فلما كانت الليلة ٨٣٣

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن قرد أبي السعادات لما قال لخليفة: خُذِ شبكتك وارمها في البحر، وكل شيء طلع لك فيها هاته وتعال عندي حتى أخبرك بما يسرُّكَ. قال له خليفة: سمعًا وطاعة. ثم إنه إخذ الشبكة وطواها على كتفه وأنشَدَ هذه الأبيات:

figure
ثم إنه أخَذَ مِسْوَقةً وأراد أن ينزل بها على القرد، فاستغاث منه وطلَبَ العفو.
إِذَا ضَاقَ صَدْرِي أَسْتَعِينُ بِخَالِقِي
قَدِيرٌ عَلَى تَيْسِيرِ كُلِّ عَسِيرِ
فَقَبْلَ ارْتِدَادِ الطَّرْفِ مِنْ لُطْفِ رَبِّنَا
فِكَاكُ أَسِيرٍ وَانْجِبَارُ كَسِيرِ
فَسَلِّمْ إِلَى اللهِ الْأُمُورَ جَمْيعَهَا
فَإِفْضَالُهُ يَدْرِيهِ كُلُّ بَصِيرِ

ثم أنشد أيضًا هذين البيتين:

أَنْتَ الَّذِي قَدْ رَمَيْتَ النَّاسَ فِي تَعَبٍ
تَنْفِي الْهُمُومَ وَأَسْبَابَ الْبَلِيَّاتِ
لَا تُطْمِعَنِّي بِشَيْءٍ لَسْتُ أُدْرِكُهُ
كَمْ طَامِعٍ فَاتَ تَحْصِيلَ الْإِرَادَاتِ

فلما فرغ خليفة من شعره تقدَّم إلى البحر ورمى فيه الشبكة وصبر عليها ساعة ثم سحبها، وإذا فيها حوت سمك كبير الرأس، وذنبه كأنه مغرفة، وعيناه كأنهما ديناران، فلما رآه خليفة فَرِح به؛ لأنه ما اصطاد نظيرَه في عمره، فأخذه وهو متعجِّب منه وأتى به إلى قرد أبي السعادات اليهودي، وهو كأنه قد ملك الدنيا بحذافيرها، فقال له: ما تريد أن تصنع بهذا يا خليفة؟ وأي شيء تعمل في قردك؟ فقال له خليفة: أنا أخبرك يا سيد القرود كلها بما أفعله؛ اعلم أني قبل كل شيء أتدبَّر في هلاك هذا الملعون قردي وأتَّخِذُكَ عوضًا عنه، وأُطعِمك في كل يوم ما تشتهيه. فقال له القرد: حيث إنك قد اخترتَني فأنا أقول لك كيف تفعل أنت، ويكون فيه صلاح حالك إن شاء الله تعالى، فافهم ما أقوله لك، وهو أنك تهيِّئ لي أنا الآخَر حبلًا وتربطني به في شجرة، ثم تتركني وتذهب إلى وسط الرصيف وتطرح شبكتك في بحر الدجلة، وإذا طرحتَها فاصبر عليها قليلًا واسحبها، فإنك تجد فيها سمكةً ما رأيتَ أظرف منها طول عمرك، فهاتها وتعال عندي وأنا أقول لك كيف تفعل بعد ذلك.

فعند ذلك قام خليفة من وقته وساعته وطرح الشبكة في بحر الدجلة وسحبها، فرأى فيها سمكة بيضاء قدر الخروف، ما رأى مثلها في طول عمره، وهي أكبر من الحوت الأول، فأخذها وذهب بها إلى القرد. فقال له القرد: هاتِ لك قدرًا من الحشيش الأخضر واجعل نصفه في قفة، وحط السمكة عليها وغطِّها بالنصف الآخَر واتركنا مربوطَيْن، ثم احمل القفة على كتفك وادخل بها في مدينة بغداد، وكل مَن كلَّمَك أو سألك فلا تردَّ عليه جوابًا حتى تدخل سوق الصيارف، فتجد في صدر السوق دكَّان المعلم أبي السعادات اليهودي شيخ الصيارف، وتراه قاعدًا على مرتبة ووراءه مخدة وبين يدَيْه صندوقان؛ واحد للذهب والآخر للفضة، وعنده مماليك وعبيد وغلمان، فتقدَّمْ إليه وحطَّ القفة قدَّامه وقُلْ له: يا أبا السعادات، إني قد خرجتُ اليومَ إلى الصيد وطرحتُ الشبكة على اسمك، فبعث الله تعالى هذه السمكة. فيقول: هل أَرَيْتَها لغيري؟ فقُلْ له: لا والله. فيأخذها منك ويعطيك دينارًا فردَّه عليه، فيعطيك دينارين فردَّهما عليه، وكلما يعطيك شيئًا ردَّه عليه ولو أعطاك وزنها ذهبًا فلا تأخذ منه شيئًا؛ فيقول لك: قُلْ لي ما تريد؟ فقُلْ له: والله ما أبيعها إلا بكلمتين. فإذا قال لك: وما هما الكلمتان؟ فقُلْ له: قُمْ على رجلَيْكَ وقُلْ: اشهدوا يا مَن حضر في السوق أني أبدلْتُ قردَ خليفة الصياد بقردي، وأبدلْتُ قسمه بقسمي، وبخته ببختي، وهذا ثمنها وما لي حاجة بالذهب. فإذا فعَلَ معك ذلك، فأنا كل يوم أصبِّحك وأمسِّيك، وتبقى كل يوم تكسب عشرة دنانير ذهبًا، ويصير أبو السعادات اليهودي يصبِّحه قرده هذا الأعور الأعرج، فيبليه الله كلَّ يوم بغرامة يغرمها، ولا يزال كذلك حتى يفتقر ويصير لا يملك شيئًا أبدًا؛ فاسمع مني ما أقوله لك تسعد وترشد.

فلما سمع خليفة الصياد كلامَ القرد قال له: قبلتُ ما أشرتَ به عليَّ يا ملك القرود كلها، وأما هذا المشئوم لا بارَكَ الله فيه، فإني لا أدري أي شيء أعمل معه. فقال له: سيبه في الماء وسيبني أنا الآخَر. فقال: سمعًا وطاعة. ثم تقدَّمَ إلى القرود وحلَّها وتركها، فنزلت في البحر، وتقدَّمَ خليفة إلى السمكة وأخذها وغسلها، وجعل تحتها حشيشًا أخضر في المقطف وغطَّاها بحشيش أيضًا، وحملها على كتفه وسار يغنِّي بهذا الموال:

سَلِّمْ أُمُورَكْ إِلَى رَبِّ السَّمَا تَسْلَمْ
وَافْعَلْ جَمِيلًا يَطُلْ عُمْرُكْ وَلَا تَنْدَمْ
وَلَا تُعَاشِرْ لِأَرْبَابِ التُّهَمْ تُتْهَمْ
وَصُنْ لِسَانَكَ لَا تَشْتُمْ بِهِ تُشْتَمْ

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤