فلما كانت الليلة ٨٥٦

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن مسرورًا لما رأى في المنام زين المواصف وهي تعانقه فرح غايةَ الفرح، ثم انتبه من النوم وراح إلى دارها، فرأى الدارَ خالية، فزادت أحزانه ووقع مغشيًّا عليه، فلما أفاق جعل ينشد هذه الأبيات:

تَنَشَّقْتُ مِنْهُمْ فَائِحَ الْعِطْرِ وَالْبَانِ
فَرُحْتُ بِقَلْبٍ زَائِدِ الْوَجْدِ وَلْهَانِ
أُعَالِجُ أَشْوَاقِي كَئِيبًا مُتَيَّمًا
بِرَبْعٍ خَلَا عَنْ حُسْنِ أُنْسِي وَخِلَّانِي
فَأَمْرَضَنِي بِالْبَيْنِ وَالْوَجْدِ وَالْأَسَى
وَذَكَّرَنيِ الْعَهْدُ الْقَدِيمُ بِخِلَّانِي

فلما فرغ من شعره سمع غرابًا ينعق على جانب الدار، فبكى وقال: سبحان الله، لا ينعق الغراب إلا على الدار الخراب. ثم تجسَّرَ وتنهَّدَ وأنشد هذه الأبيات:

مَا لِلْغُرَابِ بِدَارِ الْحُبِّ يَبْكِيهَا
وَالنَّارُ تَحْرِقُ أَحْشَائِي وَتَكْوِيهَا
عَلَى زَمَانٍ تَقَضَّى فِي مَحَبَّتِهِمْ
قَدْ رَاحَ قَلْبِي ضِيَاعًا فِي مَهَاوِيهَا
أَمُوتُ وَجْدًا وَنَارُ الشَّوْقِ فِي كَبِدِي
وَأَكْتُبُ الْكُتْبَ مَا لِي مَنْ يُؤَدِّيهَا
وَا حَسْرَتِي لِضَنَى جِسْمِي وَقَدْ رَحَلَتْ
حَبِيبَتِي يَا تُرَى تَأْتِي لَيَالِيهَا
فَيَا نَسِيمَ الصَّبَا إِنْ زُرْتَهَا سَحَرًا
سَلِّمْ عَلَيْهَا وَقِفْ بِالدَّارِ حَيِّيهَا

وقد كان لزين المواصف أختٌ تُسمَّى نسيمًا، وكانت تنظر إليه من مكانٍ عالٍ، فلما رأته على تلك الحالة بكَتْ وتحسَّرَتْ وأنشدَتْ هذه الأبيات:

كَمْ ذَا التَّرَدُّدِ فِي الْأَوْطَانِ تَبْكِيهَا
وَالدَّارُ تَنْدُبُ بِالْأَحْزَانِ بَانِيهَا
كَانَ السُّرُورُ بِهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ رَحَلَتْ
سُكَّانُهَا وَشُمُوسٌ أَشْرَقَتْ فِيهَا
أَيْنَ الْبُدُورُ الَّتِي كَانَتْ طَوَالِعَةً
مَحَتْ صُرُوفُ الرَّدَى أَبْهَى مَعَانِيهَا
دَعْ مَا مَضَى مِنْ مِلَاحٍ كُنْتَ تَأْلَفُهَا
وَانْظُرْ عَسَى تَرْجَعُ الْأَيَّامُ تُبْدِيهَا
لَوْلَاكَ مَا رَحَلَتْ سُكَّانُهَا أَبَدًا
وَلَا رَأَيْتَ غُرَابًا فِي أَعَالِيهَا

فبكى مسرور بكاءً شديدًا لمَّا سمع هذا الكلام، وفهم الشعر والنظام، وكانت أختها تعرف ما هما عليه من العِشق والغرام، والوَجْد والهيام، فقالت له: بالله عليك يا مسرور، كُفَّ عن هذا المنزل لِئلَّا يشعر بك أحدٌ فيظنُّ أنك تأتي من أجلي؛ لأنك رحَّلْتَ أختي وتريد أن ترحِّلَني أنا الأخرى، وأنت تعرف أنه لولا أنت ما خلَتِ الديار من سكَّانها، فتسلَّ عنها واتركها، فقد مضى ما مضى. فلما سمع مسرور ذلك من أختها بكى بكاءً شديدًا، وقال لها: يا نسيم، لو قدرت أن أطيرَ لَطِرتُ شوقًا إليها، فكيف أتسلَّى عنها؟ فقالت: ما لك حيلة إلا الصبر. فقال لها: سألتك بالله أن تكتبي لها كتابًا من عندك وتردِّي لنا جوابًا ليطيب خاطري، وتنطفئ النار التي في ضمائري. فقالت: حبًّا وكرامة. ثم أخذت دواة وقرطاسًا، وصار مسرور يصف لها شدة شوقه وما يكابده من ألم الفراق، ويقول: إن هذا الكتاب عن لسان الهائم الحزين، المفارق المسكين، الذي لا يقرُّ له قرارٌ في ليلٍ ولا في نهار، بل يبكي بدموع غزار، قد قرَّحَتِ الدموعُ أجفانَه، وأضرمَتْ في كَبِده أحزانَه، وطال تأسُّفه وكثر تلهُّفه، مثل طَيْر فقَدَ إلْفَه وعجَّلَ تلَفَه، فيا أسفي من مفارقتك، ويا لهفي على معاشرتك! لقد ضرَّ جسمي النحول، ودمعي صار في همول، وضاقت عليَّ الجبال والسهول، فأمسيت من فَرط وَجْدي أقول:

وَجْدِي عَلَى تِلْكَ الْمَنَازِلِ بَاقِ
زَادَتْ إِلَى سُكَّانِهَا أَشْوَاقِي
وَبَعَثْتُ نَحْوَكُمُ حَدِيثَ صَبَابَتِي
وَبِكَأْسِ حُبِّكُمُ سَقَانِي السَّاقِي
وَعَلَى رَحِيلِكُمُ وَبُعْدِ دِيَارِكُمْ
جَرَتِ الْجُفُونُ بِدَمْعِهَا الْمُهْرَاقِ
يَا حَادِيَ الْأَظْعَانِ عَرِّجْ بِالْحِمَى
فَالْقَلْبُ مِنِّي زَائِدُ الْإِحْرَاقِ
وَاقْرَأْ سَلَامِي لِلْحَبِيبِ وَقُلْ لَهُ
مَا إِنْ لَهُ غَيْرُ اللَّمَى مِنْ رَاقِ
أَوْدَى الزَّمَانُ بِهِ فَشَتَّتَ شَمْلَهُ
وَرَمَى حُشَاشَتَهُ بِسَهْمِ فِرَاقِ
بَلِّغْ لَهُمْ وَجْدِي وَشِدَّةَ لَوْعَتِي
مِنْ بَعْدِ فُرْقَتِهِمْ وَمَا أَنَا لَاقِ
قَسَمًا بِحُبِّكُمُ يَمِينًا إِنَّنِي
أُوفِي لَكُمْ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ
مَا مِلْتُ قَطُّ وَلَا سَلَوْتُ هَوَاكُمُ
كَيْفَ السُّلُوُّ لِعَاشِقٍ مُشْتَاقِ
فَعَلَيْكُمُ مِنِّي السَّلَامُ تَحِيَّةً
مَمْزُوجَةً بِالْمِسْكِ فِي الْأَوْرَاقِ

فتعجَّبَتْ أختها نسيم من فصاحة لسانه وحسن معانيه ورقة أشعاره، فرقَّتْ له وختمت الكتاب بالمسك الأدفر، وبخَّرَتْه بالندى والعنبر، وأوصلته إلى بعض التجار وقالت له: لا تسلِّم هذا إلا لأختي أو جاريتها هبوب. فقال: حبًّا وكرامة. فلما وصل الكتاب إلى زين المواصف عرفَتْ أنه من إملاء مسرور، وعرفتْ نفْسَه فيه بلطفِ مَعانيه، فقبَّلَتْه ووضعَتْه على عينيها، وأجرَتِ الدموعَ من جَفنَيْها، ولم تزل تبكي حتى غُشِي عليها. فلما أفاقَتْ دعَتْ بدواةٍ وقرطاس، وكتبَتْ له جوابَ الكِتاب، ووصفتْ شوْقَها وغَرامها ووَجْدها، وما هي فيه من الحنين إلى الأحباب، وشكت حالَها إليه وما نالها من الوَجْد عليه. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤