فلما كانت الليلة ٧٢٤

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز قالت لبنت الملك: افرضي أنك أعلمت الملك بذلك وأمر بشنق التجار، أليس يراهم الناس ويسألون: ما سبب شنقهم؟ فيقال لهم في الجواب: إنهم أرادوا أن يفسدوا بنت الملك، فيختلفون في نقل الحكايات عنك! فبعضهم يقول: قعدت عندهم عشرة أيام وهي غائبة عن قصرها حتى شبعوا منها. وبعضهم يقول غير ذلك، والعرض يا سيدتي مثل اللبن، أدنى غبار يدنسه، وكالزجاج إذا انصدع لا يلتئم، فإياك أن تخبري أباك أو غيره بهذا الأمر؛ لئلا ينهتك عرضك يا سيدتي، ولا يفيدك إخبار الناس شيئًا أبدًا، وميِّزِي هذا الكلام بعقلك الراجح، فإن لم تجديه صحيحًا فافعلي ما تريدين. فلما سمعت بنت الملك من العجوز هذا الكلام تأمَّلَتْه، فوجدته في غاية الصواب، فقالت لها: ما قلته يا دايتي صحيح، ولكن كان الغيظ طمس على قلبي. قالت العجوز: إن نيتك طيبة عند الله تعالى، حيث لم تخبري أحدًا، ولكن بقي شيء آخر، وهو أننا لا نسكت عن قلة حياء هذا الكلب أخس التجار، فاكتبي له كتابًا وقولي له: يا أخس التجار، لولا أني وجدت الملك غائبًا لَكنت في هذه الساعة أمرت بصلبك أنت وجميع جيرانك، ولكن ما يفوتك من هذا الأمر شيء، وأنا أقسم بالله تعالى متى رجعت إلى مثل هذا الكلام قطعت أثرك من على وجه الأرض. وأغلِظِي عليه بالكلام حتى ترديه عن هذا الأمر، ونبِّهيه من غفلته. قالت لها بنت الملك: وهل يرجع عمَّا هو فيه بهذا الكلام؟ قالت: وكيف لا يرجع وأنا أكلمه وأعرفه بما وقع. فدعت بدواة وقرطاس وكتبت إليه هذه الأبيات:

تَعَلَّقَتِ الْآمَالُ مِنْكَ بِوَصْلِنَا
وَتَقْصِدُ مِنَّا أَنْ تَنَالَ الْمَآرِبَا
وَمَا يَقْتُلُ الْإِنْسَانَ إِلَّا غُرُورُهُ
وَيُولِيهِ مَا يَبْغِيهِ مِنَّا الْمَصَائِبَا
فَمَا أَنْتَ ذُو بَأْسٍ وَلَا لَكَ عُصْبَةٌ
وَلَا كُنْتَ سُلْطَانًا وَلَا كُنْتَ نَائِبَا
وَلَوْ كَانَ هَذَا فِعْلَ مَنْ هُوَ مِثْلُنَا
لَعَادَ مِنَ الْأَهْوَالِ وَالْحَرْبِ شَائِبَا
وَلَكِنْ سَأَعْفُو الآنَ عَمَّا جَنَيْتَهُ
لَعَلَّكَ مِنْ ذَا الْحِينِ تَرْجِعُ تَائِبَا

ثم قدَّمت الكتاب للعجوز وقالت لها: يا دايتي، انهي هذا الكلب لئلا أقطع رأسه وندخل في خطيئته. قالت لها العجوز: والله يا سيدتي ما أخلي له جنبًا ينقلب عليه. وأخذت الكتاب وسارت به حتى وصلت إلى الغلام وسلمت عليه، فردَّ عليها السلام وناولته الكتاب، فأخذه وقرأه وهز رأسه وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. وقال: يا أمي، ما يكون عملي وقد قل صبري وضعف جَلَدي؟ فقالت له العجوز: يا ولدي، صبر نفسك لعل الله يُحدِث بعد ذلك أمرًا، واكتب ما في نفسك وأنا أجيء إليك بالجواب، وطب نفسًا وقر عينًا، فلا بد أن أجمع بينك وبينها إن شاء الله تعالى. فدعا لها وكتب كتابًا وضمَّنَه هذه الأبيات:

إِذَا لَمْ يَكُنْ لِيَ فِي الْهَوَى مَنْ يُجِيرُنِي
وَجَوْرُ غَرَامِي قَاتِلِي وَمُمِيتُ
أُقَاسِي لَهِيبَ النَّارِ مِنْ دَاخِلِ الْحَشَى
نَهَارًا وَلَيْلِي لَيْسَ فِيهِ مَبِيتُ
فَمَا لِي لَا أَرْجُوكَ يَا غَايَةَ الْمُنَى
وَأَرْضَى عَلَى مَا بِالْغَرَامِ لَقِيتُ
سَأَلْتُ إِلَهَ الْعَرْشِ يَرْزُقُنِي الرِّضَا
لِأَنِّي بِحُبِّ الْغَانِيَاتِ فَنِيتُ
وَيَقْضِي بِوَصْلٍ عَاجِلٍ لِي فَأَرْتَضِي
لِكَوْنِي بِأَهْوَالِ الْغَرَامِ رُمِيتُ

ثم طوى الكتاب وأعطى العجوز إياه، وأخرج لها صرة فيها أربعمائة دينار، فأخذت الجميع وانصرفت إلى أن وصلت لبنت الملك وأعطتها الكتاب، فلم تأخذه منها وقالت لها: ما هذه الورقة؟ فقالت لها: يا سيدتي، هذه جواب الكتاب الذي أرسلته إلى هذا الكلب التاجر. قالت لها: هل نهيته كما عرفتك؟ قالت: نعم، وهذا جوابه. فأخذت الكتاب منها وقرأته إلى آخِره ثم التفتت نحو العجوز وقالت: أين نتيجة كلامك؟ قالت: يا سيدتي، ما ذكره في جوابه من أنه رجع وتاب واعتذر عمَّا مضى. قالت: لا والله بل زاد. قالت: يا سيدتي، اكتبي له كتابًا وسوف يَبلغك ما أفعل به. فقالت: ما لي حاجة بكتاب ولا جواب. قالت العجوز: لا بد من جواب حتى أزجره وأقطع أمله. قالت لها بنت الملك: اقطعي أمله من غير استصحاب كتاب. فقالت العجوز: لا بد في زجره وقطع أمله من استصحاب كتاب. فدعت بدواة وقرطاس وكتبت إليه هذه الأبيات:

طَالَ الْعِتَابُ وَلَمْ تَمْنَعْكَ مَعْتَبَةٌ
وَكَمْ بِخَطِّ يَدِي بِالشِّعْرِ أَنْهَاكَا
اكْتُمْ هَوَاكَ وَلَا تَجْهَرْ بِهِ أَبَدًا
وَإِنْ تُخَالِفْ فَإِنِّي لَسْتُ أَرْعَاكَا
وَإِنْ رَجَعْتَ إِلَى مَا أَنْتَ قَائِلُهُ
فَإِنَّمَا جَاءَ نَاعِي الْمَوْتِ يَنْعَاكَا
فَعَنْ قَلِيلٍ تَرَى الْأَرْيَاحَ عَاصِفَةً
عَلَيْكَ وَالطَّيْرُ فِي الْبَيْدَاءِ تَغْشَاكَا
ارْجَعْ إِلَى خَيْرِ أَعْمَالٍ تَفُزْ زَمَنًا
فَإِنْ قَصَدْتَ خَنًى أَوْ فُحْشَ أَرْدَاكَ

فلما فرغت من كتابتها رمت الورقة من يدها بغيظ، فأخذتها العجوز وسارت حتى وصلت إلى الغلام فأخذها منها، فلما قرأها إلى آخرها علم أنها لم تَرُقْ له ولم تزدد إلا غيظًا عليه، وأنه ما يصل إليها، فخطر بقلبه أنه يكتب جوابها ويدعو عليها، فكتب إليها هذه الأبيات:

يَا رَبِّ بِالْخَمْسَةٍ الْأَشْيَاخِ تُنْقِذُنِي
مِنَ الَّتِي فِي هَوَاهَا صِرْتُ فِي مِحَنِ
وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا بِي مِنْ لَهِيبِ جَوًى
وَفَرْطِ شَوْقٍ إِلَى مَنْ لَيْسَ يَرْحَمُنِي
فَلَمْ تَرِقَّ إِلَى مَا قَدْ بُلِيتُ بِهِ
كَمْ قَدْ تَجُورُ عَلَى ضَعْفِي وَتَظْلِمُنِي
أَهِيمُ فِي غَمَرَاتِ الانْقِطَاعِ لَهَا
وَلَمْ أَجِدْ مُسْعِفًا يَا قَوْمُ يُسْعِفُنِي
وَكَمْ أَبِيتُ وَجُنْحُ اللَّيْلِ مُنْسَبِلٌ
أُرَدِّدُ النَّوْحَ فِي سِرِّي وَفِي عَلَنِي
وَلَمْ أَجِدْ لِي سُلُوًّا عَنْ مَحَبَّتِكُمْ
وَكَيْفَ أَسْلُو وَصَبْرِي فِي الْغَرَامِ فُنِي
يَا طَائِرَ الْبَيْنِ أَخْبِرْنِي فَهَلْ أَمِنَتْ
مِنْ نَائِبَاتِ صُرُوفِ الدَّهْرِ وَالْمِحَنِ؟

ثم طوى الكتاب وأعطى العجوز إياه وأعطاها صرة فيها خمسمائة دينار، فأخذت الورقة وسارت حتى دخلت على بنت الملك وأعطتها الورقة، فلما قرأتها وفهمتها رمتها من يدها وقالت لها: عرفيني يا عجوز السوء، سبب جميع ما جرى لي منك ومن مكرك واستحسانك منه حتى كتبت لك ورقة بعد ورقة، ولم تزالي في حمل الرسائل بيننا حتى جعلتِ له مَعَنا مكاتبات وحكايات، وفي كل وقت تقولين: أنا أكفيك شره وأقطع عنك كلامه. وما تقولين هذا الكلام إلا لأجل أن أكتب له كتابًا وتصيرين بيننا رائحة غادية حتى هتكت عرضي، ويلكم يا خدام امسكوها. وأمرت الخدام بضربها، فضربوها إلى أن جرت دماؤها من جميع بدنها وغُشِي عليها، وأمرت الجواري أن يجروها فَجَرُّوها من رجليها إلى آخر القصر، وأمرت أن تقف جارية عند رأسها، فإذا أفاقت من غشيتها تقول لها: إن الملكة حلفت يمينًا أنك لا تعودين إلى هذا القصر ولا تدخلينه، فإن عدت إليه أمرت بقتلك جزمًا. فلما أفاقت من غشيتها بلَّغَتْها الجارية ما قالته الملكة فقالت: سمعًا وطاعة.

ثم إن الجواري أحضرْنَ لها قفصًا وأمرْنَ حمَّالًا أن يحملها إلى بيتها، فحملها الحمَّال وأوصلها إلى بيتها، وأرسلْنَ وراءها طبيبًا وأمرْنَه أن يداويها بملاطفة حتى تبرأ، فامتثل الطبيب الأمر. فلما أفاقت ركبت وتوجهت عند الغلام، وكان قد حزن حزنًا شديدًا لانقطاعها عنه وصار متشوقًا إلى أخبارها، فلما رآها قام إليها ناهضًا وتلقَّاها وسلَّمَ عليها فوجدها متضعفة، فسألها عن حالها، فأخبرته بجميع ما جرى لها من الملكة، فصعب عليه ذلك الأمر ودقَّ يدًا على يد وقال: والله عسر عليَّ ما جرى لك، لكن يا أمي ما سبب كون الملكة تبغض الرجال؟ فقالت: يا ولدي، اعلم أن لها بستانًا مليحًا، ما على وجه الأرض أحسن منه، فاتفق أنها كانت نائمة فيه ذات ليلة من الليالي، فبينما هي في لذيذ النوم إذ رأت في المنام أنها نزلت في البستان فرأت صيادًا قد نصب شَرَكًا، ونثر حوله قمحًا وقعد على بُعْدٍ منه ينظر ما يقع فيه من الصيد، فلم يكن إلا مقدار ساعة وقد اجتمعت الطيور لتلتقط القمح، فوقع طير ذكر في الشَّرَك وصار يتخبَّط فيه، فنفرت الطيور عنه وأنثاه من جملتها، فلم تغب عنه غير ساعة لطيفة ثم عادت إليه وتقدَّمت إلى الشَّرَك، وحاولت العين التي في رِجْل طيرها، ولم تزل تعالج فيها بمنقارها حتى قرضتها وخلَّصت طيرها، كل هذا والصياد قاعد ينعس، فلما أفاق نظر إلى الشَّرَك فرآه قد انفسد، فأصلحه وجدَّدَ نثر القمح وقعد على بُعْد من الشَّرَك، فبعد ساعة وإذا بالطيور قد اجتمعت عليه ومن جملتها الأنثى والذكر، فتقدَّمَتِ الطيور لتلتقط الحب وإذا بالأنثى قد وقعت في الشَّرَك وصارت تختبط فيه، فطار الحمام جمعيه عنها وطيرها الذي خلَّصَتْه من جملة الطيور ولم يَعُدْ إليها، وكان الصياد غلب عليه النوم ولم يفق إلا بعد مدة مديدة، فلما أفاق من نومه وجد الطيرة وهي في الشَّرَك، فقام وتقدَّمَ إليها وخلص رجلَيْها من الشَّرَك وذبحها؛ فانتبهت بنت الملك وهي مرعوبة وقالت: هكذا يفعل الرجال مع النساء، فالمرأة تشفق على الرجال وترمي روحها عليه وهو في المشقة، وبعد ذلك إذا قضى عليها المولى ووقعت في مشقةٍ، فإنه يفوتها ولا يخلصها، ويضيع ما فعلته معه من المعروف، فلعن الله من يثق بالرجال؛ فإنهم ينكرون المعروف الذي يفعله معهم النساء. ثم إنها بغضت الرجال من ذلك اليوم.

فقال ابن الملك للعجوز: يا أمي، هل هي ما تخرج إلى الطريق أبدًا؟ قالت: لا يا ولدي، إلا أن لها بستانًا وهو نزهة من أحسن منتزهات الزمان، وفي كل عام عند انتهاء الأثمار فيه تنزل إليه وتتفرج فيه يومًا واحدًا، ولا تبيت إلا في قصرها، وما تنزل إلى البستان إلا من باب السر، وهو واصل إلى البستان، وأنا أريد أن أعلمك شيئًا وإن شاء الله يكون فيه صلاح لك، فاعلم أنه بقي إلى أوان الثمر شهر واحد وتنزل تتفرج فيه، فمن يومنا هذا أوصيك أن تروح إلى خولي ذلك البستان وتعمل بينك وبينه صحبة مودة، فإنه ما يدع أحدًا من خلق الله تعالى يدخل هذا البستان؛ لكونه متصلًا بقصر بنت الملك، فإذا نزلتْ بنت الملك، أكون قد أعلمتك قبل نزولها بيومين، فتروح أنت على جاري عادتك وتدخل البستان وتتحيَّل على بياتك فيه، فإذا نزلتْ بنت الملك تكون أنت مختفيًا في بعض الأماكن. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤