فلما كانت الليلة ٨٥٧

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن زين المواصف لما كتبَتْ جوابَ الكِتاب لمسرور، قالت له فيه: إنَّ هذا كِتابٌ إلى سيدي ومالِك رِقِّي ومولاي، وصاحب سِرِّي ونَجْواي. أما بعدُ، فقد أقلقني السهَرُ وزاد بي الفِكر، وما لي على بُعْدِك مصطبر، يا مَن حُسْنه يفوق الشمس والقمر، فالشوق أقلقني والوَجْد أهلكني، وكيف لا أكون كذلك وأنا مع الهالكين، فيا بهجة الدنيا وزينة الحياة، هل لمَنِ انقطعَتْ أنفاسُه أن يطيب كأسه؟ لأنه لا هو مع الأحياء ولا مع الأموات. ثم أنشدت هذه الأبيات:

كِتَابُكَ يَا مَسْرُورُ قَدْ هَيَّجَ الْبَلْوَى
فَوَاللهِ مَا لِي عَنْكَ صَبْرٌ وَلَا سَلْوَى
وَلَمَّا قَرَأْتُ الْخَطَّ حَنَّتْ جَوَارِحِي
وَمِنْ مَاءِ دَمْعِي وَالْجَوَى لَمْ أَزَلْ أُرْوَى
وَلَوْ كُنْتُ طَيْرًا طِرْتُ فِي جُنْحِ لَيْلَةٍ
فَلَمْ أَدْرِ طَعْمَ الْمَنِّ بَعْدَكَ وَالسَّلْوَى
حَرَامٌ عَلَيَّ الْعَيْشُ مِنْ بَعْدِ بُعْدِكُمْ
فَإِنِّي عَلَى حَرِّ التَّفَرُّقِ لَا أَقْوَى

ثم ترَّبَتِ الكتابَ بسحيق المسك والعنبر، وختمَتْه وأرسلته مع بعض التجار وقالت له: لا تسلِّمه إلا لأختي نسيم. فلما وصل إلى أختها نسيم أوصلته إلى مسرور، فقبَّلَه ووضعه على عينَيْه وبكى حتى غُشِي عليه.

figure
فمرَّت «زين المواصف» على دَيْرٍ في الطريق، وفيه راهبٌ كبير، فنزلَت عنده.

هذا ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر زوج زين المواصف، فإنه لمَّا علم بالمراسلات بينهما، صار يرحل بها وبجاريتيها من محل إلى محل، فقالت له زين المواصف: سبحان الله، إلى أين تسير بنا وتبعدنا عن الأوطان؟ قال: إلى أن أقطع بكم سَنَةً حتى لا يصل إليكن مُراسَلاتٌ من مسرور، وأنظر كيف أخذتنَّ جميعَ مالي وأعطيتنه لمسرور؟ فكل شيء ضاعَ لي آخُذه منكن، وأنظر هل ينفعكنَّ مسرورٌ ويَقدرُ على خلاصكنَّ من يدي؟ ثم إنه مضى إلى الحدَّاد وصنع لهن ثلاثةَ قيود من الحديد، وأتى بها إليهن ونزع ما كان عليهنَّ من الثياب الحرير، وألبسهنَّ ثيابًا من الشَّعْر، وصار يبخِّرهن بالكبريت، ثم جاء إليهن بالحداد وقال له: ضَعْ هذه القيود في أرجل هؤلاء الجواري. فأولُ ما قدَّمَ زينُ المواصف، فلما رآها الحداد غاب صوابه وعضَّ على أنامله وطار عقله من رأسه وزاد غرامه، وقال لليهودي: ما ذنب هؤلاء الجواري؟ فقال: إنهن جواريَّ وسرقْنَ مالي وهربْنَ مني. فقال له الحداد: خيَّبَ الله ظنك، والله لو كانت هذه الجارية عند قاضي القضاة وأذنبَتْ كلَّ يوم ألفَ ذنبٍ لا يؤاخذها، وأيضًا لا يظهر عليها علامة السرقة، ولا يَقدرُ على وضع الحديد في رجلَيْها. ثم سأله ألَّا يقيِّدها، وصار يستشفع عنده في عدم تقييدها. فلما نظرَتِ الحدادَ وهو يستشفع لها عنده قالت لليهودي: سألتك بالله لا تُخرِجني قدام هذا الرجل الغريب. فقال لها: وكيف خرجتِ قدام مسرور؟ فلم تردَّ له جوابًا، ثم قَبِلَ شفاعة الحداد ووضع في رجلَيْها قيدًا صغيرًا، وقيَّدَ الجواري بالقيود الثقيلة. وكان لزين المواصف جسمٌ ناعم لا يتحمَّل الخشونة، فلم تزل لابسة ثياب الشَّعْر هي وجواريها ليلًا ونهارًا إلى أن انتحلت جسومهن وتغيَّرَتْ ألوانهن. وأما الحداد فإنه وقع في قلبه لزين المواصف عشق عظيم، فسار إلى منزله وهو بأشد الحسرات، وجعل ينشد هذه الأبيات:

شُلَّتْ يَمِينُكَ يَا قَيْنُ بِمَا وَثَقَتْ
تِلْكَ الْقُيُودُ عَلَى الْأَقْدَامِ وَالْعَصَبِ
قَيَّدْتَ أَقْدَامَ مَوْلَاةٍ مُنَعَّمَةٍ
أَنِيسَةٍ خُلِقَتْ مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ
لَوْ كُنْتَ تُنْصِفُ مَا كَانَتْ خَلَاخِلُهَا
مِنَ الْحَدِيدِ وَقَدْ كَانَتْ مِنَ الذَّهَبِ
وَلَوْ رَأَى حُسْنَهَا قَاضِي الْقُضَاةِ رَثَى
لَهَا وَأَجْلَسَهَا تِيهًا عَلَى الرُّكَبِ

وكان قاضي القضاة مارًّا على دار الحداد وهو يترنَّمُ بإنشاد هذه الأبيات، فأرسَلَ إليه، فلما حضر قال: يا حدَّاد، مَن هذه التي تَلهجُ بذِكْرها وقلبُك مشغولٌ بحبها؟ فنهض الحداد قائمًا على قدمَيْه بين يدَي القاضي وقبَّلَ يده، وقال: أدامَ اللهُ أيامَ مولانا القاضي وفسح في عُمره، أنها جارية صفتها كذا وكذا. وصار يصف له الجارية وما هي فيه من الحُسْن والجَمال، والقَدِّ والاعتدال، والظُّرف والكمال، وأنها بوجه جميل، وخَصْر نحيل، ورِدْف ثقيل. ثم أخبره بما هي فيه من الذُّل والحبس والقيود وقِلَّة الزاد، فقال القاضي: يا حدَّاد، دِلَّها علينا وأوصِلْها إلينا حتى نأخذ لها حقَّها؛ لأن هذه الجارية صارت متعلِّقةً برقبتك، وإنْ كنتَ لا تدلها علينا فإن الله يجازيك يومَ القيامة. فقال الحدَّاد: سمعًا وطاعة. ثم إنه توجَّهَ من وقته وساعته إلى دار زين المواصف، فوجد الباب مُغلَقًا، وسمع كلامًا رخيمًا من كَبِد حزين؛ لأن زين المواصف كانت في ذلك الوقت تنشد هذه الأبيات:

قَدْ كُنْتُ فِي وَطَنِي وَالشَّمْلُ مَجْتَمِعٌ
وَالْحُبُّ يَمْلَأُ لِي بِالصَّفْوِ أَقْدَاحَا
دَارَتْ عَلَيْنَا بِمَا نَهْوَاهُ مِنْ طَرَبٍ
فَلَيْسَ تُنْكِرُ إِمْسَاءً وَإِصْبَاحَا
لَقَدْ قَضَيْنَا زَمَانًا كَانَ يُنْعِشُنَا
كَأْسًا وَعُودًا وَقَانُونًا وَأَفْرَاحَا
فَفَرَّقَ الدَّهْرُ وَالتَّصْرِيفُ إِلْفَتَنَا
وَالْحُبُّ وَلَّى وَوَقْتُ الصَّفْوِ قَدْ رَاحَ
فَلَيْتَ عَنَّا غُرَابَ الْبَيْنِ مُنْزَجِرٌ
وَلَيْتَ فَجْرَ وِصَالِي فِي الْهَوَى لَاحَ

فلما سمع الحدَّاد هذا الشِّعر والنظام، بكى بدمع كدمع الغمام، ثم طرق الباب عليهن، فقلْنَ: مَن بالباب؟ فقال لهن: أنا الحدَّاد. ثم أخبرهن بما قاله القاضي، وأنه يريد حضورَهن لديه وإقامة الدعوى بين يدَيْه، حتى يخلص لهن حقهن. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤