فلما كانت الليلة ٨٥٠

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن زين المواصف لما أمرَتْ جاريتها هبوب بتجديد مجلس الأنس، قامت وجدَّدَتِ الطعام والمُدام، ودار بينهم الكأس والطاس، وطابت منهم الأنفاس، فقالت زين المواصف: يا مسرور، قد آنَ أوانُ اللقاء والتداني، فإن كنتَ لحبِّنا تعاني، فأنشِدْ لنا شعرًا بديعَ المعاني. فأنشَدَ مسرور هذه القصيدة:

أُسِرْتُ وَفِي قَلْبِي لَهِيبٌ تَضَرَّمَا
بِحَبْلِ وِصَالٍ فِي الْفِرَاقِ تَصَرَّمَا
أُحِبُّ فَتَاةً قَدَّ قَلْبِي قَوَامُهَا
وَقَدْ سَلَبَتْ عَقْلِي بِخَدٍّ تَنَعَّمَا
لَهَا الْحَاجِبُ الْمَقْرُونُ وَالطَّرْفُ أَحْوَرُ
وَثَغْرٌ يُحَاكِي الْبَرْقَ حِينَ تَبَسَّمَا
لَهَا مِنْ سِنِينَ الْعُمْرِ عَشْرٌ وَأَرْبَعٌ
وَدَمْعِي حَكَى فِي حُبِّ هَاتِيكَ عِنْدَمَا
فَعَايَنْتُهَا مَا بَيْنَ نَهْرٍ وَرَوْضَةٍ
بِوَجْهٍ يَفُوقُ الْبَدْرَ فِي أُفُقِ السَّمَا
وَقَفْتُ لَهَا شِبْهَ الْأَسِيرِ مَهَابَةً
وَقُلْتُ سَلَامُ اللهِ يَا سَاكِنَ الْحِمَى
فَرَدَّتْ سَلَامِي عِنْدَ ذَلِكَ رَغْبَةً
بِلُطْفِ حَدِيثٍ مِثْلِ دُرٍّ تَنَظَّمَا
وَحِينَ رَأَتْ قَوْلِي لَدَيْهَا تَحَقَّقَتْ
مَرَامِي وَصَارَ الْقَلْبُ مِنْهَا مُصَمَّمَا
وَقَالَتْ أَمَا هَذَا الْكَلَامُ جَهَالَةٌ
فَقُلْتُ لَهَا كُفِّي عَنِ الصَّبِّ التَّلَوُّمَا
فَإِنْ تَقْبَلِينِي الْيَوْمَ فَالْخَطْبُ هَيِّنٌ
فَمِثْلُكِ مَعْشُوقٌ وَمِثْلِي مُتَيَّمَا
فَلَمَّا تَيَقَّنَتِ الْمَرَامَ تَبَسَّمَتْ
وَقَالَتْ وَرَبِّ خَالِقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَا
يَهُودِيَّةٌ أَقْسَى التَّهَوُّدِ دِينُهَا
وَمَا أَنْتَ إِلَّا لِلنَّصَارَى مُلَازِمَا
فَكَيْفَ تَرَى وَصْلِي وَلَسْتَ بِمِلَّتِي
فَمَنْ رَامَ هَذَا الْفِعْلَ أَصْبَحَ نَادِمَا
أَتَلْعَبُ بِالدِّينَيْنِ هَلْ حُلَّ فِي الْهَوَى
لِتُصْبِحَ مِثْلِي بِالمَلَامِ مُكَلَّمَا
وَتَمْضِي بِهَذَا الْأمْرِ فِي كُلِّ وُجْهَةٍ
وَتَبْقَى عَلَى دِينِي وَدِينِكَ مُجْرِمَا
فَإِنْ كُنْتَ تَهْوَانِي تَهَوَّدْ مَحَبَّةً
وَصَيِّرْ سِوَى وَصْلِي عَلَيْكَ مُحَرَّمَا
وَتَحْلِفُ بِالْإِنْجِيلِ قَوْلًا مُحَقَّقًا
لِتَحْفَظَ سِرِّي فِي هَوَاكَ وَتَكْتُمَا
وَأَحْلِفُ بِالتَّوْرَاةِ أَيْمَانَ صَادِقٍ
بِأَنِّي عَلَى الْعَهْدِ الَّذِي قَدْ تَقَدَّمَا
حَلَفْتُ عَلَى دِينِي وَشَرْعِي وَمَذْهَبِي
وَحَلَّفْتُهَا مِثْلِي يَمِينًا مُعَظَّمَا
وَقُلْتُ لَهَا مَا الْإِسْمُ يَا غَايَةَ الْمُنَى
فَقَالَتْ أَنَا زَيْنُ الْمَوَاصِفِ فِي الْحِمَى
فَنَادَيْتُ يَا زَيْنَ الْمَوَاصِفِ إِنَّنِي
بِحُبِّكِ مَشْغُوفٌ فَعِينِي الْمُتَيَّمَا
وَعَايَنْتُ مِنْ تَحْتِ اللِّثَامِ جَمَالَهَا
فَصِرْتُ كَئِيبًا سَيِّئَ الْحَالِ مُغْرَمَا
فَمَا زِلْتُ تَحْتَ السِّتْرِ أَخْضَعُ شَاكِيًا
كَثِيرَ غَرَامٍ فِي الْفُؤَادِ تَحَكَّمَا
فَلَمَّا رَأَتْ حَالِي وَفَرْطَ تَوَلُّهِي
جَلَتْ لِيَ وَجْهًا ضَاحِكًا مُتَبَسِّمَا
وَهَبَّ لَنَا رِيحُ الْوِصَالِ وَعَطَّرَتْ
نَوافِحُ عِطْرِ الْمِسْكِ جِيدًا وَمِعْصَمَا
وَقَدْ عَبَقَتْ مِنْهَا الْأَمَاكِنُ كُلُّهَا
وَقَبَّلْتُ مِنْ فِيهَا رَحِيقًا وَمَبْسِمَا
وَمَالَتْ كَغُصْنِ الْبَانِ تَحْتَ غَلَائِلَ
وَحَلَّلْتُ وَصْلًا كَانَ قَبْلُ مُحَرَّمَا
نَعِمْنَا جَمِيعًا وَالْقُمَيْرُ سَمِيرُنَا
بِضَمٍّ وَلَثْمٍ وَارْتِشَافٍ مِنَ اللَّمَى
وَمَا زِينَةُ الدُّنْيَا سِوَى مَنْ تُحِبُّهُ
يَكُونُ قَرِيبًا مِنْكَ كَيْ تَتَنَعَّمَا
فَلَمَّا تَجَلَّى الصُّبْحُ قَامَتْ وَوَدَّعَتْ
بَوَجْهٍ جَمِيلٍ فَائِقٍ قَمَرَ السَّمَا
وَقَدْ أَنْشَدَتْ عِنْدَ الْوَدَاعِ وَدَمْعُهَا
وَدَمْعِي عَلَى الْخَدَّيْنِ دُرًّا مُنَظَّمَا
فَإِنْ أَنْسَ مَا أَنْسَى عُهُودًا قَطَعْتُهَا
وَحُسْنَ اللَّيَالِي وَالْيَمِينَ الْمُعَظَّمَا

فعند ذلك طربت زين المواصف وقالت: يا مسرور، ما أحسن معانيك! ولا عاش مَن يُعادِيك. ثم دخلت المقصورة ودعَتْ بمسرور، فدخل عندها واحتضَنَها وعانَقَها وقبَّلها، وبلغ منها ما ظنَّ أنه محالٌ، وفرح بما نال من طِيبِ الوصال، فعند ذلك قالت له زين المواصف: يا مسرور، إن مالك حرام علينا حلال لك؛ لأننا قد صرنا أحبابًا. ثم إنها ردَّتْ عليه جميعَ ما أخذته من الأموال، وقالت له: يا مسرور، هل لك من روضة تأتي إليها ونتفرج عليها؟ قال: نعم يا سيدتي، لي روضة ليس لها نظير. ثم مضى إلى منزله وأمر جواريه أن يصنعْنَ طعامًا فاخرًا، وأن يهيِّئن مجلسًا حسنًا وصحبة عظيمة، ثم إنه دعاها إلى منزله، فحضرت هي وجواريها فأكلوا وشربوا وتلذَّذوا وطربوا، ودار بينهم الكأس والطاس، وطابت منهم الأنفاس، وخلا كل حبيب بحبيبه، فقالت له: يا مسرور، إنه خطر ببالي شعر رقيق أريد أن أقوله على العود. فقال لها: قوليه. فأخذت العود بيدها وأصلحَتْ شأنه وحرَّكَتْ أوتاره وحسَّنت النغمات، وأنشدت تقول هذه الأبيات:

قَدْ مَالَ بِي طَرَبٌ مِنَ الْأَوْتَارِ
وَصَفَا الصَّبُوحُ لَنَا لَدَى الْأَسْحَارِ
وَالْحُبُّ يَكْشِفُ عَنْ فُؤَادِ مُتَيَّمٍ
فَبَدَا الْهَوَى بَتَهَتُّكِ الْأَسْتَارِ
مَعْ خَمْرَةٍ رَقَّتْ بِحُسْنِ صِفَاتِهَا
كَالشَّمْسِ تُجْلَى فِي يَدِ الْأَقْمَارِ
فِي لَيْلَةٍ جَاءَتْ لَنَا بِسُرُورِهَا
تَمْحُو بِصَفْوٍ شَائِبَ الْأَكْدَارِ

فلما فرغت من شعرها قالت له: يا مسرور، أنشِدْنا شيئًا من أشعارك، ومتِّعْنا بفواكه أثمارك. فأنشَدَ هذين البيتين:

طَرِبْنَا عَلَى بَدْرٍ يُدِيرُ مُدَامَةً
وَنَغْمَةَ عُودٍ فِي رِيَاضِ مَقَامِنَا
وَغَنَّتْ قَمَارِيهَا وَمَالَتْ غُصُونُهَا
سُحَيْرًا وَفِي أَنْحَائِهَا غَايَةُ الْمُنَى

فلما فرغ من شعره، قالت له زين المواصف: أنشِدْ لنا شعرًا فيما وقَعَ لنا، إنْ كنتَ مشغولًا بحبنا. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤