فلما كانت الليلة ٨٦٤

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أولاد التجار لما دخلوا البستان رأوا فيه كامل ما تشتهي الشفة واللسان، ووجدوا العنب مختلفَ الألوان، صنوانًا وغيرَ صنوان، كما قال فيه الشاعر:

عِنَبٌ طَعْمُهُ كَطَعْمِ الشَّرَابِ
حَالِكٌ لَوْنُهُ كَلَوْنِ الْغُرَابِ
بَيْنَ أَوْرَاقِهِ زُهًا فَتَرَاهُ
كَبَنَانِ النِّسَاءِ بَيْنَ الْخِضَابِ

وكما قال فيه الشاعر أيضًا:

عَنَاقِيدُ حَكَتْ، لَمَّا تَدَلَّتْ
عَلَى قُضْبَانِهَا، جِسْمِي نُحُولَا
حَكَتْ عَسَلًا وَمَاءً فِي إِنَاءٍ
وَعَادَتْ بَعْدَ حِصْرِمِهَا شَمُولَا

ثم انتهوا إلى عريشة البستان، فرأوا رضوانَ بوَّابَ البستان جالسًا في تلك العريشة كأنه رضوان خازِنُ الجنان، ورأوا مكتوبًا على باب العريشة هذان البيتان:

سَقَى اللهُ بُسْتَانًا تَدَلَّتْ قُطُوفُهُ
فَمَالَتْ بِهَا الْأَغْصَانُ مِنْ شِدَّةِ الشُّرْبِ
إِذَا رَقَّصَتْ أَغْصَانُهُ بِيد الصَّبَا
تُنَقِّطُهَا الْأَنْوَاءُ بِاللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ

ورأوا مكتوبًا في داخل العريشة هذان البيتان:

ادْخُلْ بِنَا يَا صَاحِ فِي رَوْضَةٍ
تَجْلُو عَنِ الْقَلْبِ صَدَى هَمِّهِ
نَسِيمُهَا يَعْثُرُ فِي ذَيْلِهِ
وَزَهْرُهَا يَضْحَكُ فِي كِمِّهِ

وفي ذلك البستان فواكه ذات أفنان، وأطيار من جميع الأصناف والألوان، مثل فاخت وبلبل وكروان، وقمري وحمام، يغرِّد على الأغصان، وأنهارها بها الماء الجاري، وقد راقَتْ تلك المجاري، بأزهارها وأثمار ذات لذات، كما قال فيه الشاعر هذين البيتين:

سَرَتِ النَّسِيمُ عَلَى الْغُصُونِ فَشَابَهَتْ
خَوْدًا تَعَثَّرُ فِي جَمِيلِ ثِيَابِهَا
وَحَكَتْ جَدَاوِلُهَا السُّيُوفَ إِذَا انْتَضَتْ
أَيْدِي الْفَوَارِسِ مِنْ غِلَافِ قِرَابِهَا

وكما قال فيه الشاعر أيضًا:

وَالنَّهْرُ مَدَّ عَلَى الْغُصُونِ وَلَمْ يَزَلْ
أَبَدًا يُمَثِّلُ شَخْصَهَا فِي قَلْبِهِ
حَتَّى إِذَا فَطَنَ النَّسِيمُ سَرَى لَهَا
مِنْ غَيْرَةٍ فَأَمَالَهَا مِنْ قُرْبِهِ

وأشجار ذلك البستان عليها من كل فاكهة زوجان، وفيه من الرمان ما يُشبِه أكر القيروان، كما قال فيه الشاعر وأجاد:

وَرُمَّانٌ رَقِيقُ الْقِشْرِ يَحْكِي
نُهُودَ الْبِكْرِ إِذْ بَرَزَتْ فُحُولَا
إِذَا قَشَّرْتَهُ يَبْدُو لَدَيْنَا
مِنَ الْيَاقُوتِ مَا بَهَرَ الْعُقُولَا

وكما قال فيه الشاعر:

مُلَمْلَمَةٌ تُبْدِي لِقَاصِدِ جَوْفِهَا
يَوَاقِيتَ حَمْرَا فِي مَعَاطِفِ عَبْقَرِي
وَرُمَّانَةٌ شَبَّهْتُهَا إِذْ رَأَيْتُهَا
بِنَهْدِ الْعَذَارَى أَوْ بِقُبَّةِ مَرْمَرِ
وَفِيهَا شِفَاءٌ لِلْمَرِيضِ وَصِحَّةٌ
وَفِيهَا حَدِيثٌ لِلنَّبِيِّ الْمُطَهَّرِ
وَفِيهَا يَقُولُ اللهُ جَلَّ جَلَالُهُ
مَقَالًا بَلِيغًا فِي الْكِتَابِ الْمُسَطَّرِ

وفي ذلك البستان تفاح سكري ومسكي يدهش الناظر، كما قال فيه الشاعر:

تُفَّاحَةٌ جَمَعَتْ لَوْنَيْنِ قَدْ حَكَيَا
خَدَّيْ حَبِيبٍ وَمَحْبُوبٍ قَدِ اجْتَمَعَا
لَاحَا عَلَى الْغُصْنِ كَالضِّدَّيْنِ مِنْ عَجَبٍ
فَذَاكَ أَسْوَدُ وَالثَّانِي بِهِ لَمَعَا
تَعَانَقَا فَبَدَا وَاشٍ فَرَاعَهُمَا
فَاحْمَرَّ ذَا خَجَلًا وَاصْفَرَّ ذَا وَلَعَا

وفي ذلك البستان مشمش لوزي وكافوري، وجيلاني وعنتابي، كما قال فيه الشاعر:

وَالْمِشْمِشُ اللَّوْزِيُّ يَحْكِي عَاشِقًا
جَاءَ الْحَبِيبُ لَهُ فَحَيَّرَ لُبَّهُ
وَكَفَاهُ مِنْ صِفَةِ الْمُتَيَّمِ مَا بِهِ
يَصْفَرُّ ظَاهِرُهُ وَيَكْسِرُ قَلْبَهُ

وقال فيه آخَر وأجاد:

انْظُرْ إِلَى الْمِشْمِشِ فِي زَهْرِهِ
حَدَائِقُ يَجْلُو سَنَاهَا الْحَدَقْ
كَالْأَنْجُمِ الزُّهْرِ إِذَا مَا زَهَتْ
الْغُصْنُ يَزْهُو بِهَا فِي الْوَرَقْ

وفي ذلك البستان برقوق وقراصيا وعنَّاب، تشفي السقيم من الأوصاب، والتين فوق أغصانه ما بين أحمر وأخضر يحيِّر العقول النواظر، كما قال فيه الشاعر:

كَأَنَّمَا التِّينُ يَبْدُو مِنْهُ أَبْيَضُهُ
مَعْ أَخْضَرَ بَيْنَ أَوْرَاقٍ مِنَ الشَّجَرِ
أَبْنَاءُ رُومٍ عَلَى أَعْلَى الْقُصُورِ وَقَدْ
جَنَّ الظَّلَامُ بِهِمْ بَاتُوا عَلَى حَذَرِ

وقال آخَر وأجاد:

أَهْلًا بِتِينٍ جَاءَنَا
مُنَضَّدًا عَلَى طَبَقْ
كَسُفْرَةٍ مَضْمُومَةٍ
قَدْ جُمِعَتْ بِلَا حَلَقْ

وقال آخَر وأجاد:

أَنْعِمْ بِتِينٍ طَابَ طَعْمًا وَاكْتَسَى
حُسْنًا وَقَارَبَ مَنْظَرًا مِنْ مَخْبَرِ
يُبْدِي تَعَاطِيهِ إِذَا مَا ذُقْتَهُ
رِيحَ الْأَقَاحِ وَطِيبَ طَعْمِ السُّكَّرِ
وَحَكَى إِذَا مَا صُبَّ فِي أَطْبَاقِهِ
أكَرًا صُنِعْنَ مِنَ الْحَرِيرِ الْأَخْضَرِ

وما أحسن قول بعضهم:

قَالُوا وَقَدْ أَلِفَتْ نَفْسِي تَفَكُّهَهَا
بِغَيْرِ فَاكِهَةٍ فِي حُبِّهَا هَامُوا
لِأَيِّ شَيْءٍ تُحِبُّ التِّينَ قُلْتُ لَهُمْ
لِلتِّينِ قَوْمٌ وَلِلْجُمَّيْزِ أَقْوَامُ

وأحسن منه قول الآخَر:

التِّينُ يُعْجِبُنِي عَنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ
لَمَّا اسْتَوَى وَالْتَوَى فِي غُصْنِهِ الزَّاهِي
كَأَنَّهُ عَابِدٌ وَالسُّحْبُ مَاطِرَةٌ
فَاضَتْ مَدَامِعُهُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ

وفي ذلك البستان من الكمثرى الطوري والحلبي والرومي، ما هو مختلف الألوان، صنوان وغير صنوان. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤