فلما كانت الليلة ٨٧٢

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الدلَّال قال للتاجر: إنك سمعتَ ما قالته هذه الجارية لأصحابك التجار، وأنا والله خائف أن أجيء بها إليك، فتعمل معك مثل ما عملَتْ مع جيرانك، وأبقى أنا معك مفضوحًا، فإن أذنْتَ لي في المجيء بها أجيء بها إليك. فقال: ائتني بها. فقال الدلال: سمعًا وطاعة. ثم ذهب الدلال وأتى بالجارية إليه، فنظرته الجارية وقالت له: يا سيدي شهاب الدين، هل في بيتك مدورات مَحْشوَّة بقطاعة فَرْو السنجاب؟ فقال لها: نعم يا سيدة الملاح، عندي في البيت عشرة مدورات مَحْشوَّة بقطاعة فرو السنجاب، فبالله عليك، ما تصنعين بهذه المدورات؟ فقالت: أصبر عليك حتى ترقد، وأجعلها على فمك وأنفك حتى تموت. ثم إنها التفتَتْ إلى الدلال وقالت له: يا أخس الدلالين، كأنك مجنون حتى تعرضني من منذ ساعة على اثنين من الشيوخ، في كل واحد منهما عيبان، وبعد ذلك تعرضني على سيدي شهاب الدين، وفيه ثلاثة عيوب؛ الأول أنه قصير، والثاني أن أنفه كبير، والثالث أن لحيته طويلة، وقد قال فيه بعض الشعراء:

مَا رَأَيْنَا وَلَا سَمِعْنَا بِشَخْصٍ
مِثْلَ هَذَا بَيْنَ الْخَلَائِقِ أَجْمَعْ
فَلَهُ لِحْيَةٌ ذِرَاعٌ وَأَنْفٌ
طُولُ شِبْرٍ وَقَامَةٌ طُولُ أُصْبُعْ

وقال بعضهم أيضًا:

مَنَارَةُ الْجَامِعِ فِي وَجْهِهِ
كَرِقَّةِ الْخِنْصَرِ فِي الْخَاتِمِ
لَوْ دَخَلَ الْعَالَمُ فِي أَنْفِهِ
أَصْبَحَتِ الدُّنْيَا بِلَا عَالَمِ

فلما سمع التاجر شهاب الدين من الجارية ذلك الكلام، نزل من الدكَّان وأخذ بطوق الدلال وقال له: يا أنحس الدلالين، كيف تأتي إلينا بجارية توبِّخنا وتهجونا واحدًا بعد واحد بالأشعار والكلام الفشار؟ فعند ذلك أخذها الدلال وذهب من بين يديه وقال لها: والله طول عمري وأنا في هذه الصناعة، ما رأيت جاريةً أقلَّ أدبًا منك، ولا أنحس عليَّ من نجمك؛ لأنك قطعتِ رزقي في هذا اليوم، ولا ربحتُ منك إلا الصَّفْع على القفا والأخذ بالطوق. ثم إن الدلال وقف بتلك الجارية أيضًا على تاجرٍ صاحبِ عبيدٍ وغلمان، وقال لها: أَتُباعِين لهذا التاجر سيدي علاء الدين؟ فنظرته فوجدته أحدب، فقالت: إن هذا أحدب، وقد قال فيه الشاعر:

قَصُرَتْ مَنَاكِبُهُ وَطَالَ فِقَارُهُ
فَحَكَاهُ شَيْطَانٌ يُصَادِفُ كَوْكَبَا
وَكَأَنَّهُ قَدْ ذَاقَ أَوَّلَ دِرَّةٍ
وَأَحَسَّ ثَانِيَةً فَصَارَ مُعَجَّبَا

وقال فيه بعض الشعراء أيضًا:

لَمَّا ارْتَقَى أَحَدُكُمْ بَغْلَةً
صَارَ بِهَا بَيْنَ الْوَرَى مُثْلَةْ
أَمَالَهُ الضِّحْكُ فَلَا تَعْجَبُوا
إِنْ جَفَلَتْ مِنْ تَحْتِهِ الْبَغْلَةْ

وكما قال فيه بعض الشعراء:

وَلَرُبَّ أَحْدَبَ زَادَ فِي حَدَبَاتِهِ
قُبْحًا فَقَاطِبَةُ الْعُيُونِ تَمُجُّهُ
فَكَأَنَّهُ غُصْنٌ تَقَلَّصَ يَابِسٌ
وَلَوَاهُ مِنْ طُولِ الْمَدَى أَتْرُجُّهُ

فعند ذلك أسرع الدلال إليها وأخذها وأتى بها إلى تاجر آخَر وقال لها: أَتُباعِين لهذا؟ فنظرت إليه فوجدته أعمش، فقالت: إن هذا أعمش، كيف تبيعني له، وقد قال فيه بعض الشعراء:

رَمَدٌ بِهِ أَمْرَاضُهُ
هَدَّتْ قُوَى لِحْيَتِهْ
يَا قَوْمُ قُومُوا فَانْظُرُوا
هَذَا الْقَذَى فِي عَيْنِهْ

فعند ذلك أخذها الدلال وأتى بها إلى تاجر آخَر وقال لها: أتُبَاعِين لهذا؟ فنظرت إليه فرأت لحيته كبيرة. فقالت للدلال: ويلك، إن هذا الرجل كبش، ولكن طلع ذيله في حلقه، كيف تبيعني له يا أنحس الدلالين؟ أَمَا سمعت أن كلَّ طويل الذقن قليل العقل، وعلى قدر طول اللحية يكون نقصان العقل، وهذا الأمر مشهور بين العقلاء، كما قال بعض الشعراء:

مَا رَجُلٌ طَالَتْ لَهُ لِحْيَةٌ
فَزَادَتِ اللِّحْيَةُ فِي هَيْبَتِهْ
إِلَّا وَمَا يَنْقُصُ مِنْ عَقْلِهِ
يَكُونُ طُولًا زَادَ فِي لِحْيَتِهْ

وكما قال فيه بعض الشعراء أيضًا:

لَنَا صَدِيقٌ لَهُ لِحْيَةٌ
طُوَّلَهَا اللهُ بِلَا فَائِدَةْ
كَأَنَّهَا بَعْضُ لَيَالِي الشِّتَاءِ
طَوِيلَةٌ مُظْلِمَةٌ بَارِدَةْ

فعند ذلك أخذها الدلال ورجع، فقالت له: أين تتوجَّه بي؟ فقال لها: إلى سيدك الأعجمي، وكفانا ما جرى لنا بسببك في هذا النهار، وقد تسبَّبتِ في منع رزقي ورزقه بقلة أدبك. ثم إن الجارية نظرت في السوق والتفتَتْ يمينًا وشمالًا، وخلفًا وأمامًا، فوقع نظرها بالأمر المقدَّر على نور الدين علي المصري، فرأته شابًّا مليحًا نقيَّ الخد، رشيقَّ القَد، وهو ابن أربع عشرة سنة، بديع الحُسْن والجمال، والظرف والدلال، كأنه البدر إذا بدا في ليلة أربعة عشر، بجبين أزهر، وخدٍّ أحمر، وعنق كالمرمر، وأسنان كالجوهر، وريق أحلى من السكر، كما قال فيه بعض واصفيه:

بَدَتْ لِتُحَاكِيَ حُسْنَهُ وَجَمَالَهُ
بُدُورٌ وَغِزْلَانٌ فَقُلْتُ لَهَا قِفِي
رُوَيْدَكِ يَا غِزْلَانُ لَا تَتَشَبَّهِي
بِهَذَا وَيَا أَقْمَارُ لَا تَتَكَلَّفِي

وما أحسن قول بعض الشعراء:

وَمُهَفْهَفٍ مِنْ شَعْرِهِ وَجَبِينِهِ
تَغْدُو الْوَرَى فِي ظُلْمَةٍ وَضِيَاءِ
لَا تُنْكِرُوا الْخَالَ الَّذِي فِي خَدِّهِ
كُلَّ الشَّقِيقِ بِنُقْطَةٍ سَوْدَاءِ

فلما نظرت تلك الجارية إلى نور الدين حال بينها وبين عقلها، ووقع في خاطرها موقعًا عظيمًا، وتعلَّقَ قلبها بمحبته. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤