الفصل الخامس

دين الأشياء الصغيرة

(٢٣) ماذا يفعل فيلسوف على عتبة المسجد؟

محنة ابن رشد

وقعت محنة ابن رشد سنة ١١٩٥م في حقبة ما قبل الحداثة على خط تاريخي يمتد من إدانة سقراط سنة ٣٩٩ق.م. (بتهمة التجديف على آلهة المدينة وإفساد الشباب) إلى إدانة غاليلي سنة ١٦٣٣م (من قِبل محاكم التفتيش التي اتهمته بالهرطقة؛ لأنه ناصر نظرية كوبرنيكوس عن مركزية الشمس). أما تهمة ابن رشد، كما هو مذكور في نص المنشور الذي تلا المحاكمة أو في سرديات المعاصرين له، فهي تتعلق هي أيضًا بالمس من دائرة المقدس إما في شكله الديني (حيث يُذكَر أنه ضمن أحد شروحه لأرسطو جملة تقول: «فقد ظهر أن الزهرة أحد الآلهة.»)، أو في شكله السياسي (أنه في شرح كتاب الحيوان لأرسطو قال عند ذكر الزرافة: «وقد رأيتها عند ملك البربر» دون التفات منه إلى عادة الكتاب في تقريظ ملوك الوقت). ربما لا يخلو من دلالة أن هذه محاكمات رسمية؛ نعني: تمت تحت لواء السلطة الحاكمة، تلك التي تملك سياسة الحقيقة في زمانها، ولكن أيضًا أنها موجهة ضد شيوخ سبعينيين وليس ضد فتيان طائشين، ومن ثم هي خالية من أي مقصد تأديبي أو تربوي. إنها إدانات مقصودة من أعلى هرم رمزي في ثقافة أو في عصر ما. وذلك يعني أنها محاكمات بلا أفق أو لا تقبل أي نوع من التسوية، من فرط أنها ناتجة عن تصادم بين سياستين للحقيقة، وليس عن مجرد وشاية بين متنافسين داخل مدينة أو بلاط أو كنيسة.

إن محنة ابن رشد هي بالأساس، ومهما اختلفت سرديات المعاصرين لها، هي محنة فيلسوف وإن كان قد شاركه فيها من لم يكن من الفلاسفة بل كان من الفقهاء وحتى من الشعراء. وحسب ابن أبي أصيبعة (ت. ١٢٧٠م) أن المنصور «ملك البربر»، أو كما صحح ذلك ابن رشد «ملك البرين»، قد «نقم» على ابن رشد مع «جماعة أخر من الفضلاء الأعيان … وأظهر أنه فعل ذلك بهم بسبب ما يُدَّعى فيهم أنهم مشتغلون بالحكمة وعلوم الأوائل». والفلسفة هي، كما تفهم نفسها منذ سقراط، دعوة إلى «العناية بالنفس»، وهذا مطلب عزيز لا يتسنى لأحد إلا إذا «عرف نفسه بنفسه». إن عنصر الخصومة مع فيلسوف هو واضح تمامًا: إنه يتعلق بمستوى المسئولية الوجودية حول ذاته. وما كان يزعج الفقهاء في أي وقت وتحت أي اسم، ليس الإلحاد بل تحرير علاقة المؤمنين بأنفسهم. ولا يكون التفكير حقيقيًّا إلا بقدر ما يتعلق بقصد واحد: تحرير علاقة الناس بأنفسهم. وبالتالي لم يكن ممكنًا تفادي محنة ابن رشد؛ إذْ لا يمكن حل مُشكِلة دينية أو سياسية بواسطة تسوية منطقية أو لغوية.

كان الجوهر الثوري للدين التوحيدي هو نزع الألوهة عن العالم وتحويله إلى مجال تسخير للبشر، هذا انتصاره على الوثنية، وهو قد نجح في ذلك؛ لأنه اخترع للمؤمنين به مجالًا جديدًا تمامًا للإرادة هو مجال التعالي. إن البشر الذي يؤمن بإله خالق، خلق العالمين من عدم، هو بمجرد الشهادة بذلك إنما يستولي على لحم العالم من حوله على أساس أنه مسخر له بلا رجعة. إن البشر بإيمانه بإله خالق هو يكتشف حريته الجذرية تجاه بقية الكائنات من حوله لأنها مجرد آيات على الخالق الذي يؤمن بوجوده. وحسب ابن رشد إن الشريعة لم تأمر بأكثر من تدبر هذا الاكتشاف الأخلاقي الرائع للإبراهيميين، نعني التكريم الذي نالوه سلفًا بموجب أنهم مدعوون إلى تحمل أمانة الاستخلاف على العالم من حولهم، وليس من وسيلة مناسبة لأداء هذا التدبر وفهم كنه هذا التكريم مثل استعمال العقل، أي الاعتبار، وهو تعبير قرآني مهيب.

إلا أن هذا الوضع الأصلي للتكريم قد طمسه الفقهاء وتحول الدين إلى تجارة سياسية لا يحتاج فيها المؤمن إلى عقله، بل فقط إلى طاعته. وهنا نفهم مغزى تشبث ابن رشد بالفلسفة؛ فإن الجوهر الثوري في الفلسفة هو نزع القداسة عن الدين وتحويله إلى مجال تأويلي مفتوح أمام العقول التي تتدبر معانيه دون وجل أو خوف. إن الفلسفة هي فن الاستغناء عن القداسة في فهم مقاصد الشريعة، لا يحتاج العقل إلى أي نوع من التقديس حتى يفهم. ولأنه لا يمكن محاكمة العقل إلا بسلطة تتعالى عليه لجأ الفقهاء إلى خلق هالة تقديس غريبة عن الدين في أول أمره بوصفه في جوهره دعوة إلى التدبر والاعتبار في الآيات وفي أنفسنا.

كان ابن رشد درسًا أكثر منه نظرية: هو درس في تشخيص الإشكال الذي يرهق العلاقة بين العقل والتعالي في عصر الملة، والذي ما زال مستمرًّا إلى اليوم. ومحاكمة العقل هي مقام افتضاح التصادم السياسي على أرضية الملة بين الفلسفة والفقه، وهو سياسي فقط لأنه في سرِّه تصادر بين نمطين من «العقلنة»: بين عقلانية «الاعتبار» وعقلانية «التكليف»، وليس كما يُقال بين «العقل» و«النقل». أما رهان هذا النزاع فهو السؤال عمن يحق له السيطرة على مجال التعالي لأنه هو المضمار الذي تجري فيه المعركة بين مؤسسة الحقيقة وتجارب الحرية في كل عصر.

لم تكن العداوة بين الفلسفة والفقه صدامًا همجيًّا بين العقل والنقل بل كان نزاعًا ذكيًّا ومركبًا بين تأويلين متنافسين على مجال التعالي، أي على نوع العلاقة مع الحقيقة. ولأن كل نوع من العلاقة مع مؤسسة الحقيقة يفترض تصورًا سابقًا وعميقًا عن السلطة، فإن نزاع التأويلات حول مجال التعالي هو دومًا وسلفًا مُشكِل سياسي، حتى وإن كان غير مطروح أو معرَّف على أنه كذلك. وإن المُشكِل السياسي هو في أعماقه، ومنذ أول أمره، نزاع حول الحقيقة، أي حول الطريقة المناسبة للسيطرة على مجال التعالي الذي يشتق منه البشر كل أنواع الحرية التي يصبون إليها. ومن هنا يتأتى أن كل تفكير حر، أي كل تدبر أو اعتبار للتكريم الإلهي للبشر، هو يوحي سلفًا بأنه ينطوي على خطر ضمني أو صريح على مؤسسة الحقيقة السائدة. كل تفكير حر هو منافسة على تمثيل الحقيقة في ثقافة ما. وهي منافسة تتم دومًا مع «الشريعة» السائدة، أي مع الشكل القانوني السائد لحراسة مؤسسة الحقيقة. وهو أمر لا يتحقق أبدًا إلا بقدر ما تنجح تلك الشريعة هي بدورها في تطوير جهاز العقل داخلها. ولذلك فإن العقل ليس حرًّا بالضرورة. لكنه جهاز مؤسساتي دومًا.

وهكذا فإن محنة ابن رشد ليست محنة العقل بل محنة الحرية. لم يكن استعمال العقل لدى ابن رشد يمتلك أي تفوق إبستمولوجي على جهاز العقلنة الذي تأسس عليه الفقه. وما تمت محاكمته أو نفيه إلى أليُسانة، مدينة اليهود، ليس العقل بل الجرأة على النظر في الموجودات على نحو يخرق محظورات الفقهاء عن الاقتراب من مجال التعالي من دون وصاية أو حراسة رمزية من مؤسسة الحقيقة السائدة. لم يكن ابن رشد خطرًا على منطق الملة لأنه استعمل العقل وليس النقل (فالفقهاء أيضًا عقلانيون بشكل مفزع) بل لأنه تجرأ على ممارسة نوع غير ديني من التدبر والاعتبار لمجال التعالي بحثًا عن الحقيقة ما وراء التكاليف الفقهية.

ومع ذلك لم يكن مُشكِل ابن رشد هو دحض الدين بل إنقاذ حقيقة الوحي من المأزق الميتافيزيقي الذي فرضه الفقهاء: إفراغ مجال التعالي من الاعتبار؛ أي من حرية البحث عن الحقيقة بأنفسنا. والفلسفة هي حراسة إمكانية الحقيقة المتاحة في ثقافة ما. لكن محاكمة ابن رشد، والتي تمت في المسجد الجامع الأعظم في قرطبة، وتحت نظر الخليفة وخطبة القاضي، هي قد فضحت كل وعود الملة عن الحقيقة: أن إله الفقهاء لا يقبل مخالطة مجال التعالي إلا بعد إفراغه من الاعتبار، أي من حرية الناس في معرفة أنفسهم. لم تكن محاكمة للفلسفة اليونانية بل محاكمة لحق المؤمنين في التفكر الحر من أجل اقتراح علاقة خاصة بمجال التعالي الذي نبه عليه الوحي. و«نكبة ابن رشد» (كما سماها بنفسه) قد بينت أنه لا معنى لمحاكمة الإلحاد لأنه سيكون عندئذٍ تدينًا بلا موضوع، بل ما تتم محاكمته في كل مرة باسم الملة هو حرية الاعتبار؛ لأنها تضع مؤسسة الحقيقة السائدة موضع امتحان. كان طموح ابن رشد هو نفسه طموح الفلاسفة في عصور نهاية الملة، طموح سبينوزا اليهودي أو كانط المسيحي لاحقًا؛ توسيع مساحة الاعتبار حتى تشمل جميع الأمم ويصبح النظر في الموجودات بعامة نظرًا بالنيابة عن جميع الإنسانية، ومن ثم جعل الإله التوحيدي منسجمًا مع ماهية الإله الميتافيزيقي؛ أي تحويل معنى الإله إلى مفهوم، وذلك حتى يصبح النقاش الدنيوي حول الألوهة ممكنًا، أي يمكن السيطرة على مفاعيله السياسية.

إن المحاكمة نزاع رمزي حول أحقية التمثيل: من يمثل أو من يحق له أن يمثل سلطة الحقيقة في أفق الملة؟ وكل مفكر «حقيقي» — أي بصدد تطوير نظرية عن الحقيقة — هو منافس استراتيجي لنظام الحقيقة السائد في أذهان شعب أو مجتمع ما. لكن ذلك يعني أن محاكمة المفكرين ليست خطأ أخلاقيًّا ما دامت هي تجربة حاسمة في علاقة كل ثقافة بنفسها، أي بقدرتها على حماية ادعاء الحقيقة الذي يبرر وجودها التاريخي من الداخل. ولا معنى لأن نرفض محاكمة مفكر ما ما دامت هذه المحاكمة هي ليست فقط الدليل الوحيد على أصالة تفكيره، بل هي الفرصة التاريخية الحاسمة التي تعلم شعبًا أو مجتمعًا «حدود» سياسة الحقيقة داخله. إن ابن رشد ليس شخصًا بل موقفًا كان لا بد أن يظهر في نطاق الملة كما ضبطها الفقهاء. ومن أراد أن يكتب تاريخ الحقيقة في مجتمع ما عليه أن يضع أفقًا لفهمه تاريخ محاكمات الفكر الحر التي حدثت في نطاقه. فكل محنة يتعرض لها مفكر أو عالم أو كاتب أو شاعر أو حتى نبي، هي لا تعدو أن تكون طورًا من أطوار فكرة الحقيقة وعلاقة الناس بالحقيقة في ثقافة ما. لا تتطور فكرة الحقيقة إلا بقدر ما تتعرض إلى محاولات التحرر من سلطتها.

لقد آن الأوان أخيرًا لكتابة تاريخ الحقيقة الذي تأسست عليه كل تجارب أنفسنا العميقة إلى حد الآن. ولعل أول إجراء عاجل من شأنه أن يساعدنا هنا هو كتابة تاريخ محاكمات الفكر والمفكرين التي حدثت في ثقافتنا منذ تحولها إلى مؤسسة رمزية تدافع عن نفسها. أجل، بعض الشعوب ربما لم تعرف محاكمات فكرية؛ لأنها توجد خارج تاريخ العقل. ولذلك ليس تهمة أخلاقية أو حضارية أن تحدث محاكمات، لكن التهمة في أن يؤدي ذلك إلى هزيمة العقل. ذلك أن بعض الانتصارات تحتاج أولًا إلى حدوث المعارك القصوى؛ نعني معارك الحقيقة. ولم تكن محنة ابن رشد إلا واحدة من تلك المعارك التي لم نؤرخ لها بعدُ إلا عرضًا.

(٢٤) متصوفون بلا آخرة

حين تشير اللغات الغربية إلى معنى «التصوف» هي لا تعول على أي ذكر للباس أو لزي بعينه، بل هي تعود إلى لفظ يوناني هو (μυστικός، mystikos)، الذي يعني «السر»، والمشتق من جذر بعيد هو (μύστης، mústês)، الذي يعني «المطَّلع على سر» ديانة قديمة، والمشتق هو نفسه من جذر أقدم هو (μύω، múô)، الذي يعني «أغلق» (بصره أو فمه …). ما هو «مسطيقي» في لغات الغرب هو ما هو «متعلق بالأسرار»، «مرتبط بالألغاز»، «ملقن بشكل سري»، و«مستغلق»، ومضنون به على «غير أهله». يشير إلى «معنى خفي»، «مبهم»، لا يمكن الإحاطة به، ومن ثم إلى «لغز» لا يمكن حله، ومن ثم، ربما، إلى أمر لا يخلو من «شبهة» أو «ريبة» ما.
وعلى عكس نشأة مصطلح «التصوف» بالعربية، الذي يبدو أنه لا يخلو من ضرب من «سياسة المرئي»، نجد أن mysticism (وتنويعاتها في الألسن الغربية) نزعة روحانية تشتغل على «اللامرئي» باعتباره ميدانًا «سريًّا» لنوع من «الانتماء» أو «الجماعة» يمتلك صلاحية أخلاقية فريدة من نوعها. لا ينحصر الأمر، إذًا، فيما هو خفي أو مخفي عن حاسة النظر البشرية، بل ما هو خفي عن «أرواحنا» أو «عقولنا» نفسها؛ لأنه يشير من مكان لا يمكن لبشري أن ينظر منه. إن المُشكِل «طوبيقي» هنا، وليس «بصريًّا» فحسب. وفي الردهات المتأخرة من العصر القديم تم تكريس معنى فلسفي للتصوف يشير إلى تيار ديني-متفلسف يعتمد المواجيد (Ekstase)، و«التمارين النُّسُكية» و«الرؤية ما وراء العقل»، وكلها أمارات على نوع من «الاتصال المباشر» بين النفس الإنسانية وبين مساحة الألوهية. وهكذا كان مجال التصوف مختلطًا منذ بدايته بنوع من الحرية الروحية، التي لا تخلو من اصطدام مع الوضع اللاهوتي القائم. حرية تكمن أصالتها في مزج جريء وبعيد الغور بين مخالفة السائد الديني باعتباره مجرد «دين للعوام» وبين مباشرة تجربة التأله باعتبارها نمط الدخول الوحيد في ميدان الله فيما أبعد من كل ما هو بشري إلى الآن.
لكن التصوف ليس معطًى روحيًّا جاهزًا، بل له تاريخ سري ومعقد وطويل الأمد. فالأمارات الصوفية لا تخلو منها حضارة، من آسيا إلى اليونان، ومن اليونان إلى الإبراهيميين، لكن الشكل الأوروبي من التصوف لم يظهر قبل الأفلاطونية المحدثة. ويُعد أفلوطين (٢٠٥–٢٧٠ بعد المسيح) هو من أعطى البِنى والمقولات والأطر الإشكالية التي ألهمت تجربة التصوف في العصور الوسطى قاطبة، دون أي تمييز بين الملل. قال أفلوطين، في إحدى التاسوعات (IV، ٨): «كثيرًا ما أصحو إلى نفسي، وقد تخلصت من جسمي، غريبًا عن أي شيء آخر، في باطنية نفسي، فإذا بي أرى إلى جمال كأقصى ما يكون روعةً. وإذا بي مقتنع تمامًا بأن لي مصيرًا أعلى من وجودي، وأن فعلي هو أعلى درجة من الحياة، وأنني متحدٌ مع ما هو إلهي …». الجديد مع أفلوطين هو: الإشارة نوع من «الصحو» يوجد على مستوى «النفس»، ولا علاقة له بيقظة الجسم. ومن أجل بيان هذا النوع الإلهي من «الصحو» يميز أفلوطين بين ثلاثة أنواع من «النفوس»: نفس دنيا موصولة بالجسم ذات طبع نباتي، ونفس متوسطة تجد طبعها في الحركة بين الأعلى والأدنى، وهي «ما نحن أنفسنا»، وأخيرًا نفس عليا تتطبع كأقصى ما يكون بالفكر المحض أو العقل، وهي وحدها مؤهلة للتأمل. وتجربة الصحو تبدأ من انتباه النفس الوسطى إلى ما هو باطني فيها، فإذا هي مدعوة إلى نوع من «الانقلاب»، أو التلفت إلى نفسها بمجردها، واكتشاف «وحدتها» العميقة بعيدًا من تشتت الجسد. هذا الاكتشاف للنفس هو أول خطوة نحو الانتقال إلى مجال التجربة الصوفية. إن «النفس» عضو فحسب في جماعة روحية أوسع نطاقًا. هي تضم، بحسب أفلوطين، النفس والعقل والواحد. وهي ما سماه فورفريوس «الأقانيم» الثلاثة. وهنا يتم تحديد التجربة الصوفية، في أول صياغة لها، بأنها عبارة عن معراج متدرج نحو الاتحاد مع الله.
يقول فورفريوس الصوري (٢٣٤–٣٠٥م): «إنه بفضل هذا الإشراق، كما تحت تأثير مارد ما، الإشراق الذي يصعد غالبًا عبر العقل إلى حد الواحد وما وراء ذلك، متبعًا في ذلك سبيل أفلاطون التي أشار إليها في محاورة المأدبة. هو [أي أفلوطين] قد رأى الله الذي ليس له شكل ولا جوهر؛ لأنه يقع ما وراء العقل والمعقول … كان أفلوطين أقرب ما يكون إلى رؤية الهدف. كانت الغاية والهدف عنده هي الاتحاد الحميم مع الإله الذي هو فوق كل شيء. وأثناء الفترة التي كنت معه فيها، هو قد بلغ هذا الهدف أربع مرات.»
ما تم، ربما منذ القديس أوغسطين (٣٥٤–٤٣٠م)، هو عملية «تنصير» لأفكار أفلوطين، ثم لاحقًا تهويده و«أسلمته» … كان الأمر يتعلق منذ أفلوطين بنوع من «اكتشاف الألوهية»، وبتعبير أفلوطين اكتشاف «الواحد» والدخول في اتحاد معه. نحو سنة (٥٠٠م)، ظهر كتاب يكرس كل تلك المعاني تحت عنوان (اللاهوت الصوفي) (mystica theologia) يُنسب إلى راهب سوري.

بيد أنه في كل التلوينات التي عرفها تاريخ التصوف، عندما انتقلت تجربة اكتشاف الألوهية والاتحاد معها من الأفق الوثني (أفلوطين) إلى الأفق التوحيدي من أوغسطين إلى مَيستر إيكهرت (١٢٦٠–١٣٢٨م)، أمكن للدارسَيْن أن يميزا بين جناحين متباينين للتصوف: بين تصوف «أرثوذكسي» مرتبط بالكنيسة الإقطاعية (من نوع تجارب برنار فون كليرفو، ألكسندر فون هاليس، بونافنتورا …)، وتصوف «هيتروذوكسي» مخالف للعقائد السائدة، يؤسس تجربة على مذهب الحلول أو وحدة الوجود بين البشر والإله. وأهم أركان هذا التصوف «البانثيوسي» إقرار المساواة الأنطولوجية بين الناس أمام تجربة التأله. لا يحتاج البشر إلى أي وساطة كهنوتية أو كنسية بينهم وبين الألوهية، بل إن كل المراسم اللاهوتية المتبعة لنيل الغفران أو تحقيق الخلاص زائدة على اللزوم الروحي. وهذا النوع من التمرد الصوفي كان مصدر إلهام عتيد وعميق بالنسبة إلى كل الحركات المعارضة والثورية والطوباوية والهرطقية في فجر الأزمنة الحديثة الأوروبية. وإلى هذا الفصيل تنتمي أسماء من قبيل: ألماريش فون بينا، ر. بيكون، دافيد فون دينانت، مَيستر إيكهرت.

بيد أنه منذ أن تم في القرن السابع عشر توطيد دعائم الفيزياء الرياضية (غاليلي، نيوتن …) والعقلانيات الفلسفية الكبرى الحديثة (ديكارت، هوبز، سبينوزا، ليبنتز، كانط …)، تغيرت منزلة المقولات الصوفية، وتم طرح مشاكل صوفية جديدة لم تعد تعول على حلول «النفس» في «الألوهية»، بل صارت مرتبطة بمدى قدرة الفلاسفة (ولا سيما سبينوزا، وهيغل، وشيلنغ، وشوبنهاور، وكيركغور …)، على الاستلهام الصوفي من أجل تأسيس أو تملك أو تحرير نمط الحقيقة الذي تفرضه التصورات الحديثة للطبيعة وللإنسان والمجتمع والتاريخ … أما المتصوفة أنفسهم فقد صاروا منبوذين من اللاهوت الكنسي. وتم الانتقال من «التصوف اللاهوتي» إلى «التصوف العلماني» الذي اخترق تجارب المعنى لدى أخطر الفلاسفة منذ الرومانيين الألمان (شيلنغ) إلى شوبنهاور، ونيتشه، وفتغنشتاين، وهايدغر، وربما دريدا (اللاهوت السالب) وفاتيمو.

دافع باسكال عن «نزعة تقوية راديكالية»، وظهرت نزعة إلى المماهاة بين «حدس الله» و«حدس الطبيعة» (جيوردانو برونو/سبينوزا). لقد تم تحرير الله من الدين السائد وإعادته إلى حقيقته الصوفية. إن قولة سبينوزا الشهيرة Deus sive Natura (الله أو الطبيعة) هي أكبر مكسب ميتافيزيقي في نطاق سياسة الحقيقة في أفق الإنسانية أمكن استلهامه من تجارب التصوف إلى حدود القرن السادس عشر (حيث إن جيوردانو برونو الأخ الدومينكي قد أُحرق حيًّا في ساحة روما سنة ١٦٠٠م، متهمًا ﺑ «الإلحاد/القول بالحلول»، لكونه قد دافع عن فكرة صوفية، «بانثيوسية»، تتمثل في الاعتقاد الفلسفي في أن «الكون لامتناهٍ، لا مركز له، مأهول بعدد لا يُحصى من العوالم التي من جنس عالمنا»). ما فعله سبينوزا، انطلاقًا من «حلولية» برونو، هو إخراج الله أصلًا من نطاق المعتقد الديني، وتنزيله في أفق تجربة صوفية بانثيوسية للطبيعة، الميدان الجديد الذي اكتشفته الفيزياء الغاليلية وقرأته ﮐ «كتاب مكتوب بأحرف رياضية». كل معتقد ديني هو، بحسب سبينوزا، «تشبيهي»؛ أي يقيس الله على مقياس التخيل البشري لكل ما هو «جسم». والإنسان هو بالتحديد «كائن متخيل»، وليس له من مدخل إلى تصور «اللامتناهي» إلا أن يرى الأشياء من وجهة نظر «نوع ما من الأبدية»؛ أي أن يقتبس من القدرة الإلهية التي تعبر عن نفسها في «الطبيعة الطابعة» في كل شيء ما يمكنه من معرفة الله حقًّا. على الإنسان أن يفهم أنه «جزء من القدرة الإلهية»، وأنه جزء من ماهيته. وذلك يعني أن يكف عن تصور الإله بشكل «ديني»؛ أي وكأنه كائن أو جسم «يتعالى» على العالم ويوجد «خارجه»، بل أن يقبل أن الله في كل شيء، وأن كل شيء في الله، ومن ثم أن الإنسان قطعة لا تتجزأ منه، ومن ثم أنه حر حرية إلهية لا ينبغي لأي سلطة أن تسرقها منه. قال سبينوزا: «كل ما يوجد، يوجد في الله، ولا شيء يمكن تصوره من دون الله». هذا يفترض أن الله ليس حاكمًا يجلس خارج العالم من أجل محاسبتنا. إنه ليس «شبهًا» لنا نعطيه صفتنا من قبيل الوجه واليد والإرادة … إلخ. كل الأديان التوحيدية انتهت إلى نزعة تشبيهية لا تدرك من الله إلا ما يدركه التخيل البشري. وأخطر مظهر تشبيهي هو فهم الألوهة على قياس البشر؛ أي بشكل «غائي» أو «نفعي». والحال أن الله طبيعة أبدية حرة على الإنسان أن يدركها على مقاسها، وليس على مقاس تخيله. الله غير محتاج إلى البشر حتى يوجد كما هو. قال: «هذا الموجود الأبدي واللامتناهي الذي نسميه الله أو الطبيعة يفعل بالضرورة نفسها التي يوجد بها … لكونه لا يوجد لأي غرض بعينه، فهو لا يفعل لأي غرض بعينه، ومثل وجوده إن فعله لا مبدأ له ولا غرض.» وهكذا، كل ما «يوجد»، أو كل ما هو «واقع» هو كامل؛ وذلك لأنه متأتٍّ من الجوهر الإلهي؛ أي من الطبيعة.

بقي أن علينا أن نتساءل: ما نوع الحرية التي يعدنا بها التصوف الأوروبي؟ تلك التي لا يمكن لأي دين نظامي أن يفي بها؟ وإلى أي مدى نجحت أشكال التصوف عبر التاريخ الروحي للإنسانية في مساعدتها على مقاومة التعصب الرسمي للدول الدينية، سواء أكانت موجودة أم منشودة؟

ربما علينا أيضًا أن نميز بشكل حاسم بين تصوف الأديان العالمية/أديان الإله الشخصي، مثل المسيحية أو اليهودية، وبين تصوف الثقافات الروحية التي لم تعرف مذهب الإله الشخصي، وظلت تكمل مسيرتها الخاصة خارج أفق الأديان التوحيدية. وهو تمييز يقودنا قهرًا إلى هذا التساؤل: ما الفرق بين تصوف يدور حول مركزية تجربة الإله، وبين تصوف لا يعرف هذا النوع من المركزية اللاهوتية؟ بين تصوف لاهوتي وتصوف روحاني؟

هذا النوع من الأسئلة تكمن أهميته المزعجة في كون التصوف الأوروبي قد عاد إلى واجهة الانشغال الحاد في كتابات «ما بعد الحداثة»، ولكن هذه المرة في أتون غزل واضح ومتنوع جدًّا مع التقاليد والتقليعات الروحانية الآتية من الشعوب الآسيوية، ولا سيما البوذية والزِّن والطاويَّة. أَهذا أمارة أخيرة على الجفاف الميتافيزيقي في الغرب، أم هو أخطر من ذلك: دليل على انحسار غير مسبوق في الطاقة الإلهامية للتراث الصوفي الداخلي للأديان الإبراهيمية؟ أليس في ذلك إشارة ما إلى أن وجهة البحث عن مخرج من عودة «الإرهاب» الديني إلى الواجهة قد تغيرت وانتقلت إلى الحضارات التي لم يؤدي فيها الإله التوحيدي أي مركزية روحية؟ إن التصوف الآسيوي قد أخذ يفرض نفسه باعتباره وجهة الحل الوحيدة لمقاومة المصادر اللاهوتية التوحيدية لكارثة الإرهاب. ولكن هل يمكن للتصوف أن يحرر المقدس من تاريخه اللاهوتي؟ هل يمكن للمتصوفة أن يصلحوا ما أفسده الدعاة أو الكهنة ما بعد المحدثين؟

يبدو أن رهان التصوف الحر ما بعد الديني، الذي أخذ يمارسه أشخاص أبعد ما يكونون من التدين المحترف، هو بلورة نمط غير مسبوق من الإيمان يمكن أن ننعته بأنه إيمان بلا «حدود»؛ أي من دون مؤسسة عقاب، بلا دينونة ولا آخرة ولا شعور بالذنب، إيمان بلا شياطين ولا جحيم. ولكن ما معنى أن نؤمن بالله التوحيدي دون أن نؤسس هذه القيمة الرائعة على الخطيئة الماضية أو الآخرة الآتية؟ كيف نقيم علاقة اتصال روحي حر لا يشعر بأنه مدين بأي شيء، ولا بأنه خائف من أي شيء؟ هل يمكن للإيمان الحر أن يصالح الفانين مع فكرة الموت؟ كيف يجدر بالفلسفة أن تؤرخ لمعنى الآخرة؟ ولماذا يفاجئنا «الآتي» في كل مرة؟

على الرغم من كل ما قيل عن نسبة الزمن التاريخي، ومن ثم نسبة مفهوم المستقبل إلى التقليد المسيحي، فإن الإنسانية الحديثة وحدها هي التي طورت مفهومًا صريحًا عن المستقبل، وذلك بفضل نظريات التقدم التي نجمت عن إنشاء فلسفة التاريخ على أساس فلسفة الذات. قبل الأزمنة الحديثة كانت الإنسانيات، ولا سيما التوحيدية منها، تعول على «الآخرة» وليس على «المستقبل». قد يُقال: إن الآخرة بلا تاريخ، أما المستقبل فلا يمكن تصوره من دون مفهوم مكرس عن التاريخ، وإنه من السخرية الكلام عن تاريخ الآخرة، ووحدها الإنسانية تؤرخ لوعيها بالزمان باعتباره قائمًا على علاقة بنيوية بإمكانية المستقبل.

لكن الوضعية ما بعد الحديثة يبدو أنها حطمت سردية المستقبل الحديثة، وحطمت معها نظرية التقدم. وهكذا، انتقلنا بالسؤال من تأمين «المستقبل»، الذي نتقدم نحوه، إلى الخوف من «الآتي»، الذي يتقدم نحونا. انتقلنا من فكرة التقدم إلى فكرة الكارثة. قال بنيامين: «إن التقدم هو الكارثة.»

في هذا السياق بالذات، ونعني بعد تعطل سردية المستقبل التي رسمتها نظريات التقدم التنويرية، عادت خطابات «الآخرة» إلى الاشتغال بحدة مريعة، وصار على الفلسفة أن تسائل هذا الضيف الميتافيزيقي المرعب: الآخرة، مطلبًا يوميًّا لهذا الجيل ما بعد الديني الذي بات يهدد جدار المستقبل لشعوب عدة. ولكن ما الآخرة؟

«الآخرة» مصطلح نُحت في سياق معجمي أوسع يضم مصطلحات عدة، فالآخرة (على عكس ما يظن قارئ بلغة واحدة) لها أسماء عدة بحسب الثقافات. لكن نواة المعنى هنا هي فكرة «العالم الآخر»؛ عالم هو بمثابة قبر أخير للإنسانية.

كان اليهود يسمونه شيول «Shéol»، أو «مقر الموتى»، أو «بئر الموتى». والعهد القديم ربما لم يطور مفهومًا مستقرًّا عن «الآخرة» كجهاز روحي صريح. «شيول» يعني، بحسب سفر التثنية (٣٢: ٢٢): «الهاوية السفلى»، وبحسب سفر الجامعة (٩: ١٠) شيول هو «الهاوية»، وهي المصير المشترك لكل البشر؛ سواءٌ أكانوا أخيارًا أم أشرارًا. وكان يعقوب قد بكى على يوسف كل مهجة، و«عندما قام جميعُ أبنائه ليُعزوه أبى أن يتعزى، وقال: «إني أمضي إلى ابني نائحًا إلى الهاوية.»» (أي إلى «شيول»).
إن «شيول» في نصوص العبرانيين لفظة تقابل «هاديس» (Hades, Hádês) عند اليونانيين. وهذا ما وقع فعلًا عند ترجمة الكلمة إلى اللغة اليونانية (في نص الإنجيل). هما لفظان يشيران إلى عالم الموتى، عالم بارد؛ حيث لا تمايز بين الموتى في اللاشيء أو الهباء الذي ينتظر الجميع في آخر الزمان.
وكان هاديس في الأصل هو الأخ الأكبر للإله (Zeus) الذي يحكم السماء، والإله (Poséidon) الذي يحكم البحر. كأن نقول إن الجحيم هو الأخ الأكبر لله التوحيدي. وهكذا كان مصير هاديس أن يحكم ما تحت الأرض، ولُقب ﺑ «سيد ممالك الجحيم» (les Enfers). من الغريب أن اليونان قد سموا الجحيم في الجمع. نحن ليس لنا اسم جحيم في الجمع. هاديس هو حارس الموتى حتى لا يهربوا من الجحيم، أو أن يعودوا لإزعاج الأحياء. لكن يبدو أن اليونان مثل العبرانيين لم يعرفوا فكرة «الحساب» في العالم الآخر. هذه فكرة تُنسب إلى المصريين القدامى. لكن اليونان لديهم أيضًا «فردوس» وثني وهو يُسمَّى (Elysios)، ومنه بالفرنسية (les champs Elysées)، وهو الجزء الرابع من مملكة الموت أو ممالك «الجحيم»؛ حيث يحكم الإله «هاديس»، وحيث تسكن النفوس الفاضلة بعد الموت. ونعثر على وصف شيق له في الأوديسا (النشيد الحادي عشر «زيارة مملكة الموتى»)، وهو له أسماء كثيرة مثل «الجزيرة البيضاء» و«جزيرة الأبرار» …

ومع ذلك يبدو أن فكرة «الشيول» اليهودي قد تطورت في معناها نحو إمكانية الفوز بما سُمي «الحياة الأبدية» كما نرى ذلك في سفر دانيال (١٢: ٢-٣). ربما كان الأسر البابلي هو أصل فكرة «الحياة الأبدية».

بطبيعة الحال، منذ سفر التكوين (٢: ٨)، كان ثمة حديث عن «جنة عدن»، وهو مسكن آدم الأول. لكن الترجمة السبعينية صارت تقول «فردوس عدن»، ودخل لفظ الفردوس (الإيراني-اليوناني) إلى الخدمة؛ وهو يعني في الإيرانية القديمة أو «الأفستية»، لغة الكتاب المقدس الزرادشتي، «الحرم الملكي»، ثم ظهر لدى اليونانيين بمعنى حدائق الملك. وهي حدائق مغلقة حيث توجد حيوانات متوحشة (ذكرها Xénophon). لكن المسيحيين غيروا المعنى الوثني (الفارسي/اليوناني) واخترعوا فكرة «الفردوس السماوي»، واستعملوه كي يعيدوا تأويل وتملك فكرة «جنة عدن» العبرانية الواردة في سفر التكوين.

غير أن هذا يعني أن «الجنة» (مسكن آدم) تقع في الماضي، وليس في المستقبل. زمن الإنسان هو زمن الطرد خارج الجنة. وبحسب سفر التكوين كان الله ينوي إسكان آدم في الجنة إلى الأبد. إذن، كانت الجنة هي مستقبل الإنسان، لكن المستقبل كان له مصير آخر.

يبدو أن «الآخرة» كفكرة موجبة لم تتبلور فعلًا إلا مع الأناجيل المسيحية. وبالتحديد عندما حدث تغيير جذري في مفهوم الموت. لم يعد الموت يقود إلى «الشيول» اليهودي أو «الهاديس» اليوناني؛ أي إلى ظلال العدم. وإن المسيح هو الذي ألقى ضوءًا جديدًا تمامًا على ميدان «الآخرة» عندما اخترع ظاهرة «الشهادة». وحدها الشهادة تفتح السماء نحو الفردوس حيث ملكوت الرب. الشهادة اختراع مسيحي محض. وتم عندئذٍ تنصيب معجم جديد عن معنى «الآخرة»؛ حيث يمكن الانتصار على الموت.

إلا أن علينا أن نذكِّر بأن كل أنواع الآخرة هي محاولات لحل لغز الموت، سواء أكانت وثنية أم توحيدية. ونعني بذلك: هي اختراعات فذة تجرأ عليها البشر؛ أي «الفانون»، من أجل اقتلاع معنى ما عن «المستقبل». وكان الموت دومًا جدار المستقبل حيث تسقط النهايات. وخطة الآخرة هي إحدى خطط المستقبل لدى الإنسانية التقليدية. وهي تقوم غالبًا على اختراع سرديات تجعل الرحلة نحو عالم الموتى ممكنًا. وهو ما حكته ملحمة جلجامش، أو أوديسا هوميروس، أو أسفار العبرانيين، أو أناجيل المسيحيين، أو قرآن المحمديين، حيث نعثر على الصيغة القصوى من تحولات ظاهرة «الآخرة»، التي تبلورت على مدى كل فترات العصر القديم.

فلو فحصنا عن مفردات «الآخرة» في المصحف القرآني لعثرنا على جل المصطلحات التي اخترعتها شعوب الشرق الأوسط القديم، سواء أكانت وثنية كالبابليين واليونان أم توحيدية مثل اليهود والنصارى، من أجل مواجهة مستقبل الحياة بعد الموت.

ويمكننا أن نقسم معاني «الآخرة» إلى ثلاث زمر:

الزمرة الأولى تتعلق بمعنى «الجنة»: جنات عدن – جنات الفردوس – جنات المأوى – جنات النعيم – جنة الخلد – جنة عالية – روضات الجنات.

الزمرة الثانية تتعلق بمعنى «الجحيم»: النار – الهاوية – الشوى – اللظى – السموم – الحُطمة – الجحيم – جهنم – السقر – السعير.

الزمرة الثالثة تتعلق بمعنى «الآخرة»: الآخرة – الساعة – المعاد – اليوم الآخر – يوم البعث – يوم التلاق – يوم الحساب – يوم الخروج – يوم الخلود – يوم الدين – يوم الفتح – يوم الفصل – يوم القيامة – يوم الشهادة – يوم النشور.

هذه التنويعات القرآنية تتبنى البنى الثلاث للآخرة كما تبلورت في العصر القديم، لكنها تُجري عليها تحويرات خطيرة، يمكننا أن نحصرها في ثلاثة: ١. المكان: الجنة والجحيم (في الأصل العبري جهنم من «جي هنوم»؛ أي من «وادي هنوم»، أو وادي جهنم؛ حيث كان اليهود يقدمون أضحيات بشرية للآلهة (سِفر أخبار الأيام الثاني وسِفر إرمياء))، مكانان يتعلقان بنوعين متنافيين من «المستقبل»، وهذا المستقبل اختياري بشكل مرعب. ٢. الزمان: الآخرة «يوم» من الأيام، لكنه يوم فريد من نوعه؛ لأنه لا يتكرر، ولا يمكن أن يُرد. ومن ثَم إن الوعي البشري بالزمان هو إطار مناسب لاختبار القدرة على الآخرة لدى أيٍّ كان. الآخرة عمل تجريبي، وليست نهاية تقع خارج الزمن البشري. ٣. الفعل: إن الآخرة نوع من الفعل، وهو فعل إنجازي أو إنشائي، وليس معطى جاهزًا لأحد: الشهادة، البعث، النشور، التلاقي …

ما هو مشترك بين جميع هذه السرديات السعيُ المطرد نحو تدجين سردي لفكرة الموت في أفق البشر. وذلك بالتحديد في شكل «رحلة» نحو العالم الآخر، عالم الموتى، ومحاولة اختراع وضعية سردية تجعل الموت يتفكك من الداخل، ويتحول إلى إمكانية سردية داخلية في النفس البشرية، وليس خارجها. فما هو مزعج أبدًا في فكرة الموت هو معنى «الخارج» المحض.

على خط واحد إذًا يجدر بالمتفلسف أن يضع تعبيرات «الآخرة» لدى الوثنيين والإبراهيميين: على هذا الخط علينا أن نضع «فردوس» زرادشت، و«حدائق بابل»، و«سهول إليزيا» في أوديسا هوميروس، و«جنات عدن» العبرانية، و«ملكوت» المسيحيين، و«جنات النعيم» القرآنية. كل هذه التعابير الأخروية هي محاولات القدماء في اختراع مفهوم «المستقبل»، الذي يكون بإمكانه أن يقهر فكرة الموت، ويسيطر عليها سرديًّا.

(٢٥) من يهاجم الله في بيته؟

إن من يفجِّر مسجدًا يعجُّ بالمصلين هو يهاجم الله في بيته، ومن ثم يدفع بعلاقتنا مع السردية التأسيسية إلى أقصاها، ويضع مفهوم الدين بعامة موضع سؤال على نحو غير مسبوق. هل دخلنا حرب الأديان ما بعد الحديثة، ما وراء تلك التي وقعت في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت في القرن السادس عشر، دون أن نعلم؟ وما معنى أن يعمد أحد أو آحاد من الناس إلى تفجير مسجد بمصليه من البشر المشاركين له في الملة نفسها؟ أم أن «هذه» الملة هوية سردية قد انتهت منذ وقت طويل ولم يبق منها غير المعابد وينبغي هدمها؟

يبدو الأمر وكأننا في واحد من أفلام الخيال العلمي حول ما بعد نهاية العالم (post-apocalyptic)، تلك التي يمكن أن تتسبب فيها حرب نووية أو هجوم فضائي أو الاصطدام بنيزك أو انحسار المناخ عن الحياة … إلا أننا سرعان ما نستفيق من هذا النبل الميتافيزيقي للخيال العلمي ونجد أنفسنا أمام كارثة من نوع دنيوي تمامًا: كارثة تفجير مسجد من طرف مؤمنين ينتمون إلى نفس الديانة. إنها الملة تفجر نفسها من الداخل. ومن ثم أن هذا الحدث المروع لا يحق له حتى أن ينال شرف التصنيف ما بعد الكارثي، تحت خانة أحداث المستقبل، ولو كانت تهدد الحياة على الأرض. إنه حدث تافه تمامًا، نعني لا ينطوي على أية أصالة خاصة. ومع ذلك هو تفاهة مسلحة ومخرِّبة لإمكانية التعايش بين المؤمنين بإله واحد، فما بالك بالتعايش مع غير المؤمنين به.

قال نيتشه ذات مرة: «حتى يمكن أن يُشيَّد معبد، ينبغي أن يُهدَم معبد آخر». كان نيتشه يقصد بذلك أن خلق قيم جديدة يتطلب دومًا، وهذا بمثابة قانون أخلاقي، أن نمحوَ لوحةَ قيمٍ قديمة. لكن هذا التخريج لا ينطبق على ما يقع لنا. إن جميع الذين يقتلون ويُقتلون هم من ديانة واحدة ويدَّعون تقريبًا نفس الدعاوي الأخروية حول أنفسهم؛ فالمسجد هو آلة أخروية لإنتاج الآخرة. ولذلك يبدو النزاع غريبًا بشكل مرعب: إنه ليس نزاعًا حول ملكية المسجد أو حول تقنيات الصلاة أو مشاريع الدعاء إلى الله، إنه ليس نزاعًا أخلاقيًّا حول معنى الخشوع أو نزاعًا تأويليًّا حول دلالة السجود. إنه ليس نزاعًا حتى حول ماهية السلطة العمومية أو خطة الشرعنة في فضاء المواطنة الحديث، بل فقط هو تفجير لشكل الحياة الذي يوجد داخل باحة المسجد. والشكل الوحيد للحياة داخل المسجد ليس شيئًا آخر سوى الإنسان. لا أحد يمكنه أن يدعي وجود حياة أخرى هناك، مثل النبات أو الحيوان، إذْ أنه لم توجد المساجد من أجل حماية الحيوانات المهددة بالانقراض أو لحماية النباتات النادرة. إن المسجد هو المكان الذي تجتمع فيه مساحة الأرض برمتها تحت جبهة شخص واحد. وهذا شكل من المكان لم يصبح ممكنًا إلا تحت فرضية الإله الخالق، والتي صارت اليوم ادعاء أخلاقيًّا منهَكًا.

لا تقتل التفجيرات التي يقوم بها «مسلمون» إلا أشخاصًا «مسلمين»، مثلهم. ويبدو أنه قد صار علينا منذ الآن أن نضع هذه المسميات بين أهلة وأقواس ومعقَّفات غليظة. إن سردية «الإسلام» حول نفسه قد باتت مهددة على نحو غير مسبوق، وليس ذلك لخطر خارجي من ملة أخرى أو من حضارة ما بعد-دينية، أو من إرادة كولونيالية، أو من الخطر البيو-تكنولوجي للتقدم العلمي، بل فقط هي سردية أصبحت مهددة بالتفكك بسبب حبكتها الخاصة. ثمة أمان سردي وأمان أخلاقي وأمان إنساني لم يعد ممكنًا داخل أفق هذه السردية. وهو أمان تأسيسي للعلاقة بين البشر بعامة، قبل أن يكون أمانًا تأسيسيًّا للعلاقة المحصورة بين «المؤمنين» دون غيرهم. لا تتأسس العلاقة بين البشر إلا على عقد الأمان الأخلاقي فيما بينهم. وإن الطامة الكبرى هي أن يتم فقدان هذا الأمان التأسيسي في أبعد مكان ممكن عن العداوة بين البشر أو بين المؤمنين؛ نعني في حرمة المسجد. ثمة خيط إنساني قد تم بترُه بشكل مفزع عندما نسمع أن «مسلمين» قد فجروا مسجدًا. كيف يمكن إبلاغ هذا الخبر إلى الصحابة أو إلى الرسول محمد؟ كيف يمكن مناقشته أمام «المسلم» اليومي؟ هل يكفي أن نبرئ ذمة السردية التأسيسية من المؤمنين بها؟ إلى أي حد يمكن تبرئة «الإسلام» من «المسلمين» الحاليين؟

إن «من» يهاجم الله في بيته يفاجئنا بانتساب جديد إلى أنفسنا القديمة لم يكن معروفًا إلا داخل تواريخ الطغاة أو سرديات الحروب الدينية. طبعًا، كان ثمة قصة مسجد الضرار الذي بناه جاهلي وأعطى النموذج الأول لسوء استعمال المساجد أو لإمكانية تحويل المسجد إلى فخٍّ أو كمين ميتافيزيقي ليس فقط للمؤمنين بل للنبي ذاته (التوبة، الآية: ١٠٧-١٠٨)، ثم كانت محاولات هدم الكعبة من أزمان تُبَّع وأبرهة الحبشي إلى يزيد بن معاوية، ومن الحجاج الثقفي إلى القرامطة … وكانت يومئذٍ تُرمى بالمنجنيق وقد حوصرت وأُحرقت. إن مهاجمة الله في بيته ليس خبرًا جديدًا إذن. وثمة تقاليد عريقة داخل سردية الملة عن وقائع هدم المساجد على رءوس مصليها وخاصة عن الجرأة الأخلاقية والسياسية على مهاجمة المصلين باعتبارهم أهدافًا حربية ﻟﻠ «مجاهدين». وهذا يعني أن سردية الملة لم تكن تلتزم بتحييد «الأبرياء»، وكان ثمة دومًا تساؤل محرج عمن يكون هؤلاء الأبرياء؟ وهل يوجد أبرياء أصلًا عندما تتم مهاجمة المساجد؟ وربما من المفيد أن نذكر هنا فيلم «البريئات»، والذي يحكي قصة حقيقية وقعت في بولونيا في ديسمبر من سنة ١٩٤٥م تسرد عملية اغتصاب الراهبات المسيحيات من طرف جنود سوفييت ووضعهن لأطفال. من يغتصب الراهبة يكسر الجدار الأخلاقي الأخير للجسد الديني ويهاجم الله في بيته.

إن من فجر مسجد الروضة في عريش مصر في نوفمبر ٢٠١٧م هو يهاجم الله في بيته، ومن ثم يدفع بعلاقتنا مع السردية التأسيسية إلى أقصاها، ويضع مفهوم الدين بعامة موضع سؤال على نحو غير مسبوق. لا يتعلق الأمر بمسجد ضرار حتى نمنع الناس من الصلاة فيه، لا علاقة للأمر بالصلاة بما هي كذلك. بل ثمة سخرية من الصلاة أو تعليق أخلاقي لها يجعل من المصلين أهدافًا سهلة للقتلة. فجأة صارت الصلاة إذن عملًا بريئًا لا يمكن الدفاع عنه. كذلك لا يتعلق الأمر بنزاع مع من يدعي الخلافة ويمارس خطرًا على بيعة يزيد بن معاوية. بل إن المُشكِلة تقع خارج أفق الملة أصلًا. إن تفجير المسجد هو قتل لبراءة المصلين وإجبارهم على مراجعة انتمائهم إلى الفضاء العمومي للدولة الحديثة. هو إذن نزاع حول الفضاء العمومي وليس حول ماهية الدين. يريد الإرهابيون أن ينصبوا فخًّا لبراءة الصلاة وإرباك الأمان الإنساني الذي يأتي المصلون للبحث عنه في باحة المسجد أو لدى الجماعة الروحية التي ينتمي إليها. لم يعد المسجد عندئذٍ مكانًا محيَّدًا، نعني يقع خارج الصراع مع الدولة الحديثة حول شكل السلطة. إن الإرهاب هو إعادة رسم مرعبة لمعنى الإنسان داخل أفقنا. هو عبارة عن تضحية بالإنسان من أجل ولائم لاهوتية تتجاوزه. لأول مرة نشعر أن ثقافة القرابين قد عادت في شكل متوحش. لكن القربان لم يعد نباتًا أو حيوانًا أو حجرًا أو طعامًا، بل استعاد وجهه البدائي، السحيق القدم، عندما كانت المعابد ما قبل الأديان التوحيدية، تضحي بالبشر من أجل الآلهة. وإنه قد آن الأوان لمراجعة ثقافة التضحية بالإنسان من أجل الآلهة. لم يعد هناك أي إله يستحق الموت من أجله. هذا ما خرجت به شعوب الإنسانية الحالية، وصار موثقًا في بيانات حقوق الإنسان العالمية. إلا أن هذا الخبر العالمي لم يطأ أسماع «المسلمين» الأخرويين، ولا سيما منهم أولئك الذين يهاجمون الله في بيته.

ولو حاولنا أن نفهم «عقلانية» التفجير لوجدنا أنفسنا أمام أسئلة مرعبة أخذ يطرحها الدين على المعاصرين من دون تحضير أخلاقي مناسب. ماذا كان يقصد هؤلاء «المجاهدون» عندما هاجموا الله في بيته؟ هل كان الأمر جهادًا ضد الله التوحيدي في عقر داره؟ أم من أجل تحرير المؤمنين به من أنفسهم؟ كان ثمة دومًا تقاليد في القتل المنظم. مثلًا: يوجد مصطلح عسكري فرنسي هو «الجندي الذي يُقتل للعبرة» (soldat fusillé pour l’exemple)، وهو قتل قانوني من أجل إبقاء الجنود الآخرين في حالة الطاعة التامة، وهو ليس قائمًا على إدانة بالقتل بعد قضية وشهود، إلخ. وكان يوجد أيضًا مصطلح القتل العشوائي (décimation)، والذي كان يمارسه الرومان على الجنود الجبناء أو الفارين من الجندية، وذلك بقتل واحد من كل عشرة جنود مذنبين، وتوجد أيضًا عمليات الإعدام العلنية، وهي تقليد انسحب من حياة فرنسا مثلًا، ومُنع قانونيًّا بعد ١٩٣٩م.

لو استأنسنا بهذه الأمثلة لوجدنا أن التفجير «الجهادي» لمسجد الروضة في مصر أو أي مسجد إسلامي آخر، هو حالة استثنائية: أولًا ليس ثمة في تفجير مسجد مملوء بالمصلين والمؤمنين أي «عبرة» لمن يعتبر. قتل المؤمنين ليس عبرة في أي ثقافة. ثم لا يمكن أن يُدَّعى أنه أمر قانوني. ولا علاقة لذلك بالطاعة بالمعنى العسكري؛ لأن المؤمن العادي ليس جنديًّا لأحد. وذلك أن فكرة «جيش الله» هي تناقض في الألفاظ أو استعارة سخيفة. ثم إن تفجير المسجد لا يمكن أن يكون من صنف التعشير الروماني للجنود المذنبين. وذلك على الرغم من الاشتراك في خاصة واحدة هي القتل العشوائي. وهذه العشوائية في القتل هي عنصر جوهري في القتل الجماعي يبدو أن الإرهاب قد نشط نموذجه الأصلي، نعني قتل البدائيين أو «المتوحشين» بوصفهم كائنات فلانية من دون ذوات خاصة ولا هويات شخصية. وأخيرا، يجدر بنا التنبيه إلى أنه على الرغم من أن تفجير المساجد من طرف «الجهاديين» هو نوع من عمليات الإعدام العلنية، فهو ليس عملًا عموميًّا أو ليس جزءًا من أحداث الفضاء العمومي للدولة الحديثة. ثمة إعدام بارد للأبرياء بوصفهم أهدافًا عسكرية، لكن الحافز على ذلك ليس الذنب القانوني أو الجريمة الأخلاقية أو الخيانة السياسية، بل فقط الصلاة بوصفها تطبيعًا دينيًّا مع الحاكم وإن كان «مسلمًا».

هل ثمة يأس أخلاقي أخطر على ماهية الانتماء إلى أنفسنا العميقة مثل قتل المصلين؟ يبدو أن الله نفسه لم يعد آمنًا في بيته. ولكن كيف يجدر بنا، نحن الآتين من المستقبل، أن نُقنع «المسلمين» بعدم الإسراف في قتل «المؤمنين» من أبناء جلدتهم؟ هل ثمة برامج توعوية ضد القتل العشوائي؟ وهل يكفي أن نتبرأ من القاتل حتى نحمي أهل القتيل إذا كانا يبيتان في جسد واحد؟

(٢٦) القدس بلا أورشليم

كيف تسكن في مدينة مسروقة؟

ثمة مفارقة تكتنف أي كلام فلسفي أو حتى أدبي أو ثقافي حول «القدس» لا يريد أن يبقى انفعالًا محليًّا أو هوويًّا فقط. إن الأوروبيين والغربيين بعامة لا يعرفون «القدس» بل يتحدثون عن «أورشليم»، و«نحن» العرب والمسلمون لا نعرف «أورشليم» بل نفكر في «القدس». وهذا بدوره وضعٌ تأويلي مخصوص يكشف عن فرق آخر لا يقل خطورة نظرية في طرح قضية الانتماء، إن أورشليم هي موضوعة لاهوتية وأدبية وفلسفية ورومانسية وسينمائية متواترة في كتابات مؤلفين غربيين؛ مسيحيين ويهود متدينين وعلمانيين، كلٍّ على حدة، منذ القرن السابع عشر إلى اليوم. أما القدس فهي مدينة تاريخية ودينية وسياسية يعيش فيها سكان عرب ومسلمون ومسيحيون ويهود حقيقيون منذ سنة ٦٣٧م بعد معركة بين الخلافة الإسلامية والإمبراطورية البيزنطية. نحن نفكر في مدينة محتلة وهم ينتسبون إلى ذاكرة سردية. ولذلك فإن البحث الفلسفي في دلالة القدس بالنسبة إلينا أو بالنسبة إلى الجزء غير الغربي من الإنسانية الحالية، هو يمر حتمًا بالفحص عن دلالة أورشليم بالنسبة إلى الأوروبيين والغربيين المحدثين والمعاصرين، وحتى ما بعد المحدثين.

إن علينا أن نؤرخ جيدًا لجملة أنماط الاهتمام الغربي بفكرة أورشليم حتى ندخل في طرح أسئلة عميقة حول معنى القدس بالنسبة إلينا.

لقد انخرط الفلاسفة الأوروبيون طيلة القرن السابع عشر (من قبيل ديكارت وهوبز وليبنتز) في بناء عقلانيات كبرى ترفع دور «العقل» بمجرده (بعيدًا عن أي سلطة أخرى) إلى رتبة براديغم الذات المحضة التي لا تحتاج في تفكيرها إلى أكثر من تبني نمط البحث عن الحقيقة الذي في العلوم الرياضية والفيزيائية. لكن القرن الثامن عشر كشف عن أن التنفيذ التاريخي لهذه العقلانية الكبرى يحتاج إلى وضع برنامج ثقافي للتنوير بعامة، ومن ثم يحتاج إلى مصادر تشريع معياري وأخلاقي ينبغي استقاؤها من التراث الغربي نفسه. ومن ثم التفت الفلاسفة إلى التراث العقلاني اليوناني باعتباره يستطيع توفير أدوات التبرير المعياري والأخلاقي الذي تحتاجه الحداثة بعد أن قطعت شوطًا في علمنة القيم المسيحية وتحولت إلى خطاب يعتبر فكرة التقدم هي غاية التاريخ الإنساني. وكانت خطة الحداثة الفلسفية، المتموقعة في فكرة العقل/الذات والمتأسسة على وعود التقدم التقني والأخلاقي، تقتضي اختزال مكونات «الإنسانية الأوروبية» (حسب تعبير هوسرل) في عنصر واحد ووحيد هو المكون اليوناني-الروماني. وفجأة تحولت مدن رمزية قديمة مثل «أثينا» و«روما» إلى أيقونات سردية ونماذج أخلاقية ومصادر معيارية لإعادة بناء الذات الأوروبية الكبرى. وذلك كان هو برنامج التنوير الغربي الذي استعمل أيضًا، إلى جانب الترسانة المفاهيمية للعقلانية اليونانية، ترسانة أخرى من الاستعارات الجغرافية التي تؤدي دور «الشخصيات المفهومية» (حسب مصطلح جيل دولوز) من خلال أسماء مدن ذات رمزية عالية في تحقيب الذاكرة العميقة للأوروبيين.

إلا أنه في هذه الأثناء قد ظهر فلاسفة أوروبيون وخاصة في أواخر القرن الثامن عشر وجدوا أنه من الممكن وربما من الضروري تطوير استعارات جغرافية جديدة وغير يونانية من أجل تعميق وتأصيل الانتماء إلى المصادر العميقة للذات الأوروبية التي بلغت عندئذٍ قدرًا هائلًا من «المعيارية الذاتية» (حسب تعبير هابرماس). وهنا بدلًا من مواصلة الانخراط في براديغم التنوير القائم على روما مجازية وأثينا استعارية لإرساء فلسفة تاريخ مناسبة للأزمنة الحديثة، تم البحث عن مصادر أصلية أخرى، وفي هذا السياق ظهرت الحاجة الرمزية والتخييلية لاستعارة «أورشليم» وتم استدعاؤها بأنحاء شتى من أجل لعب دور معياري وتأصيلي منافس أو معاضد لاستعارات التنوير الأخرى، لا سيما روما وأثينا.

وعلى الرغم من أن ملامح اختراع علاقة سردية أو أدبية «حديثة»، أي أوروبية معلمنة، مع «أورشليم» هي قد ازدهرت من خلال كتب الرحلات منذ النصف الثاني من القرن السابع، بعد انحسار المد العثماني،١ واستمرت إلى اليوم تحت مسميات عدة من الرحلة الدينية إلى الرحلة الأدبية إلى الرحلة العلمية، فإن الحدث الفلسفي الذي لا بد من ذكره هنا هو كتاب الفيلسوف اليهودي الألماني موسى مندلسون (١٧٢٩–١٧٨٦م) والذي كان عنوانه هو «أورشليم أو حول السلطة الدينية واليهودية»،٢ والمنشور سنة ١٧٨٣م. بيد أنه لا ينبغي أن يغرنا العنوان هنا، فهو لا يهم القدس التاريخية بل أورشليم بوصفها رمزًا أو شخصية مفهومية يمكن أن تساعد اللعبة اللغوية الجديدة التي طبعت القرن الثامن عشر الأوروبي تحت عنوان «التنوير» حسب أسمائه في اللغات القومية الأوروبية (Aufklärung, Lumières, Enlightenment, l’illuminismo …)، وذلك على بلورة سياق نقدي وعقلاني لمعالجة المشاكل التي أثارتها الحداثة بشكل غير مسبوق. ومنها بالأساس، كما يشير إلى ذلك عنوان كتاب مندلسون، قضية الفصل بين الدين والدولة. وهو قد عالج هذه القضية في إطار مبحث عن السلطة الدينية وحرية الضمير، كما ارتسمه هوبز وسبينوزا ولوك (القسم ١)، ولكن خاصة هو قد ناقش اليهودية في نطاق السؤال عن الدور الجديد (العلماني) لأي دين في ظل دولة حديثة مستنيرة (القسم ٢).
وبالتالي فإن تنشيط اسم أورشليم كان بغرض أسلوبي محض يهدف إلى تأكيد إمكانية إنجاز «تنوير يهودي» على تربة أوروبا نفسها وفي سياق برنامج التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر، وهو ما أُطلق عليه بالعبرية اسم «هسكلاه» (بالمعنى الحرفي «الحكمة» أو «التعقل» من «سخل» بالعبرية أي «العقل») ويُسمَّى أعضاؤها «المسكليم» (Maskilim)، وكان تنويرًا مركزًا على حركة اندماج اليهود في المجتمعات العلمانية الأوروبية، وهي حركة استمرت إلى حد عام ١٨٨٠م. وهي ظاهرة ربما تشبه حركة الإصلاح والنهضة في التنوير العربي المعاصر.
وكان فوكو في أحد دروسه الأخيرة («ما هو عصر التنوير؟») قد أشار إلى أن ما كان يطمح إليه التنوير اليهودي كما عبر عنه مندلسون هو خاصة إثبات الاعتراف بأن التنوير الألماني (die Aufklärung) والتنوير اليهودي (die Haskala) هما «ينتميان إلى تاريخ واحد ويحاولان أن يحددا من أي مسار هما ينبثقان.» كان مندلسون يريد بلورة يهودية مستنيرة، علمانية، ذات نزعة كونية، وترفض أي فكرة شمولية. وبهذا المعنى هو قد استدعى اسم أورشليم استدعاءً تنويريًّا ولا علاقة له بأي أطماع تاريخية في مدينة القدس. كان عصر التنوير قد دمر العلاقة الحنينية بالمكان من خلال تطوير قيم الانتماء الكوزموبوليطقي إلى العالم وفكرة المواطنة العالمية كما دافع عنها كانط.
وفي هذا السياق الحداثي المستنير اعتبر هيغل، ضمن دروسه في فلسفة التاريخ (ما بين ١٨٢٢ و١٨٣٠م)، أن الله اللامتناهي لا يمكن أن ينتمي إلى مكان محسوس ومتعيِّن من قبيل «الأرض المقدسة». قال: «إن قبر المسيح هو فارغ بلا رجعة.» بل يجب أن يُقال للمحدثين كما قيل للحواريين صباح يوم انبعاث المسيح: «لا ينبغي أن تبحثوا عن مبدأ ديانتكم في المحسوس، في القبر، في الموتى، بل في الروح الحي، في ذات أنفسكم.» وحسب هيغل، لا ينبغي أن نبحث عن الله أو عن اللامتناهي في مكان ما بوصفه «هذا» أو «ذاك» الموضع المتعين، لا ينبغي البحث عن الله في كنيسة القيامة، بل في مبدأ الذاتية الإنسانية. قال: «في كنيسة القيامة أخذ الغرب من الشرق عطلة أبدية وهناك فَهِم مبدأه عن الحرية الذاتية اللامتناهية. ومنذ ذلك الوقت لم يعد يمكن للمسيحية أن تقدم نفسها بوصفها كلًّا شموليًّا (Totalität).»

أين يجب على الأوروبيين أن يبحثوا إذن عن دلالة أورشليم؟

بعد انحسار المد التنويري انخرط الرومانسيون، من فلاسفة وشعراء وأدباء (هيغل، شليغل، شيلنغ، كيركغارد)، في إعادة اكتشاف النصوص المسيحية بطريقة مرعبة. وقد تزامن ذلك بوجه ما مع دخول الحداثة أكثر فأكثر في أزمة مع مصادر ذاتها. وبقدر ما انحسر نموذج الفيلسوف/العالم أخذ نموذج المؤلف/النبي يعود إلى الخدمة بشكل مثير. وهو ما سوف يجد هالته العليا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر في كتاب نيشته «هكذا تحدث زرادشت»، وبلغ إلى الثقافة العربية في كتابات جبران ونعيمة.

وفي قلب هذا المد الرومانسي الذي طبع الفلسفة الأوروبية من تسعينيات القرن الثامن عشر إلى خمسينيات القرن التاسع عشر، طور الفيلسوف الألماني شيلنغ تأويلات رشيقة لدلالة أورشليم، هي تضيف للدلالة الأدبية والتنويرية السابقة دلالة أخرى من نوع طريف. هو يسميها الدلالة «ما بعد التاريخية». قال في كتابه «فلسفة الوحي»:

«إن يوحنا هو حواري كنيسة المستقبل، العالمية حقًّا، أورشليم الثانية والجديدة، تلك التي رآها تنزل من السماء … مدينة الله حيث لا يُستبعَد أحد، ويدخلها الوثنيون واليهود على حد سواء، ومن دون حدود مقيدة، ومن دون سلطة خارجية من أي نوع، وتبقى هي بذاتها لأن الكل يأتي إليها بحرية، والكل ينتمي إليها بمحض قناعته الخاصة، وذلك من جهة أن روحه قد وجدت فيها وطنًا.»

كان شيلنغ يعرف كتاب مندلسون المشار إليه ويحيل عليه. لكنه لا يستعمل أورشليم لأغراض تنويرية بل في نطاق إشكالية أخرى. هي تلك التي تهدف إلى تملك الدلالة الإنجيلية التي أخذتها أورشليم في سفر الرؤيا، في سفر يوحنا. وإنه من المفيد جدًّا أن نذكر بملامح أورشليم الإنجيلية حتى نفهم طرافة التخريج الذي اقترحه شيلنغ.

إذْ نحن نعثر في نصوص المسيحية الأولى على موقعين حاسمين لتحديد دلالة أورشليم المقصودة، ألا وهما «سفر رؤيا يوحنا» (الإصحاح ٢١: ٢ و١٩–٢٣)٣ ورسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية (الإصحاح ٤: ٢٥-٢٦).٤ وما يهمنا هنا هو أن شيلنغ قد احتفظ بالدلالة الحاسمة التي نسبها يوحنا إلى أورشليم: إنها «أورشليم الجديدة» وليس المدينة القديمة، وهي مدينة مقدسة لأنها مدينة «الرؤيا» وليس مدينة الواقع، إنها مدينة «تنزل من السماء» ولا يمكن ادعاء ملكيتها لأحد، بل هي «مسكن الله» ولا مسكن لله إلا الأبدية. ولذلك فإن الاهتمام الروحي بأورشليم هو كما قال هيغل نوع من «العطلة الأبدية» التي أخذها الغرب من الشرق. وبهذا المعنى علينا أن نقرأ ما جاء من تمييز حاسم بين «أورشليم السماوية» التي أشار إليها سفر الرؤيا و«أورشليم الحاضرة» التي تشير إليها رسالة بولس إلى أهل غلاطية، والتي تعرض إليها هَيدغر بالتأويل في أحد دروسه (الطبعة الكاملة، مج ٦٠، ٧١).

كيف يجدر بنا أن نفهم تمييز بولس بين «أورشليم الحاضرة» (أورشليم هاجر وأورشليم العرب) و «أورشليم العليا» أو أورشليم «بالموعد» (أورشليم سارة وأورشليم إسحاق ونسله)، أو نفهم تمييز يوحنا بين «أورشليم الجديدة» (المدينة المقدسة، النازلة من السماء، مدينة الملكوت أو مدينة الآخرة،) وأورشليم الأرضية (والتي لا يتكلم عنها ولا يقصدها)؟ يبدو أن ثمة طريقة واحدة لحسم هذا الأمر: إنه إثبات الفرق الجوهري بين «القدس» و«أورشليم». إن القدس لا يمكن أن تكون من خلال أقوال بولس الرسول ويوحنا سوى «أورشليم الحاضرة» أو الأرضية، نعني أورشليم هاجر أو أبنائها، أما أورشليم التي يتحدث عنها مندلسون أو شيلنغ فهي لا يمكن أن تكون القدس بل أورشليم سارة أو «أورشليم السماوية» أو «أورشليم العليا» أو «أورشليم الجديدة»، نعني أورشليم «بالموعد» أو أورشليم الرمزية.

وإن كل دلالات «أورشليم» في النصوص الفلسفية والأدبية الأوروبية الحديثة إلى حد أواسط القرن التاسع عشر (إذْ تعود دروس فلسفة الوحي التي ألقاها شيلنغ إلى سنوات ١٨٤١–١٨٤٦م، وهو قد توفي سنة ١٨٥٤م) هي بالأساس دلالات رومانسية أو رمزية لا يُراد منها سوى تعضيد خطاب التقدم (العلماني الذي يجد جذوره البعيدة في تراث روما/أثينا) الذي قامت عليه الحداثة (بما هي تجربة معنى تأسست على علمنة جذرية للقيم المسيحية) بخطاب آخر غير تنويري وجد في فلسفات التاريخ مجالًا خِصبًا لتطوير حواس غير رومانية وغير يونانية؛ لأنها تنبع من مصادر إلهام غير أوروبية أصلًا، بعضها إنجيلي (شيلنغ) وبعضها إسلامي (غوته، هيغل) والبعض الآخر هندي (شوبنهاور، ماركس، نيتشه)، أو آسيوي (جوزيف غوبينو) … إلخ.
لكن ما وقع في أعماق القرن التاسع عشر هو تعمق فشل برنامج التنوير القائم على رمزية روما وأثينا، وتحول الحداثة إلى آلة استعمارية، وتغول الذات الأوروبية، الذات المسيحية المعلمنة، وانقلابها إلى جلاد عالمي للأقليات والجماعات وكل أنواع «الآخر»، أكان داخليًّا مثل اليهود، أو خارجيًّا مثل المسلمين والبوذيين والأفارقة وبقية الشعوب والديانات. وإنه في سياق أزمة برنامج الحداثة هذا إنما ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر نزعة ثقافية ونقدية وعرقية عُرفت تحت مسمى «معاداة السامية» (Antisemitismus)، وهو مصطلح نحته صحافي ألماني يُدعى وليام مار وذلك سنة ١٨٧٩م في كتاب معادٍ لليهود بمجردهم (وليس للساميين بعامة) عنوانه «انتصار اليهودية على الجرمانية منظورًا إليه من وجهة نظر غير عقدية».٥ وإن معاداة السامية أو اليهود هي تقف في الجانب الأقصى من العلاقة الأدبية أو التنويرية أو الرومانسية مع أورشليم، تلك التي تطورت على مدى القرون السابقة.

وكانت ردة الفعل هنا هي استدعاء رمزية أورشليم إلى سردية تأسيسية من نوع جديد، تختلف عن أدوارها السابقة لدى الرحالة (الأدباء) في القرن السابع عشر أو لدى مندلسون (التنويري) في القرن الثامن عشر أو لدى شيلنغ (الرومانسي) في النصف الأول من القرن التاسع عشر. إن صورة أورشليم هي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى أواسط القرن العشرين قد صارت مرسومة من خلال نموذج سردي جديد عبر عن نفسه بشكل عام في صيغة شهيرة اليوم بين الفلاسفة تقوم على التقابل المتكامل بين رمزين روحيين جغرافيين، ألا وهما «أثينا وأورشليم». وهي صيغة اصطلاحية جرت تحت أقلام فلاسفة كبار من حجم ليو شتراوس وحنا أرندت وإيمانويل ليفناس.

أما من ناحية تاريخ المصطلحات فإن علينا أن نذكِّر بأن التمييز الرمزي، في نطاق النقاش حول أزمة الحداثة الأوروبية، بين طريق أثينا وطريق أورشليم نحو الحقيقة، إنما توجد صيغة قوية عنه في كتاب يعود إلى نفس تاريخ ظهور معاداة السامية. فقد ظهر سنة ١٨٦٩م كتاب عنوانه الثقافة والفوضى لكاتب اسمه ماتيو أرنولد،٦ وجعل عنوانًا لأحد فصوله عبارة Hellinism and Hebraism (الهلِّينية والعبرية)، وعقد فيه مقارنة أخلاقية مفصلة بين المفهومين على أساس التعارض المعياري الأساسي بين مصدرين عميقين للحداثة الأوروبية وللغرب بعامة هما التراث الهلِّيني أو اليوناني من جهة، والتراث العبراني أو الإبراهيمي من جهة أخرى، باعتباره هو وحده العلاج المناسب لأزمة «الثقافة» في أوروبا.
وفي مجرى هذا التمشي الجديد تم ترسيخ الدور المعياري غير التنويري وغير الرومانسي لرمزية أورشليم، وبدأ التأسيس الفلسفي لها من أجل كسب معركة الانتماء إلى الغرب من داخل مكوناته الهووية، وليس فقط من خلال تملك قيمه الحداثية. وفي هذا الإطار ظهرت كتب طريفة من قبيل كتاب ليون دوريسون ودافيد برمان «أورشليم الفلاسفة»٧ المنشور سنة ١٩٢٢م، وكتاب ليو شيستوف «أثينا وأورشليم: محاولة في الفلسفة الدينية»٨ والذي ظهر سنة ١٩٣٨م، وخاصة مقالة ليو شترواس «أورشليم وأثينا: بعض التأملات التمهيدية»،٩ والذي ظهر سنة ١٩٦٧م. ثم بعد ذلك انهالت الكتب والمقالات التي تحمل عنوان التقابل «بين أثينا وأورشليم»١٠ بوصفه ضربًا من النموذج الرمزي والسردي والإشكالي لطرح قضية ازدواجية الأصل الذي تأتَّى منه التقليد الغربي بعامة.

يقول ليو شتراوس جامعًا كل ملامح هذا النموذج في مفتتح مقالته: «إن كل الآمال التي تحدونا في وسط الارتباك والأخطار المحدقة بالزمن الحاضر إنما تجد أساسها، إيجابًا أو سلبًا، في تجارب الماضي. وإن التجربة الأوسع نطاقًا والأكثر عمقًا من بين هذه التجارب — وذلك بقدر ما تهم الإنسان الغربي — هي ما تشير إليه أسماء المدينتين التاليتين: أورشليم وأثينا. لقد أصبح الإنسان الغربي ما هو، وهو الآن ما هو، عبر الانبثاق المشترك للإيمان الكتابي والتفكير اليوناني. ومن أجل أن نفهم أنفسنا وأن نضيء طريقنا المجهول نحو المستقبل، يجب علينا أن نفهم أورشليم وأثينا. ولا نحتاج إلى القول بأن هذه مهمة تتطلب أداءً خاصًّا يتجاوز قدراتي، لكننا لا نستطيع أن نحدد مهامنا من خلال قدراتنا؛ لأن قدراتنا لا تصبح معروفة لدينا إلا متى أدينا مهامنا، وإنه من الأحسن أن نفشل بنبلٍ على أن ننجح بدناءة.»

تبدو الدلالة الفلسفة لاسم أورشليم في النقاشات المعاصرة (وربما ذلك منذ كيركغارد كما استعمله ليو شيستوف) بوصفها تعود إلى تنشيط ثنائية رمزية قوية، ألا وهي ثنائية سقراط من جهة وإبراهيم من جهة أخرى. سقراط وإبراهيم هما هنا شخصيتان مفهوميتان وأدبيتان وليسا شخصين تاريخيين. ولذلك يبدو أن لغز الفرق بين القدس وأورشليم في أفق الإنسانية، وبقدر ما نريد أن ننتمي إليها، وليس إلى دين دون آخر، إنما ينبغي البحث عنه في شخصية إبراهيم؛ الأب المتعدد والذي يلقي بهالته الروحية على الجميع. إن إبراهيم هو العنوان ما بعد التاريخي الوحيد الذي يمكنه أن ينظم شكل أو محتوى الانتماء إلى القدس العربية أو إلى أورشليم التوراتية-الإنجيلية، بين الانتماء إلى المدينة العربية الفلسطينية أو الانتماء إلى الذاكرة المجروحة للإنسان الغربي في لحظة البحث عن علاج لأزمة الحداثة في جغرافية الروح. ولكن مع التأكيد الصريح على أن أورشليم إنما تبقى مسألة غربية أو تهم هوية «الإنسان الغربي» بما هو كذلك ولا تهم «المقدسيين» التاريخيين، الذين ينتمون إلى القدس انتماءً تاريخيًّا ويعيشون حياتهم مثل بقية شعوب الأرض على أرضهم.

(٢٧) قد نستقبل ما لا يأتي

موجز تاريخ «المستقبل» عند الفلاسفة

كان «المستقبل» لوقت طويل يعني ممكنًا «لم يأت بعد» لكنه لا يستطيع أن يفلت من قدره. هكذا فهمه الوثنيون اليونان. وفي هذا الصدد صاغ أرسطو مفهومه عن «المستقبل العرضي»، الممكن الذي لا يمكن الانتصار عليه إلا بنظرية في «أبدية» الحقيقة. ثم صار غير قابل للتمييز عن عصور «آخر الزمان» أو عن عقيدة «الآخرة» أو عن فكرة «الحياة بعد الموت» بوصفها شرطًا أخلاقيًّا لفهمه والسيطرة على دلالته. هكذا تأوله أهل الملل التوحيدية. وفي هذا السياق تكلم الفارابي أو ابن رشد عن «السعادة الأخروية». بيد أنه منذ القرن السابع عشر الأوروبي وإلى أواخر القرن الثامن عشر أخذت تتوضح بوادر انفصال خفي ولكن عميق بين مذاهب «الآخرة» وبين تقنيات «المستقبل»؛ حيث وقع الانتقال بشكل مثير مع جيل هوبز وديكارت وباسكال وكانط والتنويريين من سرديات الرجاء عن «الخلاص» إلى آداب الأمل في «التقدم». ومنذ القرن التاسع عشر، بعد الانفصال الحاسم بين الزمن الفيزيائي الذي بناه غاليلي ونيوتن وبين الزمان التاريخي مع هيغل ونيتشه خاصة، أصبحت موضوعة «المستقبل» فجأةً وعلى نحو صريح بمثابة نوع «الخلاص» الوحيد الذي ما زال يحق للبشر أن يشرئبوا إليه بوصفه تحديًا ميتافيزيقيًّا على مقاس عقولهم وآلامهم. وذلك قبل أن يتجرأ هَيدغر على تنصيب بُعد المستقبل بوصفه مركز الزمانية الممكنة في أفق سؤال البشر عن معنى كينونتهم في العالم: نحن نأتي إلى أنفسنا من المستقبل؛ لأننا منذ البداية كائنات تشتق شكل هويتها من القدرة على احتمال الزمان كفنٍّ أصيل للعناية بأنفسنا، ومن ثم هي تكون هوية قد كانت مستقبلها في شكل ماضٍ خاص لا يمكن لأي ذاكرة أن تتحمله فتلقي به نحو الآتي في كل مرة. أما في الفترة الأخيرة فإن أبحاث نظرية هانس جوناس عن «إيتيقا المستقبل» في العصر النووي أو التكنولوجيات الفائقة أو تشظيات إميل سيوران عن المستقبل بوصفه «يتوبيا سوداء» عن مصير الدودة البشرية في الكون أو إشارات دريدا عن «الآتي» (l’a-venir) ما بعد الحديث بعد انهيار سرديات الغرب عن نفسه أو أسئلة هابرماس عن «مستقبل الطبيعة البشرية» في عصر التحسين الوراثي للجنس البشري أو إدغار موران عن «مستقبل الإنسانية» من أجل تجنب الكارثة بواسطة نوع جديد من «سياسة الحضارة»، قد حولت دراسة المستقبل إلى ورشة مستقلة برأسها هي الرهان الخفي لكل فلسفة تريد أن تتفرغ أخيرًا إلى رسم سياسات الحياة.

كيف دخل المستقبل إلى الفلسفة؟

علينا أن نسأل: لماذا تأخر الفلاسفة في طرح مسألة المستقبل إلى حدود القرن التاسع عشر؟ هيغل هو أول فيلسوف طرح «مفهومًا» فلسفيًّا عن معنى المستقبل داخل منطق الحقيقة. لم يكن الوثنيون يملكون سؤالًا فلسفيًّا مناسبًا عن المستقبل، كان شيئًا يقع خارج «قدرهم». وكان لا بد من انتظار المسيحية ولا سيما كتابات أغسطينوس، وخاصة الفصل ١١ من كتاب الاعترافات (كُتب ما بين ٣٩٧ و٤٠١م.)، والذي نلمس أثره على كل فلاسفة الزمان من كانط إلى ريكور، مرورًا بمتوالية تضم هيغل وهوسرل وهَيدغر، حتى يتبلور سياق سردي وأخلاقي يمهد السبيل نحو وضع نظرية في الوعي بالزمان فتحت الباب أمام استشكال فلسفي جدي لمعنى المستقبل لا نزال في جدال معاصر معه. إن أغسطينوس هو من نقل مقياس الزمان من عدد حركة الكواكب (على عادة اليونان) إلى وتيرة عذابات النفس و«تمددها» (حسب التراث الإبراهيمي). لأول مرة صار المستقبل مُشكِلًا ولغزًا يدور حوله بُعد «الانتظار» الذي هو جوهر الإيمان المسيحي؛ نعني انتظار رجعة المسيح. لكن مفردات التفكير في المستقبل لدى أغسطينوس إنما كانت سردية «الآخرة»، أي التمرين السردي على «حاضر الحاضر» أو الأبدية بواسطة الحياة المستقبلية، تلك التي لا يمكن قياسها بواسطة النفس إلا في شكل «اعترافات». ولذلك انتهى أغسطينوس إلى القول: «من غير الدقيق أن نقول هناك ثلاثة أزمان: الماضي والحاضر والمستقبل. من الأصح أن نقول: هناك ثلاثة أزمان: حاضر الماضي، وحاضر الحاضر وحاضر المستقبل.» وهي ضروب تترجم توتر النفس في «الذاكرة» و«الحدس» و«الانتظار» بوصفها إمكانية المستقبل الوحيدة المتاحة في أفق سردية «الآخرة» بوصفه نمط «الحاضر» الآخر أو الأبدي خارج الزمان. وهو صوت ما زال المتفلسفة يجدون صداه المتأخر لدى شوبنهاور مثلًا الذي يؤكد في كتابه العالم إرادةً وتمثلًا (١٨١٨م) أنه «لا أحد عاش في الماضي ولا أحد سيعيش في المستقبل، الحاضر وحده هو شكل كل حياة» (الفقرة ٥٤).
وكان لا بد من انتظار قرون فلسفية طويلة حتى يستطيع فلاسفة الحداثة طرح أسئلة «غير أخروية» عن «الآتي» تجعل المستقبل على قياس الطبيعة البشرية. قال باسكال في كتابه الأفكار (١٦٧٠م) مستأنفًا اعترافات أغسطينوس: «نحن لا نوجد أبدًا في الوقت الحاضر. نحن نستبق المستقبل. أو نحن نتذكر الماضي. ذلك بأن الحاضر في العادة يجرحنا … ونحن نحاول أن نسنده بواسطة المستقبل … نحن تقريبًا لا نفكر في الحاضر … إن الحاضر ليس غايتنا أبدًا، الماضي والحاضر هما وسيلتان لنا، المستقبل وحده غايتنا. وهكذا نحن لا نعيش أبدًا، وإنما نرجو ذلك». وفي نفس الفترة تقريبًا طرح ليبنتز (في رسالة إلى أرنولد بتاريخ أبريل ١٦٨٧م) فكرة أن «النفس تمتلك المستقبل على نحو مستبق»، إذْ مثلما تحمل النفس آثار الماضي هي تحمل أيضًا آثار المستقبل. والمثل الذي يضربه هنا هو الألم: نحن نحمل إدراكات صغيرة عن المستقبل واستشعارات مختلطة تجعلنا نتألم. نحن نتألم دومًا داخل مستقبل ما. وفي أواخر القرن الثامن عشر نجح كانط ضمن مقالة مشروع السلم الدائم (١٧٩٥م) في تحويل السؤال عن المستقبل إلى نظرية في «الرجاء» تخرج به من سرديات «الآخرة» إلى سياسات «المستقبل» حيث يصبح تحقيق السلم بمثابة عقيدة الخلاص «الحديثة» أو «ما بعد الدينية»، الوحيدة المبررة أخلاقيًّا. لقد أصبح المستقبل يعني الثقة في مستقبل الإنسانية بوصفها كيانًا أخلاقيًّا قادرًا على النجاة بنفسه من الانقراض. وصار التقدم الأخلاقي هو شكل الرجاء في المستقبل المناسب لثقافة التنوير.
ومع ذلك فإن نظرية الزمان لدى الفلاسفة قد ظلت خالية من استشكال صريح ورسمي لمفهوم المستقبل حتى مجيئ هيغل: لقد وفر أخيرًا النظرية المناسبة للتفكير في حقيقة المستقبل، وهو ما عثرت عليه الباحثة الفرنسية كاترين مالابو في عبارة «الطابع التشكيلي» (Plastizität) لعلاقة الذات بالزمان، بما هو عرضي في شكل وجودنا، وبما يحدث في أفقنا. نحن نتشكل بعلاقتنا بالمستقبل بقدر ما نشكله. وليس «التذوت» غير فن «التزمن» بواسطة المستقبل. لكن هيغل ظل مترددًا وغير حاسم في ضبط العلاقة بين دلالتين طريفتين للمستقبل في فلسفته: من جهة أن «الزمان» جدلي ينبني «انطلاقًا من المستقبل»، وهو في سلب دائم لشكل حضوره، ولكن من جهة أخرى، أن الفلسفة لا يمكنها تعيين «مفهوم» عن المستقبل إلا بعد نهاية العصر الذي تنتمي إليه. ما دام المفهوم لم يكتمل، أي لم يأت إلى ذاته، نحن لا نفهم ماهية المستقبل. كذلك لا يمكن أن يتحول المستقبل إلى مفهوم إلا إذا توقف الزمان. هذا الالتباس مكن هَيدغر من الادعاء بأن هيغل لم يعرف أي مفهوم أساسي عن المستقبل. وهو ما نفاه باحثون معاصرون مثل كوري وكوجاف مؤكدين على أن هيغل قد تفطن إلى «أولية المستقبل» وإلى كونه «مركز» الوعي بالزمان.

ما هو «المستقبل»؟

ما كان هَيدغر يحاول أن يلفت النظر عنه هو أن فلسفات القرن التاسع عشر قد دخلت بعدُ في أفق إشكالية المستقبل.

يقول هيغل في دروس ١٨٠٤ / ١٨٠٥م: «إن المستقبل هو ماهية الحاضر، الذي هو في الواقع لاوجودُ نفسه. إن الحاضر رافعًا نفسه هكذا، على نحو بحيث إن المستقبل على الأرجح يحدث فيه، إنما هو ذاته المستقبل. أو أن هذا المستقبل ليس هو ذاته في الواقع مستقبلًا، إنه ما يرفع الحاضر، ولكن من جهة ما هو هذا، البسيط السالب مطلقًا، إنه على الأرجح الحاضر، الذي هو على ذلك أيضًا وطبقًا لماهيته «لاوجودُ» نفسه، أو هو المستقبل. [..] إن الآن يملك «لا وجوده» في ذات نفسه، وهو يصير آخرَ بلا توسط، لكن هذا الآخر، المستقبل، الذي إليه يصير الحاضر، إنما هو آخر نفسه بلا توسط، وذلك أنه الآنَ حاضر؛ بيد أن المستقبل ليس هذا الآن الأول، مفهوم الحاضر هذا، بل هو آن صائر من الحاضر بواسطة المستقبل. [..] إن الحد، أو الآن، إنما هو فارغ، وذلك أنه بسيط بلا قيد أو شرط، أو هو مفهوم الزمان، إنه يمتلئ ضمن المستقبل، إن المستقبل هو واقعه؛ وذلك أن الآن هو في ماهيته علاقة سالبة بإطلاق [..] إن ماهيته هذه هي لا وجودُه، أو وجود المستقبل في الآن.»

كل الفلسفات التي طرحت أسئلة جوهرية حول المستقبل في مفردات الفلسفة هي قد ظهرت «بعد» هيغل، وكلها تدور حول هذه المفارقة: «إن المستقبل هو ماهية الحاضر». ربما شغل هيغل نفسه باعتبارات ميتافيزيقية لم تعد تهمنا من قبيل أن الحاضر هو نوع من «اللاوجود»، فهو لا يوجد إلا بقدر ما يمضي، أو أن كل آنٍ زماني هو سلب مسبق لنفسه من حيث إنه صيرورة محضة، أو أن اللحظة التي نكون فيها هي حد وجودي فارغ، إلخ. لكن ما يبقى تحديا فلسفيًّا طريفًا بالنسبة إلى المعاصرين إنما هو هذا: أن الحاضر لا يكون إلا «بواسطة المستقبل»، وخاصة أن مفهوم الزمان لا يمتلئ إلا ضمن المستقبل، إن «المستقبل هو واقعه» الذي يتحقق فيه.

ما أراده الفلاسفة الذين جعلوا المستقبل شعارًا مفهوميًّا صريحًا، وهم متوالية تمتد من فويرباخ إلى دريدا مرورًا بنيتشه وهَيدغر وبلوخ وجوناس على وجه الخصوص، هو نقل مركز السؤال من سرديات الذاكرة العميقة (كل المذاهب التقليدية الجاهزة، تقريبًا كل «الأفلاطونيات» إلى حد كانط وشوبنهاور) إلى أسئلة «ما بعد ميتافيزيقية» بلا مذهب جاهز عن الوجود أو الألوهية أو العقل. إن المستقبل هو الأفق الجديد للتفكير بلا أجوبة «ماهوية» عن الزمان.

يكفي أن نلقي نظرة على التواتر المثير لمصطلح «المستقبل» في العناوين الفلسفية للفترة التي تلت هيغل: لقد أصبح المستقبل أكثر من «مفهوم»، إنه «شعار» الحقبة ما بعد الميتافيزيقية التي تخلت عن اعتبار «الحاضر» هو ماهية الزمان أو شكل الحياة التي يحق للبشر أن يطالبوا أنفسهم بتحقيقها. كان فويرباخ هو من افتتح هذا النوع من الأدبيات من خلال كتابه «مبادئ فلسفة المستقبل» سنة ١٨٤٣م. ثم علينا أن نذكر كتاب نيتشه «ما وراء الخير والشر. مقدمات نحو فلسفة عن المستقبل» (١٨٨٦م). لكن المعاصرين قد حولوا المستقبل بسرعة إلى ورشة تأويلية موسعة تشمل كل أبعاد الوجود المعاصر. وهو نوع من البحوث افتتحه كتاب إرنست رينان في كتابه «مستقبل العلم» (١٨٤٨م) ثم رسخه كثيرون مثل فرويد في «مستقبل وهم» (١٩٢٧م) وموريتز شليك، «مستقبل الفلسفة» (١٩٣٢م)، واستمر على وتيرة قوية إلى حدود هابرماس في «مستقبل الطبيعة البشرية» (٢٠٠١م). لكن المستقبل لم يكن مجرد مؤشر كرونولوجي على «الآتي»، بل هو نفسه قد تحول بشكل خطير إلى إشكالية برأسها، خاصة لدى هَيدغر في «الكينونة والزمان» (١٩٢٧م) وإرنست بلوخ في «مبدأ الرجاء» (١٩٥٤–١٩٥٩م) وهانس جوناس في «مبدأ المسئولية. إيتيقا للحضارة التكنولوجية» (١٩٧٩م).

خطورة المستقبل

غير أن المصدر الأعظم الذي ينبغي على أي فلسفة أن ترجع إليه عندما يتعلق الأمر بالسؤال عن معنى المستقبل إنما لا يمكن أن يكون إلا كتاب هَيدغر الكينونة والزمان. إن المستقبل ليس مجرد «بُعد» به نقيس مدة الزمان، بل هو نوع من «الوجد» أو «الحال» الذي يجعل تصريف عنايتنا بأنفسنا أمرًا ممكنًا. ولأننا كائنات لا تكون إلا بقدر ما تفكر بموتها على أنه جزء من هويتها، فإننا لا نكون في الحاضر بل نأتي إلى أنفسنا من المستقبل أي من جهة الاستباق بموتنا الخاص بوصفه نقطة انطلاق أصلية نحو أنفسنا الحاضرة. نحن لسنا نحن إلا بقدر ما نستشرف أو نستبق كينونتنا نحو أفق المعنى الذي يخصنا. نحن لا «نكون» إذن مثل الحجر، بل «متزمن»؛ أي نعتني بأنفسنا من جهة المستقبل الذي نأتي منه. نحن دومًا «خارج أنفسنا» أي في زمن يتزمن من خلال عنايتنا بأنفسنا كإمكانية مستقبل هي التي ننطلق منها ليس فقط نحو حاضرنا بل خاصة نحو ماضينا. إن المستقبل هو بوابة الماضي؛ أي جهة الكينونة التي تمكن من إعادة اختراع ذلك الماضي بحيث لا يكون مجرد «بعد» يصف ما مضى بل يصبح «ما كان» يمكن أن نكون لو أننا أتينا إلى أنفسنا من جهة المستقبل، وليس كمجرد وُرَثاء كسولين لذاكرة لا تعرفنا. الزمان لا يتراكم بل يتزمن أي يعبر عن نفسه في «مواجيد» مختلفة في كل مرة. «يجد نفسه» في ماض ما فيكونه، ويجد نفسه في «لحظة» ما فيكونها، لكنه لا يفعل ذلك سبهللًا بل حسب وتيرة خاصة حيث يمكنه اختيار مصيره لأن المصير نفسه «متناهٍ»؛ أي محدود بإمكانية التزمن التي انكشف من خلالها. إن المستقبل هو مركز الزمان، وأولية المستقبل هي الفرق بين وجود أصيل ووجود غير أصيل، لكن الزمان الأصلي «متناه». نحن نتزمن لكننا لا نفعل ذلك إلا في غضون «تراثٍ» ما من المعنى لسنا مخيرين في الانتماء إليه. وهكذا فهم تلاميذ هَيدغر؛ مثل جوناس خاصة، أو قراؤه؛ مثل بلوخ خاصة، أن المطلوب فلسفيًّا ليس إثبات أولية المستقبل، بل إعادة اختراعه بوصفه رهانًا يتجاوز الفرد المعاصر كما تصوره هَيدغر؛ لأنه يتعلق بخطر يداهم ماهية الإنسانية بما هي كذلك. قال سيوران: «الأمل تكذيب المستقبل. وحده القلق باعتباره يوتوبيا سوداء يمنحنا تفاصيل عن المستقبل.» علينا أن نُكذب المستقبل بالقدرة على الأمل، أي على إعادة اختراع المصير بلا وصفات هووية جاهزة.

١  Cf. François Laplanche, “À travers les récits de voyage en Terre Sainte (XVIe-XIXe s.),” Bulletin du Centre de recherche français à Jérusalem, 7 | 2000, 59–65.
٢  Moses Mendelssohn, Jerusalem oder über religiöse Macht und Judenthum, Berlin, 1783 (Digitalisat und Volltext im Deutschen Textarchiv).
٣  «(٢) وأنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازلة من السماء من عند الله مهيأة كعروس مزينة لرجلها … (١٩) وأساسات سور المدينة مزينة بكل حجر كريم: الأساس الأول يَشْب. الثاني ياقوت أزرق. الثالث عقيق أبيض. الرابع زمرد ذبابي (٢٠) الخامس جزع عقيقي. السادس عقيق أحمر. السابع زبرجد. الثامن زمرد سلقي. التاسع ياقوت أصفر. العاشر عقيق أخضر. الحادي عشر أسمانجوني. الثاني عشر جمشت (٢١) والاثنا عشر بابًا اثنتا عشرة لؤلؤة، كل واحد من الأبواب كان من لؤلؤة واحدة. وسوق المدينة ذهب نقي كزجاج شفاف (٢٢) ولم أر فيها هيكلًا؛ لأن الرب الله القادر على كل شيء، هو والخروف هيكلها (٢٣) والمدينة لا تحتاج إلى الشمس ولا إلى القمر ليضيئا فيها؛ لأن مجد الله قد أنارها، والخروف سراجها.»
٤  «(٢٢) فإنه مكتوب أنه كان لإبراهيم ابنان، واحد من الجارية والآخر من الحرة (٢٣) لكن الذي من الجارية وُلِد حسب الجسد، وأما الذي من الحرة فبالموعد (٢٤) وكل ذلك رمز؛ لأن هاتين هما العهدان، أحدهما من جبل سيناء، الوالد للعبودية، الذي هو هاجر (٢٥) لأن هاجر جبل سيناء في العربية. ولكنه يقابل أورشليم الحاضرة، فإنها مستعبدة مع بنيها (٢٦) وأما أورشليم العليا، التي هي أمنا جميعًا، فهي حرة (٢٧) لأنه مكتوب: افرحي أيتها العاقر التي لم تلد. اهتفي واصرخي أيتها التي لم تتمخض، فإن أولاد الموحشة أكثر من التي لها زوج (٢٨) وأما نحن أيها الإخوة فنظير إسحاق، أولاد الموعد.»
٥  Wilhelm Marr, Der Sieg des Judenthums über das Germanenthum vom nicht confessionnellen Standpunkt aus betrachtet, Berne, Rudolph Costenoble, 1879.
٦  Matthew Arnold, Culture and Anarchy (London: Smith, Elder & Co., 1869).
٧  Léon Dorison et David Berman, La Jérusalem des philosophes (La Diane, Versailles, 1922).
٨  Leo Schestow, Athen und Jerusalem, Versuch einer religiösen Philosophie (Schmidt-Dengler, Graz 1938).
٩  Leo Strauss, “Jerusalem and Athens: Some Introductory Reflections,” Commentary 43 (1967): 45–57.
١٠  Cf. Jack A. Bonsor, Athens and Jerusalem: The Role of Philosophy in Theology (Wipf and Stock Pub: 2003).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤