فلما كانت الليلة ٧٩٦

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السيدة زبيدة لما أخذت المفتاح من أم حسن وأعطته لمسرور، وقالت له: خذ هذا المفتاح وافتح الخزانة الفلانية، وأطلع منها الصندوق واكسره، وأطلع منه الثوب الريش الذي فيه وأَحْضِره بين يدي. قال: سمعًا وطاعة. ثم إنه تناول المفتاح من يد السيدة زبيدة وسار، فقامت معه العجوز أم حسن وهي باكية العين ندمانة على مطاوعة الجارية ورواحها الحمام معها، ولم تكن الصَّبِية طلبت الحمام إلا مكيدةً. ثم إن العجوز دخلت هي ومسرور وفتحت باب الخزانة، فدخل وأخرَجَ الصندوق وأخرَجَ منه القميص الريش ولفَّه معه في فوطة، وأتى به إلى السيدة زبيدة، فأخذته وقلَّبَتْه وقد تعجَّبَتْ من حُسْن صناعته، ثم ناولَتْه لها وقالت لها: هل هذا ثوبك الريش؟ قالت: نعم يا سيدتي. ومدت الصَّبِية يدَها إليه وأخذته منها وهي فرحانة. ثم إن الصبية تفقَّدَتْه فرأته صحيحًا كما كان عليها، ولم يَضِعْ منه ريشة، ففرحت به وقامت من جنب السيدة زبيدة وأخذت القميص وفتحته، وأخذت أولادها في حضنها واندرجت فيه، وصارت طيرة بقدرة الله عز وجل؛ فتعجَّبَتِ السيدة زبيدة من ذلك، وكذلك كلُّ مَن حضر، وصار الجميع يتعجبون من فعلها. ثم إن الصبية تمايلت وتمشَّتْ ورقصت ولعبت، وقد شخص لها الحاضرون وتعجَّبوا من فعلها، ثم قالت لهم بلسان فصيح: يا سادتي، هل هذا مليح؟ فقال لها الحاضرون: نعم يا سيدة المِلَاح، كل ما فعلتِه مليح. ثم قالت لهم: وهذا الذي أعمله أحسن منه يا سادتي. وفتحت أجنحتها وطارت بأولادها وصارت فوق القبة، ووقفت على سطح القاعة فنظروا إليها بالأحداق، وقالوا لها: والله إن هذه صنعة غريبة مليحة ما رأيناها قطُّ. ثم إن الصبية لما أرادَتْ أن تطير إلى بلادها تذكَّرَتْ حَسَنًا، وقالت: اسمعوا يا ساداتي. وأنشدت هذه الأبيات:

يَا مَنْ خَلَا عَنْ ذِي الدِّيَارِ وَسَارَ
نَحْوَ الْحَبَائِبِ مُسْرِعًا فَرَّارَا
أَتَظُنُّ أَنِّي فِي نَعِيمٍ بَيْنَكُمْ
وَالْعَيْشُ مِنْكُمْ لَمْ يَكُنْ أَكْدَارَا
لَمَّا أُسِرْتُ وَصِرْتُ فِي شَرَكِ الْهَوَى
جَعَلَ الْهَوَى سِجْنِي وَشَطَّ مَزَارَا
لَمَّا اخْتَفَى ثَوْبِي تَيَقَّنَ أَنَّنِي
لَمْ أَدْعُ فِيهِ الْوَاحِدَ الْقَهَّارَا
قَدْ صَارَ يُوصِي أُمَّهُ بِحِفَاظِهِ
فِي مَخْدَعٍ وَعَدَا عَلَيَّ وَجَارَ
فَسَمِعْتُ مَا قَالُوهُ ثُمَّ حَفِظْتُهُ
وَرَجَوْتُ خَيْرًا زَائِدًا مِدْرَارَا
فَرَوَاحِيَ الْحَمَّامَ كَانَ وَسِيلَةً
حَتَّى غَدَتْ فِيَّ الْعُقُولُ حَيَارَى
وَتَعَجَّبَتْ عِرْسُ الرَّشِيدِ لِبَهْجَتِي
إِذْ شَاهَدَتْنِي يَمْنَةً وَيَسَارَا
نَادَيْتُ يَا امْرَأَةَ الْخَلِيفَةِ إِنَّ لِي
ثَوْبًا مِنَ الرِّيشِ الْعَلِيِّ فَخَارَا
لَوْ كَانَ فَوْقِي تَنْظُرِينَ عَجَائِبًا
تَمْحُو الْعَنَا وَتُبَدِّدُ الْأَكْدَارَا
فَاسْتَفْسَرَتْ عِرْسُ الْخَلِيفَةِ أَيْنَ ذَا
فَأَجَبْتُ فِي دَارِ الَّذِي قَدْ دَارَى
فَانْقَضَّ مَسْرُورٌ وَحَضَّرَهُ لَهَا
وَإِذَا بِهِ قَدْ أَشْرَقَ الْأَنْوَارَا
فَأَخَذْتُهُ مِنْ كَفِّهِ وَفَتَحْتُهُ
وَرَأَيْتُ مِنْهُ الْجَيْبَ وَالْأَزْرَارَا
فَدَخَلْتُ فِيهِ ثُمَّ أَوْلَادِي مَعِي
وَفَرَدْتُ أَجْنِحَتِي وَطِرْتُ فِرَارَا
يَا أُمَّ زَوْجِي أَخْبِرِيهِ إِذَا أَتَى
إِنْ حَبَّ وَصْلِي فَلْيُفَارِقْ دَارَا

فلما فرغَتْ من شعرها قالت لها السيدة زبيدة: أَمَا تنزلين عندنا حتى نتملَّى بحُسْنك يا سيدة المِلَاح؟ فسبحان مَن أعطاك الفصاحة والصباحة! قالت: هيهات أن يرجع ما فات. ثم قالت لأم حسن الحزين المسكين: والله يا سيدتي يا أم حسن، إنك توحشينني، فإذا جاء ولدك وطالت عليه أيام الفراق، واشتهى القُرْبَ والتلاق، وهزَّتْه أرياح المحبة والأشواق، فَلْيَجِئْني إلى جزائر واق. ثم طارت هي وأولادها وطلبت بلادها، فلما رأت أم حسن ذلك بكت ولطمت وجهها وانتحبت حتى غُشِي عليها، فلما أفاقت قالت لها السيدة زبيدة: يا سيدتي الحاجة، ما كنتُ أعرف أن هذا يجري، ولو كنتِ أخبرتِني به ما كنتُ أتعرَّض لكِ، وما عرفتُ أنها من الجن الطيَّارة إلا في هذا الوقت، ولو عرفتُ أنها على هذه الصفة ما كنتُ مكَّنْتُها من لبس الثوب، ولا كنتُ أخليها تأخذ أولادها، ولكن يا سيدتي اجعليني في حِلٍّ. فقالت العجوز، وما وجدَتْ في يدها حيلةً: أنتِ في حِلٍّ. ثم خرجت من قصر الخلافة، ولم تَزَلْ سائرة حتى دخلت بيتها، وصارت تلطم على وجهها حتى غُشِي عليها، فلما أفاقت من غشيتها استوحشت إلى الصَّبِية وإلى أولادها وإلى رؤية ولدها، فأنشدت هذه الأبيات:

يَوْمَ الْفِرَاقِ بِعَادُكُمْ أَبْكَانِي
أَسَفًا لِبُعْدِكُمُ عَنِ الْأَوْطَانِ
نَادَيْتُ مِنْ أَلَمِ الْفِرَاقِ بِحُرْقَةٍ
وَالدَّمْعُ قَرَّحَ بِالْبُكَا أَجْفَانِي
هَذَا الْفِرَاقُ فَهَلْ لَنَا مِنْ عَوْدَةٍ
فَلَقَدْ أَزَالَ فِرَاقُكُمْ كِتْمَانِي
يَا لَيْتَهُمْ عَادُوا إِلَى حُسْنِ الْوَفَا
فَلَعَلَّ إِنْ عَادُوا يَعُودُ زَمَانِي

ثم قامت وحفرت في البيت ثلاثة قبور، وأقبلت عليها بالبكاء آناءَ الليل وأطراف النهار، وحين طالت غيبة ولدها وزاد بها القلق والشوق والحزن، أنشدت هذه الأبيات:

خَيَالُكَ بَيْنَ طَابِقَةِ الْجُفُونِ
وَذِكْرُكَ فِي الْخَوَافِقِ وَالسُّكُونِ
وَحُبُّكَ قَدْ جَرَى فِي الْعَظْمِ مِنِّي
كَجَرْيِ الْمَاءِ فِي ثَمَرِ الْغُصُونِ
وَيَوْمٌ لَا أَرَاكَ يَضِيقُ صَدْرِي
وَتَعْذِرُنِي الْعَوَاذِلُ فِي شُجُونِي
أَيَا مَنْ قَدْ تَمَلَّكَنِي هَوَاهُ
وَزَادَ عَلَى مَحَبَّتِهِ جُنُونِي
خَفِ الرَّحْمَنَ فِيَّ وَكُنْ رَحِيمًا
هَوَاكَ أَذَاقَنِي رَيْبَ الْمَنُونِ

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤