فلما كانت الليلة ٧٤٣

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أقارب جلناز البحرية لما ودَّعوا الملك وجلناز تباكوا من أجل فراقهم، ثم إنهم طاروا ونزلوا في البحر وغابوا عن العين، فأحسن الملك إلى جلناز وأكرمها إكرامًا زائدًا، ونشأ الصغير منشأ حسنًا، وكان خاله وجدته وخالته وبنات عم أمه بعد كل قليل من الأيام يأتون محل الملك، ويقيمون عنده الشهر والشهرين، ثم يرجعون إلى أماكنهم، ولم يزل الولد يزداد بزيادة السن حُسْنًا وجمالًا، إلى أن صار عمره خمسة عشر عامًا، وكان فريدًا في كماله وقدِّه واعتداله، وقد تعلَّمَ الخط والقراءة والأخبار والنحو واللغة والرمي بالنشاب، وتعلَّمَ اللعب بالرمح وتعلَّمَ الفروسية، وسائر ما يحتاج إليه أولاد الملوك، ولم يَبْقَ أحدٌ من أولاد أهل المدينة من الرجال والنساء إلا وله حديث بمحاسن ذلك الصبي؛ لأنه كان بارع الجمال والكمال، مُتَّصِفًا بمضمون قول الشاعر:

كَتَبَ الْعِذَارُ بِعَنْبَرٍ فِي لُؤْلُؤٍ
سَطْرَيْنِ مِنْ سَبَجٍ عَلَى تُفَّاحِ
الْقَتْلُ فِي الْحَدَقِ الْمِرَاضِ إِذَا رَنَتْ
وَالسُّكْرُ فِي الْوَجَنَاتِ لَا فِي الرَّاحِ

فكان الملك يحبه محبة عظيمة، ثم إن الملك أحضر الوزير والأمراء وأرباب الدولة وأكابر المملكة، وحلَّفهم الأيمان الوثيقة أنهم يجعلون بدر باسم ملكًا عليهم بعد أبيه، فحلفوا له الأيمان الوثيقة، وفرحوا بذلك. وكان الملك مُحْسِنًا في حق العالَم، وكان لطيف الكلام محضر خير لا يتكلَّم إلا بما فيه المصلحة للناس. ثم إن الملك ركب في ثاني يوم هو وأرباب الدولة، وسار الأمراء وجميع العساكر، مشوا في المدينة ورجعوا، فلما قاربوا القصر ترجل الملك في خدمة ولده، وصار هو وسائر الأمراء وأرباب الدولة يحملون الغاشية قدامه، فصار كل واحد من الأمراء وأرباب الدولة يحمل الغاشية ساعةً، فلم يزالوا سائرين إلى أن وصلوا إلى دهليز القصر وهو راكب ثم ترجَّلَ، فحضنه أبوه هو والأمراء وأجلسوه على سرير الملك، ووقف أبوه وكذلك الأمراء قدامه. ثم إن بدر باسم حكم بين الناس، وعزل الظالم وولَّى العادل، واستمر في الحكومة إلى قريب الظهر، ثم قام عن سرير الملك، ودخل على أمه جلناز البحرية وعلى رأسه التاج وهو كأنه القمر، فلما رأته أمه والملك بين يديه قامت إليه وقبَّلته وهنَّأته بالسلطنة ودعت له ولوالده بطول البقاء والنصر على الأعداء، فجلس عند والدته واستراح، ولما كان وقت العصر ركب والأمراء بين يديه حتى وصل إلى الميدان ولعب بالسلاح إلى وقت العشاء مع أبيه وأرباب دولته، ثم رجع إلى القصر والناس جميعهم بين يديه، وصار في كل يوم يركب إلى الميدان، وإذا رجع يقعد للحكومة بين الناس وينصف بين الأمير والفقير، ولم يزل كذلك مدة سنة كاملة، وبعد ذلك صار يركب للصيد والقنص ويدور في البلدان والأقاليم التي تحت حكمه، وينادي بالأمان والاطمئنان ويفعل ما تفعل الملوك، وكان أوحد أهل زمانه في العز والشجاعة والعدل بين الناس. فاتفق أن والد الملك بدر باسم مرض يومًا من الأيام، فخفق قلبه وأحسَّ بالانتقال إلى دار البقاء، ثم ازداد به المرض حتى أشرف على الموت، فأحضر ولده، ووصَّاه بالرعية، ووصَّاه بوالدته، وبسائر أرباب دولته، وبجميع الأتباع وحلَّفهم، وعاهَدَهم على طاعة ولده ثاني مرة، واستوثق منهم بالأيمان، ثم مكث بعد ذلك أيامًا قلائل وتُوفِّي إلى رحمة الله تعالى، فحزن عليه ولده بدر باسم وزوجته جلناز والأمراء والوزراء وأرباب الدولة، وعملوا له تربة ودفنوه فيها، ثم إنهم قعدوا في عزائه شهرًا كاملًا، وأتى صالح أخو جلناز وأمها وبنات عمها، وعزوهم في الملك، وقالوا: يا جلناز، إن كان الملك مات فقد خلَّفَ هذا الغلام الماهر، ومَن خلَّفَ مثله ما مات، وهذا هو العديم النظير الأسد الكاسر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤