فلما كانت الليلة ٧٨١

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن حسنًا الصائغ لما أكل القطعة الحلوى التي أعطاها له الأعجمي ووقع منها على الأرض مغشيًّا عليه، فرح الأعجمي وقال له: لي أعوام كثيرة وأنا أفتِّش عليك حتى حصلتك. ثم إن الأعجمي شدَّ وسطه وكتَّفَ حسنًا وربط رجلَيْه على يدَيْه، وأخذ صندوقًا وأخرَجَ منه الحوائج التي كانت فيه، ووضع حسنًا فيه وقفله عليه، وفرَّغَ صندوقًا آخَر وحطَّ فيه جميع المال الذي عند حسن، وسبائك الذهب التي عملها أولًا وثانيًا وقفله، ثم خرج يجري إلى السوق، وأحضَرَ حمَّالًا حمل الصندوقين، وتقدَّمَ إلى المركب الرأسية، وكانت تلك المركب مهيَّأة للأعجمي، وريسها منتظر له، فلما نظرته بحريتها أتوا إليه وحملوا الصندوقين ووضعوهما في المركب، وصرخ الأعجمي على الريس وعلى جميع البحرية وقال لهم: قوموا قد انقضَتِ الحاجة، وبلغنا المراد. فصرخ الريس على البحرية وقال لهم: أقلعوا المراسي وحلوا القلوع. وسارت المركب بريح طيبة.

هذا ما كان من أمر الأعجمي وحسن، وأما ما كان من أمر أم حسن، فإنها انتظرته إلى العشاء فلم تسمع له صوتًا ولا خبرًا جملة كافية، فجاءت إلى البيت فرأته مفتوحًا ولم تَرَ فيه أحدًا ولم تجد الصناديق ولا المال، فعرفَتْ أن ولدها قد فُقِد ونفذ فيه القضاء، فلطمَتْ على وجهها وشقَّتْ أثوابَها، وصاحت وولولت وصارت تقول: وا ولداه! وا ثمرة فؤاداه! ثم أنشدت هذه الأبيات:

لَقَدْ قَلَّ صَبْرِي ثُمَّ زَادَ تَمَلْمُلِي
وَزَادَ نَحِيبِي بَعْدَكُمْ وَتَعَلُّلِي
وَلَا صَبْرَ لِي وَاللهِ بَعْدَ فِرَاقِكُمْ
وَكَيْفَ اصْطِبَارِي بَعْدَ فُرْقَةِ مَأْمَلِي
وَبَعْدَ حَبِيبِي كَيْفَ أَلْتَذُّ بِالْكَرَى
وَمَنْ ذَا الَّذِي يَهْنَى بِعَيْشِ التَّذَلُّلِ
رَحَلْتَ فَأَوْحَشْتَ الدِّيَارَ وَأَهْلَهَا
وَكَدَّرْتَ مِنْ صَفْوِي مَشَارِبَ مَنْهَلِي
وَكُنْتَ مُعِينِي فِي الشِّدَائِدِ كُلِّهَا
وَعِزِّي وَجَاهِي فِي الْوَرَى وَتَوَسُّلِي
فَلَا كَانَ يَوْمٌ كُنْتَ فِيهِ مُبَاعَدًا
عَنِ الْعَيْنِ إِلَّا أَنْ أَرَاكَ تَعُودُ لِي

ثم إنها صارت تبكي وتنوح إلى الصباح، فدخل عليها الجيران وسألوها عن ولدها، فأخبرتهم بما جرى له مع الأعجمي، واعتقدَتْ أنها لا تراه بعد ذلك أبدًا، وجعلت تدور في البيت وتبكي. فبينما هي دائرة في البيت إذ رأت سطرين مكتوبين على الحائط، فأحضرَتْ فقيهًا فقرأهما لها، فإذا فيهما:

سَرَى طَيْفُ لَيْلِي عِنْدَمَا غَلَبَ الْكَرَى
سُحَيْرًا وَصَحْبِي فِي الْفَلَاةِ رُقُودُ
فَلَمَّا انْتَبَهْنَا لِلْخَيَالِ الَّذِي سَرَى
بَدَا الْجَوُّ قَفْرًا وَالْمَزَارُ بَعِيدُ

فلما سمعت أم حسن هذه الأبيات صاحت وقالت: نعم يا ولدي، إن الدار قفراء والمزار بعيد. ثم إن الجيران ودَّعوها بعد أن دعوا لها بالصبر وجمع الشمل قريبًا وانصرفوا، ولم تزل أم حسن تبكي آناء الليل وأطراف النهار، وبَنَتْ في وسط البيت قبرًا، وكتبَتْ عليه اسم حسن وتاريخ فقده، وكانت لا تفارق ذلك القبر، ولم يزل ذلك دأبها من حين فارَقَها ولدها. هذا ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر ولدها حسن مع الأعجمي، فإن الأعجمي كان مجوسيًّا، وكان يبغض المسلمين كثيرًا، وكلما قدر على أحد من المسلمين يهلكه، وهو خبيث لئيم كيماوي كما قال فيه الشاعر:

هُوَ الْكَلْبُ وَابْنُ الْكَلْبِ وَالْكَلْبُ جَدُّهُ
وَلَا خَيْرَ فِي كَلْبٍ تَنَاسَلَ مِنْ كَلْبِ

وكان اسم ذلك الملعون بهرام المجوسي، وكان له في كل سنة واحد من المسلمين يأخذه ويذبحه على مطلب، فلما تمَّتْ حيلته على حسن الصائغ، وسار به من أول النهار إلى الليل، رست المركب على برٍّ إلى الصباح، فلما طلعت الشمس وسارت المركب، أمر الأعجمي عبيده وغلمانه أن يحضروا له الصندوق الذي فيه حسن فأحضروه له، ففتحه وأخرَجَه منه ونشقه بالخل ونفخ في أنفه ذرورًا فعطس وتقايا البنج، وفتح عينيه ونظر يمينًا وشمالًا، فوجد نفسه في وسط البحر والمركب سائرة والأعجمي قاعد عنده؛ فعلم أنها حيلةٌ عُمِلت عليه قد عملها الملعون المجوسي، وأنه وقع في الأمر الذي كانت أمه تحذِّره منه، فقال كلمةً لا يخجل قائلُها وهي: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم الطُفْ بي في قضائك، وصبِّرْني على بلائك يا رب العالمين. ثم التفت إلى الأعجمي وكلَّمَه بكلام رقيق، وقال له: يا والدي، ما هذه الفعال؟ وأين الخبز والملح واليمين التي حلفتَها لي؟ فنظر إليه وقال له: يا كلب، هل مثلي يعرف خبزًا وملحًا؟ وأنا قد قتلتُ مثلَك ألفَ صبي إلا صبيًّا، وأنت تمام الألف. وصاح عليه، فسكت وعلم أن سهم القضاء نفذ فيه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤