنا، لجميع «الأنفس» التي كُنَّاها، هو أيضًا له متعته الفظيعة. لا يبقى من أي حياة سوى العمر. نعني تلك القدرة على قراءة الأطراس المتزامنة. وإن كان ذلك من دون ذاكرة مناسبة دومًا. قال غارسيا ماركيز: «إن زمن الشيخوخة ليس تيارًا أفقيًّا، وإنما خزان مثقوب القعر تتسرب منه الذاكرة.» وكلما تسربت الذاكرة بدا الإنسان وكأنه «رضيع هرم».

هل كان ثمة طريقة أخرى لتفادي هذا الأمر «الكريه» ولم يتفطن إليها أي شيخ من «الشيوخ»؟ نعني: هل كان ثمة وسيلة أخرى لإطالة العمر دون خطر يُذكر أو دون التعرض لهشاشة الكينونة؟ قيل: «إن الشيخوخة لا تزال هي الوسيلة الوحيدة التي عثرنا عليها كي نعيش طويلًا.»٣٤ لكن هذه الرشاقة سرعان ما تتعثر أمام إشارة من قبيل تلك التي ألقاها بلزاك ذات مرة: «الشباب شيء مدهش … ولكن من المؤسف أنه يوهب للصغار دون الكبار.» هل الشيخوخة إلا سياسة أسف مناسبة عن سن غير قابلة للشباب. على البشري أن يطيل في سن الحيوان الذي في جسمه حتى يمكن للعمر أن يصبح أكثر مدعاة للحياة. نحن لا نعيش لأننا لم نمت بعد. بل بخاصة لأن الشباب لم يتأخر عنا إلى حد الآن. ومن ثم أن الحياة ما تزال ممكنة وذلك دون أي علاقة ضرورية بمسألة السن. قال أريسطوفان: «كلما اقترب الناس من الشيخوخة، أصبحوا يشبهون الأطفال.»

يتميز الشيوخ الشبان بأنهم أفلحوا دون غيرهم فيما سماه غارسيا ماركيز «إبرام عقد مشرف مع الوحدة». بالطبع، الشيخوخة مؤسسة وحيدة أو تستمد من القدرة على الوحدة قوة خاصة. ثمة أطفال متوحدون، لكنهم لا يعانون من الوحدة. قال فولتير: «الحياة طفل ينبغي ملاطفته حتى ينام.» ذلك يعني أن الطفل ليس ماضي الشيخ بل الحِضن السري لقلبه. ولذلك نحن لا ننجب من أجل الخلود بل فقط من أجل البقاء، والبقاء لا يبدأ متأخرًا أبدًا.

الشيخوخة كفرصة لا تعوض للحياة، وخاصة أنها غير متاحة لأي جسد. ثمة «حدود جديدة للعمر».

والأمر العام الجديد هو: «الشيخوخة بشكل مغاير» (vieillir autrement). فجأة يبدو حصر الشيخوخة في مجرد التهرم الإدراكي الذي يصيب جيلًا ما، موقفًا مزعجًا. إن الهدف هو توسيع قدرات الناس على الحياة، لكن ذلك لا يعني زيادة الأمل في الحياة بل تحريرهم من سياسات العمر التقليدية وفتح كل باب الابتكار في العمر. العمر اختراع ثقافي وليس جنسًا جاهزًا.

لا تملك الشعوب هرميةَ أعمار واحدة، على الدوام.

الشيخوخة ليست استعارة، ولا هي مرض معدٍ، بل إمكانية أصيلة للاقتراب الأقصى من أنفسنا، نحن نحملها في قاع أنفسنا منذ البداية.

تَمثَّل هَيدغر ذات مرة بالقولة التالية: «ما إن يأتي الإنسان إلى الحياة، حتى يكون مُسنًّا بما فيه الكفاية كي يموت.»

ليس ثمة وقت مخصوص كي تجتاح الشيخوخة شعورًا ما بالكينونة. إن النفوس إذن تشيخ قبل الأجسام بوقت طويل. وبعبارة أكثر حدة: الشيخوخة هي كل نمط غير أصيل من الشعور بأنفسنا. وبهذا المعنى فإن حياتنا هي مجرد إمكانية كينونة سوف تظل شكلًا سابقًا أو مبكرًا من الشيخوخة ما دمنا نحن نؤجل أي تملك أصيل لحقيقتها. الحياة ما هي سوى مشروع تملك معنى أنفسنا بقدر ما نحرره من إمكانية الشيخوخة التي ينطوي عليها منذ البداية. وحسب هَيدغر، على الكيان الذي هو نحن كبشر، أن يستبق كل إمكانيات كينونته نحو الإمكانية القصوى التي تخصه، ونعني بذلك أن يقبل قبولًا عميقًا بإمكانية موته بوصفها هي الصيغة القصوى من قدرته على الحياة. أن يقبل موته بوصفه طريقة في الحياة. والخيط الهادي هو التمييز بين ما ينتهي يومًا وما يوجد نحو نهايته. الإنسان لا ينتهي أبدًا، بل هو دومًا ينحو نحو نهايته.

بهذا المعنى ليست الشيخوخة نهاية لأي شيء، بل هي نمط كينونة كنا عليه منذ البداية. ما إن نكون حتى ننخرط في شيخوخة مفتوحة، هي الإمكانية الأخص لوجودنا كبشر. والفلسفة هي تمرين عميق على استباق الشيخوخة في معنى التحمل الجذري لإمكانيتها العميقة في صلب أنفسنا، دون أي مراوغة. أن نستبق شيخوختنا يعني أن نصبح أحرارًا لها. لا يحرر الإنسان من خوف الشيخوخة إلا تملك ماهيتها؛ نعني أن يتفرغ لتحملها من الداخل. يقول هَيدغر: «بالاستباق يصبح المرء حرًّا لموته الخاص.» ولكن ما جدوى حرية كهذه؟

قال: «إن الدازين يحفظ نفسه بالاستباق من أن يتقهقر وراء ذاته ومستطاع الكينونة الذي وقع فهمه و«أن يتأخر به العمر عن انتصاراته».»

«أن يتأخر به العمر عن انتصاراته» عبارة اقتبسها هَيدغر من أحد أقوال نيتشه في زرادشت٣٥ (الكتاب الأول، حديث «عن الموت الحر»). «ومن الناس أيضًا من يصبح مسنًّا جدًّا بالنسبة إلى حقائقه وانتصاراته. إن فمًا فقد أسنانه لم يعد له الحق في أي حقيقة.»

لكن هذا ليس بيانًا ضد الشيخوخة بل فقط طريقة أرستقراطية في اختيار موتنا. طبعًا كما قال زرادشت: «الكثير من الناس يموت في وقت متأخر، والبعض يموت قبل الأوان.»

ما العمل إذن؟ هل ثمة فلسفة يمكن أن تساعدنا على تغيير قدرنا؟

لقد رأينا تخريج هَيدغر للصعوبة الفلسفية التي تهمنا: إن الشيخوخة هي نمط مستبق من الموت الحر.

لكن أطروحة هَيدغر تظل بلا أجنحة حتى نعيدها إلى الأفق الذي منحه نيتشه للمعاصرين تحت هذا العنوان المثير، والذي اقتبس منه هَيدغر، عنوان «الموت الحر».

يقول مانتاني في نص يحمل عنوانًا قديمًا «أن نتفلسف هو أن نتعلم الموت»: «إن أعظم شيء في العالم هو أن نعرف كيف نكون لأنفسنا، لكن الشيخوخة وحدها هي لحظة الحصول عليه.»

ثمة خيار صعب هنا بين أمرين مزعجين: إما اختيار الموت في الوقت المناسب، وإما تحمل إمكانية الشيخوخة منذ البداية كإمكانية أصيلة في صلب أنفسنا.

ويبدو أن نيتشه قد انتصر إلى الحل الأول، أما هَيدغر قد تكفل بالتفكير في الحل الثاني.

يقول نيتشه: «إن الحكمة القائلة: «لتمتْ في الوقت المناسب!» ما زالت تبدو غريبة … لكن كيف يمكن لمن لم يعش في الوقت المناسب أن يموت في الوقت المناسب؟»

هنا يبدو أن نيتشه يلتحق بهَيدغر لا يتكلم لغته: أن نموت في الوقت المناسب يعني أن نقبل بالعيش في الوقت المناسب. وذلك يعني فقط: أن نرضى بشكل أنفسنا، وبعبارة محببة لنيتشه: «أن نحب قدرنا». بيد أنه لا يحب قدره إلا من بكر له وأعطاه كل إمكانية الاقتدار التي بحوزته. وربما أمكننا أن نقول في عبارة قلقة: أن نحيا حياتنا باعتبارها نوعًا مبتكرًا من الموت الحر.

يموت حرًّا من اختار حياته بلا رجعة، ومن هنا تنقلب شيخوخته إلى عيد سري. الشيخوخة هي تعلم الموت الحر، وذلك بعيدًا عن أي عدمية كسولة. لكن هذا النوع الاستثنائي من الشيخوخة ليس حكرًا على الشيوخ، بل ربما هو غريب عنهم تمامًا.

من يُستشهد من أجل قضية عادلة، من أجل الإنسانية أو الوطن مثلًا، هو يختار حياته بشكل دقيق؛ نعني: يختار نمطًا من الحياة، من المفارقة أنه لن يعيشه هو بشخصه، ولكنه هو من جعله ممكنًا. الموت ليس مُشكِلًا شخصيًّا دائمًا.

خاتمة: الشيخوخة موقف إنجازي

قال فوكو: «ما لا نستطيع معرفته هو يشكل جزءًا من بنية الذات العارفة، وهو الذي يجعلنا غير قادرين على معرفته» (درس تأويلية الذات).

ليس أكثر من الشيخوخة تعبيرًا عن هذا الإحراج. ممارسات الشيخوخة وتقنيات العمر: هل من رابطة بينهما؟ هل سياسة العمر هي بالضرورة سياسة شباب؟

كل طفل هو في علاقته اللعِبية بالعالم الصغير الذي يهمه هو يطور سياسة معينة عن العمر؛ عمره هو كملكية أخلاقية لا تقبل الاقتسام مع أحد. وما يدفع بشباب يافع إلى الإرهاب مثلًا هو على صلة مريبة بمسألة سياسة العمر هذه. ثمة صعوبة عميقة غير مفهومة لنا هي التي تجعل شابة يانعة تنقلب إلى قاتلة وقحة وشرسة. ليس هذا مُشكِلًا أخلاقيًّا أو دينيًّا أبدًا. هناك خلل في التصور الذي نقدمه لهذا الجيل عن تقنيات الذات المناسبة له.

يقع الفشل الميتافيزيقي في موضعٍ ما من تصورنا لأنفسنا، وعلينا أن نبحث عنه. سياسة معينة للنفس هي المسئولة عن قبول بعض الشباب الناجح جدًّا، بمقاييس النجاح الحديثة، التخليَ عن كل هذه الدائرة من القيم ومن سياسات العمر الحديثة، والالتحاقَ بقافلة سيئة ومرعبة من الحيوانات الأخلاقية المضادة لكل ما هو حديث في نمط حياتنا.

الإرهاب نوع من الشيخوخة الأخلاقية المرعبة التي تلغي المسافات المعيارية بين الأعمار والأجيال، وتحول أحدهم إلى شيخ بلا عمر شخصي.

كيف نعيد طرح العلاقة بين الشيخوخة والرشد؟ أو سن النضج؟

ربط كانط بين التنوير والرشد، نوع من رشد العقل، لكن رشد البدن لا يظهر في الصورة. التنوير هو الخروج من حالة القصور، ولكن إلى أي مدى يمكننا متابعة كانط في استعارة «القصور» مع فصلها عن مسألة الجسد فصلًا حادًّا؟

كل الثقافات وكل العصور لها تصورات خاصة عن «الرشد»، وفي بعض الأحيان يتم ربط الرشد بالشيخوخة. وبهذا المعنى: كل من يبلغ سن الرشد فقد دخل تحت طائلة الشيخوخة.

وإن نكتة الإشكال المتوارية هنا هي طبيعة العلاقة بين الشيخوخة و«المشيخة»؟ تُقال «المشيخة» في اللغات الغربية (chefferie, chiefdom, Häuptlingtum) في معنى «شيخ القبيلة» أو «رئيس القبيلة» (le chef)؛ لكن شيخ القبيلة ليس «شيخًا» بالضرورة. ثمة تمايز لطيف بين الشيخوخة والمشيخة: بين شيخوخة العمر ومشيخة السلطة. ويبدو أن كل طمس دلالي أو معياري بينهما هو مغالطة أخلاقية عميقة.

لا تُقال الشيخوخة على الإنسان بالضرورة، وشيخوخة فكرة الإنسان أو شيخوخة الإنسانية ليست أقل مدعاة للتساؤل من أي شيخوخة شخصية. كذلك: شيخوخة العالم أو الأرض أو شيخوخة الله … إلخ. ليس ثمة حد أخير لأي بحث في الشيخوخة في أفق البشر.

ما إن يموت أي شخص، في أي لحظة من عمره، حتى يصبح فجأة «شيخًا». رضيع ميت هو شيخ بما فيه الكفاية كي يفارق الحياة. علينا أن نفصل بين الشيخوخة والزمن. ليس ثمة وقت مناسب ووحيد للشيخوخة.

قال أندري مالرو: «كل شيخوخة هي نوع من الاعتراف» (Toute vieillesse est un aveu.).
يبدو «العمر» كشيء لا يقبل الانكسار، وكان فرويد يتصور أن «الرغبة شيء لا يقبل الانكسار» (تأويل الأحلام، ١٨٩٩م). لكن فرويد عجز عن إنتاج أي قول كبير في ماهية الشيخوخة. الشيخوخة استئناف طفولة من نوع آخر. لكن الطفل (l’infans؛ بالمعنى الحرفي هنا: «من لا يتكلم»).٣٦ وعلى مدى ١٨ مجلدًا من أعمال فرويد لم يتم العثور على مصطلحات: «التقدم في العمر» أو «الشيخوخة» أو «العجوز» على أي منزلة صريحة. بل فقط بعض الآثار التي ينبغي تأويلها في موضع آخر.٣٧
وفي الغالب إن الشيخوخة مُشكِل يتم بناؤه ثقافيًّا وليس مُعطًى بيولوجيًّا كسولًا، فمن لا يتكلم حول شيخوخته لا يعني أنه لا يقول شيئًا حاسمًا حولها. ربما علينا أن نقوم بإحصاء ما يشيخ وما لا يشيخ فينا؛ مثلًا: هل ثمة فرق أكيد بين شيخوخة الأعضاء وشيخوخة إدراكنا لأنفسنا (perception de soi)؟ لكن ما هو مؤكد هو أن الشيخوخة طور لا بعدَ له. وعلينا أن نسأل: هل الشيخوخة، كما في أفق فرويد مثلًا، مجرد مُشكِل نرجسي؟ هل يمكن أن يحبني الآخر؟ الشيخ هو من كفَّ عن أن يكون موضوعًا للرغبة. هل يعني ذلك أن حياته الجنسية قد انتهت؟

نحن لا نجد الشيخوخة، نحن نعثر عليها. ويجدر بي أن أتساءل: هل أنا حدود شيخوختي؟ ماذا لو أن اللاوعي لا يشيخ، هذا يعني أن الشيخوخة لا وجود لها. إنها فقط نوع من الحداد الخفي على النفس. وكانت سيمون دي بوفوار قد تساءلت: «هل العجائز من فصيلة البشر؟»

تقول: «نحن لا نعرف من نكون، إذا كنا نجهل من سوف نكون». لكن بوذا ينقذ الموقف قائلًا: «أنا هو بيت شيخوختي المقبلة». فمنذ أن لم تعد الشيخوخة أمارة على الخبرة في الحياة، تحولت إلى عبء أخلاقي.

علينا أن نتعلم من جيراننا الميتافيزيقيين: إن الحيوانات لا تشيخ بسرعة مثلنا، ونستفيد من نصيحة دي بوفوار: إذْ «بين أن تكون فرويد وألا تفعل شيئًا، هناك حلول وُسطى كثيرة». هذا علاوة على أن الفضيلة الكبرى لشيخوخةٍ ما ربما هو النسيان الصحي، ومن ثم إن الشيخوخة هي قوة العمر، هي الذهاب نحو حرية من نوع آخر: حرية عدم التأسيس لأي شيء طويل الأمد.

يقول «رجل الذئاب»:٣٨ «ألم يقل فرويد إن اللاوعي يجهل الزمان. فإن النتيجة المترتبة عن هذا هي أن اللاوعي يجهل الشيخوخة.»

ويقول في موضع آخر: «لقد تعجبت في أحيان كثيرة أنه، أثناء انهيار خطير، نحن لم نعد نريد العيش، لكننا نخاف من الموت، وأننا حين نكون في صحة جيدة، نحن نريد العيش، لكننا لا نخشى الموت. كذلك هو الأمر بالنسبة إلى الشيخوخة أيضًا.»

ربما كانت الشيخوخة أسطورة شخصية يعيشها كل فرد على حدة. والسؤال الملح هو: كيف القيام ﺑ «شيخوخة ناجحة»؟ وقد تبين أن ثمة من يفشل في شيخوخته بشكل رائع. لا تبدأ الشيخوخة متى نريد، وهذا يعني أنها غير مشروطة بالزمان؛ مثلًا: الرياضيون يشيخون بشكل مبكر جدًّا، لكن بيكاسو أو ريكور هم شيوخ ذوو قدرة رهيبة على الإبداع المتأخر جدًّا. إلى أي حد يمكننا أن نطور آدابًا مناسبة للشيخوخة؟ قد تكون الشيخوخة أيديولوجية سلطة؟ ربما علينا أن نفكر بالشيخوخة كنوع من الاستغناء عن المستقبل.

١  Cf. Bernard Lewis, The Arabs in History, (1950) Oxford University Press, New York, sixth edition, 1993, p. x: “This is not so much a history of the Arabs as an essay in interpretation”.
٢  برنارد لويس، العرب في التاريخ، تعريب نبيه أمين فارس ومحمود يوسف زايد، بيروت، دار العلم للملايين، ١٩٥٤م، ص٣.
٣  نفسه، ص٥.
٤  B. Lewis, History: Remembered, Recovered, Invented, Princeton, NJ: Princeton University Press, 1975.
٥  Ibid., p. 12.
٦  Bernard Lewis, The Arabs in History, op. cit., p. 1: “What is an Arab? … The Arabs may be a nation; they are not a nationality in the legal sense”.
٧  برنارد لويس، العرب في التاريخ، مصدر مذكور، ص٧.
٨  B. Lewis, The Middle East and the West, Londres, Weidenfeld & Nicolson, 1964.
٩  B. Lewis, Assassins, A Radical Sect in Islam (Londres, 1967, New York, 1980); Martha Crenshaw, Terrorism in Context, Pennsylvania University Press, 1995, p. 554, note 2.
١٠  B. Lewis, “The Return of Islam,” Commentary, January 1, 1976.
١١  B. Lewis, “The Roots of Muslim Rage,” The Atlantic, September, 1990, pp. 48 sq.
١٢  Ibid., p. 53.
١٣  B. Lewis, Buntzie Ellis Churchill, Islam: The Religion and the People, Indianaopolis: Wharton Press, 2008, p. 146: “generally speaking, Muslim tolerance of unbelievers was far better than anything available in Christendom, until the rise of secularism in the 17th century”.
١٤  ibid., p. 151.
١٥  B. Lewis, “The Roots of Muslim Rage”. op. cit., p. 56.
١٦  ibid., p. 56: “There was no need for secularism in islam …”.
١٧  Ibid.
١٨  Die Welt, Veröffentlicht am 19.04.2006: “Europa wird islamisch”.
١٩  Platon, Apologie, 40a-c; Alcibiade I, 103a 4-b 2; Euthyphron, 3b 5-7; Euthydème, 272e 3-4; République VI, 496c 3-4; Phèdre, 242b 8-9; Théétète, 151a 4. Dans l’Hippias majeur, 304c 1-4.
٢٠  Platon, Apologie de Socrate, 24b-c.
٢١  M. Foucault, L’herméneutique du sujet, Cours au Collège de France, 1981-1982, Paris, Seuil Gallimard, 2001, pp. 13-14.
٢٢  M. Foucault, Le Souci de soi, Paris, Gallimard, 1984.
٢٣  Bruno Giuliani, Le Bonheur avec Spinoza: l'Ethique reformulée pour notre temps, Paris, Almora, 2011.
٢٤  سبينوزا، الأخلاق، V، ٤٢.
٢٥  Arthur Schopenhauer, Die Kunst, glücklich zu sein, Verlag C. H. Beck, München, 1998.
٢٦  Cf. Alfredo Gomez-Muller (Sous la direction de), Du bonheur comme question éthique, Paris, L’Harmattan, 2002.
٢٧  André Comte-Sponville, Le bonheur désespérément, Pleins Feux, 2000.
٢٨  Alain Badiou, Métaphysique du bonheur réel, Paris, PUF, coll. “Quadrige,” 2015.
٢٩  كانط، نقد العقل العملي، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، ٢٠٠٨م، ص٢٠٠.
٣٠  نفسه.
٣١  M. Heidegger, Gelassenheit. Neske, Pfullingen, 1957.
٣٢  Emil Cioran, De l’inconvénient d’être né, Paris: Gallimard, 1973.
٣٣  André Comte-Sponville, Le bonheur désespérément, op. cit.
٣٤  Guy Bedos .
٣٥  “Mancher wird auch für seine Wahrheiten und Siege zu alt, ein zahnloser Mund hat nicht mehr das Recht zu jeder Wahrheit,” Also sprach Zarathustra, (Vom freien Tod).
٣٦  “l’infans” (celui qui neparle pas).
٣٧  “Le vieillissement saisi par la psychanalyse,” Paul-Laurent Assoun Communications Année 1983 Volume 37 Numéro 37 pp. 167–179.
٣٨  L’homme aux loups par ses psychanalystes et par lui-même, Textes réunis et présentés par Muriel Gardiner, Avant-propos d’Anna Freud; Gallimard, 1981, pp. 244, 355.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤