فلما كانت الليلة ٧٥٥

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بدر باسم لما حكى للشيخ البقال جميع حكاية الملكة لاب وما رآه منها، أعلمه الشيخ أن الطيور التي على الشجر كلها شباب غرباء وسحرتهم، وكذلك الطير الأسود كان من مماليكها، وسحرته في صورة طير أسود، وكلما اشتاقت إليه تسحر نفسها طيرة ليجامعها؛ لأنها تحبه محبة عظيمة، ولما علمت أنك علمت بحالها أضمرت لك السوء ولا تصفى لك، ولكن ما عليك بأس منها ما دمتُ أراعيك أنا فلا تَخَفْ، فإني رجل مسلم واسمي عبد الله، وما في زماني أسحر مني، ولكني لا أستعمل السحر إلا عند اضطراري إليه، وكثيرًا ما أبطل سحر هذه الملعونة، وأخلص الناس منها ولا أبالي بها؛ لأنها ليس لها عليَّ سبيل، بل هي تخاف مني خوفًا شديدًا، وكذلك كل مَن كان في المدينة ساحرًا مثلها على هذا الشكل يخافون مني، وكلهم على دينها يعبدون النار دون الملك الجبار، فإذا كان غد تعالَ عندي وأعلِمْني بما تعمله معك، فإنها في هذه الليلة تسعى في هلاكك، وأنا أقول لك على ما تفعله معها حتى تتخلص من كيدها.

ثم إن الملك بدر باسم ودَّع الشيخ ورجع إليها، فوجدها جالسة في انتظاره، فلما رأته قامت إليه وأجلسته ورحَّبت به وجاءت له بأكل وشرب فأكلا حتى اكتفيا، ثم غسلا أيديهما، ثم أمرت بإحضار الشراب فحضر، وصارا يشربان إلى نصف الليل، ثم مالت عليه بالأقداح وصارت تعاطيه حتى سكر وغاب عن حسِّه وعقله. فلما رأته كذلك قالت له: بالله عليك وبحق معبودك إنْ سألتك عن شيء فهل تخبرني عنه بالصدق، وتجيبني إلى قولي؟ فقال لها وهو في حالة السكر: نعم يا سيدتي. قالت له: يا سيدي ونور عيني، لما استيقظتَ من نومك ولم تَرَني وفتشت عليَّ وجئتني في البستان ورأيت الطير الأسود الذي وثب عليَّ، فأنا أخبرك بحقيقة هذا الطائر، إنه كان من مماليكي وكنت أحبه محبةً عظيمة، فتطلَّع يومًا لجارية من جواريَّ فحصلتْ لي غيرة، وسحرتُه في صورة طير أسود، وأما الجارية فإني قتلتها، وإني اليومَ لم أصبر عنه ساعة واحدة، وكلما اشتقتُ إليه أسحر نفسي طيرة وأروح إليه لينط عليَّ، ويتمكَّن مني كما رأيتَ، أَمَا أنت لأجل هذا مغتاظ مني؟ مع أني وحق النار والنور والظل والحرور قد ازددت فيك محبةً، وجعلتُك نصيبي من الدنيا. فقال وهو سكران: إن الذي فهمتِه من غيظي بسبب ذلك صحيح، وليس لغيظي سببٌ غير ذلك. فضمَّتْه وقبَّلَتْه، وأظهرت له المحبة ونامت ونام الآخر بجانبها.

فلما كان نصف الليل قامت من الفراش، والملك بدر باسم منتبهٌ وهو يُظهِر أنه نائم، وصار يسرق النظر وينظر ما تفعل، فوجدها قد أخرجَتْ من كيس أحمر شيئًا أحمر، وغرسته في وسط القصر، فإذا هو صار نهرًا يجري مثل البحر، وأخذت كبشةَ شعيرٍ بيدها وبذرتها فوق التراب، وسقَتْه من هذا الماء فصار زرعًا مسنبلًا، فأخذته وطحنته دقيقًا، ثم وضعته في موضع ورجعت نامت عند بدر باسم إلى الصباح. فلما أصبح الصباح قام الملك بدر باسم وغسل وجهه، ثم استأذَنَ الملكةَ في الرواح إلى الشيخ فأذنت له، فذهب إلى الشيخ وأعلَمَه بما جرى منها، وما عايَنَ، فلما سمع الشيخ كلامه ضحك، وقال: والله إن هذه الكافرة الساحرة قد مكرت بك، ولكن لا تبالِ بها أبدًا. ثم أخرَجَ له قدرَ رطلٍ سويقًا، وقال له: خذْ هذا معك، واعلم أنها إذا رأته تقول لك: ما هذا؟ وما تعمل به؟ فقُلْ لها: زيادة الخير خير. وكُلْ منه، فإذا أخرجَتْ هي سويقها، وقالت لك: كُلْ من هذا السويق. فأَرِها أنك تأكل منه وكُلْ من هذا، وإياك أن تأكل من سويقها شيئًا، ولو حبةً واحدةً، فإنْ أكلتَ منه ولو حبة واحدة، فإن سحرها يتمكَّن منك فتسحرك، وتقول لك: اخرجْ من هذه الصورة البشرية. فتخرج من صورتك إلى أي صورة أرادَتْ، وإذا لم تأكل منه، فإن سحرها يبطل ولا يضرك منه شيء، فتخجل هي غاية الخجل وتقول لك: إنما أنا أمزح معك. وتقرُّ لك بالمحبة والمودة، وكل ذلك نفاق ومكر منها، فأَظْهِر لها أنت المحبةَ، وقل لها: يا سيدتي ويا نور عيني، كُلِي من هذا السويق وانظري لذَّتَه. فإذا أكلَتْ منه ولو حبةً واحدة، فخُذْ في كفك ماءً واضربه في وجهها، وقل لها: اخرجي من هذه الصورة البشرية إلى أي صورةٍ أردتَ. ثم خلِّها وتعالَ إليَّ حتى أدبِّر لك أمرًا.

ثم ودَّعه بدر باسم، وسار إلى أن طلع القصر ودخل عليها، فلما رأته قالت له: أهلًا وسهلًا ومرحبًا. ثم قامت له وقبَّلته وقالت له: أبطأتَ عليَّ يا سيدي. فقال لها: كنتُ عند عمي. ورأى عندها سويقًا، فقال لها: وقد أطعَمَني عمي من هذا السويق. فقالت له: إن عندنا سويقًا أحسن منه. ثم إنها حطَّتْ سويقه في صحنٍ وسويقها في صحنٍ آخَر، وقالت له: كُلْ من هذا، فإنه أطيب من سويقك. فأظهَرَ لها أنه يأكل منه، فلما علمت أنه أكل منه أخذت في يدها ماءً ورشَّتْه به، وقالت له: اخرجْ من هذه الصورة يا علق يا لئيم، وكُنْ في صورةِ بغلٍ أعور قبيح المنظر. فلم يتغيَّر، فلما رأته على حاله لم يتغيَّر، قامَتْ له وقبَّلته بين عينيه، وقالت له: يا محبوبي، إنما كنتُ أمزح معك، فلا تتغيَّر عليَّ بسبب ذلك. فقال لها: والله يا سيدتي ما تغيَّرتُ عليك أصلًا، بل أعتقد أنك تحبينني، فكُلِي من سويقي هذا. فأخذت منه لقمةً وأكلَتْها، فلما استقرت في بطنها اضطربَتْ، فأخذ الملك بدر باسم في كفه ماءً ورشَّها به في وجهها، وقال لها: اخرجي من هذه الصورة البشرية إلى صورةِ بغلةٍ زرزورية. فما نظرت نفسها إلا وهي في تلك الحالة، فصارت دموعها تنحدر على خدَّيْها، وصارت تمرغ خدَّيْها على رجلَيْه، فقام يلجمها فلم تقبل اللجامَ، فتركها وذهب إلى الشيخ وأعلَمَه بما جرى، فقام الشيخ وأخرج له لجامًا وقال له: خذ هذا اللجام وألجمها به. فأخذه وأتى عندها، فلما رأته تقدَّمَتْ إليه، وحطَّ اللجام في فمها وركبها، وخرج من القصر، وتوجَّهَ إلى الشيخ عبد الله، فلما رآها قام لها وقال لها: أخزاكِ الله تعالى يا ملعونة. ثم قال له الشيخ: يا ولدي، ما بقي لك في هذه البلد إقامة، فاركبها وسِرْ بها إلى أي مكان شئتَ، وإياكَ أن تسلِّم اللجام إلى أحد. فشكره الملك بدر باسم وودَّعه وسار.

ولم يزل سائرًا ثلاثة أيام، ثم أشرف على مدينة فلقيه شيخ مليح الشيبة، فقال له: يا ولدي، من أين أقبلتَ؟ قال: من مدينة هذه الساحرة. قال له: أنت ضيفي في هذه الليلة. فأجابه وسار معه في الطريق، وإذا بامرأة عجوز كلَّمَا نظرت البغلة بكت وقالت: لا إله إلا الله، إن هذه البغلة تشبه بغلة ابني التي ماتت، وقلبي متشوش عليها، فبالله عليك يا سيدي أن تبيعني إياها. فقال لها: والله يا أمي، ما أقدر أن أبيعها. قالت له: بالله عليك لا ترد سؤالي، فإن ولدي إن لم أشتَرِ له هذه البغلة ميت لا محالة. ثم إنها أطنبَتْ عليه في السؤال، فقال: ما أبيعها إلا بألف دينار. وقال بدر باسم في نفسه: من أين لهذه العجوز تحصيل ألف دينار. فعند ذلك أخرجَتْ من حزامها ألف دينار، فلما نظر الملك بدر باسم إلى ذلك قال لها: يا أمي، إنما أنا أمزح معك، وما أقدر أن أبيعها. فنظر إليه الشيخ، وقال له: يا ولدي، إن هذه البلد ما يكذب فيها أحد، وكلُّ مَن كذب في هذه البلد قتلوه. فنزل الملك بدر باسم من فوق البغلة. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤