فلما كانت الليلة ٨٤٩

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن مسرورًا لما زاد به الهيام، صار ينشد الأشعار وهو في غاية الشوق، فبينما هو يترنَّم بتلك الأبيات ويردِّدها؛ إذ سمعته هبوب فطرقَتْ عليه الباب، فقام وفتح لها فدخلَتْ وناولَتْه الكتاب، فأخذه وقرأه وقال لها: يا هبوب، ما وراءك من أخبار سيدتك؟ فقالت: يا سيدي، إن في هذا الكتاب ما يُغنِي عن ردِّ الجواب، وأنت من ذوي الألباب. ففرح مسرور فرحًا شديدًا وأنشد هذين البيتين:

وَرَدَ الْكِتَابُ فَسَرَّنَا مَضْمُونُهُ
وَسُرِرْتُ أَنِّي فِي الْفُؤَادِ أَصُونُهُ
وَازْدَدْتُ شَوْقًا عِنْدَمَا قَبَّلْتُهُ
فَكَأَنَّمَا دُرُّ الْهَوَى مَكْنُونُهُ

ثم إنه كتب كتابًا جوابًا لها وأعطاه لهبوب، فأخذته وأتَتْ به إلى زين المواصف، فلما وصلَتْ إليها به صارت تشرح لها محاسنه، وتذكر أوصافه وكرمه، وصارت مساعِدةً له على جَمْع شمْلِه بها، فقالت لها زين المواصف: يا هبوب، إنه أبطأ عن الوصول إلينا. فقالت لها هبوب: إنه سيأتي سريعًا. فلم تستتم كلامها وإذا به قد أقبَلَ وطرق الباب، ففتحَتْ له وأخذَتْه وأجلسَتْه عند سيدتها زين المواصف، فسلَّمَتْ عليه ورحَّبَتْ به وأجلسته إلى جانبها، ثم قالت لجاريتها هبوب: هاتِ له بدلةً من أحسن ما يكون. فقامت هبوب وأتَتْ ببدلة مذهبة، فأخذتها وأفرغتها عليه، وأفرغت على نفسها بدلة أيضًا من أفخر الملابس، ووضعت على رأسها سبيكةً من اللؤلؤ الرطب، وربطت على السبيكة عصابةً من الديباج مكلَّلة بالدر والجوهر واليواقيت، وأرخَتْ من تحت العصابة سالفتين، ووضعت في كل سالفة ياقوتة حمراء مرقومة بالذهب الوهَّاج، وأرخَتْ شَعْرها كأنه الليل الداجي، وتبخَّرَتْ بالعود وتعطَّرَتْ بالمسك والعنبر، فقالت لها جاريتها هبوب: الله يحفظك من العين. فصارَتْ تمشي وتتبختر في خطواتها وتتعطَّف، فأنشدت الجارية من بديع شعرها هذه الأبيات:

خَجِلَتْ غُصُونُ الْبَانِ مِنْ خَطَوَاتِهَا
وَسَطَتْ عَلَى الْعُشَّاقِ مِنْ لَحَظَاتِهَا
قَمَرٌ تَبَدَّى فِي غَيَاهِبِ شَعْرِهَا
كَالشَّمْسِ تُشْرِقُ فِي دُجَى وَفَرَاتِهَا
طُوبَى لِمَنْ بَاتَتْ تَلِيهِ بِحُسْنِهَا
وَيَمُوتُ فِيهَا حَالِفًا بِحَيَاتِهَا

فشكَرَتْها زين المواصف، ثم إنها أقبَلَتْ على مسرور وهي كالبدر المشهور، فلما رآها مسرور نهض قائمًا على قدمَيْه، وقال: إنْ صدقني ظني، فما هي إنسية وإنما هي من عرائس الجنة. ثم إنها دعَتْ بالمائدة فحضرت، وإذا مكتوب على أطراف المائدة هذه الأبيات:

عُجْ بِالْمَلَاعِقِ فِي رَبْعِ السَّكَارِيجِ
وَلُذْ بِنَوْعِ الْقَلَايَا وَالطَّيَاهِيجِ
عَلَيْهِ … مَا زِلْتُ أَعْشَقُهَا
مَعَ الْفِرَاخِ … وَالْفَرَارِيجِ
لِلهِ دَرُّ الْكَبَابِ الَّذِي يَزْهُو بِحُمْرَتِهِ
وَالْبَقْلُ يُغْمَسُ فِي خَلِّ السَّكَارِيجِ
نِعْمَ الْأَرُزُّ بِأَلْبَانِ الْحَلِيبِ غَدَتْ
فِيهِ الْكُفُوفُ إِلَى حَدِّ الدَّمَالِيجِ
يَا لَهْفَ قَلْبِي عَلَى لَوْنَيْنِ مِنْ سَمَكٍ
لَدَى رَغِيفَيْنِ مِنْ خُبْزِ التَّوَارِيجِ

ثم إنهم أكلوا وشربوا وتلذَّذوا وطربوا، ورُفِعت سُفْرة الطعام وقدَّموا سُفْرة المُدَام، ودار بينهم الكأس والطاس، وطابت لهم الأنفاس، وملأ الكأسَ مسرور وقال: يا مَن أنا عبدها وهي سيدتي. ثم صار يترنَّم بإنشاد هذه الأبيات:

عَجِبْتُ لِعَيْنِي إِنْ تَمِلْ لِمُلَالِهَا
بِحُسْنِ فَتَاةٍ أَشْرَقَتْ بِجَمَالِهَا
وَلَيْسَ لَهَا فِي عَصْرِهَا مِنْ مُشَابِهٍ
لِلُطْفِ مَعَانِيهَا وَحُسْنِ خِصَالِهَا
وَيَحْسُدُ غُصْنُ الْبَانِ لِينَ قَوَامِهَا
إِذَا خَطَرَتْ فِي حُلَّةٍ بِاعْتِدَالِهَا
بِوَجْهٍ مُنِيرٍ يُخْجِلُ الْبَدْرَ فِي الدُّجَى
وَفَرْقٍ حَكَى فِي النُّورِ ضَوْءَ هِلَالِهَا
إِذَا خَطَرَتْ فِي الْأَرْضِ يَعْبَقُ نَشْرُهَا
نَسِيمًا يُرَى فِي سَهْلِهَا وَجِبَالِهَا

فلما فرغ مسرور من شعره قالت: يا مسرور، كلُّ مَن تمسَّكَ بدينه وقد أكل خبزنا وملحنا، وجَبَ حقُّه علينا، فخلِّ عنك هذه الأمور، وأنا أرد عليك أملاكك وجميع ما أخذناه منك. فقال: يا سيدتي، أنتِ في حِلٍّ مما تذكرينه، وإنْ كنت غدرت في اليمين التي بيني وبينك فأنا أروح وأصير مسلمًا. فقالت لها جاريتها هبوب: يا سيدتي، أنتِ صغيرة السن وتعرفين كثيرًا، وأنا أستشفع عندك بالله العظيم، فإنْ لم تطيعيني في أمري وتَجْبري خاطري، لا أنام الليلةَ عندك في الدار. فقالت لها: يا هبوب، لا يكون إلا ما تريدينه، قومي جدِّدِي لنا مجلسًا آخَر. فنهضَتِ الجاريةُ هبوب وجدَّدَتْ مجلسًا وزيَّنَتْه وعطَّرَتْه بأحسن العطر كما تحب وتختار، وجهَّزَتِ الطعامَ وأحضرَتِ المُدَام، ودار بينهم الكأس والطاس، وطابت منهم الأنفاس. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤