الفصل الرابع

آداب الأشياء الصغيرة

(١٧) أخلاق بلا فضيلة

تقديم

في كتابه بعد الفضيلة؛ بحث في النظرية الأخلاقية يقترح علينا ألسدير ماكنتاير١ نقدًا طريفًا لجملة الحداثة بوصفها في عمقها إشكالية أخلاقية سيئة الطرح. وذلك أنها انحرفت عن التقليد الفلسفي العريق للفلسفة الخلقية — أي تقليد التفكير في الفضيلة والسعادة على عادة القدماء إلى حد ابن رشد — وعوضته بنظريات نقدية حول مدى إمكانية «تسويغ» الأخلاق بشكل عقلي. وفي هذا الصدد هو يفترض أنه لا يمكن فهم الأخلاق الحديثة إلا «من وجهة نظر خارجية» (ص١٣-١٤)، وذلك يعني عنده أنه لا توجد معايير «كونية» أو «غير شخصية» يمكن أن تحكم بها على الصلاحية الأخلاقية التي يجب أن تتوافر في «القيم» المتنازع عليها، والموجودة لدى شعب ما أو في ثقافة ما. وذلك على خلاف ادعاءات فلسفة التنوير منذ كانط، والتي أخذت تبحث بدءًا من القرن الثامن عشر عن مثل تلك المعايير الكونية من أجل فرضها على الإنسانية.

وهكذا فإن أجدر طريقة لمعالجة المسألة الأخلاقية المتنازع عليها بين المحدثين (من كانطيين وأتباع مذهب المنفعة خاصة) هي أن نعود إلى «تقليد» آخر «غير حديث» كان قد صاغه أرسطو تحديدًا، وذلك من أجل «أن نفهم نشوء الحداثة الأخلاقية وورطتها» (ص١٦). لكنها «عودة» تاريخية حمَّالة لأمل أخلاقي جديد (ص١٥) وليس مجرد «نُوسْتالْجِيَا» حزينة. لا نستطيع أن نفهم أنفسنا المعاصرة إلا «باستعادة تذكر الأحداث من وجهة نظر الحداثة» (ص١٥٨) استعادة «تاريخية»؛ نعني: تفترض صراحة أنه لا يوجد «تسويغ عقلي» كوني للمعايير، بل فقط أن المعايير «تختلف من زمن لآخر ومن مكان لآخر» (ص١٩)، وبالتالي نحن لا نستطيع أن نشرح مفهوم «الخير» الإنساني إلا بالاستناد إلى «مفردات اجتماعية محضة، وبلغة الممارسات والتقاليد والوحدة القصصية للحياة الإنسانية» (ص١٦). لا أحد يكون «متخلقًا» إلا بمعايير الثقافة التي ينتمي إليها، ومن ثم أنه لا يفهم «معنى» قيمة من القيم إلا متى نجح في إدراجها ضمن «قصة» متسقة من الممارسات أو التقاليد الثقافية الخاصة بجيله أو شعبه أو عصره. وذلك أنه لا توجد «معاير حيادية» (ص٢١) يمكن أن نحكم بها على الصلاحية الأخلاقية لمفهوم أو سلوك ما. ما يوجد حقًّا في كل مرة هو «نمط من الحياة الإنسانية» حيث تكون مجموعة من «الفضائل» هي «متجسدة» بشكل «تاريخي» في ثقافة شعب «مخصوص» (ص٢٣).

(١) الفضيلة تُعاش ولا تُستنبَط من أي عقل لا يرانا: علاقة جديدة بين الهوية والأخلاق

علينا هنا أن نبصر بالتقابل الذي يريد ماكنتاير أن ينصبه بين نوعين من الفلسفة الأخلاقية: بين الحداثة الليبرالية والفردانية التي تفترض وجود معايير كونية (ذات طبيعة «قانونية» حول ما هو «عادل» دومًا، كما صاغها كانط) يجب فرضها بوصفها «واجبات» خلقية شكلية «محايدة»، وبالتالي فارغة من أي تصور ثقافي حول معنى «الخير الإنساني» الذي تؤمن به «جماعة» أو يحمل توقيع أمة معينة، وبالتالي هي بمثابة محكمة عقلية للبت في صلاحية المفاهيم الأخلاقية المتنافسة. وبين موقف فلسفي «مضاد للحداثة الأخلاقية» الليبرالية والفردانية، يستلهم عناصر قوته النظرية من «تقليد» أخلاقي ينسبه تاريخ الفلسفة المعاصر إلى القدماء، وخاصة إلى أرسطو (وهو ما يعني أنه ينسحب على حقبة الفلسفة العربية). وهو تقليد غير ليبرالي ولا فرداني، بل يتصور أن «الخير» الخلقي (وليس «الواجب الخلقي» أو «المنفعة» الفردية) هو موضوع الفلسفة الأخلاقية، وهو خير متجسد في «فضائل» لا يتم «استنباطها عقليًّا» بل «يعيشها» أناس حقيقيون منخرطون في «قصة حياتهم»، وذلك في خضم سعيهم إلى «بناء وإبقاء أشكال من المجتمع موجهة نحو التحقيق المشترك لتلك الخيرات المشتركة، التي من دونها لا يمكن تحقيق الخير الإنساني الأقصى» (ص٢٣).

وينطلق ماكنتاير في كتابه من «اقتراح مقلق» (ص٣٣ وما بعدها)، هو أن نفترض أن كارثة بيئية قد حدثت وصار البشر يعيشون بعد تلك الكارثة في حالة فوضى. ومن ثم أن علينا أن ننطلق من أن «اللغة الأخلاقية في العالم الواقعي الذي نقيم فيه هي في حالة من الفوضى الخطيرة»؛ لأنها فقدت الصلة بالعالم الذي نشأت فيه، بحيث صارت «أجزاء تفتقر إلى البيئات [السياقات] التي منها استمدت معناها وأهميتها» (ص٣٥-٣٦). وهكذا فما تقترحه الفلسفة هو أنه لم يعد يمكن أن نفهم مشاكلنا الأخلاقية إذا نحن لم نغير «جهة نظرتنا لأنفسنا»٢ بحيث تطالبنا بإجراء «تحول في نظرتنا لما نكون وما نفعل» (ص٣٦).٣ يجب أن نركز هنا على الرابط الذي يقيمه ماكنتاير بين «ما نكون» و«ما نفعل»، أي بين «الهوية» و«الأخلاق». وذلك يعني أن «السياق» الأصلي الذي تشتق منه الأخلاق «دلالتها» ليس شيئًا آخر غير «ما نكون»؛ أي طريقتنا في أن «نكون أنفسنا»، ولا يعني ذلك غير «الهوية». إن هوية الناس تسبق أخلاقهم. ومن ثم متى ما انهار عالم الانتماء ينهار معه عالم القيم؛ لأن القيم لا «معنى» لها إلا ضمن شكل من «خُلق العالم»، أي من طريقة «السكن» في العالم. والسؤال عندئذ: أين يجدر بنا أن نبحث عن «مصادر» تساعدنا على إعادة بناء القيم الأخلاقية التي فقدت سياقها؟

(٢) أين يجدر بنا أن نبحث عن مصادرنا الأخلاقية؟

يفترض ماكنتاير أنه ثمة طريقة واحدة لذلك: لا يمكن الانتصار على الفوضى إلا بالتأريخ لها. إن الفوضى الأخلاقية (حيث يسود التنازع بين المذاهب الأخلاقية على التسويغ العقلي الكوني الذي يغلب بقية التصورات الأخرى) لا يمكن الخروج منها إلا عندما ننجح في «فهم تاريخها» (ص٣٦). وحده تاريخ الأخلاق يحررنا من وهْم سيطرة مذهب على آخر. إذْ إن العيب الأكبر في أي مذهب أخلاقي، سواء كان ليبراليًّا أو محافظًا، وحتى موقفًا راديكاليًّا، هو الظن بأن «خطابه الأخلاقي» صحيح وأن «لغته الأخلاقية» جيدة ولن تخذله. والحال أن الفوضى الأخلاقية المعاصرة هي حصلت فعلًا، و«نحن سلفًا في حالة من النكبة لا علاجات كبيرة لها» (ص٤٠). لا تريد الفلسفة هنا أكثر من إثارة «القلق» المناسب حول أزمة الأخلاق، وليس إنتاج الاستياء أو التشاؤم. فإن «التشاؤم أيضًا سيتحول إلى رفاهية ثقافية علينا أن نستغني عنها للبقاء في هذه الأوقات الصعبة» (نفسه). بل القلق يهم شيئًا آخر: إنه قلق المفاهيم التي نفكر بها في المسألة الأخلاقية. والأطروحة التي يسوقها ماكنتاير هي التالية: أن اللغة والظواهر الأخلاقية يدومان حتى لو تصدع «الجوهر الكامل للأخلاق» (نفسه). إن الفوضى تعني بذلك أننا سوف نواصل استعمال مفردات أخلاقية فقدت السياق الذي نشأت فيه، وبالتالي هي مفردات تفرض علينا أن نؤرخ لها من جديد حتى تعود إلى دلالتها الخاصة. وهو يشبه هذه المعضلة بما يجري في ميدان الحرب الحديثة: «لا يمكن لحرب حديثة أن تكون عادلة، وعلينا الآن أن نكون دعاة سلام» (نفسه).

ليس المُشكِل في أن فوضى الأخلاق هي حالة حرب بين القيم، أو بين تصورات متنافسة عن «الخير» الإنساني، بل في أنه لا يوجد مفهوم كوني عما هو «عادل» بين البشر. يعني العدل في الأخلاق وجود «قانون» خلقي كوني تقبله كل العقول؛ لأنه قيمة محايدة إزاء جميع الثقافات. وكان كانط قد افترض مثل هذا «الاتفاق الأخلاقي» بين العقول من أجل بناء «أمر قطعي» يمكن أن يجعلنا «نحترم» القانون الخلقي لأجل ذاته، وبالتالي نقوم ﺑ «واجبنا» بشكل «غير شخصي». ولكن ما معنى أن نحترم شخصًا بشكل غير شخصي؟ وحسب افتراض ماكنتاير لا يوجد مثل هذا الاتفاق الأخلاقي، وبالتالي علينا أن نقبل الوضعية الإشكالية كما هي دون أن نخرِّبها بمفهوم محايد لا وجود له.

وهكذا فإن فلسفة الأخلاق هي فوضى قيم لا يمكن الخروج منها بأي اتفاق عادل حول معايير كونية، بل فقط أن «نكون دعاة سلام»؛ أي أن نكون مؤرخين جيدين لها. وحده تاريخ الأخلاق يمكن أن يساعدنا على فك طبيعة الخلاف الأخلاقي وتعطيله. وحسب هذه النظرة فإنه «يمكننا أن نستنتج أن لا شيء في الخلافات المعاصرة سوى صدام إرادات متنازعة، وكل إرادة تحددها مجموعة من خياراتها الاعتباطية»؛ وذلك لعدم وجود «معايير موضوعية» قد تحسم النزاع (ص٤٧). أولًا: إذْ لا شيء يبرر لماذا علينا أن نعتبر أن القيمة الأولى في الأخلاق هي العدالة أو هي الحقوق أو هي المساواة أو هي الحرية … «فكل واحدة من الحجج صحيحة منطقيًّا» (ص٤٤). وثانيًا: أن البحث عن «حجج عقلية لا شخصية» يؤدي إلى «نوع من التفكير مستقل عن العلاقة بين المتكلم والسامع» (ص٤٧). وثالثًا: أن كل الحجج الأخلاقية لها تواريخ ومصادر تاريخية مختلفة ومتعددة لكننا لا نفهم تعددها، بحيث إن «خطاب ثقافتنا السطحي ميال للكلام برضًى ذاتي عن التعددية الأخلاقية في هذا الصدد، لكن فكرة التعددية غير دقيقة أبدًا» (ص٤٩). إن التعددية الأخلاقية تعني هنا «وجهات نظر» متنافسة ومتنازعة هي نفسها متجذرة في «تنوع السياقات» وتستعمل مفاهيم (مثل الفضيلة والعدالة والتقوى والواجب) «قد صارت غير ما كانت عليه من قبل»٤ (ص٤٩). ولذلك فإن التعددية الأخلاقية لا تخرجنا من حالة الفوضى التي أصابت الجدل الأخلاقي المعاصر.

(٣) الحداثة الأخلاقية بوصفها ضربًا من فوضى القيم

تميل فلسفة الأخلاق إلى الدفاع عن الأحكام الأخلاقية بوصفها عبارة عن «أقوال» أو «تعابير» تقع خارج الزمن، ومن ثم يتم استدعاء فلاسفة الماضي للمشاركة في النقاش حول القيم «كما لو أنهم معاصرون لنا ولكل واحد آخر»٥ (ص٥٠). ومن ثم فإن الحل الوحيد هو أن نعيد كل فيلسوف إلى عصره الخاص وبالتالي أن نضع كل أخلاق في «سياقها» التاريخي. وهكذا علينا معالجة مشاكل فلسفة الأخلاق عن طريق «إنشاء سرد تاريخي حقيقي تكون فيه الحجة الأخلاقية في مرحلة سابقة مختلفة اختلافًا نوعيًّا» (ص٥٠).٦
إن الحقبة المعاصرة قد حاولت التحرر من سلطة أخلاق الواجب (كانط) وأخلاق المنفعة (جون استِوارت مِل) في نفس الوقت، والتركيز على التعابير الأخلاقية نفسها. لكن النتيجة هي أنها قد حولت «الأخلاق» إلى مجرد «عواطف» نعبر عنها بواسطة مفردات أخلاقية معزولة. وهذا يعني أن الأخلاق المعاصرة، خاصة في التقليد الأنغلوسكسوني، هي بعامة نوع من «المذهب العاطفي (Emotivism)» (ص٥١) الذي يقوم على هذا المبدأ: «إن كل الأحكام التقييمية، وعلى نحو أخص كل الأحكام الأخلاقية، هي ليست سوى تعابير عن تفضيلٍ ما، تعابير عن موقف أو شعور، بقدر ما هي خلقية أو تقييمية في طابعها»٧ (ص٥١)، ومن ثم تكون مهمة الفلسفة هي تحليل لغتها بوصفها تستعمل تعابير لا هي صادقة ولا هي كاذبة؛ لأنها سوف تعاني دائمًا من التعارض الذي يحدث بين «معنى» الجملة الأخلاقية والسياق الذي «تُستعمل» فيه (ص٥٥). والنتيجة هي تخلي الفلسفة التحليلية عن مذهب العاطفة والتفرغ لتحليل اللغة الأخلاقية (ص٦٦). وحتى في الفلسفة القارِّية (كما نرى ذلك لدى نيتشه أو سارتر) فقد تم اتهام الأحكام الأخلاقية بأنها مجرد «قناع» زائف لنوع من الإرادة الارتكاسية (نيتشه) (ص٦٩)، أو مجرد «مظهر لإيمان زائف يمارسه أولئك الذين لا يستطيعون تحمل الاعتراف بخياراتهم الخاصة بوصفها المنبع الوحيد للحكم الأخلاقي» (ص٧٠).
لكن النتيجة الفلسفية الكبرى هي ليس فقط أن «الأخلاق لم تعد كما كانت» بل خاصة «أن ما كان أخلاقًا قد اختفى بدرجة كبيرة، وأن هذا يشير إلى انحطاط، وخسارة ثقافية كبرى»٨ (ص٧٠).
إن الجزء الذي اضمحل من فلسفة الأخلاق هو — حسب ماكنتاير — علاقتها التاريخية مع «السياق الاجتماعي» الذي نشأت فيه، ومن ثمة فقدانها «المحتوى الاجتماعي» الذي تشتق منه معناها. قال: «نحن لم نفهم إلى حد الآن ادعاءات أي فلسفة أخلاقية فهما كاملًا حتى وضحنا ماذا يمكن أن يكون تجسيدها الاجتماعي»٩ (ص٧٣). والافتراض الفلسفي هو أن فلسفة الأخلاق هي دومًا «تفترض سوسيولوجيا». (نفسه) علينا أن نأخذها في الاعتبار. تعني الفوضى الأخلاقية السائدة في عصرنا الخضوع لوجهة نظر فيبر بأن «مسائل الغايات هي مسائل قيم، وفي موضوع القيم يصمت العقل، ولا يمكن فض النزاع بين القيم المتنافسة بالعقل، وعوضًا عن ذلك على المرء أن يختار …» (ص٧٨)، وأن «القيم تبدعها قرارات بشرية» (نفسه)، وأن «اختياري أي موقف أو التزام قيمي خاص لا يكون عقليًّا أكثر من سواه. فجميع أشكال الإيمان والتقييمات ليست عقلية سواء بسواء. كلها ذاتية للعاطفة والشعور» (ص٧٩). وحسب ماكنتاير، إن الشخصية الأخلاقية النموذجية في تشخيص فيبر لا يمكن أن تكون إلا شخصية «المدير» البيروقراطي في مجتمعه (ص٨٠). وراء كل فلسفة أخلاقية أو ثقافة أخلاقية نمط من الشخصية التي تمثلها. إن «الشخصيات هي الأقنعة التي تلبسها الفلسفات الأخلاقية»، وهي لا تنجح في الدخول الفعلي في صلب «الحياة الاجتماعية» إلا عبر «الأفراد» و«الأدوار الاجتماعية» التي يؤدونها داخل مجتمعاتهم (ص٨٢). تدافع الأخلاق دومًا عن دور اجتماعي مخصوص، وتقدمه بوصفه «شخصية» اعتبارية يجب التشبه بها. وحين ينجح «دور» اجتماعي معين في الارتقاء إلى مرتبة «الشخصية» النموذجية حينئذٍ بالتحديد تظهر «قيمة» أخلاقية وتفرض نفسها في مجتمع ما. وليس كل دور يمكنه أن يتحول إلى شخصية أخلاقية. لا تظهر الشخصية إلا عندما ينجح الدور الاجتماعي في أن يصبح «مثلًا أعلى ثقافيًّا أو أخلاقيًّا» (ص٨٥)، عندما يوفر الدور «البؤرة الأخلاقية لمجموعة من المواقف والنشاطات»، وذلك بأن يتم دمج «الوظيفة» و«الادعاء الأخلاقي» معًا (نفسه). وهكذا يمكن القول بأن «الشخصيات هي تلك الأدوار التي توفر لثقافة ما تعاريفها الأخلاقية» (ص٨٧).

في ضوء ذلك يمكن استشكال الوضعية الأخلاقية للفرد الحديث بأنها وضعية تسودها مقولة «الذات» التي تعتبر «عواطفها» أو ميولها الفردية قيمًا أخلاقية. ومن ثم تبدو «أحكامها بلا أي معيار» فهي «ذات عاطفية» ولا يمكن أن تصدر حكمًا أخلاقيًّا إلا بواسطة «معايير التقييم العقلية، والذات العاطفية تفتقر إلى مثل هذه المعايير» (ص٨٨). لقد «اختار» الإنسان الحديث أن يكون «فردًا» مستقلًّا في قراراته الأخلاقية عن «المجتمع» الذي يعيش فيه؛ لكنه بذلك قد حول نفسه إلى «ذات» تزعم أنها متميزة عن أدوارها الاجتماعية. ومن ثم لم يبق من سياق لفهم «القيم» التي تؤمن بها غير الأقوال التقييمية الخاصة بها في شكل «مشاعر» خلقية شخصية. إن الذات الفردية قد ألغت «التاريخ الاجتماعي» السابق لها، ومن ثم فإن مكان «الفاعلية الأخلاقية» قد انتقل من المجتمع إلى الذات بمجردها، وهي ذات تقبل «التعددية» الأخلاقية بوصفها عبارة عن «اختلاف» في القيم بين أفراد أحرار في اختياراتهم و«ديمقراطيين».

هنا يصوغ ماكنتاير اعتراضه الأساسي: «هذه الذات المدمَقْرِطة التي ليس لها محتوى اجتماعي ولا هوية اجتماعية يمكن أن تكون أي شيء، وتتخذ أي دور أو أي وجهة نظر، وذلك أنها في ذاتها ولذاتها لا شيء» (ص٨٩).

مثلًا: إن سارتر يقدم الفرد بوصفه ذاتًا «متميزة تمامًا عن أي دور اجتماعي خاص يمكن أن تفترضه» (نفسه). والخطأ هنا هو افتراض وجود «ذات جوهرية تتعدى العرض المركب للعب الدور» (ص٩٠). وهو ما يدافع عنه سارتر بأنه «الاكتشاف بأن الذات لا شيء» (نفسه) أي هي في أول أمرها ليس لها أي محتوى سابق على اختيارها الفردي. ولأن هذه «الذات العاطفية» ليس لها محتوى اجتماعي تتجسد فيه، ولا لها معايير عقلية للحكم الأخلاقي فهي ذات مجردة لا تتوفر على «تاريخ عقلي في انتقالاتها من حالة التزام أخلاقي إلى حالة أخرى»، إنها «ذات من دون استمراريات، ما خلا استمرارية الجسد الذي هو حاملها» (ص٩١). وبعبارة واحدة هي ذات بلا «غاية» (telos) يمكن الاسترشاد بها غير «هويتها» الفردية.

لا يمكن أن نقيس مدى فوضى فلسفة الأخلاق الفردانية إلا متى ألقينا نظرة خارجية على المجتمعات التقليدية «ما قبل الحديثة». هناك حيث لا توجد مقولة «الفرد» نفسها. وحيث لا توجد طريقة لتعريف هوية الفرد إلا «عبر عضويته أو عضويتها في عدد من المجموعات الاجتماعية. مثلًا: أنا أخ، وابن خال، وحفيد، وفرد من أفراد المنزل، وتلك القرية، وتلك القبيلة» (ص٩٢). لم تكن «الفردية» تعني أكثر من «عضوية» داخل «جماعة» انتماء سابقة على وجوده ولا يمكن أن يختارها. «فالأفراد يرثون فضاءً معينًا داخل مجموعة متشابكة من العلاقات الاجتماعية، فإذا خسروا ذلك الفضاء، فإنهم ليسوا بشرًا من نوع محدد، بل يكونون في أفضل الأحوال غرباء أو منبوذين مثل النفايات» (نفسه). على عكس الحداثة التي تعدو «الفرد» إلى اختيار نفسه بوصفه كائنًا «مستقلًّا بنفسه» أخلاقيًّا لأنه لا يعدو أن يكون «عدمًا» وجوديًّا. يبدو «العضو» في «الجماعة» منتميًا بلا رجعة إلى أفق هووي لا يستطيع مراجعته لأنه هو المادة التي يستمد منها ذاتيته. لكن ذلك الأفق ليس ثابتًا، بل لا يكون العضو «شخصًا اجتماعيًّا» إلا إذا كان يتقدم نحو «غاية في الحياة» أو «يفشل في التقدم نحوها» ولا يفصله عنها إلا موته (نفسه). ولذلك فإن الحداثة الأخلاقية هي تعني بالأساس تعطيل ذلك التصور ما قبل الحديث للحياة الإنسانية بوصفها تسير بطبيعتها نحو «غاية» مخصوصة لها. فالذات الحديثة تراهن على فرديتها وليس على أي غاية خارجها. لقد خسرت تلك «النظرة إلى الحياة الإنسانية على أنها منظمة لغاية ما» (ص٩٣). ولذلك هي قد عوضت تلك «الغاية» الطبيعية بفكرة «الدور» الاجتماعي و«الشخصية» النموذجية في المجتمع. لكن الذات الحديثة هي فردانية بإطلاق.

تُوهمنا الحداثة الأخلاقية بأن ما وقع للذات الفردانية الحديثة هو «خصائص ضرورية وأبدية لجميع الأحكام الأخلاقية، ولأي واحد منها، ولجميع الذاتيات، وأي واحدة منها» (ص٩٥). والحال أن ذلك مجرد نتاج تاريخي لنوع مخصوص من المجتمعات علينا أن نؤرخ له. ومن ثم أن دعاة الحداثة هنا ليسوا سوى «الورثة الأخيرين — إلى حد الآن — لعملية تحول تاريخي» (نفسه) ليس أكثر.

يقدم ماكنتاير هذا التحول التاريخي بأنه تحول مضاعف: من جهة، «تحوُّلٌ للذات وأدوارها»، ومن جهة، تحوُّلٌ في «الخطاب الأخلاقي» نفسه. (نفسه). ويعني التحول عملية انتقال تاريخي من «الثقافة السابقة» إلى «مشروع التنوير من أجل تبرير الأخلاق».١٠ وبالتالي فإن فلسفة الأخلاق الحديثة ليست عملًا فردانيًّا أو اختيارًا شخصيًّا، بل هي نتيجة سلسلة من التغيرات الاجتماعية أدت إلى «تمزق الأخلاق وعزلها» (ص٩٧) في مجرد اختيارات فردية هي تعبر عن حالة تمزق اجتماعي وليست «قيمًا» معيارية بحتة، وهو تعبير بلغ صيغته النموذجية في «ثقافة عصر التنوير» في القرن الثامن عشر الفرنسي (ص٩٨)، وهو تنوير لم يؤت أُكُله إلا مع الثورة الفرنسية التي حققت «إزالة الفجوة بين الأفكار الفرنسية والحياة الاجتماعية والسياسية الفرنسية» (ص١٠٠).

(٤) كيف استقلت الأخلاق عن فضائلنا؟ أو النزاع بين ما نشعر به وما نفعله

يعتبر ماكنتاير أن أفضل شاهد على ولادة «وجهة نظر حديثة متميزة» في ميدان الأخلاق هو كيركغارد في كتابه «إما … أو» الذي نشره تحت اسم مستعار سنة ١٨٤٢م. وتتمثل وجهة النظر الحديثة في بناء جدل أخلاقي يقوم على صراع مرير بين «مقدمات أخلاقية» من جهة، و«التزام أخلاقي» من جهة أخرى، مما يحول الموقف الخلقي إلى مسألة «اختيار» شخصي لا يوجد أي «تسويغ عقلي له» (ص١٠٣). هذا الاختيار يقدمه كيركغارد بأنه يجري بين نمطين متباينين من الحياة: حياة «استطيقية» (حياة أ) وحياة «أخلاقية» (حياة ب). وهكذا فإن الاختيار بين الأخلاقي والاستطيقي «ليس هو الخيار بين الخير والشر، إنه الخيار فيما إذا كان عليك أن تختار أو لا تختار بمفردات الخير والشر» (ص١٠٥). في الواقع هو اختيار بين «نموذج التعبير الاستطيقي» الذي هو موقف «العشق الرومانسي» وبين موقف «النموذج الأخلاقي الذي هو الزواج» (نفسه). هذا النوع من طرح المُشكِل الخلقي هو — حسب ماكنتاير — قد قُدم بوصفه «اكتشافًا فلسفيًّا»، وفي الحقيقة هو من نوع «مربك ومروع» (ص١٠٣).
ذلك أنه طرح يجعل الأخلاق مجالًا لتناقض عميق بين ما هو اختيار شخصي وما هو أمر أخلاقي، وحيث تبدو الأخلاق بمثابة «المنطقة التي يكون فيها للمبادئ سلطة عليا، مستقلة عن مواقفنا وتفضيلاتنا ومشاعرنا» (ص١٠٧). بذلك تم نصب حاجز فاصل بين «ما نشعر به» في حياتنا وبين ما يجب علينا أن نفعله كي نكون متخلقين. وعندئذٍ فإن الصعوبة الفلسفية هنا هي: «أن السؤال كيف أشعر في أي لحظة معينة هو غير هام بالنسبة إلى السؤال كيف أحيا»١١ (ص١٠٧). لا يمكن حسم الخيار الأخلاقي باللجوء إلى أي نوع من المشاعر. ومن ثم لا يمكن الربط بين ما نشعر به (استطيقيًّا) وما يجب أن نفعله (أخلاقيًّا).

ولذلك يبقى علينا أن نحدد طبيعة المصدر الذي تستمد منه الأخلاق سلطتها.

ما يوحي به كيركغارد هو أن «المبادئ التي ترسم الطريقة الأخلاقية للحياة يجب تبنيها ليس من أجل سبب ما، ولكن من أجل اختيار يقع ما وراء الأسباب، فقط لأنه الاختيار لما يجب أن نحسبه نحن بوصفه سببًا. ومع ذلك فإن الأخلاقي يجب أن تكون له سلطة علينا»١٢ (ص١٠٩). وبالتالي نحن أمام سلطة أخلاقية تستمد صلاحيتها من اختيار هو نفسه بلا سبب. وهكذا تكون الذات الحديثة قد ذهبت بعيدًا في تنصيب نفسها بمثابة مشرع وحيد لميدان الأخلاق. وهكذا يتم اللجوء إلى سلطة (أخلاقية) عندما لا تكون لدينا أي أسباب (استطيقية). ويعتبر ماكنتاير أن هذا المفهوم للسلطة الأخلاقية هو «مفهوم حديث بشكل خاص إن لم يكن حصريًّا، وقد تمت صياغته في ثقافة كانت فكرة السلطة فيها غريبة وبغيضة، بحيث كان يبدو اللجوء إلى السلطة أمرًا غير معقول» (نفسه).

خاتمة: الأخلاق والسلطة

يبدو الفرد الحديث كائنًا فقد ثقته التقليدية في أجهزة السلطة، ومن ثم قد جعل مشروعه الأول هو التشريع بنفسه لقوانين لا تملك أي صلاحية أخرى غير أنه اختارها لنفسه بنفسه. وذلك أنه يعتبر أنه لا يمكن الاحتفاظ بحريته الطبيعية إلا عندما يخضع لقوانين شرعها بنفسه. هذه العلاقة المحطمة مع السلطة جعلت الفرد الحديث لا يثق في أي أخلاق إلا تلك التي اختارها بنفسه، ومن ثم صارت بالنسبة إليه سلطة نابعة من حريته. وهكذا على الرغم من نقد كيركغارد تجاه فلسفة الأخلاق الكانطية فإن من أعد المشهد الأخلاقي لكيركغارد هو كانط (ص١١٠). كان التمييز بين الاستطيقي والأخلاقي إحدى نتائج مشروع التنوير الذي كان يرمي إلى «توفير أساس عقلي لتسويغ الأخلاق» (نفسه).

والنتيجة — حسب ماكنتاير — هي أن الفلسفة الأخلاقية الحديثة قد أخفقت؛ أولًا لقد أخفق كانط في إيجاد «تبرير عقلي للأخلاق» كما أخفق كيركغارد في «اكتشاف أساس لها في فعل الاختيار» (ص١١٦-١١٧). لا يمكن أن نختار قيمنا كما أن العقل لا يسوغ تشريعًا لا يتطابق معه. كان كيركغارد قد انطلق من فشل كانط: «يجب استدعاء فعل الاختيار للقيام بالعمل الذي عجز العقل عن القيام به» (ص١١٧).

إن الحداثة الأخلاقية قد علمنت القيم، لكنها قامت بذلك على حساب الفضائل. وإن تأسيس قيم بدون فضائل هو إخفاق فلسفي لعصر إنسانوي وفرداني يزعم أنه أرسى العقلانية العلمانية بوصفها منقذًا أخلاقيًّا من عصور مسحورة. فإذا بالعالم المنزوع السحر — أي الذي صار نصًّا معلمنًا بلا أي حاجة إلى إنقاذ — قد أخذ يعبر أكثر فأكثر عن حاجة روحية جعلت عودة الديني ليس فقط ممكنًا بل مطلبًا مثيرًا لأجيال ما بعد الحداثة.

(١٨) كوجيطو الكراهية

قال فيكتور هوغو: «الكراهية شتاء القلب.» يبدو أننا في شتاء أنفسنا. وتاريخ الشتاء في ثقافتنا؛ نعني تاريخ الكراهية،١٣ ربما يحتاج إلى إعادة كتابة من الداخل. ولكن إلى أي مدى قد يجوز للفيلسوف بعامة أن يدافع عن الكراهية بوصفها فضيلة تأسيسية؟ مثلًا أن يجزم قائلًا: «أنا أكره، إذن أنا موجود» (!)١٤ وعندئذٍ كيف نتخيل ديكارت وهو يماهي بين العقل والكراهية، أن يفتتح أحد كتبه قائلًا: «إن الكره هو أعدل الأشياء توزعًا بين الناس» (!) ربما كان من الأجدر أن نولِّي أسئلتنا صوب نيتشه، فيلسوف الضغينة١٥ فهو أنسب انفعالًا لمزاج كهذا. فلا مُشاحَّة في أن كتاباته، اللعينة البراءة، قد تظهر لعدد واسع من القراء في هيئة كدمات أخلاقية على العقل البشري، وهو أقرب إلى صياغة كوجيطو الكراهية، وحتى الدفاع عن إرادة الكره بوصفها إرادة الحقيقة التي لن تخيِّب ظن أحد. لكن نصوصه تفاجئنا بتلطف رشيق يجعلنا نقف على طرافة التمييز الذي يضعه بين الكره والعداوة. وحدهم العاجزون عن احتمال براءة الصيرورة التي تخلق الحياة هم قادرون على الكره. الكراهية عنده هي فضيلة العبيد، أولئك الذي كفُّوا عن خلق أنفسهم منذ وقت طويل. ولذلك فإن أول ملامح الكراهية هي كراهية النفس أو «كراهية الأنا» أو «كره الإرادة»، ومن ثم «كره الحقيقة». أن نكره أنفسنا هو صيغة مرعبة عن كوجيطو معطل من الداخل. وحدهم العدميون يقتاتون على ضرب مريع من «فضيحة الذات». أما العداوة فهي شيء مختلف.
ربما نحن نشهد راهنًا، كما لاحظ ذلك جان لوك نانسي،١٦ انتقالًا حزينًا من أخلاق العداوة إلى ثقافة الكراهية. الأعداء ليسوا بالضرورة موضوع كراهية أو احتقار. مثلًا: نحن يمكن أن نكره أنفسنا العميقة (طبقة معينة من هويتنا) دون أن نكون أعداءً جيدين لها. نحن نحتاج دومًا إلى أعداء مناسبين. العداوة يمكن أن تكون صحية، لكن الكراهية هي انفعال حزين دائمًا، فنحن لا نحتاج إلى أناس نكرهم كي نتعرف على أنفسنا. يقول نيتشه: «أن تكون عدوا، أن تستطيع أن تكون عدوًّا هو أمر يفترض على الأرجح طبيعة قوية … إن الانفعال العدائي هو جزء ضروري من القوة، مثلما أن الإحساس بالثأر والحقد هو جزء لازم من الضعف.» لكن نيتشه سرعان ما ينبهنا إلى أمر حاسم هنا: «إن قوة الذي يهاجم هي تجد مقياسها في نوعية الخصم الذي يحتاجه، كل نمو يرشح منه اختيار خصم أو مُشكِل هائل؛ ذلك بأن الفيلسوف المحارب هو ينازل المشاكل أيضًا في معركة مبارزة». لا معنى لعداوة قائمة على الثأر. وحدها الكراهية تقتات من مشاعر الانتقام؛ ولذلك يؤكد نيتشه على أن العداوة لها ناموسها الخاص، هي تختلف عن الكراهية في كونها تقع خارج أفق الضعفاء. الكراهية انفعال حزين يعتاش من أدنى ضعف يشعر به أحدهم ضد قويٍّ ما. ولذلك هي تترجَم دومًا إلى شعور بالاحتقار. والحال أن العداوة لا تحتقر خصمها، وهي تجري دومًا في نوع أصيل من المساواة. لا تقع العداوة الحقيقية — أي تلك التي تنأى بنفسها عن معجم الكراهية — إلا بين النظراء حيث لا معنى لأي ضرب من الاحتقار. ومن الطريف أن نورد هنا قواعد العداوة التي فرضها نيتشه على نفسه مثل سيرة خاصة في الحياة.
يقول في كتابه Ecce Homo: «أولًا: أنا لا أهاجم إلا القضايا (Sachen) المنتصرة، وعند الحاجة أنا أنتظرها حتى تنتصر. وثانيًا: أنا لا أهاجم إلا القضايا حيث إنني لن أجد أي حلفاء لي، حيث أقف وحيدًا، حيث لن أعرِّض إلا نفسي للخطر … وأنا لم أقم أبدًا بأية خطوة علنية (öffentlich) لا تعرضني للخطر، ذلك هو مقياسي للفعل الصحيح. ثالثًا: أنا لا أهاجم الأشخاص أبدًا، أنا لا أستخدم الشخص إلا بمثابة عدسة قوية مكبرة من خلالها نستطيع أن نجعل حالةَ فتنةٍ (Notstand) عامة، ولكن متوارية وغير ملموسة، أمرًا منظورًا … رابعًا: أنا لا أهاجم إلا الأشياء التي يكون فيها كل فرق بين الأشخاص مستبعدًا، حيث تكون كل خلفية خالية من التجارب المشينة. وذلك أن الهجوم هو عندي، على الضد من ذلك، دليل على الإحسان، وفي بعض الأحيان على نوع من العرفان بالجميل.»

هذا تقريظ فلسفي للعداوة، رأس الأمر فيه أنه يخرجها من دائرة ما هو شخصي. العداوة ليست أمرًا شخصيًّا. هي دومًا تهاجم «القضايا»، وخاصة في لحظة قوتها. لا معنى لعداوة شيء ميت في وعي المؤمنين به. لا تحتاج العداوة إلى حلفاء حتى تكون موقفًا أصيلًا من قضية ما. إذْ لا معنى لمن يهاجم قضية منتصرة وهو يعوِّل على حماية خارجية. كما أنه لا معنى لعداوة لا تضعنا في موضع الخطر. من يهاجم مصادر أمة من الأمم (كما فعل نيتشه تجاه المسيحية) لا يجدر به أن يحتمي بأي هيئة أخرى غير ذاته. وقد رفع نيتشه التعرض للخطر إلى رتبة مقياس الفعل الصحيح. وهو صحيح في معنى أنه شجاع على احتمال إمكانية الحقيقة مهما كانت ثقيلة، وليس في معنى موافقة الآخرين عليه. ما يهم العداوة ليس مهاجمة الأشخاص — فالشخص بحد ذاته لا يستحق أن يكون موضوعًا للعداوة الفلسفية — بل رصد «حالة الفتنة» أو حالة الأزمة العامة التي تلحق ثقافة أو أمة ما، لكن بعض الأشخاص يمكن أن يكونوا عدسة قوية مكبرة لاستكشافها. كذلك فإن العداوة لا تستقيم بين أشخاص بينهم فرق أخلاقي جذري. لا بد لها من ضرب من التساوي في المروءة، أي في القدرة على الحقيقة. وعندئذٍ تكف العداوة عن أن تظهر في مظهر التقويض وتكشف عن وجهها الخفي: كونها دليلًا على نوع مخصوص من الإحسان، بل حتى من العرفان بالجميل.

لو أعدنا المُشكِل من زاوية الكراهية لرأينا الآن كل ما لا تستطيع الكراهية أن تكونه. إن الشعوب القوية تعادي لكنها لا تكره بالضرورة؛ نعني: لا تعتبر الكراهية جزءًا من تربيتها العميقة. وفي المقابل فإن الشعوب الضعيفة تكره لكنها لا تستطيع أن تعادي بشكل جيد؛ لنقل بشكل لا يخلو من مفارقة: إن ما ينقص الكراهية حتى ترتقي إلى رتبة العداوة الأصيلة هو قدر جوهري من المحبة؛ نعني من محبة ذاتها. كان أفلاطون في محاورة الفيدون قد بكَّر إلى نحت مصطلح μισανθρωπία، «ميزانثروبيا»؛ أي كُره البشر الناجم، في رأيه، عن خيبة أمل عميقة من الإنسان بعد تصوره صادقًا وصلبًا وموضع ثقة؛ أي بعد محبته. لكن كل كره للبشر بما هو كذلك هو في ذاته كره لأنفسنا. وراء كل كراهية هناك إذن محبة فشلت في أن تكون نفسها.

تحتاج كل كراهية إلى نوع من المحبة التي تبررها وتجعلها متسقة أمام ذاتها. لا نكره في الحقيقة إلا من نحب أو من يشبهنا من الداخل لكننا نفشل في التطابق معه. ربما كانت الكراهية نوعًا رديئًا من الألم. وهو ألمٌ غير قابل للتفاوض؛ لأنه يتصل بذواتنا ويخترقها، على خلاف العداوة التي يمكن أن تكون صداقة فاشلة فقط. يمكن أن نكره أنفسنا، ولكن لا يمكن لأحد أن يعادي أو يصادق «نفسه»؛ لأن ذلك يتطلب قدرًا هائلًا من الشعور بالمسافة، أو بالمسافة المناسبة، حسب تعبير رشيق لبول ريكور. في حين أن الكراهية هي مثل الألم أو الحزن لا تحتاج إلى انفعال المسافة. هي تنزع دومًا إلى إلغاء المكان. إنها ذاكرة فقط. الكراهية لا تتطور؛ نعني: لا تحتاج إلى مراحل كي تلامس ذاتها. هي مثل الألم أو الحزن تضع ذاتنا موضع سؤال، وتعيش من هذا النوع من التهديد. ومن هذه الناحية تختلط الكراهية بالمحبة؛ لأنهما ضربان من الاحتمال لذواتنا خارج المكان. حين نكره أو نحب نحن نلغي ثقل المكان ونتخفف من كل أنواع الإخلاص التي عشنا عليها إلى حدئذٍ. ليست الذات غير ضرب استثنائي من الإخلاص إلى المكان. الذات مكان دومًا، وهي ليست زمانًا إلا عرضًا. المكان هو حِضن الذات؛ أي ما يقع تحتنا حتى نرى أنفسنا. ولكن حين نكره أو نحب نحن نتجرد من وطأة المكان ونصبح ذواتًا عائمة على سطح أنفسنا مثل غيمة من الانتظار. يقول لامرتين: «الأنانية والكراهية وحدهما لهما وطن، أما الأخوة فلا وطن لها.»

ومع ذلك فالكره ليس عنفًا، نعني هو لا يدمر حالة المكان، لكنه يجمد المعنى. الكره، كما قال نانسي في نص جميل سنة ٢٠١٣م، «الكره معنى متخثر»،١٧ كما نقول عن دمنا إنه قد تخثر. يلاحظ نانسي أن الجذر اللاتيني odi مثل الجذر الألماني hassen يتضمن معنى المطاردة، بل حتى الصيد، وتعقب الشيء الكريه من أجل القضاء عليه. إلا أن فعل «كره» في العربية هو ينطوي تقريبًا على العكس: كره الشيء اشمأز منه ونفر ولم يحتمله وأباه على نفسه. نحن نهرب مما نكره، في حين أن المعنى اللاتيني أو الألماني يدفع على العكس من ذلك إلى مطاردة المكروه والركض وراءه؛ ولذلك فالكُره هو إرغام وقسر على شيء لا نجري وراءه وإنما نهرب منه، في حين أنه في اللغات الأوروبية هو نوع من الثأر. فالناس يكرهون عندما يشعرون أن هويتهم في خطر من آخر يهدد وجودهم. حين يعجز الآخر أو لا يريد أن يفهم أصالة وجودنا أو «كرامة» كوننا نحن، ولسنا أناسًا آخرين، حين لا يعترف ﺑ «إطلاقية كل فرد» بما هو كذلك، هو يكرهنا. قال نانسي: «إن الكراهية تفترض دلالات مغلقة. إن الكراهية مصنوعة من معنًى متخثر.» تتحول هوية الناس إلى دلالة مغلقة حين تخفق في التعبير عن كرامتها الخاصة، حين لا تعثر على الملاقاة أو الضيافة المناسبة، فتتكلس من الداخل. الكراهية هي انسداد المعنى، معنى الكرامة الإنسانية؛ ولذلك فهي تُشيِّئ؛ أي تخرج «الشخص» من باب البشر إلى خانة «الأشياء»، أي خانة ما لا يمكن أن نتبادل معه معنى الإنسانية.
علينا أن نميز تخثر المعنى عن أي رغبة في العنف. من يكره لا يريد بالضرورة تدمير المكروه أو مطاردته. فالمكروه ليس عدوًّا دائمًا. وحدها العداوة تقترح برنامج تدمير مناسب كي تضع حدًّا لصداقة فاشلة. لكن الكره يصبو إلى شيء آخر. هو يريد أن يجمد المكروه في هوية مغلقة، أن يؤبد ألمه؛ ولذلك يدعي الكره دومًا أنه كرهٌ للأعداء وليس للأصدقاء، أي للآخرين بما هم كذلك. لكن الصداقة، مثلها مثل القرابة أو الأخوة، هي لا تمنع الكراهية. كره الأخ هو ظاهرة أخلاقية عريقة وذات براءة مرعبة. بل يمكن الافتراض بأن العداوة تحمي الأعداء من كراهيتنا، وتضعهم فقط في خانة العاجزين عن الصداقة بسبب انفعال رديء بالمسافة. لا تحتاج الكراهية إلى العنف كي تشعر بنفسها. العنف صريح ومدمر ولكنه قابل دومًا للتفاوض. والحال أن الكره هو صامت ومخرب وغير قابل للاستبدال. الكره لا يدمر المكان لكنه يخرب معنى المكان. يحتاج العنف دومًا إلى القتل كي يحقق ذاته، هناك دومًا قتل تأسيسي حتى يدخل شعب ما في علاقة ميتافيزيقية بنفسه، وعندئذٍ فقط ينفتح المجال أمام تنصيب الذبيحة المقدسة وظهور المعبودات. من يقتل يؤسس عالمًا لا يراه. ولا تفعل الحضارات غير استخراج كل إمكانيات السكن في العالم التي تنجر عن قتل أو عنف تأسيسي. والمؤسسون هم دومًا بوجه من الوجوه قتلة من نوع نبيل. يقتلون مقتولًا سرعان ما يتحول إلى ضحية مقدسة أي مؤسسة. ونحن نوجد دومًا داخل قصة ما، تكرس العنف التأسيسي من أجل أن ننتصر عليه، كما بين ذلك بشكل مثير ريني جيرار في كتابه الرائع العنف والمقدس. أما الكراهية فهي انفعال حزين لا يؤسس شيئًا. لا يوجد كره مقدس. القتل ليس كرهًا، والإنسانية استعملت القتل لتأسيس عوالم الحياة، لكن تقاليد الكره ظلت دومًا بالنسبة إليها نفايات أخلاقية يجب التخلص منها خارجًا.

ولكن كيف نفهم عندئذٍ إصرار كثير من الناس على تأسيس هويتهم على الكراهية؟ ليس فقط كراهية الآخر بل حتى كراهية الذات؟

لنوضح بادئ الأمر بأنه من الجبن أو من غير المسئولية أن نتبرأ من مصادر أنفسنا العميقة. إذا كنا نُسمَّى، مثلًا، «مسلمين»، فهذا يعني أن كل إمكانيات الكيان المسلم هي جزء أصيل من تاريخنا السري أو الصامت أو غير المفكَّر فيه، ومن المستحيل أن ننجح في إلقاء مصادر أنفسنا في سلة مهملات تاريخية، وكأننا يمكن أن نوجد «خارج» أنفسنا. لا يمكن لأحد أن يتبرأ من مصادر نفسه، كما لا يمكن لأحد أن يتبرأ من بعض أعضائه وكأنها جزء من جسم آخر. ولكن علينا أن نسأل: لماذا نتبرأ من انفعالاتنا السيئة وكأنه يمكن نسبتها إلى شخص آخر؟ إن إمكانية الشر التي فينا هي تنتمي إلينا بنفس الأصالة التي لإمكانية الخير. إن خيباتنا أو إخفاقاتنا هي مكونات أخلاقية أصيلة في تاريخ أنفسنا بنفس القدر الذي تكونه آمالنا ونجاحاتنا. ذلك بأن إمكانية الكراهية، كما يوضح ذلك هَيدغر، هي إمكانية أصيلة ولا تنضاف إلى أنفسنا من خارج تاريخها الخاص. لكن استعمال الكراهية هو الذي يطرح تساؤلات مثيرة. نحن ربما لا نكره أعداءنا، لكننا نستعمل كراهيتنا لهم باعتبارها الإجابة المعيارية على سؤال الهوية لدينا. وإلى حد الآن، ومنذ قرنين، نحن عطلنا أنفسنا العميقة ولم نعد نعوِّل عليها في تحسين نوعنا. نحن لا نكره الغرب فقط، بل قبل كل ذلك نحن نكره صيغة معينة من مفهوم أنفسنا، أو جزءًا معينًا من الإجابة عن السؤال «من نحن؟» راهنًا.

إن سحب الثقة الميتافيزيقية من أنفسنا العميقة حوَّلها فجأة إلى جسم غريب عنا غير قابل للاستعمال الصحي. صار وجودنا المعاصر عبارة عن عملية «زرع» لأعضاء جديدة لم تنجح إلى حد الآن إلا تقنيًّا فقط. ولذلك نحن نشهد منذ أجيال عديدة نوعًا صارمًا من كراهية الذات لا نجد له علاجًا يُذكر. ولا نغالي في شيء إذا تشككنا في أن يكون ذلك قد سهل عملية «استعمار عالم الحياة» داخل مجتمعاتنا «الحديثة» والتحول بشكل سريع إلى مزرعة كولونيالية لا مخرج منها. نحن ساعدنا الغرب على استعمارنا من خلال كره أنفسنا العميقة وانقلابنا إلى متسولين ميتافيزيقيين للمستقبل.

ثمة مفارقة تنخر كل نقاشاتنا حول أنفسنا العميقة: من جهة أن مصادر أنفسنا القديمة لم تعد صالحة للسكن أو للاستعمال «كما هي»، والدفاع السياسي عنها يؤدي غالبًا إلى موقف سلفي مستغلِق على مدوَّناته الخاصة يُضطر أكثر الأحيان إلى التمترس وراء ضروب شتى من التخثر الهووي ما أيسر ما تنزلق في طرق الإرهاب الموضوعي، وليس الإرهابُ الدموي السائد منذ بعض الوقت غيرَ موجته العالية أو ترجمته الخارجية فقط. وهو إرهاب موضوعي سوف يبقى مطمورًا تحت أشكال حياتنا المعاصرة إلى أمد طويل. ومن جهة، أنه لا يمكن تاريخيًّا لأي مجتمع أن يعيد بناء ذاته بمعزل عن مصادر نفسه العميقة ولا بالتعويل على ثقافة غريبة عنها. إن «التحديث» و«التنوير» و«العلمنة» … إلخ، كلها عناوين إجرائية لم تنجح أبدًا في مساعدة ذاتنا العميقة في التحرر من تاريخها الطويل الأمد منذ «عصر الجاهلية». يبدو أن الدفاع الهووي عن الموتى لا يختلف كثيرًا عن الاستيراد الهووي لأَحياءِ ثقافة أخرى لا تؤمن بنا. نحن لا نرى من الجهتين غير ترتيلتين حزينتين للكراهية؛ ولذلك لا ترى الفلسفة من حل لمفارقة هووية غير تبديل المُشكِل. علينا أن ننتقل من الدفاع عن الهوية إلى بناء الذات.

يقول سبينوزا: «إن الكراهية تزداد حينما تكون متبادلة، ولا يمكن القضاء عليها إلا بالمحبة.» وفيما يخصنا هنا لا مخرج من معجم الكراهية، أكان في صيغة سلفية (محبة هووية لمصادر روحية لم تعد تخاطبنا) أو في صيغة معلمنة (محبة هووية لحداثة لا تؤمن بنا)، إلا باختراع أساليب جديدة في محبة أنفسنا العميقة؛ علينا أن نعيد اكتشاف ذواتنا العميقة (من شعر جاهلي وقرآن وتاريخ سياسي للملة ونحوٍ وأدب عظيم وفقه عقلي وتصوف حر وفلسفة مبدعة … إلخ) واستدعائها من الداخل بوصفها مصادر إلهام وعشق للنفوس الحرة، ما بعد الدينية وما بعد العلمانية، وليس مدونات هووية مغلقة وإقصائية لمؤمنين حزانى بلا أي قدرة على الهجرة البهيجة إلى الإنسانية.

لا يتصالح شعب مع ذاته العميقة إلا إذا نجح مبدعوه في إعادة اكتشاف مصادر نفسه، وذلك إن استطاعوا كما لأول مرة. عندئذٍ فقط هو يمكنه أن يستغني عن أجهزة الكراهية، ويشرع في اختراع ذاتيته الخاصة بمرح فظيع. أما كل من يتمترس وراء حجاب هووي، فهو يعتاش على الكراهية ولا يمكنه التحديق في عين ذاته من دونها. ولكن أيضًا كل من يدفع شعبًا إلى التخلي القسري عن مصادر نفسه العميقة باسم أي نوع من العوالم التي لا يسكنها أو لا يمكنه أن يسكنها هو يجبره على التعويل اليائس على ثقافة الكراهية كي يدافع عن وجوده. لا تحتاج الشعوب إلى الهوية الجاهزة إلا بقدر ما تعجز عن اختراع ذاتيتها الخاصة. إن الهوية غير ممكنة من دون ماض أساسي، أما الذاتية فهي دومًا بمثابة «مشروع»، وبالتالي هي تُقاس بمدى قدرتها على المستقبل. الكراهية هي دومًا هوية حزينة، ذاكرةُ حدادٍ تحت الطلب. ومن يريد تحرير الشعوب من الكراهية عليه أن يعيد لها قدرتها على محبة ذاتها العميقة، أي قدرتها على التذوُّت الحر من داخل تاريخ نفسها، والتذاوت الحر مع آخر يعترف بها. مصادر الذات لا يمكن نقلها. ولذلك لا يمكن معالجة الكراهية إلا من الداخل.

توجد عداوة جيدة، ولا يوجد كرهٌ جيد. الذوات الحرة قادرة على العداوة، مثلًا معاداة الرداءة في أي مستوى من كياننا المعاصر. لكن النفوس الحزينة لا تستطيع إلا الكراهية. لا يكره إلا قلب حزين، أي لم يتحرر من حداد ذاكرته. العداوة مُشكِل سياسي، لكن الكراهية ظاهرة هووية. ومثلما يحتاج الناس إلى مرشد سياحي، هم يحتاجون إلى مرشد ميتافيزيقي دوره أن يرسم خطًّا فاصلًا وبيِّنًا بين ما هو هووي وما هو ذاتي. هذا فراغ أخلاقي ملأه الدعاة وحولوا العقل السليم إلى تهمة.

يمكن أن نكون هوية في طور «إعادة البناء»؛ ولذلك فإن الموقف التفكيكي المحض، مثل الموقف التنويري المحض، هو لم يعد صحيًّا. لا يمكن تفكيك إلا ما هو «تراث» عميق، ولكن من دون الانتماء إليه نحن لن نطال إلا لحظات وَهَنِه الميتافيزيقي؛ أي ادعاءاته التي لم تعد تخاطبنا. كذلك فإن التنوير موقف يبدو أن وقته قد فاتنا. لا يستنير أي مجتمع إلا بوسائله الخاصة. وقبل ذلك عليه أن يكون قد شرع في إعادة اختراع ذاته من الداخل. لا يمكن أن يستنير مجتمع يكره نفسه. التنوير بهجة العقل ولا تستسيغه النفوس الحزينة، أي التي فقدت شهوة الانتماء إلى نفسها العميقة.

كل دين حزين هو سياسة كراهية، وهو يتحول إلى ذلك عندما يفقد قدرته على الوعد الكبير منذ وقت طويل. الوعد الكبير الآن هو الهجرة إلى الإنسانية، وعلى جميع أنواع الآلهة أن تعمل في هذا الأفق أو هي سوف تنقرض. لا يستمر أي شعب في الحياة الكريمة إلا بقدر قدرته على الوعد الكبير بالإنسانية، أي على تمكين الناس من المستقبل. الأديان هي اليوم مخدات مريحة للهويات الخائفة. ليس المُشكِل في أن تتدين أو لا تتدين بل في مواصلة التعويل على السلوكات الأخروية لإنقاذ الإنسان دون استشارته. لا يكره شعب إلا بقدر ما ندربه على ذلك. ثمة أحزاب وتنظيمات وحركات تدرب الشعوب على الكراهية، نعني على إساءة استعمال الغيرية في بناء ذاتها. ومن يبني الهوية على الكراهية يقر عرَضًا بأنه لا يستطيع أن يوجد من دون آخر يكرهه. ولكن في المقابل، لا يمكن لأي شعب أن يغير ما «بنفسه» بواسطة تراث «نفس» أخرى. أجل، من حق أي فرد أن يغير رأيه أو جنسه أو معتقده أو دينه، أو حتى إلهه … إلخ، لكنه لن ينجح في ذلك الادعاء إذا ما أسس هذا الحق على سياسة الكراهية. الكراهية لا تؤسس أي حق أصيل لأنفسنا.

(١٩) الحب بعد موت الإله

رسائل حنَّا أرندت ومارتن هَيدغر
ما بين ١٩٢٥ و١٩٧٥م تبادل مارتن هَيدغر وحنَّا أرندت — وهما من أقطاب الفلسفة المعاصرة — رسائل حب فلسفية كان لا بد أن تتحول منذ نشرها١٨ إلى وثيقة أخلاقية رائعة على المفارقات الصامتة التي تكتنف المشاعر الإنسانية، ولا سيما عندما تكون مشاعر مستحيلة أو ممنوعة. بلا ريب إن موضوعة الحب قديمة قدم الفلسفة نفسها؛ حيث خصص لها أفلاطون محاورتين فلسفيتين شهيرتين هما فايدروس والمأدبة حيث يسرد أسطورة تقول بأن الإنسان في أصله كان دائرة، لكن الإله زوس قد قطعها إلى نصفين كما نقطع بيضة بشعرة حادة، ومنذئذٍ ونحن نتيه في العالم بحثًا عن النصف الآخر. وهناك أيضًا تاريخ فلسفي طويل عن الحب من سقراط إلى سيمون دي بوفوار، مرورًا بأسماء كثيرة من قبيل: سبينوزا وكيركغارد ونيتشه. ومع ذلك فإن رسائل حنا وهَيدغر تحتوي على تجربة فريدة من نوعها. ليس فقط لأن العاشقين فيلسوفان بل لأن الحب غير مسبوق دائمًا. إنه لا يكرر أحدًا. وليس ذلك لأنه أناني مثل أي حيوان فانٍ، بل لأنه مخترَق دومًا من قوة لا يراها ولا يعرفها.

قال لها في أول رسالة: «لن أستطيع امتلاكك أبدًا، لكنك ستنتمين منذ الآن إلى حياتي» (ص٤١). يضع هَيدغر الحب خارج التملك، لكنه لا يضعه بذلك خارج الانتماء. نحن ننتمي إلى الذين نحبهم دون أن نستطيع امتلاكهم. وهكذا هو يحرر معنى الحب من تاريخ الرغبة الذي يحوم حوله. هذا التقابل اللطيف بين التملك والانتماء ليس انفعالًا حزينًا، بل هو نوع غريب من الشكر هو الذي يقود المحبين إلى توقع هويات جديدة لأنفسهم تتجاوز طاقتهم. كل حب كبير هو تمرين على فرح لا يمكن احتماله إلا بتشويهه. قال لها: «نود أن نحافظ في داخلنا على لقائنا كهدية … يعني لا يجب أن نتخيله كصداقة روحية، لم توجد أبدًا بين البشر» (ص٤٢). يضعنا هَيدغر هنا أمام غموض من نوع خاص: إذْ إن ما يتجاوز طاقتنا لا يعني أنه ليس بشريًّا؛ ولذلك فإن معاملة الحب وكأنه صداقة روحية ليست من عالم البشر هو تشويه له وليس تساميًا به إلا في الظاهر. من يذهب بالحب إلى ما فوق البشر يشوهه؛ لأنه يكسر ماهيته البشرية.

قال لها: «لماذا يكون الحب فوق طاقة كل الإمكانيات الإنسانية الأخرى ويكون ثِقْلًا حلوًا بالنسبة إلى المحب؟ لأننا نتحول إلى ما نحبه، لكننا نبقى نحن أنفسنا. ذلك أننا نريد أن نشكر من نحب، لكن لا نجد أي شيء كافيًا لهذا الشكر» (ص٤٣).

إن ماهية الحب هي الشكر وليس الفرح. الفرح هو «تحية» الحب فقط. يقع الشكر فوق منطقة الرغبة، لكنه ليس غريبًا عن عالم البشر. كل حب يوسع حدود الإنسانية التي تلقاها. لكنه لا يفعل ذلك بأي نوع من المعاناة أو الحزن. لا يوجد حب حزين إلا عرَضًا. فهو يحمل معه دومًا انتصاره الوحيد: أنه يجد متعة فريدة فيما يتجاوز طاقته. ولذلك هو في ماهيته نوع خاص من الشكر لمن نحب. وذلك أن المحبوب هو بالتخصيص ذاك الذي مكَّننا من أن نتحول إلى كائن آخر لا ينطوي على أية غربة إزاءنا؛ كائن آخر لا نمتلكه لكنه ينتمي إلينا بلا رجعة. لا نحب حقًّا إلا عندما نتحول إلى ما نحبه، لكننا مع ذلك لا نشعر بأية غربة عنا. وحده الشكر يمكنه أن يحولنا إلى من نحب دون أن نغادرنا؛ دون أن نغادر أنفسنا. بل ربما كان الحب هو نمط الحراسة الفريدة من نوعها لما نريد أن نكون. قال لها: «لا يمكننا الشكر إلا بذواتنا» (نفسه). الحب استعمال غريب لذواتنا من أجل أن نشكر ذلك الآخر الذي نجح في محو حدودنا معه.

قال: «ذلك أن حضور الآخر الذي يدخل حياتنا هو أمر لا يمكن لأية روح السيطرة عليه. فالقدر الإنساني يعطي قدرًا إنسانيًّا، ومسئولية الحب الحقيقي هي السهر على يقظة هذا ووهْبُ الذات كما كان في اليوم الأول» (نفسه).

بين الحب والآخر هناك دومًا تشابك غامض. يبدو الآخر دومًا متأخرًا بوجه ما عنا، كأنه وراءنا وهو واقف أمامنا. هذا الحضور يجعله عصيًّا على السيطرة. كيف نقبض بعيوننا على حضور يبقى خارج ذاتنا. وفي الحقيقة لا يقف الآخر خارجنا حين يدخل حياتنا. ليس المُشكِل متعلقًا بالمكان بل بالزمان: إن الآخر حضور أو لا يكون، وهذا الحضور يشمل الغياب أيضًا: إن غياب من نحب هو جزء لا يتجزأ من حضوره في حياتنا. يشير هَيدغر هنا إلى أمرين متضافرين: الحب لا معنى له من دون آخر، لكننا لا يمكننا الشكر إلا بذواتنا.

كان الآخر لدى هَيدغر هنا امرأة؛ إنها حنا أرندت، وهي فيلسوفة، وعليه أن يحبها بما هي كذلك. هو لم يكن يرغب في امتلاكها، لكنه جعلها تنتمي إليه بلا رجعة. ولذلك هو لم يرَ أفضل تحية لها سوى أن يقول لها دومًا: «افرحي» (ص٤١). الفرح تحية المحبين. ليس ذلك لأن الفرح متعة بشرية، بل لأن الفرح هو نوع استثنائي من القدرة على العطاء. قال لها: «عندما تفرحين، تصبحين المرأة التي تعطي السرور» (نفسه). لا ينبغي أن نشعر هنا بأية خيبة أمل من «السرور». سرور المرأة نوع من الوفاء لنفسها وليس تهمة. إنه سرور الانتماء إلى من نحب، وليس متعة الأخذ فقط.

إن طرافة إشارات هَيدغر عن الحب هي كونها تجريبًا عميقًا لخواطره الفلسفية. هي رسائل موجهة إلى قارئ استثنائي، إلى امرأة فيلسوفة، وليس إلى أنثى فضولية. إن هَيدغر يعامل رسالة الحب وكأنها خلوة ميتافيزيقية. وهو يحب لأن الحب من أدب الكينونة. وليس مجرد احتمال فضولي للفرق الأخلاقي أو العاطفي بين الجنسين في أي عصر. إنه يمتحن قدرة الحب على احتمال أسئلة الفلسفة من الداخل، نعني من معين قلبين متفلسفين، وليس فقط محبين. ولذلك قال لها: «لا يمكن أن يُعطَى نبل الحياة الفكرية الحرة إلا للمرأة التي تكون وفية لنفسها» (ص٤٤).

ما تشترك فيه الفلسفة مع الحب هو أدب الكينونة. وهَيدغر يقدم هذا الأدب بوصفه تمرينًا في الوحدة. من يتفلسف مثل من يحب، هو يتدرب على نوع قاسٍ واستثنائي من الوحدة، نعني من استعمال الذات في حضور آخر لا نراه. وحدها الحياة العامية تتطلب حضورَ آخر مرئي باستمرار. آخر بسيط يمكن الإمساك به متى رغبنا في ذلك. لكن الفلسفة مثل الحب هي حالة أو خطوة خارج المرئي والبسيط والعامي. ومن ثم هي تتطلب دومًا جرأة ما. وفي حديثه لها عن «الفتيان» الذين يدرِّسهم في صيف ١٩٢٥م قال لها: «سأهيِّئهم لأتمكن من التجرؤ على عمل شيء ما» (ص٤٨)، لكنه سرعان ما أضاف قائلًا: «ولا بد أن يتم العمل الحقيقي دائمًا في خلوة/عزلة التساؤل» (نفسه). إن من يتفلسف هو مثل من يحب، يتهيأ لجرأة لا يعرفها. ولذلك هو يحتاج دومًا إلى جرعة كافية من الوحدة حتى يحتملها. الحب مثل الفلسفة هو تجربةُ وحدةٍ أو لا يكون. ليست الوحدة فراغًا كسولًا تسكنه الأرواح الفاشلة أو الخائفة، بل هو فضاء داخلي جدُّ فسيح للنفوس الحرة. تلك التي لا تجد مساحة حركتها الكافية داخل ما هو عامي أو بسيط أو علني. قال لها: «من الصعب العمل ببساطة في الفلسفة، فكلما أصبحت الأشياء بسيطة، بقيت ملغَّزة/مبهمة. ولا يمكنني أن أقنع الجمهور بأن الفلسفة قد تجيب عن أسئلته» (نفسه).

يقف الحب على نفس المسافة التي تقفها الفلسفة إزاء «الجمهور»: هما تجربتان فوق طاقة البشر لكنهما تنبعان من طبيعة البشر؛ ولذلك هما تحتاجان إلى وحدة من نوع خاص، حيث يكون الآخر ملغَّزًا ومبهمًا بقدر حضوره.

قال لها: «أعيش كثيرًا مع هولدرلين، وأنت قريبة مني في كل مكان» (ص٥١). كان هَيدغر على قناعة مزعجة بأن الفيلسوف يحتاج إلى الشعراء حتى يرنو يومًا ما إلى حقل المقدس، حيث لا يعمل المفهوم، وحيث كل شيء إشارة إلى ما لا يُقال، لكنه يخاطبنا. ليس كالشعر مقامًا مناسبًا لدخول المرأة إلى حياتنا. ولكن وحده الحب يحول اللقاء بامرأة إلى قصيدة. القصيدة هي اللامكان بامتياز. يبحث المحب كما يبحث الفيلسوف عن اللامكان حتى يلتقي بنفسه العميقة.

ولذلك حين راسلته لأول مرة هي قد كتبت له عن «الظل»، ذاك عنوان الرسالة (ص٥٣). لكن موضوع الظل هو «الحنين». من يقف في الظل يحكم على نفسه سلفًا بأن يشتق ماهيته من الحنين. قالت له: «لا أعني الحنين إلى شيءٍ ما معينٍ يجب تحقيقه، بل الحنين الشبيه بالذي يشكل حياةً ما، قد يكون أساسًا لها» (نفسه). تحتاج المرأة إلى حنين بلا مضمون حتى تحتمل الوقوف في الظل. الظل طريقة مناسبة «تغطي بها النظر في ذاتها والدخول في نفسها» (ص٥٤). كأن أرندت قد وجدت في هَيدغر الشمس التي تمنحها الظل الذي تبحث عنه كي تمشي فيه بلا وجل. قالت له: «لقد كانت الشمس في المدينة التي كبِرَت فيها وكانت متعلقة بها، وكانت هي نفسها غير مهيأة وسجينة ذاتها … لكن كل ما وقع لها سقط على أرضية روحها وبقي معزولًا ومغلقًا هناك» (نفسه).

لا يكفي أن تحب المرأة كي تخرج من الظل. إن مشاعرها تتشكل بوصفها حنينًا إلى ما تخاف منه أو إلى ما لا يمنح سوى الألم. قالت: «من اللازم شكر أقسى ألم، وأكثر من هذا، بأن هذا الألم بالضبط هو ما هو جدير ومفيد» (ص٥٥). ليس ألمًا من شيء معين، بل هو ألم من نوع خاص من «الغربة»: يبدو الحب دومًا بمثابة حنين إلى موطن لا وجود له. هو يقع على مفترق شعوريْن هما اللذان يشكلان حالة الظل لدى أرندت: من جهة، أنها «لن تنتمي لأيٍّ كان ولن تنتمي أبدًا» (نفسه)، ومن جهة، أن «هناك خوفًا متوحشًا يدفعها للاختباء ولم تكن تستطيع حماية نفسها ولم تكن ترغب في ذلك» (نفسه). ليس الحب انتصارًا على أحد، كما أنه ليس هزيمة أمام أيٍّ كان. هو يبدو لها تارة بوصفه عبارة عن «الخوف من الوجود بعامة» (ص٥٦)، وطورًا هو إمكانية محتملة لأن «تعرف روحها تحت سماء أخرى» (ص٥٧).

كانت إجابة هَيدغر هي: «إنك تدركين أن المشي في «الظل» لا يمكن إلا حيثما كانت الشمس، وهذا هو أساس روحك. فقد أصبحت بالنسبة إليَّ في مركز وجودك قريبة مني كقوة فاعلة في حياتي إلى الأبد» (ص٥٨). قد يبدو كلام هَيدغر جندريًّا؛ حيث يعتقد الرجل دومًا أنه «أساس» المرأة و«مركز» وجودها، لكن تلميح هَيدغر من منطقة أخرى: إن ما يشغله هو أن يكون الحب جزءًا من ماهية تفكيره. أن ينتمي الحب إلى فلسفته من الداخل بلا رجعة. إن ما يزعج الفيلسوف هو أن يقترب الحب أكثر من اللازم من منطقة الحقيقة. وذلك يعني عندئذٍ أن يقترب الظل من شمسه أكثر من اللازم ويهدد ماهيتها.

لذلك كان هَيدغر يقاوم هذا الاقتراب المخيف بين الحب والحقيقة بتحويله إلى نوع مريح من «الانتظار». الحب هو تجربةُ انتظارِ أنفسنا. حين نحب لا نفعل غير أن ننتظر أنفسنا في اللامكان. قال لها: «إن إمكانية الانتظار بالنسبة للمحب هي أجمل شيء، ذلك أن المحب يكون فيها «حضورًا»/حاضرًا» (ص٥٩). الحب نوع من الانتظار لما وقع لنا منذ زمن طويل. وحده الانتظار يجعل الغائب حاضرًا أي موجودًا في نوع خاص من الوجود. من يحب ينتظر «الوجود». قال لها: «وهل يمكنك التفكير في شيء أكبر من انتظار هذا الوجود أزليًّا؟» (ص٦٠).

لا يعِدنا الحب بأكثر من معنى وجودنا، لكننا لا نقبل دومًا بأن نكون ما نحن. ما يريده الحب هو «الوجود معًا فقط» (ص٦١). وهكذا يمكن تعريف الحب بأنه تقنية انتظار تضيف اللقاء إلى الموجودات. لا يكفي أن توجد الموجودات حتى تكون معًا. وحده الحب يسمح للبشر بأن يجعلوا الموجودات موجودة «معًا»: الحب يضيف «العالم» إلى الموجودات. قال لها: «تركُ ما وقع يقع هو بالنسبة لنا فرحة حقيقية ومصدر كل يوم في الحياة» (نفسه). العالم هو تركُ ما وقع يقع. يحتاج البشر إلى السماح للموجودات بأن تكون معًا. وليس لهم من حالة مناسبة لمساعدة العالم على التشكل مثل الحب. كل من يحب يصنع لقاءً أكبر منه، لقاءً يجعل كل «يوم» لقاء مع العالم. لكن لا أحد بإمكانه أن يملك يومه. قال لها: «إن يومي أكبر مني بكثير» (ص٦٢).

وهكذا، لا معنى لحبٍّ يظل حبيس ما هو بشري، ولا يتحول إلى «صفح» من نوع «غير أرضي» ولكن لا يعيشه إلا البشر. من يحب يصفح عن الموجودات. لكنه لا يستطيع ذلك إلا بقدر ما يختلط الجمال والجلال في قلب ما. قال لها: «في النظرات الكبيرة لعينيك … أتعرف … في وجهك غير الأرضي بأن هناك صفحًا كبيرًا في روحك وبأنك تسهرين عليه بعناية» (ص٦٣). وحده ما هو مقدس يمكن أن يصفح. ولذلك لا معنى لحب غير مقدس، أي لا يختلط فيه الجميل والجليل. قال لها: «إن الجلال ينطبق على الحياة ويعطي لها حجمها» (نفسه).

وفي عديد المرات يصف هَيدغر حب أرندت له بأنه «هدية» (ص٦٠، ٦٦) بل بأنه «آخر هدية» (ص٦٣) من إله ما. هذا التركيز على معنى الهدية يعني أن الحب ليس مقصودًا ولا إلزاميًّا أبدًا، إنه صدفةُ نفسِه، لكن ذلك لا يعني أنه شيء عرضي في حياة من يحب. بل أنه ينتمي إلى ضرورة أعلى من العلاقة بين الجنسين. من يحب يعود إلى ماهيته، ولا يدين بذلك إلى أحد. قال لها: «كون المرء محبًّا هو أن يكون موغلًا في أعمق وجوده … إنني أحبك، تعني أريد أن تكوني ماهيتك، أن تكوني ما أنت» (ص٦٤). الحب يحرر ماهية المحبوب ولا يغتصبها، هو ينتمي ولا يتملك، هو تركُ الكينونة تأخذ مجراها، ولا يعترض على أي شيء. بعض الناس يحتاج إلى التملك، لكنه يسيء الطريق إلى الحب.

(٢٠) الذاكرة بهوية مختلفة

تبدو جائزة نوبل بمثابة تتويج لمسيرة أديب خرج فجأة عن التوقيع المحلي أو القومي وتحول إلى «كاتب عالمي». وهكذا وصف كازو إيشيغورو نفسه حين سئل عن رأيه في أدبه ولكن سنة ٢٠٠٥م، قبل سنوات طويلة من الجائزة الكبرى. إن الأدب العظيم يحمل إذن استعداده أو أهليته للجائزة «العالمية» قبل وقت طويل من الحصول عليها. وأول ما يبدو لنا من هذا الكاتب العالمي هو كونه يشبه إدوارد سعيد عندنا في ازدواجية أصلية في هويته وفي تعدد ذاكرته؛ إنه بريطاني ولكن من أصل غير غربي أصلًا. إن اسمه يبعث نبرة يابانية ولكن في لسان إنجليزي، هو الذي ولد في ناغازاكي في ١٩٥٤م لكنه صار من سكان غلدفورد في جنوب لندن منذ ١٩٦٠م، وتحول بسرعة مثيرة إلى كاتب مشهور بلسانها. ذلك الطفل الذي أتى إلى بريطانيا في زيارة مؤقتة قد استقر فيها ودرس الأدب والفلسفة في جامعات كنت (Kent) وإيست أنجليا، وتحول إلى أديب من أدبائها الكبار، متفرغٍ للكتابة منذ ١٩٨٢م، السنة التي تحصل فيها على أول جائزة، وكانت حول أفضل تعبير عن معنى المكان عن روايته الأولى «منظر شاحب للتلال». وأقوى ما ميزه بشكل مبكر هو شعوره المقلق بأن الأدب الكبير لا يولد متأخرًا في حياة كاتب ما. قال: «إن أفضل حظوظك في أن تنتج كتابًا لائقًا هي تأتي في وقتٍ ما بين الثلاثين والخامسة والأربعين، ونظرت فجأة إلى حياتي بوصفها عددًا محدودًا من الكتب.» لكن إيشيغورو سرعان ما عاش تجربة محظوظة جدًّا: إن الجوائز ما فتئت تؤكد له أن نجاحه الأدبي سوف يأتي مبكرًا؛ حيث حصلت روايته الأولى سنة ١٩٨٢م على جائزة «وينفريد هولتبي» Winifred Holtby، وحصلت روايته الثانية سنة ١٩٨٦م على جائزة «وايتبريد» Whitbread Prize، وحصلت روايته الثالثة سنة ١٩٨٩م «بقايا اليوم» على جائزة «البوكر». وهو ما تتوج نهائيًّا بجائزة نوبل سنة ٢٠١٧م. ونحن في المكتبة العربية نعرف له رواية «بقايا اليوم» التي تُرجمت إلى العربية منذ سنة ٢٠٠٠م.
لكن أكثر الجوانب طرافة في أدب إيشيغورو هو أنه يتميز بسردية روائية تقوم في نواتها الخاصة على استراتيجية مثيرة في الجمع بين سياسات الذاكرة وسياسات الهوية: إن هويات الناس هي شيء يُبنى بناءً بواسطة أنواع معينة من تشغيل الذاكرة، ولكن في معنى «ضد-طوباوي» (dyspotique)، حيث إنهم لا ينجحون غالبًا إلا في السيطرة على جزء فقط من قدرتهم على الانتماء إلى أنفسهم العميقة. هذا النوع من السردية يخترق كل نصوصه ويحولها إلى ما يشبه الورشة الواحدة، ولكن بشخصيات مختلفة في كل مرة.

مثلًا: إن روايته «منظر شاحب للتلال» تتناول موضوعة الشعور بالذنب لدى الآباء، ولكن بوصفه ذنبًا قاهرًا متأتيًّا من الصدام بين ذاكرتين وهويتين؛ أي بين عالمين وجغرافيتين للروح. كما تتناول روايته «فنان في عالم طليق» مسألة الانتماء إلى جيل النزعات القومية الكليانية. أما «بقايا اليوم» فهي سفر في الذاكرة حيث يختلط أرشيف الفرد مع تاريخ الدولة. وفي روايته «الذي لا عزاء له» يلاقي القارئ شخصية قلقة يتماهى فيها غرباء المدينة مع أشباحه الخاصة. وفي روايته «عندما كنا يتامى» هي رحلة بحث عن والد مفقود. أما روايته المثيرة «لا تتركني أذهب أبدًا» فهي عودة إلى الماضي العميق حيث لا يمكن تجاوز جروح الذاكرة لدى أطفال معزولين يتبين في نهاية المطاف أنهم مستنسخون أو «كلونات» لا شيء يميزها عن البشر.

لكن سياسات الذاكرة لا تؤدي بالضرورة إلى بناء هوية مستقرة؛ ولذلك لا يبدو إيشيغورو مجرد كاتب آسيوي ما-بعد-كولونيالي في بريطانيا يعاني من هموم الهوية، فهو ما فتئ يؤكد أنه ليس يابانيًّا بالمعنى التاريخي. إن اليابان الذي يتعلق به هو يابان خيالي أو سردي هو يعمل على إعادة اختراعه في كل رواية. قال عن اليابانيين: «أنا لا أفهم ثقافتهم، ولا أتكلم نفس اللغة، ولا أعيش حياتي بنفس أسلوبهم. ليس هناك ما يربطني بهم سوى أصلي، وأعيش هنا كما يعيش أي روائي إنجليزي.»

ثمة مفارقة عجيبة هنا يشير إليها إيشيغورو: كيف يمكن اقتسام نفس الذاكرة ولكن بهوية مختلفة؟ وهو يفرط في رسم الفوارق الثقافية، لكنه سرعان ما يحطمها قائلًا: ليس هناك ما يربطني بهم سوى «أصلي». ولكن بأي معنى يكون «الأصل» مجرد رابط خارجي يمكن استثناؤه في هوية ما؟

ربما كان هذا النوع من الكلام الرسمي مفيدًا لأسباب تتعلق بالتأقلم الهووي في المجتمع البريطاني أو الغربي. قال أحد النقاد: «في الواقع، وعلى الرغم من اسمه الذي له نبرة غير إنجليزية، إيشيغورو هو بلا شك «كاتب إنجليزي حقيقي»، شخص متجذر بشكل عميق في اللغة والثقافة الإنجليزية.» لكن هذا التجذُّر في «اللغة» الإنجليزية هو لا يعني التجذُّر في «الثقافة» الإنجليزية. وهذه هي المفارقة التي يشتغل عليها أدب إيشيغورو.

قال: «عندما كنت طفلًا صغيرًا، تم أخذي بعيدًا عن الناس الذين أعرفهم، مثل أجدادي وأصدقائي، وكنت أتوقع أنني سوف أعود إلى اليابان، لكن العائلة استمرت في تمديد فترة الإقامة، وعلى مدى كامل طفولتي لم أستطع نسيان اليابان؛ لأنني كنت أهيئ نفسي للعودة إليه.»

يقف الكاتب على أهبة العودة إلى الوطن، لكنه لا يعود إليه، بل يعيد اختراعه سرديًّا من خلال سفر معقد في الذاكرة العميقة. لقد تحول الوطن من مكان جغرافي إلى مكان روائي، وعلى حد عبارته إلى «أرض للتأمل والتخيل والذاكرة». طبعًا، هذا موقف عرفه أدباء آخرون من بلدان أخرى، وأول مثال يخطر ببال إيشيغورو هو سلمان رشدي الذي كتب عن الهند كأرض روائية وكمكان للذاكرة العميقة تحت طلب كاتب إنجليزي. إلا أنه يلح على تمييز نفسه عنه من جهة أن نجاح سلمان رشدي في أول أعماله سرعان ما تناساه النقاد وصار كاتبًا غير معروف لبعض الوقت، إذ هم قد انصرفوا للبحث عن «رشد» أو «رشديين» آخرين. أما هو فقد توالت نجاحاته الروائية منذ أول أعماله. وهو يفسر هذا الاختلاف على هذا النحو: «أنا أعرف لماذا وقع هذا الأمر. وقع ذلك لأنني أحمل هذا الوجه الياباني وهذا الاسم الياباني وأن ذلك ما كان ينبغي أن يغطيه الإعلام وقتئذٍ.»

هذا النوع من النجاح يحمل توقيعًا أخلاقيًّا إذن، لكنه توقيع ينبغي اختراعه روائيًّا، وهو ما فعله إيشيغورو في كل أعماله؛ إنه يعيد اختراع اليابان ويحوله إلى وجبة سردية إنجليزية، دونما حاجة حقيقية إلى سرد قصة تاريخية. كان يشعر أن بعض رواياته تُقرأ وكأنها نصوص تاريخية عن اليابان، لكنه كان يصر دومًا على أن ما يكتبه هو سردية لها إشكاليتها الخاصة التي تتمثل في الحفر في الذاكرة العميقة لشخصيات صار يتعسر عليها أكثر فأكثر أن تتعرف على هويتها من الداخل. وكل هوسه الأدبي هو إضاءة هذا النوع من العمل على الذاكرة من الجهة الغامضة وغير المريحة لأن تكون ساكنًا لهوية لا تسيطر عليها.

قال إيشيغورو: «أنا أحب الذاكرة على مستويات عدة: فعلى مستوى تقني بحت، أنا أحبها بوصفها منهجًا لسرد قصة هي تمنحني حرية كاملة … ثم أنا أحب نسيج الذاكرة أيضًا. أنا أحب أن تكون المشاهد ضبابية بالضرورة في حوافها؛ لأنها مفتوحة على التلاعب بها، ومفتوحة على خداع النفس وإعادة التطريز. وهي غالبًا ما تكون مشوبة بالحنين، وبنمط من المشاعر القوية. أنا أحب كل تلك الطيات التي تأتي مع المشهد. ومن حيث الموضوعات، أنا كنت مهتمًّا بالذاكرة بحد ذاتها.»

علينا أن نرى الفرق الحاسم بين الذاكرة والتاريخ. إن الذاكرة هنا شخصية دائمًا، أما القصة التاريخية فهي تعبر الرواية دون أن تنتمي إليها. ولذلك يؤكد النقاد على أن نصوص إيشيغورو هي سرد تحركه مسارات علاجية للقارئ كما للشخصيات. هي لا تهدف إلى استرداد الماضي كما وقع، بل متابعة كيف يكون من شأن الأفراد أن يؤوِّلوا وأن يعيدوا بناء ماضيهم الخاص بوصفه ذاكرة عميقة لا تكون الهوية غير استعمال غير مستقر لها. في كل مرة يعمل إيشيغورو على تنشيط نوع من الذاكرة واستعمالها من أجل مراقبة هوية مهتزة لدى أشخاص يعيشون غالبًا بين عالمين أو حتى بين منطقتين مغلقتين في بلد واحد. إن عمل الذاكرة عندئذٍ هو إنتاج متواصل لقدر من الاتساق بين وعيين مختلفين بالزمن: وعي بالماضي كما نود اختراعه، ووعي بالحاضر كما يقع لنا. وهذا التراوح المؤلم والغامض بين طورين زمنيين في ذاكرة واحدة هو الذي يغذي ترددات الهوية ويحولها إلى ورشة سردية متحولة، تدور في الغالب حول استحالة عزل أي منطقة والتحكم فيها. لا يمكن التغلب على الماضي إلا سرديًّا. وإن إعادة بناء الماضي سرديًّا هو أساس كل هوية تريد أن تتصالح مع نفسها. وهو ما فتئ يشتغل في رواياته على هيكلة الماضي بوصفه جملة من المقاطع السردية يمكِّن الناس من تجميع حياتهم في قالب أخلاقي واحد يطلقون عليه اسم الهوية.

قال: «لقد اكتشفت أن المرء متى كان روائيًّا، هو لا ينبغي عليه أن يحكي قصة ما بالانتقال من مشهد صُلب جيد البناء، إلى مشهد آخر. إن عليه في الواقع أن يحاكي طريقة الذاكرة كيف تجري في ذهن أحدهم. يمكن أن يكون لديه مقطع من مشهد موصول بمشهد قد وقع منذ ثلاثين عامًا … هذا الجو في جملته ومزاج البحث عبر ذلك العالم الضبابي للذاكرة من أجل الكشف عمن تكون، وماذا كان تاريخك، هو أمر لطالما جذبني وفتنني. وهذا مثال على شيء كنت قرأته في زمن كنت أبحث عنه ككاتب ووجدته. أنا لست معجبًا كبيرًا ببروست … ولكن ينبغي عليَّ أن أقول إنه كان له تأثير عميق عليَّ.»

يبدو أدب إيشيغورو بمثابة تمارين متواترة على تحويل الذاكرة الخاصة إلى نوع من الهوية السردية، على حد عبارة ريكور. ليست هوية الناس حسب إيشيغورو غير طريقتهم في الشعور بنوع من «خيبة النفس» ومن «حماية النفس» في العلاقة بذكرياتهم العميقة. كل استراتيجية السرد عنده تحوم حول دفع الشخوص الروائية إلى الحديث عن أشياء هم يعجزون عن مواجهتها في الحاضر، لكنهم يجدون عزاءً سرديًّا مريحًا في الحفر عنها في الماضي. وذلك يقوده إلى محاولة استكشاف طريقة الناس في استعمال اللغة من أجل مخادعة النفس وحمايتها من نفسها في آن.

قال: «إن اللغة التي أستعملها (في رواياتي) تميل لأن تكون ذلك النوع الذي هو في الواقع يلغي المعنى ويحاول أن يخفي المعنى.»

إن الرواية عند إيشيغورو هي طريقة لمعرفة كيف يعمد الناس إلى السفر في ذاكرتهم الخاصة، كيف يتحاشون وكيف يأخذون الطريق داخل ذاكرتهم العميقة، داخل غياهب الماضي. وهم في الغالب يشعرون بإساءة الماضي إليهم؛ لأنهم لا يجدون أي شيء مريح ها هنا. قال: «الذاكرة هي هذه التضاريس الغادرة بشكل رهيب، والالتباسات الحقيقية للذاكرة هي التي تغذي خداع الناس لأنفسهم.» وهكذا يكتنف أدبَ إيشيغورو خيطٌ إشكالي لكنه متين بين الهيكلة السردية للذاكرة من أجل منح معنًى ما للماضي، وبين طريقة الناس في بناء هوياتهم بوصفها مؤلفة من مقاطع سردية يجب عليهم أن يبذلوا جهودًا جمة من أجل تجميعها في حياة واحدة. صحيح أن الذاكرة هي لها أهمية حاسمة في بناء هويات الشخوص الروائية التي يقترحها، لكنه في نفس الوقت يقدم هذا المشهد وهو ملتبس ومتردد: تارة هو يصلح لمراقبة السرديات، وتارة يوحي بأن المسرود أمر لا يمكن السيطرة عليه. ومع ذلك ثمة رسالة أخلاقية صامتة سرعان ما يشعر بها قارئ نصوص إيشيغورو، ألا وهي أنه يجب ألَّا نيأس من ذاكرتنا، بل هو يجتهد من أجل أن يبين كيف أن الذاكرة بمقدورها دومًا أن تُستعمل بوصفها وسيلة سردية لتحقيق كرامتنا، ومن أجل الحفاظ على معنًى مقبول لأنفسنا.

قال: «أنا أهتم بالذاكرة لأنها بمثابة مصفاةٍ عَبْرها يمكننا أن نرى حيواتنا، ولأنها ضبابية ومبهمة، فإن كل المناسبات من أجل خيبات الأمل هي موجودة هناك. وفي النهاية، بوصفي كاتبًا، أنا أهتم بما يقول الناس أنفسهم إنه قد وقع لهم أكثر مما أهتم بما وقع فعلًا.»

لا يمل الناس من سرد قصص حياتهم وكأنها شيء يمكن أن نؤرخ له بشكل صُلب. لكن روايات إيشيغورو تبين بشكل مثير أن الناس يسردون ماضيهم ولكنهم يفعلون ذلك دومًا بواسطة ذاكرات هشة مثقوبة. وهي هشة لأنها تصطدم دومًا بما يقوله التاريخ عنهم. هذا التوتر هو خيط الرواية لديه: هو المصفاة التي تعبر من خلالها لعبة معقدة ودقيقة بين سياسات الذاكرة التي لا تقول لنا ما جئنا نبحث عنه، وسياسات الهوية التي لا تحتمل حاضرها إلا بقدر ما تبني عن معنى «ذاتها» خيبات أمل يمكن احتمالها.

(٢١) الفلسفة والكورونا

لا تمرض خارج أعضائك
أو
الجماعة والمناعة

تقديم: الفيروس لا هوية له

في سنة ١٨٩٢م تم اكتشاف «الفيروسات»، ودخلت الإنسانية تاريخًا جديدًا لمعنى الحياة. إن «منطق الكائن الحي» الذي من جنسنا قد تغير بلا رجعة. لكن النصف الثاني من القرن التاسع عشر هو بعامة قد شهد أيضًا جملة من الأحداث الطبية (اكتشاف الميكروبيولوجيا؛ حيث بدأت دراسة الخلية والفيروس والبكتيريا والميكروبات …) والتكنولوجية (الهاتف والتلغراف وسرعة الضوء والطيران والسينما والإشعاعات …) التي يمكن قراءتها بوصفها تشكل متوالية ميتافيزيقية مثيرة هي بمثابة تدشين مفاجئ وغامض لعصر لم يعشه البشر من قبل هو «عصرنا» الوحيد إلى حد الآن. إنه في خضم هذا الزخم من الاكتشافات العلمية والتقنية إنما أعلن نيتشه عن «موت الإله» الأخلاقي بوصفه ظاهرة رمزية قد اجتاحت الوعي الأوروبي بنفسه وبمصيره في العالم. وإن أهم سمة مثيرة لهذا العصر الجديد هو أنه شهد أحداثًا هي بمثابة إعادة اكتشاف لما كان يُسمَّى منذ أفلاطون «العالم المحسوس». لقد انخرط العلماء في إعادة رسم خارطة العالم المحسوس من خلال سياسة جديدة للمرئي واللامرئي؛ حيث إن «اللامرئي» لم يعد «كائنًا عقليًّا» أو «خياليًّا» بل صار مساحة «طبيعية» تبعثر مفهوماتنا التقليدية عن المكان والزمان والحركة والمادة والحياة، علينا اكتشافها والدخول في علاقة معرفية وتكنولوجية وأخلاقية معها لم يعشها البشر من قبل.

قد يُقال: ولكن ما العلاقة مثلًا بين اكتشاف «الفيروس» وإعلان «موت الإله»، حتى وإنْ صادف أنْ حدثَا في فترة واحدة؟ إنه الإيحاء المزعج بأن قصة «آدم» (المخلوق على «صورة الله» التوحيدي) قد تزعزعت أو فقدت شيئًا من حبكتها السردية: أن «البشر» مجرد مساحة بكتيرية أو فيروسية عابرة للأجسام الحيوانية، وليس «صورة» إلهية مطبوعة على صلصال مقدس. إن الفيروس مثل الهاتف أو السينما أو الطيران أو «موت الإله» التقليدي، هي أحداث ميتافيزيقية تعيد ترتيب العلاقة مع «المحسوس» بما هو كذلك، وذلك بأن تتجرأ لأول مرة على الدخول في علاقة تكنولوجية مع «اللامرئي» بوصفه جزءًا لا يتجزأ من مادة الكينونة في العالم كما تنفعل بها أجسامنا. إن المحسوس لا يوجد خارجنا؛ لأن «الخارج» الأنطولوجي لا وجود له. إن المحسوس هو مساحة عابرة تخترق الأجسام مثل مادة بلا حدود مرئية نحو الداخل كما نحو الخارج، لم يعد «الجسد» الإنساني (أي «الجسم» الذي له شحنة وجدانية) يمثل منها سوى «مجرد» حلقة عضوية في سلسلة خلوية سابقة إلى حد لامتناهي الصغر، لكنها تعبر حدود الجسم المرئية أو الخارجية إلى «عدوى» الأجسام «الأخرى»، والتي لم تعد «أخرى» إلا تجوزًا نتيجة إرث أخلاقي صار باهتًا. إن «الآخر» قد تلاشى طبيًّا وصار مجرد ادعاء أخلاقي ينتمي إلى ثقافة علاجية انتهت صلاحيتها بعد اكتشاف قارة اللامرئي الحيوي (الخلوي والبكتيري والفيروسي) في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

من أجل ذلك نحن لا يمكننا اليوم أن «نفهم» فيروس الكورونا الذي يهدد باجتياح العالم إلا عندما ننجح في استفهام اكتشاف الفيروس منذ ١٨٩٢م بوصفه انقلابًا في السياسات «الوبائية» الكبرى للحداثة بوصفها يمكن أن تُقرأ على أنها سيرورة وبائية انتقلت من عصر الأمراض التقليدية (حيث لا يزال للناس «أجساد» خاصة وبالتالي هويات صحية مستقلة يمكن حمايتها أخلاقيًّا) إلى عصر الفيروسات (حيث يصبح «الجسم» العضوي مساحة عدوية مفتوحة لا معنى فيها لأي احتياط أخلاقي). يبدو «الوباء» بمثابة لحظة ترجمة فارقة في سردية «الجسد المريض» المعاصر بوصفه نموذجًا مهمشًا للاستشكال الأساسي «من؟» الذي أخذ يشتغل منذ القرن التاسع عشر.

المرض يغير من دلالته

ما الفرق بين أن يمرض إنسان وأن يمرض حيوان أو نبات ما؟ أم أن المرض اختراع أخلاقي خاص «بنا»، «نحن» الممضين عرضًا تحت النوع البشري؟ إلى أي مدى يمكننا الادعاء بأن الإنسان وحده يمرض، أي يتمثل معنى المرض بوصفه حالة تمس هويتنا، في حين أن الحيوان أو النبات هو بالمعنى الحرفي اللاتيني الذي تحدرت منه كلمة malade في الفرنسية والإيطالية والإسبانية، أي male habitus: «في حالة سيئة»، وهو مرادف «للبرودة»؟ ومن ثم أن تصنيف «حالة» ما بأنها «مرض» هو فعل اجتماعي أملته ثقافة تحمل تصورًا مخصوصًا عن مفهوم «الصحة»، وليس توصيفًا بيولوجيًّا محايدًا. وأبعد من ذلك أن يسقط «حجرٌ» ما مريضًا.
يمكن اختبار هذا الافتراض من خلال فحص تأويلي لمصطلح «الوباء» كما تقوله اللغات الغربية من الجذر اليوناني: epidemic (Ἐπιδήμιος) من Epi أي «على أو فوق»، وdémos أي «الشعب»، الذي هو غريب عن معنى «وباء» العربية (من وَبَأَ المتاع عبأه وهيأه، ووبأ إليه أشار ووَمَأَ). إن ما يجلب الانتباه هو أن مصطلح «الوباء» هو في أصله يشير إلى مرض البشر، لكنه في اللغة المعتادة يُستعمل للإشارة أيضًا إلى المجموعات الحيوانية، على الرغم من أنها تملك مصطلحًا خاصًّا بها هو zoonosis (أي «المرض الحيواني») أو epizootic (أي «الوباء الحيواني»)، مثل أنفلونزا الطيور. ثمة مركزية أنثروبولوجية تختفي وراء المصطلح؛ يشعر الإنسان أنه مركز العالم أو الحياة، ومن ثم أن مرضه هو نموذج للصحة أو براديغم طبي للحكم على مدى تمتع أي حيوان «آخر» (هل هناك آخرية في المرض؟) بصحته. ومع ذلك يبدو أن صفة «الوباء» لا تُطلق على النبات الذي يمتلك مصطلحًا خاصًّا به هو Épiphytie أي «المرض النباتي». النبات «يمرض» لكنه لا يشكل «وباءً» بالنسبة إلينا، وحده «الحيوان» يمكن أن يكون مساحة «عدوى» تصيب البشر. ومن ناحية فلسفية هذا تذكير ميتافيزيقي بأن انفصال البشر عن عالم الحيوانات هو ادعاء أخلاقي صار مضرًّا أكثر من أي وقت مضى.
ذلك أن «الفيروس» (virus) الذي يكمن وراء المرض في كل مرة، أكان الجسد حيوانيًّا أو «بشريًّا»، إنما يسخر من كل هذه التصنيفات الأخلاقية ويصيب كل أشكال الحياة بوصفها مجالًا حيويًّا خاصًّا به. «فيروس» من أصل لغوي هندو-أوروبي يعني في اليونانية القديمة ἰός أي «السم»، وذلك طيلة ألفي سنة (حيث إن أول استعمال للفظة virus في معنى «سائل صديدي وقيحي» يعود إلى فيرجيل الذي مات سنة ١٩ق.م.)، وذلك قبل اكتشاف «الفيروسات» بالمعنى الحديث سنة ١٨٩٢م، أثناء البحث في مرض يصيب نبتة التبغ. لكن المُشكِل هنا ليس وجود الفيروسات التي هي «معدية» دومًا، بل إن نوعًا قليلًا منها فقط هو عامل حيوي «مسبب للمرض» (pathogen) ينقل الأثر من مستوى الجسم المرئي إلى الطبقة المجهرية من الجسد داخل الخلية أو خارجها.

فجأة لم يعد الإنسان المعاصر — منذ نهاية القرن التاسع عشر — جسمًا يدعي أنه مساحة أخلاقية لا يزال يمتلك الوصاية الاجتماعية عليها تحت عنوان «الصحة»، بل هو قد تحول بسرعة مرعبة إلى دوائر حيوية لا متناهية من «إمكانيات المرض» لا يرى منها سوى طبقتها الخارجية فقط. إن حدود أو تخوم الجسد قد تغيرت بلا رجعة، سواء نحو الداخل (في اتجاه الخلية) أو نحو الخارج (في اتجاه الأجسام الحية الأخرى). وفجأة غير مفهوم «المرض» من دلالته. إنه لم يعد خطأ صحيًّا (ناتجًا عن «حِمْية» غير مناسبة) ولا هو ضرورة بيولوجية تحت مفعول العمر (مثل الموت)، بل هو مساحة «فيروسية» لا نراها، بل هي عصية حتى على المجاهر العادية. إن هوية أجسادنا إذن لا توجد بين أيدينا، في مساحة أخلاقية مرئية، يمكننا أن نسيطر عليها، بل هي قد أصبحت توقيعات وراثية تتخطى الادِّعاء الأخلاقي للبشر من أجل أن تعيدهم إلى التركيبة الخلوية التي يشتركون فيها مع النبات والحيوان، تلك التي أقامت الإنسانية التقليدية لفترات متطاولة انفصالها الأخلاقي أو الميتافيزيقي عنها.

إن الفيروس إذن يهدم الجدران الثقافية التي بناها الإنسان التقليدي من أجل أن يفصل «نفسه» (ادعاءه الهووي) عن بقية الكائنات «الحية» حسب ترتيب أخلاقي لم يعد له اليوم ما يبرره. ولأول مرة، في عصر الفيروسات، صار الجسم البشري هدرًا عضويًّا أمام كل أنواع الهجومات الحيوية، من منطقة «خارجة» بمعنى ما، دون أن يكون «الخارج» (outside) خارجيًّا (exterior) دومًا.

الفلسفة والكورونا

لو ألقينا الآن بأنفسنا الخائفة بشكلٍ «ما-بعد-حديث»، أي الخوف من مساحة الوباء غير المرئية المختبئة في أجساد الآخرين التي تحولت فجأة إلى دوائر حيوانية تنفث عناصر العدوى دون أي حواجز أخلاقية أو أمنية غير «شعور المسافة»، لو ألقينا بتلك «الأنفس» التي تم اختزالها منذ الآن في مجرد «امتدادات جسدية» تحمل فرديتها مثل لعنة بيولوجية خرساء، في أفق «فيروس الكورونا» (Coronavirus) الجديد، الذي هو الآن بصدد تهديد البشر بالتهامهم في أتون «وباء» (epidemic) عابر، مثل وحش هارب من المخابر تحت الأرضية، يتجاوز مجرد «المرض المتوطن» (endemic) في بلد دون غيره، مثل مرض الهزال المزمن أو مرض الحُماق في المملكة المتحدة، ويهدد بالتحول إلى «جائحة» (pandemic) تهدد بالتهام الملايين كما فعل أسلافها من قبيل الطاعون الأسود أو الأنفلونزا الإسبانية.

من أجل ذلك نحن لا يمكننا اليوم أن «نفهم» فيروس الكورونا الذي يهدد باجتياح العالم إلا عندما ننجح في استفهام اكتشاف الفيروس منذ ١٨٩٢م بوصفه انقلابًا في السياسات «الوبائية» الكبرى للحداثة بوصفها يمكن أن تُقرأ على أنها سيرورة وبائية انتقلت من عصر الأمراض التقليدية (حيث لا يزال للناس «أجساد» خاصة وبالتالي هويات صحية مستقلة يمكن حمايتها أخلاقيًّا) إلى عصر الفيروسات (حيث يصبح «الجسم» العضوي مساحة عدوية مفتوحة لا معنى فيها لأي احتياط أخلاقي). يبدو «الوباء» بمثابة لحظة ترجمة فارقة في سردية «الجسد المريض» المعاصر بوصفه نموذجًا مهمشًا للاستشكال الأساسي «من؟» الذي أخذ يشتغل منذ القرن التاسع عشر.

ومن ناحية فلسفية يمكننا أن نواجه التحدي البيو-تكنولوجي والبيو-سياسي الذي يرفعه فيروس كورونا في وجه الإنسانية الراهنة من طرق عدة يمكن ارتسامها على الأنحاء التالية:
  • (أ)

    أن نحاول تنزيل الفيروس داخل تاريخه الخاص: تاريخ الأوبئة التي اصطدمت بها الأزمنة الحديثة، سواء كانت أوروبية أو انتقلت إليها من المستعمرات عن طريق تجارة «الأجسام» السمراء المستعبدة، منذ القرنين السادس عشر والسابع عشر، مثل الطاعون والحمَّى الصفراء والكوليرا. هنا يمكن الاستضاءة بطريقة فوكو في كتابة تاريخ وباء الطاعون بوصفه ورشة «بيو-سياسية» لدراسة نشأة العلاقة بين المعرفة والسلطة التي مثلت الوجه الخفي لواقعة «الحداثة» الأوروبية. والفكرة الهادية هي أن الصلة التاريخية بين الحداثة والأوبئة هي ليست عرضية بل هي جزء أصيل من هويتها الأخلاقية، إن «المعايير» القانونية داخلها قد كانت تبرر نفسها دومًا بالاستناد إلى ترسانة من «الخطابات» التي تقدم نفسها على أنها «معارف» مبنية على البحث عن «الحقيقة» في العلوم.

    إن ما يشعر به الملاحظ عندئذٍ وقد أخذ يتجول في شوارع مدينة «ووهان» (Wuhan) الصينية، مدينة الطلبة الأقدم من بكين، التي يزيد عمرها عن ٣٥٠٠ سنة، وهي تحت كارثة فيروس الكورونا، وقد باتت مقفرة من أي قدم بشرية، وحيدة مثل جحيم ميتافيزيقي، هو تخيل «فوكو في ووهان»،١٩ هناك حيث صارت مهمة الدولة البيو-سياسية هي «المراقبة والاحتواء». إن ما يحدث مع فيروس كورونا يشبه ما شخصه فوكو في كتابه المراقبة والمعاقبة (١٩٧٥م) عن طريقة الدولة في معالجة وباء الطاعون بوصفه نموذجًا سائدًا لمنطق الحجْر الصحي: إخلاء الشوارع والساحات من البشر، حيث لا يحق التجوال إلا للشرطة أو الجيش. هاهنا تصبح الصحة مُشكِلًا أمنيًّا لا علاقة له بأي أخلاق أو دين. قال فوكو واصفًا التدابير التي يجب القيام بها عند تفشي الطاعون في مدينة ما:
    «في بادئ الأمر حصر فضائي صارم: إغلاق، بالطبع، في المدينة وفي ملحقاتها، منع الخروج منها تحت طائلة الإعدام، القضاء على الحيوانات التائهة، تقطيع المدينة إلى أحياء منفصلة بحيث تقام في كل حي سلطة لمشرف. كل شارع يوضع تحت سلطة إداري يتولى مراقبته، فإذا تركه تعرض لعقوبة الموت. في يوم معين، يُطلب إلى كلٍّ أن يغلق باب بيته على نفسه، ويُمنع الخروج تحت طائلة الإعدام.»٢٠

    لا يفعل فوكو هنا سوى وصف المستقبل البيو-سياسي للجموع ما بعد الحديثة حين تحل الكارثة، تلك التي تنقل الناس من معارك «الجماعة» إلى حروب «المناعة».

  • (ب)
    أن نعمد إلى نقد طريقة «الغربيين» اليوم في توريط الصين (العالم غير الغربي) في وحل فيروس كورونا بوصفه خطأً هيكليًّا في سياسة الحياة داخل مجتمع آسيوي «غير حر». ويمكن الاستفادة هنا من مقالات سلافوي جيجيك٢١ حول الكورونا بوصفه فيروسًا «أيديولوجيًّا».٢٢ ذلك أن التهديد الوبائي ليس تهمة عنصرية يمكن إلصاقها بالعدو المنفصل عنا سواء بشكل هووي أو بشكل جغرافي. إن الجديد، كما يقول جيجيك، هو هذه الواقعة المرعبة: «نحن على نفس الباخرة»٢٣ ولا مجال لأن يدعي أي جزء من الإنسانية أنه مُعفًى من العدوى التي لا تفرق بين الهويات أو الثقافات أو الأديان. ومن ثم أن هستيريا الغرب من عدوى الكورونا كأنه اختراع وراثي «صيني» هو حسب جيجيك أمر لا يخلو من نزعة «عنصرية»٢٤ وجدت طريقها إلى التعبير الإعلامي. إن نشر الخوف يمكن أن يتحول إلى سلاح وبائي ما بعد حديث ضد الجموع يختزلها في مجرد مساحات للعدوى بلا أي نوع حقيقي من الحماية. وبذلك تسترجع الدولة الأمنية كل نجاعتها البيو-سياسية التي فقدت شطرًا واسعًا منها باسم قيم الديمقراطية.
  • (جـ)
    أن نناقش كونية المعايير التي تتم بمقتضاها سياسة الحياة التي يفرضها تفشي فيروس كورونا وانتقال العدوى التي أحدثها في عالم «معولَم» بشدة، وذلك في ضوء ما كتبه هابرماس عن «مستقبل الطبيعة البشرية»،٢٥ نعني في نطاق أسئلة «بيو-تكنولوجية» تفرض على «المعاصرين» (نعني فقط، مجموعة الأطراف القادرة على أن تشكل جزءًا من النقاش عن مستقبل الحياة على الأرض، وليس المجتمعات أو الشعوب التي لا تزال في خصام هووي مرير مع ذاكرتها المحنطة مثل حالنا) طريقة مناسبة (غير أداتية بل تواصلية) في آداب الخطاب حول مشاريع «الأوجينيا» أو «تحسين النوع البشري». إن المُشكِل البعيد هو: ما هي العلاقة المأمولة مع قدرة المخابر البيو-تكنولوجية على تصنيع الحياة، هل هي مجرد توصيف قانوني أم هو استشكال أخلاقي لا يزال ملتبسًا؟ إنه لم يعد يمكن، حسب هابرماس، حماية الجسد البشري من عصر التقنية بواسطة الوصايا الأخلاقية، لكن تحسين النوع البشري يطرح مُشكِلًا أخلاقيًّا وقانونيًّا غير مسبوق لم يعد يمكن تأجيله.
    وعندئذٍ علينا أن نسأل: هل من الجائز افتراض نية بيو-تكنولوجية لتحسين النوع البشري من خلال تصنيع فيروس كورونا واختباره بوصفه يستند بوجه أو بآخر إلى سياسة بيو-سياسية تتلاعب جينيًّا أو وراثيًّا بالطبيعة البشرية، سواء أكان ذلك بشكل مقصود (في المخابر) أو غير مقصود (بسبب سياسات سيئة في الصحة أو الغذاء أو البيئة …)؟ إلى أي مدى يمكننا أن نفترض هروب الفيروسات من المخابر (وهو احتمال يتم تكذيبه إلى حد الآن٢٦) وتحوُّلها، مستقبلًا، إلى تهديد يطول كل مساحة «المناعة» الجسدية، ولا تصمد أمامه أي حدود هووية ﻟﻟ «جماعة» مهما كان شكلها؟

خاتمة: الفلسفة والصحة

أشار نيتشه ذات مرة إلى أن «أي عالِم نفساني لا يعرف سؤالًا جذابًا بقدر السؤال عن العلاقة بين الصحة والفلسفة، وفي حالة ما إذا صار هو نفسه مريضًا، فإنه سوف يجلب معه كل فضوله العلمي في صلب مرضه.»٢٧ تقع الصحة دومًا على حافة معركة مع مرضٍ ما لا نراه أو صار بمثابة مقياس غير مرئي لما نريد أن نفكر فيه. والسؤال عن «العلاقة» بين الصحة والفلسفة ليس هو نفسه السؤال عن العلاقة بين الفلسفة والصحة؛ فالصحة ليست مجرد «موضوع» محايد للبحث الفلسفي بل هي الورشة الخلفية لظهور الفلاسفة واختيار أدواتهم. إذْ يفترض نيتشه أن مجرد أن يكون الإنسان «شخصًا» هو لن يمتلك بالضرورة إلا «فلسفة شخصه (die Philosophie seiner Person)».٢٨ ذلك أن كل فلسفة هي تاريخ «الجسد المريض» (der kranke Leib) الذي أملى على «الروح» أن تذهب في هذا الاتجاه أو ذاك. إن المرض يجرد الروح من كبريائها ويحولها إلى كائن ينتظر. وكل ما دافع عنه الفلاسفة هو — حسب نيتشه — مجرد وعود أخلاقية لأجسادهم المريضة، مثل «الصمت» و«اللطف» و«الصبر» و«الدواء» و«الراحة» بأي شكل، وهو ما تتم ترجمته في مفاهيم «السلم» و«السعادة السالبة» و«الغاية النهائية»، وكل مطلب جمالي أو ديني يصبو إلى شيء يقع «جانبًا» (Abseits) عنا أو «ما وراء» (Jenseits) وجودنا أو «خارجًا» (Ausserhalb) أو «فوق» (Oberhalb) عالمنا.٢٩ في كل هذه المرات يبدو المرض بمثابة ذاك الشيء الذي «يلهم» (inspirirt) الفلسفة دون أن تدري. وتحت كل «فكرة» يوجد سبب «فسيولوجي» لا يتكلم. وهكذا فإن «الفلسفة إلى حد الآن لم تكن دومًا غير تفسير للجسد وسوء فهم للجسد (ein Missverständniss des Leibes).»٣٠

حين نفسر لا يعني أننا نفهم. بل فقط أننا نستجيب لنداء ما لا نراه. إن نداءات الجسد المريض تفرض استجابات معينة لا يمكن لنا أن ندعي أنها الإجابات المناسبة. كل تفسير هو استجابة لتوجيه أخرس يجذب «الروح» نحو جهة ما لكنه يظل دومًا بلا مضمون. وليس المرض غير الحالة التي تضع الجسد في منطقة التفسير أو هي التي تخلق الحاجة إلى تفسير ما. ولكن لأن التفسير يقول دومًا ما أومأ إليه الجسد المريض دون أن يملك اللغة المناسبة لقوله، فهو يتأسس في كل مرة على «سوء فهم» أساسي لهذا الجسد. ما يبحث عنه الجسد المريض هو علاقة جديدة أو أخرى بالمكان. لذلك هو يطالب دومًا بأن نغير اتجاه الروح نحو جهة تقع «جانبًا» أو «خارجًا» أو «ما وراء» المكان. إن الجسد قطعة من المكان الذي يضيق به المكان. وليست الفلسفة غير جهد حثيث ومحموم لإعادة اختراع العلاقة بالمكان. إلا أنها لا تفعل ذلك من أجل بناء علاقة موضوعية بالمكان. بل فقط استجابة لنداء غير منظور يطلقه الجسد المريض في كل مرة تحت وطأة علاقة موجعة بالمكان.

يبدو الجسد بمثابة مجموعة لا متناهية من الأمكنة التي تجمعت دون سبب واضح في موضع واحد، وكونت «فردًا». ولذلك فإن خطورة المرض وطرافته الحادة إنما تكمن في كونه شروعًا أخرس في هدم المكان، ومن ثم في تعطيل فكرة «الفرد» من الداخل. عندئذٍ يعود الفرد ليس إلى قفص الجماعة الهووية بل إلى محيط المناعة الحيوية التي تخترقه مثل نبتة خرساء في سلسلة وراثية لا تراه.

(٢٢) عودة الإنسانية إلى البيت

ربما لم يكن أحد ليتخيل قبل تفشي فيروس كورونا أن «البقاء في المنزل» (‘stay-at-home’ order, zu Hause bleiben) — وهذا مصطلح وليس مجرد استعارة — سوف يصبح القلعة الأخيرة لحماية مساحة «المناعة» التي تُبقي «جسمًا صحيحًا» في مأمن على نفسه من «العدوى». كل الإنسانية اليوم «عادت إلى المنزل»، وليس فقط إلى «مسقط الرأس» كما كان يحلو للرومانسيين أن يتقولوا. لكن الفيروس المستجد ليس رومانسيًّا بأي شكل، إنه تهديد بلا أي مساحيق لمجرد «الحياة» بوصفها مختزلة هذه المرة في مساحة المناعة التي يحتاجها جسم ما كي لا ينقرض، ومن ثمة صار يجب إبقاؤها في المنزل دونما خجل يُذكر. لقد صار «المنزل» فجأة مساحة «العالم» الوحيدة التي يلوذ بها «الأحياء» من «أجساد» بعضهم البعض، بعد أن حولهم الفيروس إلى آلات عدوى تعمل ببراءة فظيعة، إذْ لا معنى للحديث عن أي نية وبائية قد يبطنها جسم ضد جسم آخر. إن المنزل/العالم الخاص قد صار المعبد الوحيد والأخير حيث يفر الناس بأنفسهم، من العدوى/الخطر الوبائي العالمي غير المرئي الذي يجعل من كل «آخر» مهما كان نبله أو قرابته مجرد حيوان أو كائن ناقل لوباء أخرس. ولأول مرة يصبح المنزل بديلًا عن أي مكان مقدس، بعد أن أقفرت الكنائس والمساجد من إمكانية الإنسان. ولأول مرة نلاحظ أن السؤال الرومانسي الذي طرحه هولدرلين في مطلع القرن التاسع بعد أن صار الشعر هو الشكل الوحيد للمُقام على الأرض: «كيف نسكن العالم؟» قد صار فجأة سؤالًا هزيلًا وسيِّئ الطرح، فجأة صار علينا أن نسأل على الأرجح: «كيف نسكن بيوتنا؟» بوصفها «العالم» الوحيد المتبقي لنا كي لا ننقرض، الوحيد المسموح به في وضع وبائي جرد مفهوم العالم الحديث من صلابته وحوله إلى مشهد كارثي هش ومعتذر.
وفي هذا «البيت» الذي يقدم نفسه بوصفه مساحة العالم الأخيرة يشعر المرء بأنه لم يعد يمكن تحمل أي نوع من الضيافة «غير اللائقة» أي غير المنسجمة مع الحِمْية ضد العدوى. إن متوالية من القيم الأخلاقية قد انهارت فجأة، قال جبران ذات مرة: «لولا الضيوف لكانت البيوت قبورًا.» لكن الخوف من الوباء قد أعاد مشاعر الناس إلى بدائيتها، حيث إن فرض «المسافة الاجتماعية» (social distancing) ليس مضمونًا دومًا، لقد صار الاقتراب من أي جسم غريب لقاءً غير مأمون العواقب. لقد استعادت الأجسام البشرية وغير البشرية «آخريتها» الجذرية وباتت كلها توحي بتهديد «عدوي» ما وإن كان غير موجود. إن «الآخر» بعامة قد فقد جزءًا كبيرًا من «سلامته» وصار فجأةً ضيفًا لا يُحتمل. وليس بالضرورة أن يكون هذا الآخر من فصيلة «البشر»: بل يمكن أن يكون أي كائن مر عليه الفيروس أو استوطنه. يمكن أن يكون هذا الآخر «الناقل» للعدوى أي «كائن تحت اليد» بتعبير هَيدغر، أيَّ أداة من أدوات حياتنا اليومية تحمل توقيع الوباء. إن الآخَرية بعامة قد صارت استعمالًا غير لائق للكينونة. وذلك أن الآخَرية غير المرحب بها قد اخترقت كل شيء؛ لأن الفيروس لا «يستثني» أي نوع من الكائنات الناقلة، أكانت بشرًا أم شيئًا.
ومن ثم لم يعد «المنزل» ملجأً نهرب إليه من «أشخاص» يهددون حياتنا، بل يمكن أن يكون مهربًا من «الأشياء» أيضًا. لكن «البقاء في المنزل» هو فن ضد العدوى وليس موقفًا ضد أحد بعينه. إنه ليس «عزلًا» كما يشير إليه الفرنسيون بمصطلح من القانوني الجنائي (confinement)، فالعزل عقوبة تتمثل في حصر أو تجميع السجناء في زنزانة من أجل «احتواء» خطرهم. ثم صار يعني منع مريض ما من مغادرة غرفته. وفي جميع الحالات هو لا يعني سوى وضع كائن حي في وسط له حجم ضيق أو صغير؛ ولذلك لا عجب أن استعادت الدولة الفرنسية اليوم معجم «العزل» وصارت تعاقب باﻟ «سجن» كل من ينتهك حظر التجول.

لكن المنزل ليس دولة. وليس معبدًا. ومن ثم فإن البقاء في المنزل ليس موقفًا سياسيًّا أو أخلاقيًّا من أحد، كما أنه ليس «فوبيا» هووية ضد الغرباء. هو تمرين ما-بعد-أخلاقي وما-بعد-سياسي على تحويل «البيت» إلى عالم حمائي ضد الوباء ولا يجب أبدًا أن ينقلب إلى حماسة عنصرية كما وقع في الغرب تجاه الصينيين. إن الأمر يتعلق بحد أدنى من «سياسة الحياة» من أجل «مجرد البقاء» على قيد الحياة، وليس استقالة من الإنسانية التي تجمعنا بالآخرين.

من أجل ذلك فإن أخطر جانب من التفكير في «مجتمع المخاطر» الذي انتصب فجأة في كل مكان على الكوكب إنما هو وقعه الدقيق على الحياة اليومية لأيٍّ كان في حالة محددة هي حالة «البقاء في المنزل» بوصفه قد صار مطلبًا أمنيًّا للدول، وليس مجرد اختيار شخصي. عندئذٍ يتبين أن المهمة العاجلة المنوطة بأيٍّ كان في بيته، إنما هي الدخول في تمرين ذاتي حيوي من نوع غير مسبوق، وذلك من أجل اكتساب «الأدب الصغير» الذي يجدر بكل «فرد» أن يقوم به في «بيته»: إن البقاء في البيت طويلًا يتطلب تقنية نجاة من الداخل ليس من البديهي توفرها لدى أيٍّ كان. فبعض «الأفراد» يمكن أن ينهار من الداخل لمجرد أن يفقد روابطه العمومية مع الهوية الوظيفية التي يدعيها بالنسبة إلى «آخر» كبير معين. وفي هذه الحالة يمكن الحديث عن اكتشاف جديد لفضيلة «الوحدة» بوصفها وضعًا عالميًّا. ذلك أن البقاء في المنزل ليس عزلة إلا عرضًا. لأول مرة يصبح «المتوحد» نمطًا بشريًّا عالميًّا يؤثث كل ركن من أركان «مجتمعات المخاطر» التي انتصبت بشكل إجباري على «حدود» المنازل. كانت الوحدة في السابق فضيلة أرستقراطية للفلاسفة أو ترفًا أدبيًّا للرومانسيين أو مرضًا نفسيًّا بالتوحد، لكن الوباء العالمي قد جردها من كل قيمة رمزية. فإن الوحدة التي يفرضها الخوف الوبائي من عدو غير مرئي وينتشر بشكلٍ سائل أو هلامي هي وحدة من نوع غير مسبوق؛ إنها عبارة عن تمرينٍ ما-بعد-أخلاقي على التوحد بوصفه حِمية عضوية ضد الوباء، وليس قلقًا وجوديًّا من الكينونة في العالم؛ إذ يحتاج البقاء في المنزل إلى «إيتيقا» جديدة تقوم على «حماية الذات» من الداخل بواسطة الوحدة الحمائية وليس الرومانسية أو المرضية. لكنها ليست بالضرورة وحدة منعزلة، بل يمكن أن تكون فنًّا مخصوصًا يعيد إلى الواجهة معنًى قديمًا جدًّا للحياة هو فن «البقاء». وهو فن توارى عن الأنظار وراء سحابة هائلة من الادعاءات الأخلاقية «غير الحاجية» أو«الكمالية» (من قبيل السعادة والخير الأسمى والتقدم والحداثة …)، بعد أن ظن الإنسان الحديث أنه لم يعد في حاجة إليه. لقد أعاد الوباء أسئلة «البقاء» إلى الواجهة بشكل مرعب، وتلاشت فجأة كل المسائل الأخرى.

ماذا يعني اليوم «أن نبقى في المنزل»؟ أن نلغي علاقتنا اليومية بالعالم، بالفضاء العمومي، وأن نتخلى فجأة عن كل ادعاءاتنا الاجتماعية؟ هذا البقاء ليس نابعًا عن شعور خاص بالقلق أو بالحاجة إلى الوحدة، وهو ليس عملية عزل خارجية. إنه اختيار حيوي من أجل تحقيق مصلحة عامة هي حماية الحياة؛ ولذلك لا يخلو هذا السلوك من مرح معين، مرح المشترك القريب، الذي تردَّم تحت أكوام الحياة اليومية العمومية مع «آخرين» وظيفيين، وليس مع «أجسام» ننتمي إليها. ولأن البقاء في المنزل هو إعادة تنشيط لمنطقة «الوطن» حيث يكون الروح «عند نفسه» كما يقول هيغل، فإنه من المفيد أن نعرف أن هيغل لم يكن يفصل بين أن يكون المرء «عند نفسه» (bei sich) وبين أن يكون «في بيته» (zu Hause)، ولم يكن يرى في الفلسفة غير فن بناء ذلك «البيت الصغير» (Häuschen) في العالم حيث يمكن للإنسان أن يشعر بأنه «عند نفسه» أو «في بيته» أو «في وطنه» (einheimisch) في مقام واحد.

لكن زمن الوباء قد غير من معنى «الذات» بطريقة مرعبة؛ لم يعد يمكن أن نستمد معنى «هويتنا» من أي مصدر آخر غير «أجسادنا» بمجردها، أي كما نستعملها في حياة يومية تخلى عنها «الأخ الكبير» (أكان «جماعة» أخلاقية أو «مجتمعًا» سياسيًّا)، وصار عليها أن تخترع طريقتها الخاصة في «العناية بنفسها»، ليس في أفق الكينونة في العالم، بل «في المنزل». نحن نشهد تكونًا سريعًا لنوع من «الذات المنزلية» في زمن الوباء، ذات تعتبر «البقاء» معركة من لحم ودم، وليس موضوعة وجودية (قلق المصير) أو لاهوتية (الخلاص من الخطيئة) ولا حتى مُشكِلة أمنية حديثة (مقاومة الإرهاب).

علينا فجأة أن نتدرب على مهمة «عالمية» جديدة هي «البقاء في البيت». نوع من الكينونة «مع» العائلة أو مع «من» نحب. ليس بالضرورة أن تكون «مع» أو «مَن» هذه «أنانة» معزولة تشير إلى «أنا» معزول. إن العدد هنا ليس حاسمًا؛ ذلك أنه حتى ولو صادف أن وجد المرء نفسه «وحده» (أي «في حضرة الغياب» لأناس كانوا هنا) في المنزل، أو كان يمكن أن يكونوا هنا يومًا ما، فهو لا يُعَد عند نفسه «وحيدًا» بالضرورة. إذْ يمكنه دومًا أن «يسكن» غياب من يحب دون ضرر يُذكر. ومن ثمة هو سوف يمارس تمرينًا في «البقاء مع» بقية نفسه كما يلتقطها من غياب من يحب، أو من ينتمي إليه، ولا سيما في حالة الغربة أو الهجرة. إن البيت — أي بيت — هو يتميز عن بقية المكان بعامة بأنه مساحة «معية» و«رفقة» و«لعبة غياب». وبذلك فإن بقاء المرء «وحده» في البيت هو مجرد استعارة؛ إذ لا يعني ذلك بالضرورة أنه يعاني من «الوحدة». إنه فقط يسكن مساحة الانتماء إلى نفسه، «هناك»؛ حيث يمكنه أن يعثر من جديد على كل علاقاته بنفسه، وعلى كل أدوات ذاته. ولا يعني الشعور «بالأمان» غير القدرة على «الكينونة-مع» أنفسنا في أي مكان نجح أن يكون لنا «بيتًا»، دون أن يكون الحضور المادي للآخرين عاملًا حاسمًا. ذلك أن «الآخرين» ليسوا خارجنا بالضرورة. والآخر ليس «جحيمًا» إلا عندما يكون «وباءً».

وهكذا فإن البقاء في المنزل ليس «حجْرًا» أو «عزلًا» إلا عندما يكون المطلوب هو «منع» الآخر من الدخول إلى مساحة «الذات» لأنه صار ناقلًا «وبائيًّا» يهدد شكل حياتنا بالانقراض، آخر يهدم حدود المناعة ويتسلل إلى خلايانا من أجل استيطانها. وإنما من أجل ذلك فقط يكتسب «البيت» وظيفة غريبة ضد الأوبئة؛ إنه يتحول بسرعة إلى ورشة تمرين على الامتناع عن كل آخرية موبوءة. لكن ذلك لا يفترض بالضرورة أن نكف عن «الكينونة-معًا» أو عن الانتماء إلى من نحب. إن الوباء يشبه وجهة نظر عدمية من حدث الحياة في الكون يمتد التجديف عليه لدى الفلاسفة والأدباء من الكلبيين القدامى إلى كافكا وسيوران. لكنه كان عدمية «استطيقية» للفرد الذي يعامل الحياة بوصفها مرضًا لا شفاء منه. أما عندما حل الوباء بشكل عالمي وصار يوشك أن يتحول إلى إنتاج نسقي للجثث، فإنه قد جعل كل استطيقا عدمية ترفًا ميتافيزيقيًّا مثيرًا للشفقة.

إن تفشي فيروس كورونا قد فرض علاقة جديدة بمؤسسة «المنزل»، ومن ثم بمهمة «التدبير المنزلي» كما تخيله اليونان. إن «البقاء في المنزل» لم يعد مجرد تصريف «اقتصادي» لمقولة «له»، إنه قد صار «أمرًا» قانونيًّا يهم الحياة مردودة هنا إلى معنى «وبائي». كل جسم غريب هو يحتمل «تعرضًا» ما للعدوى. وفجأة صارت هذه الهشاشة العضوية في حاجة إلى حماية «منزلية» في غياب أي لقاح إلى حد الآن. يبدو أن «المواطن» لم يعد أكثر من مجرد «جسم حي» بلا أي هويات أخرى، ومن ثم صار مطالبا فجأة بالانسحاب من «الفضاء العمومي» إلى دائرة «الحياة الخاصة» في معنى غير «حقوقي» تمامًا. إذْ لم يعد يتعلق الأمر بحماية «الحقوق الفردية» للدول التي قامت من أجل حراسة السوق الديمقراطية، بل فقط بالبحث الشخصي عن «مأمن» أخير من الوباء الذي يسخر من كل مكاسب الفرد الحديث. ومن الواضح أن الحياة الحديثة القائمة على «الفضاءات العمومية» و«المرافق العامة» كانت قد دفعت «المواطنين» إلى تقليص علاقتهم «المنزلية» بأنفسهم أو حتى التخلي عنها، وحولتهم تحت مقولة «المجتمع المدني» إلى كيانات «عمومية» صرفة؛ حيث إن «المنزل» قد انحصر في تلبية حاجات شبه حيوانية من قبيل «النوم» و«الراحة» واللقاء المؤقت مع «الأهل». لقد انحصر المنزل في وظيفة الاستراحة من متاعب الفضاء العمومي.

لكن الخوف المطبق من الوباء قد أعاد إلى المنزل وظيفته البدائية: الحماية من خطر الانقراض تحت تهديد «حيوانات» مفترسة أو متوحشة سائبة في الجوار. صحيح أن «التوحش» قد أخذ دلالة أخرى، لكن الخوف من الانقراض لم يتغير. لذلك نحن نشهد عودة مثيرة للعلاقة «الكهفية» بأجسادنا: حيث يتحول «البقاء في المنزل» إلى تنشيط صريح، قانوني وأمني، لمقولة «العودة إلى الكهف» فيما لم يفكر به أفلاطون: فنحن لا نعود إلى الكهف من أجل تحرير السجناء باسم «خارج» يعدنا بسعادة الحقيقة، بل من أجل «البقاء في الكهف» مؤقتًا؛ لأن العالم الخارجي، الذي صار يعاني من خيبة أمل مزعجة من «الحرية»، قد صار خطرًا على الأجساد، في عصر لم يعد فيه خلود النفس مطلبًا ميتافيزيقيًّا لأحد. وإذا صح أن الفيروسات هي في سلم تاريخ الحياة مواد وراثية ظهرت قبل البشر على الأرض فإن الأدب المناسب لمقاومتها لا بد وأن يكون «بدائيًّا» …

١  Alasdair MacIntyre, After Virtue: A Study in Moral Theory (University of Notre Dame Press, 1981). وقد صدرت ترجمة عربية لهذا الكتاب عن طبعته الثالثة (٢٠٠٧م): ألسدير ماكنتاير، بعد الفضيلة؛ بحث في النظرية الأخلاقية، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، ٢٠١٣م.
٢  Alasdair MacIntyre, After Virtue, op. cit., p. 2.
٣  Ibid., p. 2.
٤  Ibid., p. 10.
٥  Ibid., p. 11.
٦  Ibid., p. 11.
٧  Ibid., p. 12.
٨  Ibid., p. 22.
٩  Ibid., p. 23.
١٠  Ibid. p. 36 sqq.
١١  Ibid., p. 41.
١٢  Ibid., p. 42.
١٣  Cf. Jacob Rogozinski, Ils m’ont haï sans raison, De la chasse aux sorcières à la Terreur (Éditions du Cerf, 2015).
١٤  Cf. Michel Crouzet, La Vie de Henry Brulard ou L’enfance de la révolte (Paris: Libr. J. Corti, 1982), p. 28. “L’exaltation du principe haineux comme principe d’existence: je hais donc je suis”; André Glucksmann, Le discours de la haine (Paris: Plon, 2004); “Je hais, donc je suis: la construction sociale du conflit” IVe Rencontre européenne d’analyse des sociétés politiques. www.fasopo.org.
١٥  قارن فريدريتش نيتشه، في جنيالوجيا الأخلاق، ترجمة فتحي المسكيني، تونس، دار سيناترا، ٢٠١٠م: عن الكراهية (I: ٧، ٨، ١٥، ١٦)، وعن الضغينة (I: ١٠-١١ن ١٣-١٤، ١٦؛ II: ١١، ١٧؛ III: ١١، ١٤–١٦).
١٦  Cf. Jean-Luc Nancy, La haine, le sens coagulé (2013). http://www.coe.int/documents/16695/1433458/Jean-Luc+Nancy+LA+HAINE.pdf/, p. 1.
١٧  Cf. Jean-Luc Nancy, La haine, le sens coagulé (2013), op. cit.
١٨  Hannah Arendt/Martin Heidegger, Briefe 1925-1975, Vittorio klostermann GmbH, Frankfurt am Main, 2004.
تمت ترجمة هذه الرسائل إلى العربية: رسائل حنَّة أرندت ومارتن هَيدغر ١٩٢٥–١٩٧٥م، تعريب وتقديم حميد لشهب، بيروت، دار جداول، ٢٠١٤م. ملاحظة: ترد جميع الإحالات على هذا الكتاب داخل المتن.
١٩  Cf. Octave Larmagnac-Matheron, “Surveiller et contenir: Foucault à Wuhan,” in: Philosophie Magazine. https://www.philomag.com/lactu/resonances/surveiller-et-contenir-foucault-a-wuhan-42463 Mis en ligne le 07/02/2020.
٢٠  ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة، ولادة لسجن، ترجمة علي مقلد، بيروت، دار الإنماء القومي، ١٩٩٠م، ص٢٠٦.
٢١  Cf. Slavoj Zizek, “My Dream of Wuhan,” in: WELT, Kultur: Veröffentlicht am 22.01.2020. https://www.welt.de/kultur/article205630967/Slavoj-Zizek-My-Dream-of-Wuhan.html.
٢٢  Slavoj Zizek, “Coronavirus: le virus de l’idéologie,” in: BiblioObs, Publié le 06 février 2020. https://www.nouvelobs.com/idees/20200206.OBS24500/coronavirus-le-virus-de-l-ideologie-par-slavoj-zizek.html.
٢٣  Slavoj Zizek, “We’re all in the same Boat now-and it’s the Diamond Princess,” in: WELT-Kultur, Veröffentlicht am 06.02.2020. https://www.welt.de/kultur/kino/article205828983/Slavoj-Zizek-We-re-all-in-the-sam.
٢٤  Slavoj Zizek, “Clear racist element to hysteria over new coronavirus,” in: RT-Question More. 3 Feb, 2020. https://www.rt.com/op-ed/479970-coronavirus-china-wuhan-hysteria-racist/.
٢٥  Jürgen Habermas, Die Zukunft der menschlichen Natur. Auf dem Weg zu einer liberalen Eugenik? Suhrkamp, Frankfurt am Main 2001.
٢٦  Cf. Louis Baudoin-Laarman, Julie Charpentrat, “Non, le coronavirus détecté en Chine n’a pas été créé en laboratoire puis breveté,” in: https://factuel.afp.com/. Mis à jour le Mercredi 29 janvier 2020.
٢٧  Friedrich Nietzsche, Die fröhliche Wissenschaft (“la gaya scienza”). Vorrede zur zweiten Ausgabe, 1887, § 2.
٢٨  Ibid.
٢٩  Ibid.
٣٠  Ibid.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤