فلما كانت الليلة ٨٣٩

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخياط علم أن الخليفة قد عبر على خليفة الصياد وهو يصطاد، وقد مزح معه وأعطاه الفرجية، ثم توجَّهَ الصياد إلى بيته. هذا ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر الخليفة هارون الرشيد، فإنه ما طلع إلى الصيد والقنص إلا لأجل ما يشتغل عن الجارية قوت القلوب، وكانت زبيدة لما سمعت بالجارية واشتغال الخليفة بها أخذها ما يأخذ النساء من الغيرة، حتى امتنعت عن الطعام والشراب وهجرت لذيذ المنام، وصارت تنتظر غياب الخليفة أو سفره حتى تنصب لقوت القلوب شَرَكَ المكائد، فلما علمت أن الخليفة خرج إلى الصيد والقنص، أمرَتِ الجواري أن يفرشْنَ الدار، وأكثرت من الزينة والافتخار، ووضعت الأطعمة والحلويات، وعملت من جملة ذلك طبقًا صينيًّا فيه حلاوة من ألطف ما يكون، ووضعَتْ فيه البنج وبنَّجته، ثم إنها أمرَتْ بعض الخدَّام أن يمضي إلى الجارية قوت القلوب، ويدعوها إلى زاد السيدة زبيدة بنت القاسم زوجة أمير المؤمنين ويقول لها: إن زوجة أمير المؤمنين قد شربت اليوم دواءً، وقد سمعت بطيب نغمك، فاشتهَتْ أن تتفرج على شيء من صناعتك. فقالت: سمعًا وطاعة لله وللسيدة زبيدة. ثم إنها نهضَتْ قائمةً من وقتها وساعتها، ولم تعلم بما هو مخبوء لها في الغيب، وأخذت معها ما تحتاج من الآلات وسارت مع الخادم، ولم تزل سائرة حتى دخلت على السيدة زبيدة. فلما دخلَتْ عليها قبَّلَتِ الأرضَ بين يدَيْها مرارًا عديدة، ثم نهضت قائمةً على قدمَيْها وقالت: السلام على الستر الرفيع والجناب المنيع، والسلالة العباسية والبضعة النبوية، بلَّغَكِ اللهُ الإقبالَ والسلام في الأيام والأعوام. ثم وقفت من جملة الجواري والخدام، فعند ذلك رفعَتْ إليها السيدة زبيدة رأسَها ونظرت إلى حُسْنها وجمالها، فرأت جاريةً أسيلةَ الخدود، رمانيةَ النهود، بوجهٍ أقمر، وجبينٍ أزهر، وطرفٍ أحور، قد سكنَتْ جفونها فتورًا، وابتهج وجهها نورًا، كأن الشمس تطلع من غرتها، وظلام الليل من طرتها، والمسك يفوح من نكهتها، والأزهار تزهو من بهجتها، والقمر يبدو من جبينها، والغصن يميل من قدِّها، كأنها البدر التام قد أشرق في جنح الظلام، وقد تغزلت عيناها، وتقوَّس حاجباها، وصِيغَتْ من المرجان شفتاها، تذهل بحُسْنها كلَّ مَن نظَرَها، وتَسْحَر بطَرْفها كلَّ مَنْ رآها، جلَّ مَن خلَقَها وكمَّلَها وسوَّاها؛ وهي كما قال الشاعر فيمَن ضاهاها:

إِذَا غَضِبَتْ رَأَيْتَ النَّاسَ قَتْلَى
وَإِنْ رَضِيَتْ فَأَرْوَاحٌ تَعُودُ
لَهَا مِنْ طَرْفِهَا لَحَظَاتُ سِحْرٍ
تُمِيتُ بِهَا وَتُحْيِي مَنْ تُرِيدُ
وَتَسْبِي الْعَالَمِينَ بِمُقْلَتَيْهَا
كَأَنَّ الْعَالَمِينَ لَهَا عَبِيدُ

ثم إن السيدة زبيدة قالت لها: أهلًا وسهلًا ومرحبًا بك يا قوت القلوب، اجلسي حتى تفرجينا على أشغالك وحُسْن صناعتك. فقالت: سمعًا وطاعة. ثم جلست ومدَّتْ يدها وأخذت الدفَّ الذي قال فيه بعضُ واصفيه هذه الأبياتَ:

أَيَا ذَا الطَّارِ قَلْبِي طَارَ شَوْقًا
وَيَصْرُخُ مِنْ جَوَاهُ وَأَنْتَ تَضْرِبْ
فَلَمْ تَأْخُذْ سِوَى قَلْبٍ جَرِيحٍ
عَلَى تَوْقِيعِكَ الْإِنْسَانُ يَرْغَبْ
فَقُلْ قَوْلًا ثَقِيلًا أَوْ خَفِيفًا
وَلَحِّنْ مَا تَشَاءُ فَأَنْتَ تُطْرِبْ
وَطِبْ وَاخْلَعْ عِذَارَكَ يَا مُحِبُّ
وَقُمْ وَارْقُصْ وَمِلْ وَاعْجِبْ وَعَجِّبْ

ثم ضربَتْ ضربًا كثيرًا وغنَّتْ حتى أوقفت الطير وهاجَ بهم المكان، ثم حطَّتِ الدفَّ وأخذت الشبَّابة التي قيل فيها هذا البيتُ:

لَهَا أَعْيُنٌ إِنْسَانُهَا بِأَصَابِعٍ
يُشِيرُ إِلَى لَحْنٍ صَحِيحٍ بِلَا شَكْلِ

وكما قال الشاعر أيضًا هذا البيت:

إِذَا أَنْهَتْ إِلَى الْقَصْدِ الْأَغَانِي
يَطِيبُ الْوَقْتُ مِنْ طَرَبٍ بِوَصْلِ

ثم إنها حطَّتِ الشبَّابةَ بعد أن طرب بها كلُّ مَن حضَرَ، ثم أخذَتِ العودَ الذي قال فيه الشاعر:

وَغُصْنٍ رَطِيبٍ عَادَ عَوْدَةَ قَيْنَةٍ
يَحِنُّ إِلَيْهِ الْأَكْرَمُونَ الْأَفَاضِلُ
تَجُسُّ وَتَبْلُزُهُ لِفَرْطِ ذِكَائِهَا
بِأَنْمُلِهَا مَا أَتْقَنَتْهُ السَّلَاسِلُ

فشدَّتْ أوتاره وعركت آذانه، وحطته في حجرها وانحنت عليه انحناءَ الوالدة على ولدها، فكأنَّ الشاعر قال فيها وفي عودها هذه الأبيات:

قَدْ أَفْصَحَتْ بِالْوَتَرِ الْأَعْجَمِي
وَأَفْهَمَتْ مَنْ لَمْ يَكُنْ فَاهِمْ
وَخَبَّرَتْ أَنَّ الْهَوَى قَاتِلٌ
يُودِي بِعَقْلِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمْ
جَارِيَةٌ لِلهِ مِنْ كَفِّهَا
مُصَوِّرٌ يَنْطِقُ عَنْ ذِي فَمْ
قَدْ حَبَسَتْ بِالْعُودِ مَجْرَى الْهَوَى
حَبْسَ الطَّبِيبِ الْعَدْلِ مَجْرَى الدَّمْ

ثم ضربت أربع عشرة طريقة، وغنَّتْ نوية كاملة حتى أذهلَتِ الناظرين وأطربَتِ السامعين، ثم أنشدت هذين البيتين:

قَدَمٌ عَلَيْكَ مُبَارَكٌ
فِيهِ السُّرُورُ يُجَرَّدُ
إِقْبَالُهُ مُتَوَاتِرٌ
وَنَعِيمُهُ لَا يَنْفَدُ

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤