فلما كانت الليلة ٧٥٩

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير لما قال للملك عاصم: قُلْ لي ما سبب هذا البكاء، لعل الله يجعل لك الفرج على يدي. قال له الملك: يا وزير، إن بكائي ما هو على مالٍ ولا على خيلٍ ولا على شيء، ولكن أنا بقيت رجلًا كبيرًا وصار عمري نحو مائة وثمانين سنة، ولا رُزِقت ولدًا ذكرًا ولا أنثى، فإذا متُّ يدفنوني، ثم ينمحي رسمي وينقطع اسمي، ويأخذ الغرباء تختي ومُلْكي، ولا يذكرني أحدٌ أبدًا. فقال الوزير: يا ملك الزمان، أنا أكبرُ منك بمائة سنة ولا رُزِقت بولدٍ قطُّ، ولم أَزَلْ ليلًا ونهارًا في همٍّ وغمٍّ، وكيف نفعل أنا وأنت؟ ولكن سمعتُ بخبر سليمان بن داود عليهما السلام، وأن له ربًّا عظيمًا قادرًا على كل شيء، فينبغي أن أتوجَّه إليه بهدية وأقصده في أن يسأل ربَّه لعله يرزق كلَّ واحدٍ منا بولد. ثم إن الوزير تجهَّزَ للسفر وأخذ هدية فاخرة وتوجَّهَ بها إلى سليمان بن داود عليهما السلام.

هذا ما كان من أمر الوزير، وأما ما كان من أمر سليمان بن داود عليهما السلام، فإن الله سبحانه وتعالى أوحى إليه وقال: يا سليمان، إن مَلِك مصر أرسَلَ إليك وزيرَه الكبير بالهدايا والتُّحَف وهي كذا وكذا، فأرسِلْ إليه وزيرَك آصف بن برخيا لاستقباله بالإكرام والزاد في موضع الإقامات، فإذا حضر بين يديك فقُلْ له: إن الملك أرسلك تطلب كذا وكذا، وإن حاجتك كذا وكذا، ثم اعرِضْ عليه الإيمانَ. فحينئذٍ أمَرَ سليمان وزيرَه آصف أن يأخذ معه جماعة من حاشيته لِلِقائهم بالإكرام والزاد الفاخر في موضع الإقامات، فخرج آصف بعد أنْ جهَّزَ جميعَ اللوازم إلى لقائهم، وسار حتى وصل إلى فارس وزيرِ ملك مصر، فاستقبله وسلَّمَ عليه وأكرَمَه هو ومَن معه إكرامًا زائدًا، وصار يقدِّم إليهم الزاد والعلوفات في مواضع الإقامات، وقال لهم: أهلًا وسهلًا ومرحبًا بالضيوف القادمين، فأبْشِروا بقضاء حاجتكم، وطِيبوا نفسًا، وقرُّوا عينًا، وانشرحوا صدورًا. فقال الوزير في نفسه: مَن أخبَرَهم بذلك؟ ثم إنه قال لآصف بن برخيا: ومَن أخبركم بنا وبأغراضنا يا سيدي؟ فقال له آصف: إن سليمان بن داود عليهما السلام هو الذي أخبرنا بهذا. فقال الوزير فارس: ومَن أخبَرَ سيدنا سليمان؟ قال له: أخبَرَه ربُّ السموات والأرض وإله الخلق أجمعين. فقال له الوزير فارس: ما هذا إلا إله عظيم. فقال له آصف بن برخيا: وهل أنتم لا تعبدونه؟ فقال فارس وزير ملك مصر: نحن نعبد الشمس ونسجد لها. فقال له آصف: يا وزير فارس، إن الشمس كوكب من جملة الكواكب المخلوقة لله سبحانه وتعالى، وحاشا أن تكون ربًّا؛ لأن الشمس تظهر أحيانًا وتغيب أحيانًا، وربنا حاضر لا يغيب، وهو على كل شيء قدير.

ثم إنهم سافروا قليلًا حتى وصلوا إلى قرب تخت ملك سليمان بن داود عليهما السلام، فأمر سليمان بن داود عليهما السلام جنودَه من الإنس والجن وغيرهما أن يصطفُّوا في طريقهم صفوفًا، فوقفَتْ وحوشُ البحر والفِيَلة والنمور والفهود جميعًا، واصطفوا في الطريق صفَّيْن، وكل جنس انحازَتْ أنواعُه وحدها، وكذلك الجان، كلٌّ منهم ظهر للعيون من غير خفاء على صورة هائلة مختلفة الأحوال، فوقفوا جميعًا صفَّيْن، والطيور نشرَتْ أجنحتَها على الخلائق لتظلَّهم، وصارت الطيور تناغي بعضها بسائر اللغات وبسائر الألحان. فلما وصل أهل مصر إليهم هابوهم ولم يجسروا على المشي، فقال لهم آصف: ادخلوا بينهم وامشوا ولا تخافوا منهم، فإنهم رعايا سليمان بن داود وما يضركم منهم أحد. ثم إن آصف دخل بينهم، فدخل وراءه الخلق أجمعون، ومن جملتهم جماعة وزير ملك مصر وهم خائفون، ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا إلى المدينة فأنزلوهم في دار الضيافة وأكرموهم غاية الإكرام، وأحضروا لهم الضيافات الفاخرة مدة ثلاثة أيام، ثم أحضروهم بين يدي سليمان نبي الله عليه السلام، فلما دخلوا عليه أرادوا أن يقبِّلوا الأرضَ بين يدَيْه، فمنعهم من ذلك سليمان بن داود وقال: لا ينبغي أن يسجد إنسانٌ على الأرض إلا لله عز وجل خالق الأرض والسموات وغيرهما، ومَن أراد منكم أن يقف فَلْيقف، ولكن لا يقف أحدٌ منكم في خدمتي. فامتثَلوا، وجلس الوزير فارس وبعض خدَّامه، ووقف في خدمته بعض الأصاغر، فلما استقر بهم الجلوس مدُّوا لهم الأسمطة، فأكل العالم والخلق أجمعون من الطعام حتى اكتفوا. ثم إن سليمان أمَرَ وزيرَ مصر أن يذكر حاجتَه لتُقضَى، وقال له: تكلَّمْ ولا تَخَفْ شيئًا ممَّا جئتَ بسببه، فإنك ما جئتَ إلا لقضاء حاجة، وأنا أخبرك بها، وهي كذا وكذا، وأن ملك مصر الذي أرسَلَك اسمه عاصم، وقد صار شيخًا كبيرًا هَرِمًا ضعيفًا، ولم يرزقه الله تعالى بولد ذَكَر ولا أنثى، فصار في الغمِّ والهمِّ والفكر ليلًا ونهارًا، حتى اتفق له أنه جلس على كرسي مملكته يومًا من الأيام ودخل عليه الأمراء والوزراء وأكابر دولته، فرأى بعضهم له ولدان وبعضهم له ولد، وبعضهم له ثلاثة أولاد، وهم يدخلون ومعهم أولادهم ويقفون في الخدمة، فتذكَّرَ في نفسه وقال من فرط حزنه: يا ترى مَن يأخذ مملكتي بعد موتي؟ وهل يأخذها إلا رجل غريب، وأصير أنا كأني لم أكن؟ فغرق في بحر الفكر بسبب هذا، ولم يزل متفكِّرًا حزينًا حتى فاضَتْ عيناه بالدموع، فغطَّى وجهه بالمنديل وبكى بكاءً شديدًا، ثم قام من فوق سريره وجلس على الأرض يبكي وينتحب، ولم يعلم ما في قلبه إلا الله تعالى، وهو جالس على الأرض. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤