فلما كانت الليلة ٨٧١

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن التجار صاروا يتزايدون في الجارية إلى أن بلغ ثمنها تسعمائة وخمسين دينارًا، فعند ذلك أقبَلَ الدلَّال على الأعجمي سيدِها، وقال له: إن جاريتك بلغ ثمنها تسعمائة وخمسين دينارًا، فهل نبيع ونقبض لك الثمن؟ فقال الأعجمي: هل هي راضية بذلك؟ فإني أحِبُّ مراعاة خاطرها؛ لأني ضعفت في هذه السفرة، وخدَمَتْني هذه الجارية غايةَ الخدمة، فحلفتُ أني لا أبيعها إلا لمَن تشتهي وتريد، وجعلت بيعها بيدها فشاوِرْها، فإن قالت رضيتُ، فبِعْها لمَن أرادته، وإن قالت لا، فلا تبِعْها. فعند ذلك تقدَّمَ الدلَّالُ إليها وقال لها: يا سيدة الملاح، اعلمي أن سيِّدك قد جعل بيعك بيدك، وقد بلغ ثمنك تسعمائة وخمسين دينارًا، أفتأذنين أن أبيعك؟ فقالت الجارية للدلَّال: أَرِني الذي يريد أن يشتريني قبل انعقاد البيع. فعند ذلك جاء الدلَّال بها إلى رجلٍ من التجار، وهو شيخ كبير هَرِم، فنظرت إليه الجارية ساعةً زمانيةً، وبعد ذلك التفتَتْ إلى الدلال وقالت له: يا دلَّال، هل أنت مجنون أو مصاب في عقلك؟ فقال لها الدلال: لأي شيء يا سيدة الملاح تقولين لي هذا الكلام؟ فقالت له الجارية: أيَحِلُّ لكَ من الله أن تبيع مثلي لهذا الشيخ الهَرِم الذي قال في شأن زوجته هذه الأبيات:

تَقُولُ لِي وَهْيَ غَضْبَى مِنْ تَدَلُّلِهَا
وَقَدْ دَعَتْنِي إِلَى شَيْءٍ فَمَا كَانَا
إِنْ لَمْ تَنِكْنِي نَيْكَ الْمَرْءِ زَوْجَتَهُ
فَلَا تَلُمْنِي إِذَا أَصْبَحْتَ قَرْنَانَا
كَأَنَّ أَيْرَكَ شَمْعٌ مِنْ رَخَاوَتِهِ
فَكُلَّمَا عَرَكَتْهُ رَاحَتِي لَانَا

وقال في أيره أيضًا:

لِيَ أَيْرٌ يَنَامُ لُؤْمًا وَشُؤْمًا
كُلَّمَا نِلْتُ مِنْ حَبِيبٍ وِصَالَا
وَإِذَا مَا غَدَوْتُ فِي الْبَيْتِ فَرْدًا
طَلَبَ الطَّعْنَ وَحْدَهُ وَالنِّزَالَا

وقال في أيره أيضًا:

وَلِي أَيْرُ سُوءٍ كَثِيرُ الْجَفَا
يُعَامِلُ بِاللُّؤْمِ مَنْ يُكْرِمُهْ
إِذَا نِمْتُ قَامَ وَإِنْ قُمْتُ نَامَ
فَلَا رَحِمَ اللهُ مَنْ يَرْحَمُهْ

فلما سمع شيخ التجار من تلك الصبية هذا الهجْوَ القبيح، اغتاظَ غيظًا شديدًا ما عليه من مزيد، وقال للدلال: يا أنحس الدلَّالين، ما جئتَ لنا في السوق إلا بجاريةٍ مشئومةٍ تتجارى عليَّ وتهجوني بين التجار. فعند ذلك أخذها الدلَّال وانصرف عنه وقال لها: يا سيدتي، لا تكوني قليلةَ الأدب، إن هذا الشيخ الذي هجوتِه هو شيخ السوق ومحتسبه، وصاحب مشورة التجار. فضحكَتْ وأنشدَتْ هذين البيتين:

يُصْلِحُ لِلْحُكَّامِ فِي عَصْرِنَا
وَذَاكَ لِلْحُكَّامِ مِمَّا يَجِبْ
الشَّنْقُ لِلْوَالِي عَلَى بَابِهِ
وَالضَّرْبُ بِالدِّرَّةِ لِلْمُحْتَسِبْ

ثم إن تلك الجارية قالت للدلال: والله يا سيدي، أنا لا أُباع لهذا الشيخ، فبعني إلى غيره؛ لأنه ربما خجل مني فيبيعني إلى آخَر، فأصير ممتهنةً، ولا ينبغي لي أن أدنس نفسي بالامتهان، وقد علمت أن أمرَ بيعي مفوَّض إليَّ. فقال لها الدلال: سمعًا وطاعة. ثم توجَّهَ بها إلى رجلٍ من التجار الكبار، فلما وصل بها إلى ذلك الرجل قال لها: يا سيدتي، هل أبيعك إلى سيدي شريف الدين هذا بتسعمائة وخمسين دينارًا؟ فنظرَتْ إليه الجاريةُ فرأَتْه شيخًا، ولكن لحيته مصبوغة، فقالت للدلال: هل أنت مجنون أو مصاب في عقلك حتى تبيعني إلى هذا الشيخ الفاني؟ فهل أنا من كتكت المشاق أو من مهلهل الأخلاق حتى تطوف بي على شيخ بعد شيخ؟ وكلاهما كجدارٍ آيلٍ إلى السقوط، أو عفريت محَقَه النجم بالهبوط؛ أما الأول فإنه ناطقٌ فيه لسانُ الحال بقولِ مَن قال:

طَلَبْتُ قُبْلَتَهَا فِي الثَّغْرِ قَائِلَةً
لَا وَالَّذِي أَوْجَدَ الْأَشْيَاءَ مِنْ عَدَمِ
مَا كَانَ لِي فِي بَيَاضِ الشَّيْبِ مِنْ أَرَبٍ
أَفِي الْحَيَاةِ يَكُونُ الْقُطْنُ حَشْوَ فَمِي

وما أحسن قول الشاعر:

قَالُوا بَيَاضَ الشَّعْرِ نُورٌ سَاطِعٌ
يَكْسُو الْوُجُوهَ مَهَابَةً وَضِيَاءَ
حَتَّى بَدَا وَخْطُ الْمَشِيبِ بِمَفْرَقِي
فَوَدَدْتُ أَنْ لَا أُعْدَمَ الظَّلْمَاءَ
لَوْ أَنَّ لِحْيَةَ مَنْ يَشِيبُ صَحِيفَةٌ
بِمَعَادِهِ مَا اخْتَارَهَا بَيْضَاءَ

وأحسن منه قول الآخر:

ضَيْفٌ أَلَمَّ بِرَأْسِي غَيْرُ مُحْتَشِمٍ
السَّيْفُ أَحْسَنُ فِعْلًا مِنْهُ بِاللِّمَمِ
أَبْعِدْ بَعُدْتَ بَيَاضًا لَا بَيَاضَ لَهُ
لَأَنْتَ أَسْوَدُ فِي عَيْنِي مِنَ الظُّلَمِ

وأما الآخَر فإنه ذو عيب وريب، ومسود وجه الشيب، قد أتى في خضاب شيبه بأقبح مين، وأنشد لسان حاله هذين البيتين:

قَالَتْ أَرَاكَ خَضَبْتَ الشَّيْبَ قُلْتُ لَهَا
كَتَمْتُهُ عَنْكِ يَا سَمْعِي وَيَا بَصَرِي
فَقَهْقَهَتْ ثُمَّ قَالَتْ إِنَّ ذَا عَجَبٌ
تَكَاثَرَ الْغِشُّ حَتَّى صَارَ فِي الشَّعَرِ

وما أحسن قول الشاعر:

يَا مَنْ يُخَضِّبُ بِالسَّوَادِ مَشِيبَهُ
كَيْ يَسْتَقِرَّ لَهُ الشَّبَابُ وَيَحْصُلُ
هَا فَاخْتَضِبْ بِسَوَادِ حَظِّي مَرَّةً
وَلَكَ الضَّمَانُ بِأَنَّهُ لَا يَنْصُلُ

فلما سمع الشيخ الذي صبغ لحيته من تلك الجارية هذا الكلام، اغتاظ غيظًا شديدًا ما عليه من مزيد، وقال للدلال: يا أنحس الدلالين، ما جئتَ في هذا اليوم سوقنا إلا بجارية سفيهة تسفه على كلِّ مَن في السوق واحدًا بعد واحد، وتهجوهم بالأشعار والكلام الفشار. ثم إن ذلك التاجر نزل من دكانه وضرب الدلَّال على وجهه، فأخذها الدلال ورجع بها وهو غضبان وقال: والله إني ما رأيتُ عمري جاريةً أقل حياءً منك، وقد قطعتِ رزقي ورزقك في هذا النهار، وقد بغضني من أجلك جميعُ التجار. فرآهما في الطريق رجل من التجار، فزاد في ثمنها عشرة دنانير، وكان اسم ذلك التاجر شهاب الدين، فاستأذن الدلَّالُ الجاريةَ في البيع، فقالت: أَرِني إياه حتى أنظر إليه، وأسأله عن حاجة، فإن كانت تلك الحاجة في بيته فأنا أُباع له، وإلا فَلَا. فخلاها الدلال واقفة، ثم تقدَّمَ إليه وقال له: يا سيدي شهاب الدين، اعلم أن هذه الجارية قالت لي إنها تسألك عن حاجةٍ، فإن كانت عندك فإنها تُباع لك، وها أنت قد سمعتَ ما قالته لأصحابك من التجار. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤