فلما كانت الليلة ٨٤٠

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية قوت القلوب لما غنَّتِ الأشعار وضربَتْ على الأوتار بين يدي السيدة زبيدة، كادت أن تعشقها وقالت في نفسها: ما يُلام ابن عمي الرشيد في عشقها. ثم إن الجارية قبَّلَتِ الأرضَ بين يدي زبيدة وقعدت، فقدَّموا لها الطعام، ثم قدَّموا الحلو وقدَّموا الصحن الذي فيه البنج فأكلَتْ منه، فما استقرت الحلوى في جوفها حتى انقلب رأسها وانطرحت على الأرض نائمة، فقالت السيدة زبيدة للجواري: ارفَعْنَها إلى بعض المقاصير حتى أطلبها. فقُلْنَ لها: سمعًا وطاعة. ثم قالت لبعض الخدام: اعمل لنا صندوقًا وَأْتِنِي به. ثم أمرت أن يعمل صورةَ قبرٍ ويشيعوا أن الجارية قد شرقَتْ وماتت، ونبَّهَتْ على خواصِّها أن كلَّ مَن قال إنها بالحياة تضرب رقبته. وإذا بالخليفة قد أتى في تلك الساعة من الصيد والقنص، وأول ما سأل سأل عن الجارية، فتقدَّمَ إليه بعض خدمه وقد كانت أوصته السيدة زبيدة أنه إذا سأله الخليفة عنها يقول له إنها ماتت، فقبَّلَ الأرضَ بين يدَيْه وقال له: يا سيدي تعيش رأسك، وتيقَّنْ أن قوت القلوب غصَّتْ بالطعام فماتَتْ. فقال الخليفة: لا بشَّرَكَ الله بالخير يا عبد السوء. ثم قام ودخل القصر، فسمع بموتها من كلِّ مَن في القصر، فقال: أين قبرها؟ فأتوا به إلى التربة وأروه القبر الذي عُمِل تزويرًا وقالوا له: هذا قبرها. فلما نظره صاح واعتنق القبر وبكى وأنشد هذين البيتين:

بِاللهِ يَا قَبْرُ هَلْ زَالَتْ مَحَاسِنُهَا
وَهَلْ تَغَيَّرَ ذَاكَ الْمَنْظَرُ النَّضِرُ
يَا قَبْرُ مَا أَنْتَ لَا رَوْضٌ وَلَا أُفُقٌ
فَكَيْفَ يُجْمَعُ فِيكَ الْغُصْنُ وَالْقَمَرُ

ثم إن الخليفة بكى عليها بكاءً شديدًا، ومكث هناك ساعة زمانية ثم قام من عند القبر وهو في غاية الحزن، فعلمت السيدة زبيدة أن حيلتها قد تمَّتْ، فقالت للخادم: هاتِ الصندوقَ. فأحضَرَه بين يدَيْها، فأحضرت الجارية ووضعَتْها فيه وقالت للخادم: اجتهِدْ في بيع الصندوق واشترِطْ على مَن يشتريه أن يشتريه وهو مقفول، ثم تصدَّقْ بثمنه. فأخذه الخادم وخرج من عندها وامتثل أمرها.

هذا ما كان من أمر هؤلاء، وأما ما كان من أمر خليفة الصياد، فإنه لما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح، قال: ليس لي شغل في هذا اليوم أحسن من رواحي إلى الطواشي الذي قد اشترى مني السمك، فإنه واعَدَني أن أروح إليه في دار الخلافة. ثم إن خليفة خرج من داره قاصدًا دار الخلافة، فلما وصل إليها وجد المماليك والعبيد والخدم قيامًا وقعودًا، فتأمَّلَهم وإذا بالخادم الذي أخذ منه السمك جالس والمماليك في خدمته، فصاح عليه غلامٌ من المماليك، فالتفَتَ إليه الخادم لينظر مَن هو وإذا هو بالصياد، فلما عرف الصياد أنه رآه وتحقَّقَ ذاته، قال له: ما قصرت يا شقير، هكذا تكون أصحاب الأمانات. فلما سمع الخادم كلامه، ضحك عليه وقال له: والله لقد صدقْتَ يا صياد. ثم إن الخادم صندل أرادَ أن يعطيه شيئًا، فمدَّ يده إلى جيبه وإذا بصياح عظيم، فرفع الخادم رأسه لينظر ما الخبر، وإذا بالوزير جعفر البرمكي خارج من عند الخليفة، فلما رآه الخادم نهض إليه قائمًا ومشى بين يدَيْه وصارَا يتحدثان وهما ماشيان حتى طال الوقت، فوقف خليفة الصياد مدة والخادم لم يلتفت إليه، فلما طال وقوفه تعرَّضَ إليه الصياد وهو بعيد عنه وأشار إليه بيده وقال: يا سيدي شقير، خليني أروح. فسمعه الخادم واستحى أن يردَّ عليه بسبب حضور الوزير جعفر، وصار الخادم يتحدَّث مع الوزير ويتشاغل عن الصياد، فقال خليفة: يا مماطِلُ، قبَّحَ الله كلَّ ثقيل وكلَّ مَن يأخذ متاع الناس ويتثاقل عليهم، أنا دخيلك يا سيدي كرش النخال أن تعطيني الذي لي لأجل أن أروح. فسمعه الخادم فاستحى من جعفر، ورآه أيضًا جعفر وهو يشير بيدَيْه ويتحدَّث مع الخادم، ولكنه لم يعرف ما يقوله له، فقال للخادم وقد أنكَرَ عليه: يا طواشي، أي شيء يطلب منك هذا السائل المسكين؟ فقال له صندل الخادم: أَمَا تعرف هذا يا مولانا الوزير؟ فقال الوزير جعفر: والله ما أعرفه، ومن أين أعرف هذا وأنا ما رأيتُه إلا في هذه الساعة؟ فقال له الخادم: يا مولانا هذا الصياد الذي نهبنا سمكه من شاطئ الدجلة، وكنتُ أنا ما لحقت شيئًا واستحييت أن أرجع إلى أمير المؤمنين بلا شيء وكل المماليك قد أخذوا، فلما وصلتُ إليه وجدتُه واقفًا في وسط البحر يدعو الله ومعه أربع سمكات، فقلتُ له: هاتِ ما معك وخذ حقه. فلما أعطاني السمك أدخلتُ يدي في جيبي وأردتُ أن أعطيه شيئًا، فما رأيت فيه شيئًا. فقلت له: تعالَ إليَّ في القصر وأنا أعطيك شيئًا تستعين به على فقرك. فجاءني في هذا اليوم، فمددتُ يدي وأردتُ أن أعطيه شيئًا فجئتَ أنت، فقمتُ في خدمتك واشتغلتُ بك عنه، فطال عليه الأمر؛ فهذه قصته وهذا سبب وقوفه. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤