فلما كانت الليلة ٧٧٥

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بديعة الجمال لما رأت سيف الملوك وهو دائر في البستان، نظرته نظرةً أعقبَتْها ألف حسرة، فالتفتَتْ إلى دولة خاتون وقد لعب الخمر بأعطافها، وقالت لها: يا أختي، مَن هذا الشاب الذي أراه في البستان وهو حائر ولهان كئيب؟ فقالت لها دولة خاتون: هل تأذنين في حضوره عندنا حتى نراه؟ قالت لها: إنْ أمكنكِ أن تُحضريه فأحضريه. فعند ذلك نادَتْه دولة خاتون، وقالت له: يا ابن الملك، اصعدْ إلينا وأَقْدِمْ بحُسْنك وجمالك علينا. فعرف سيف الملوك صوت دولة خاتون فصعد إلى القصر، فلما وقع نظره على بديعة الجمال خرَّ مغشيًّا عليه، فرشَّتْ عليه دولة خاتون قليلًا من ماء الورد فأفاق من غشيته، ثم نهض وقبَّلَ الأرض قدَّام بديعة الجمال، فبُهِتَتْ من حُسْنه وجماله، فقالت دولة خاتون: اعلمي أيتها الملكة أن هذا سيف الملوك الذي كانت نجاتي بقضاء الله تعالى على يديه، وهو الذي جرى عليه كامل المشقات من أجلك، وقصدي أن تشمليه بنظرك. فقالت بديعة الجمال وقد ضحكت: ومَن يَفِي بالعهود حتى يَفِي بها هذا الشاب؟ لأن الإنس ليس لهم مودة. فقال سيف الملوك: أيتها الملكة، إن عدم الوفاء لا يكون عندي أبدًا، وما كل الخلق سواء. ثم إنه بكى بين يديها وأنشد هذه الأبيات:

أَيَا بَدِيعَ الْجَمَالِ إِنَّنِي شَبَحٌ
مُضْنًى أَهِيمُ بِطَرْفٍ سَاحِرٍ جَانِ
بِحَقِّ مَا جَمَعَتْ خَدَّاكِ مِنْ مَلَحٍ
مِنْ أَبْيَضَ وَشَقِيقٍ أَحْمَرَ قَانِ
لَا تَنْقِمِي بِنِكَالِ الْهَجْرِ مِنْ دَنِفٍ
فَإِنَّ جِسْمِي مِنْ طُولِ النَّوَى فَانِ
هَذَا مُرَادِي وَهَذَا مُنْتَهَى أَمَلِي
وَالْوَصْلُ قَصْدِي عَلَى تَقْدِيرِ إِمْكَانِ

ثم إنه بكى بكاءً شديدًا وتحكَّمَ عنده العشق والهيام، فصار يسلِّم عليها بهذه الأبيات:

سَلَامٌ عَلَيْكُمْ مِنْ مُحِبٍّ مُتَيَّمٍ
وَكُلُّ كَرِيمٍ لِلْكَرِيمِ جَمِيلُ
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا عَدِمْتُ خَيَالَكُمْ
وَلَمْ يَخْلُ مِنْكُمْ مَجْلِسٌ وَمُقِيلُ
أَغَارُ عَلَيْكُمْ لَسْتُ أَذْكُرُ اسْمَكُمْ
وَكُلُّ حَبِيبٍ لِلْحَبِيبِ يَمِيلُ
فَلَا تَقْطَعُوا حَسَنَاتِكُمْ عَنْ مُحِبِّكُمْ
فَإِنَّ الْأَسَى يُرْدِيهِ وَهْوَ عَلِيلُ
أُرَاعِي النُّجُومَ الزُّهْرَ وَهْيَ تَرُوعُنِي
وَلَيْلِيَ فِي فَرْطِ الْغَرَامِ يَطُولُ
وَلَمْ يَبْقَ لِي صَبْرٌ وَلَا لِي حِيلَةٌ
فَأَيَّ كَلَامٍ فِي السُّؤَالِ أَقُولُ
عَلَيْكُمْ سَلَامُ فِي سَاعَةِ الْجَفَا
سَلَامٌ مِنَ الْوَلْهَانِ وَهْوَ حَمُولُ

ثم إنه من كثرة وَجْدِه وغرامه أنشد أيضًا هذه الأبيات:

إِنْ كَانَ قَصْدِي غَيْرَكُمْ يَا سَادَتِي
لَا نِلْتُ مِنْكُمْ بُغْيَتِي وَإِرَادَتِي
مَنْ ذَا الَّذِي حَازَ الْجَمَالَ سِوَاكُمُ
حَتَّى تَقُومَ الْآنَ فِيهِ قِيَامَتِي
هَيْهَاتِ أَنْ أَسْلُو الْهَوَى وَأَنَا الَّذِي
أَفْنَيْتُ فِيكُمْ مُهْجَتِي وَحُشَاشَتِي

فلما فرغ من شعره بكى بكاءً شديدًا، فقالت له بديعة الجمال: يا ابن الملك، إني أخاف أن أُقبِلَ عليك بالكلية فلا أجد منك إلفةً ولا محبة، فإن الإنس ربما كان خيرهم قليلًا وغدرهم جليلًا، واعلم أن السيد سليمان بن داود عليهما السلام أخذ بلقيس بالمحبة، فلما رأى غيرها أحسن منها أعرَضَ عنها. فقال لها سيف الملوك: يا عيني ويا روحي، ما خلق الله كل الإنس سواء، وأنا إنْ شاء الله أَفِي بالعهد، وأموت تحت أقدامك، وسوف تبصرين ما أفعل موافقًا لما أقول، والله على ما أقول وكيل. فقالت له بديعة الجمال: اقعدْ واطمئِنَّ واحلفْ لي على قدر دينك، ونتعاهد على أننا لا نخون بعضنا، ومَن خان صاحبه ينتقم الله تعالى منه. فلما سمع سيف الملوك منها ذلك الكلام، قعد ووضع كل منهما يده في يده صاحبه وتحالَفَا أن كلًّا منهما لا يختار على صاحبه أحدًا من الإنس ولا من الجن. ثم إنهما تعانَقَا ساعة زمانية وتباكَيَا من شدة فرحهما، وغلب الوَجْد على سيف الملوك فأنشَدَ هذه الأبيات:

بَكَيْتُ غَرَامًا وَاشْتِيَاقًا وَلَوْعَةً
عَلَى شَأْنِ مَنْ يَهْوَاهُ قَلْبِي وَمُهْجَتِي
وَبِي زَادَتِ الْآلَامُ مِنْ طُولِ هَجْرِكُمْ
وَبَاعِي قَصِيرٌ عَنْ تَقَارُبِ نِسْبَتِي
وَحُزْنِيَ مِمَّا ضَاقَ عَنْهُ تَجَلُّدِي
يُوَضِّحُ لِلُّؤَّامِ بَعْضَ بَلِيَّتِي
وَقَدْ ضَاقَ بَعْدَ الاتِّسَاعِ حَقِيقَةً
مَجَالُ اصْطِبَارِي لَا بِحَوْلِي وَقُوَّتِي
فَيَا هَلْ تَرَى قَدْ يَجْمَعُ اللهُ شَمْلَنَا
وَتَبْرَى مِنَ الْآلَامِ وَالسَّقْمِ غُصَّتِي

وبعد أن تحالفت بديعة الجمال هي وسيف الملوك، قام سيف الملوك يمشي، وقامت بديعة الجمال تمشي أيضًا ومعها جارية حاملة شيئًا من الأكل، وحاملة أيضًا قنانية ملآنة خمرًا، ثم قعدت بديعة الجمال ووضعت الجاريةُ بين يديها الأكلَ والمُدَام، فلم يمكثا غير ساعة إلا وسيف الملوك قد أقبَلَ، فلاقَتْه بالسلام وتعانقا وقعدا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤