فلما كانت الليلة ٨٦٨

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن نور الدين لما سمع كلام تلك الصبِيَّة وشِعْرها، أعجبه نظامها، وكان قد مالَ من السُّكْر، فجعل يمدحها ويقول:

عَوَّادَةٌ مَالَتْ بِنَا
فِي نَشْوَةِ الْمُتَنَبِّذِ
قَالَتْ لَنَا أَوْتَارُهَا
أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي

فلما تكلَّمَ نور الدين بهذا الكلام، وأنشد هذا الشعر والنظام، نظرت له تلك الصبِيَّة بعين المَحبَّة، وزادت فيه عِشْقًا وغَرامًا، وقد صاحت متعجِّبةً من حُسْنه وجماله، ورَشاقة قَدِّه واعتداله، فلم تملك نفسَها بل احتضنَتِ العودَ ثانيًا، وأنشدت هذه الأبيات:

يُعَاتِبُنِي عَلَى نَظَرِي إِلَيْهِ
وَيَهْجُرُنِي وَرُوحِي فِي يَدَيْهِ
وَيُبْعِدُنِي وَيَعْلَمُ مَا بِقَلْبِي
كَأَنَّ اللهَ قَدْ أَوْحَى إِلَيْهِ
كَتَبْتُ مِثَالَهُ فِي وَسْطِ كَفِّي
وَقُلْتُ لِنَاظِرِي عَوِّلْ عَلَيْهِ
فَلَا عَيْنِي تَرَى مِنْهُ بَدِيلًا
وَلَا قَلْبِي يُصَبِّرُنِي لَدَيْهِ
فَيَا قَلْبِي نَزَعْتُكَ مِنْ فُؤَادِي
لِأَنَّكَ فِي الْعَدَاوَةِ مِنْ بَنِيهِ
إِذَا مَا قُلْتُ يَا قَلْبِي تَسَلَّى
يُجَاوِبُنِي فَيَا لَكَ مِنْ كَرِيهِ

فلما أنشدت الصبِيَّة تلك الأبيات، تعجَّبَ نور الدين من حُسْن شِعْرها وبلاغة كلامها، وعذوبة لفظها وفصاحة لسانها، فطار عقله من شدة الغرام، والوَجْد والهيام، ولم يَقْدر أن يصبر عنها ساعةً من الزمان، بل مالَ إليها وضمَّها إلى صدره، فانطبقت الأخرى عليه وصارت بكلِّيَّتِها لديه، وقبَّلَتْه بين عينَيْه، وقبَّلَ هو فاهَها بعد ضمِّ القوام، ولعب معها في التقبيل زقَّ الحمام، فالتفتت له وفعلَتْ معه مثل ما فعل معها، فهام الحاضرون وقاموا على أقدامهم، فاستحى نور الدين ورفع يده عنها. ثم إنها أخذَتْ عودها وضربَتْ عليه طرائقَ عديدةً، ثم عادت إلى الطريقة الأولى وأنشدت هذه الأبيات:

قَمَرٌ يَسُلُّ مِنَ الْجُفُونِ إِذَا انْثَنَى
غَضَبًا وَيَهْزَأُ بِالْغَزَالِ إِذَا رَنَا
مَلِكٌ مَحَاسِنُهُ الْبَدِيعَةُ جُنْدُهُ
وَلَدَى الطِّعَانِ قَوَامُهُ يَحْكِي الْقَنَا
لَوْ أَنَّ رِقَّةَ خَصْرِهِ فِي قَلْبِهِ
مَا جَارَ قَطُّ عَلَى الْمُحِبِّ وَلَا جَنَى
يَا قَلْبَهُ الْقَاسِي وَرِقَّةَ خَصْرِهِ
هَلَّا انْتَقَلْتَ إِلَى هنَا مِنْ هَا هُنَا
يَا عَاذِلِي فِي حُبِّهِ كُنْ عَاذِرِي
فَلَكَ الْبَقَاءُ بِحُسْنِهِ وَلِيَ الْفَنَا

فلما سمع نور الدين حُسْنَ كلامها وبديع نظامها، مالَ إليها من الطرب، ولم يملك عقلَه من شدة العجب، ثم إنه أنشد هذه الأبيات:

لَقَدْ خِلْتُهَا شَمْسَ الضُّحَى فَتُخُيِّلَتْ
وَلَكِنْ لَهِيبُ الْحَرِّ مِنْهَا بِمُهْجَتِي
وَمَاذَا عَلَيْهَا لَوْ أَشَارَتْ فَسَلَّمَتْ
عَلَيْنَا بِأَطْرَافِ الْبَنَانِ وَأَوْمَتِ
رَأَى وَجْهَهَا اللَّاحِي فَقَالَ وَتَاهَ فِي
مَحَاسِنِهَا اللَّاتِي عَنِ الْحُسْنِ أَجْلَتِ
أَهَذِي الَّتِي قَدْ هِمْتَ شَوْقًا بِحُبِّهَا
فَإِنَّكَ مَعْذُورٌ فَقُلْتُ هِيَ الَّتِي
رَمَتْنِي بِسَهْمِ اللَّحْظِ عَمْدًا وَمَا رَثَتْ
لِحَالِي وَذُلِّي وَانْكِسَارِي وَغُرْبَتِي
فَأَصْبَحْتُ مَسْلُوبَ الْفُؤَادِ مُتَيَّمًا
أَنُوحُ وَأَبْكِي طُولَ يَوْمِي وَلَيْلَتِي

فلما فرغ نور الدين من شعره، تعجبَّتِ الصبِيَّة من فصاحته ولطافته، وأخذت عودَها وضربَتْ عليه بأحسن حركاتها، وأعادت جميعَ النغمات، ثم أنشدت هذه الأبيات:

وَحَيَاةِ وَجْهِكَ يَا حَيَاةَ الْأَنْفُسِ
لَا حِلْتُ عَنْكَ يَئِسْتُ أَمْ لَمْ أَيْأَسِ
فَلَئِنْ جَفَوْتَ فَإِنَّ طَيْفَكَ وَاصِلٌ
أَوْ غِبْتَ عَنْ عَيْنِي فَذِكْرُكَ مُؤْنِسِي
يَا مُوحِشًا طَرْفِي وَتَعْلَمُ أَنَّنِي
أَبَدًا بِغَيْرِ هَوَاكَ لَمْ أَسْتَأْنِسِ
خَدَّاكَ مِنْ وَرْدٍ وَرِيقُكَ قَهْوَةٌ
هَلَّا سَمَحْتَ بِهَا بِهَذَا الْمَجْلِسِ

فعند ذلك طرب نور الدين من إنشاد تلك الصبِيَّة غاية الطرب، وتعجَّبَ منها غاية العجب، ثم أجابَها عن شعرها بهذه الأبيات:

مَا أَسْفَرَتْ عَنْ مُحَيَّا الشَّمْسِ فِي الْغَسَقِ
إِلَّا لِتَحْجُبَ بَدْرَ التِّمِّ فِي الْأُفُقِ
وَلَا بَدَتْ لِعُيُونِ الصُّبْحِ طُرَّتُهَا
إِلَّا وَعَوَّذْتُ ذَاكَ الْفَرْقَ بِالْفَلَقِ
خُذْ عَنْ مَجَارِي دُمُوعِي فِي تَسَلْسُلِهَا
وَارْوِ حَدِيثَ الْهَوَى مِنْ أَقْرَبِ الطُّرُقِ
وَرُبَّ رَامِيَةٍ بِالنَّبْلِ قُلْتُ لَهَا
مَهْلًا بِنَبْلِكِ إِنَّ الْقَلْبَ فِي فَرَقِ
إِنْ كَانَ دَمْعِي لِبَحْرِ النِّيلِ نِسْبَتُهُ
فَإِنْ وُدَّكِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْمَلَقِ
قَالَتْ: فَهَاتِ جَمِيعَ الْمَالِ قُلْتُ: خُذِي
قَالَتْ: وَنَوْمَكَ أَيْضًا قُلْتُ: مِنْ حَدَقِي

فلما سمعَتِ الصبِيَّةُ كلامَ نور الدين وحُسْنَ فصاحته، طار قلبُها واندهش لبُّها، وقد احتوى على مجامع قلبها، فضمَّتْه إلى صدرها وصارت تقبِّله تقبيلًا كزق الحمام، وكذلك الآخَر قابَلَها بتقبيلٍ متلاحِق، ولكنَّ الفضل للسابق. وبعد أن فرغَتْ من التقبيل، أخذت العود وأنشدت هذه الأبيات:

وَيْلَاهُ وَيْلِي مِنْ مَلَامَةِ عَاذِلِي
أَشْكُوهُ أَمْ أَشْكُو إِلَيْهِ تَمَلْمُلِي
يَا هَاجِرِي مَا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّنِي
أَلْقَى الْإِهَانَةَ فِي هَوَاكَ وَأَنْتَ لِي
عَنَّفْتُ أَرْبَابَ الصَّبَابَةِ بِالْجَوَى
وَأَبَحْتُ فِيكَ لِعَاذِلِيكَ تَذَلُّلِي
بِالْأَمْسِ كُنْتُ أَلُومُ أَرْبَابَ الْهَوَى
وَالْيَوْمَ أَعْذُرُ كُلَّ صَبٍّ مُبْتَلِ
وَإِنِ اعْتَرَتْنِي مِنْ فِرَاقِكَ شِدَّةٌ
أَصْبَحْتُ أَدْعُو اللهَ بِاسْمِكَ يَا عَلِي

فلما فرغت تلك الصَّبِيَّة من شِعْرها، أنشدت أيضًا هذين البيتين:

قَدْ قَالَتِ الْعُشَّاقُ إِنْ لَمْ يَسْقِنَا
مِنْ رِيقِهِ وَرَحِيقِ فِيهِ السَّلْسَلِ
نَدْعُ إِلَهَ الْعَالَمِينَ يُجِيبُنَا
وَيَقُولُ فِيهِ الْكُلُّ مِنَّا يَا عَلِي

فلما سمع نور الدين من تلك الصبِيَّةِ هذا الكلام، والشعر والنظام، تعجَّبَ من فصاحة لسانها، وشكرها على ظرافة افتنانها. فلما سمعت الصبيةُ ثناءَ نور الدين عليها قامَتْ من وقتها وساعتها على قدمَيْها، وخلعَتْ جميعَ ما كان عليها من ثياب ومَصاغ، وتجرَّدَتْ من ذلك كله، ثم جلست على ركبتَيْها وقبَّلَتْه بين عينَيْه، وعلى شامتَيْ خدَّيْه، ووهبت له جميع ذلك. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤