فلما كانت الليلة ٨٠٢

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حسنًا لما نزل من فوق ظهر الحصان، وقف على باب المغارة متفكِّرًا في عاقبة أمره كيف يكون، لا يعلم الذي يجري له، ولم يزل واقفًا على باب المغارة خمسة أيام بلياليها وهو سهران حزنان متفكِّر حيث فارَقَ الأهلَ والأوطان والأصحاب والخلَّانَ، باكي العين حزين القلب، ثم إنه تذكَّرَ والدته وتفكَّرَ فيما يجري له، وفي فراق زوجته وأولاده وفيما قاساه، فأنشد هذه الأبيات:

لَدَيْكُمْ دَوَاءُ الْقَلْبِ وَالْقُلْبُ ذَاهِبُ
وَمِنْ سَفْحِ أَجْفَانِي دُمُوعٌ سَوَاكِبُ
فِرَاقٌ وَحُزْنٌ وَاشْتِيَاقٌ وَغُرْبَةٌ
وَبُعْدٌ عَنِ الْأَوْطَانِ وَالشَّوْقُ غَالِبُ
وَمَا أَنَا إِلَّا عَاشِقٌ ذُو صَبَابَةٍ
بِبُعْدِ الَّذِي يَهْوَى دَهَتْهُ الْمَصَائِبُ
فَإِنْ كَانَ عِشْقِي قَدْ رَمَانِي بِنَكْبَةٍ
فَأَيُّ كَرِيمٍ لَمْ تُصِبْهُ النَّوَائِبُ

فلم يفرغ حسن من شعره إلا والشيخ أبو الرويش قد خرج له، وهو أسود وعليه لباس أسود، فلما نظره حسن عَرَفه بالصفات التي أخبره بها الشيخ عبد القدوس، فرمى نفسه عليه ومرَّغَ خدَيْه على قدمَيْه، ومسك رجله وحطَّها على رأسه وبكى قدامه، فقال الشيخ أبو الرويش: ما حاجتك يا ولدي؟ فمَدَّ يده بالكتاب وناوَلَه للشيخ أبي الرويش، فأخذه منه ودخل المغارة ولم يردَّ عليه جوابًا، فقعد حسن في موضعه على الباب مثلما قال له الشيخ عبد القدوس، وهو يبكي، وما زال قاعدًا مكانه مدةَ خمسة أيام وقد ازداد به القلق، واشتد به الخوف ولازَمَه الأرق، فصار يبكي ويتضجر من ألم البعاد وكثرة السهاد، ثم أنشد هذه الأبيات:

سُبْحَانَ جَبَّارِ السَّمَاءِ
إِنَّ الْمُحَبَّ لَفِي عَنَاءِ
مَنْ لَمْ يَذُقْ طَعْمَ الْهَوَى
لَمْ يَدْرِ مَا جَهْدُ الْبَلَاءِ
لَوْ كُنْتُ أَحْبِسُ عَبْرَتِي
لَوَجَدْتُ أَنْهَارَ الدِّمَاءِ
كَمْ مِنْ صَدِيقٍ قَدْ قَسَا
قَلْبًا وَأَوْلَعَ بِالشَّقَاءِ
فَإِذَا تَعَطَّفَ لَامَنِي
فَأَقُولُ مَا بِي مِنْ بُكَاءِ
لَكَ قَدْ ذَهَبْتُ لِأَرْتَدِي
فَأَصَابَ عَيْنَيَّ رِدَائِي
بَكَتِ الْوُحُوشُ لِوَحْشَتِي
وَكَذَاكَ سُكَّانُ الْهَوَاءِ

ولم يزل حسن يبكي إلى أن لاح الفجر، وإذا بالشيخ أبي الرويش قد خرج إليه وهو لابس لباسًا أبيض، وأومَأَ إليه بيده أنْ يدخل، فدخل حسن فأخذه الشيخ من يده ودخل به المغارة، ففَرِح وأيقَنَ أن حاجته قد قُضِيت. ولم يزل الشيخ سائرًا وحسن معه مقدار نصف نهار، ثم وصَلَا إلى بابٍ مقنطرٍ عليه باب من البولاد، ففتح البابَ ودخل هو وحسن في دهليز معقود بحجارة من المجزع المنقوش بالذهب، ولم يزالَا سائرين حتى وصَلَا إلى قاعة كبيرة مرخمة واسعة، وفي وسطها بستان فيه من سائر الأشجار والأزهار والأثمار، والأطيار على الأشجار تناغي وتسبِّح الله الملك القهَّار، وفي القاعة أربعة لواوين يقابل بعضها بعضًا، وفي كل ليوان مجلس فيه فسقية، وعلى كل ركن من أركان كل فسقية صورة سَبْع من الذهب، وفي كل مجلس كرسيٌّ وعليه شخص جالس وبين يدَيْه كتب كثيرة جدًّا، وبين أيديهم مجامر من ذهب فيها نار وبخور، وكل شيخ منهم بين يدَيْه طلَبَة يقرءون عليه الكتب. فلما دخَلَا عليهم قاموا إليهما وعظَّموهما، فأقبَلَ عليهم وأشار لهم أن يَصْرِفوا الحاضرين فصَرَفوهم، وقام الأربعة مشايخ وجلسوا بين يدَيِ الشيخ أبي الرويش وسألوه عن حال حسن، فعند ذلك أشار الشيخ أبو الرويش إلى حسن وقال له: حدِّثِ الجماعةَ بحديثك وبجميع ما جرى لك من أول الأمر إلى آخِره. فعند ذلك بكى حسن بكاءً شديدًا وحدَّثهم بحديثه، فلما فرغ حسن من حديثه صاحت المشايخ كلهم، وقالوا: هل هذا هو الذي أطلَعَه المجوسي إلى جبل السحاب بالنسور وهو في جِلْد الجمل؟ فقال لهم حسن: نعم. فأقبَلُوا على الشيخ أبي الرويش وقالوا له: يا شيخنا، إن بهرام تحيَّلَ في طلوعه على الجبل، وكيف نزل؟ وما الذي رآه فوق الجبل من العجائب؟ فقال الشيخ أبو الرويش: يا حسن، حدِّثْهم كيف نزلتَ، وأخبِرْهم بالذي رأيتَه من العجائب. فأعاد عليهم ما جرى له من أوله إلى آخِره، وكيف ظفر به وقتله، وكيف غدرَتْ به زوجته وأخذت أولاده وطارت، وبجميع ما قاساه من الأهوال والشدائد؛ فتعجَّبَ الحاضرون مما جرى له، ثم أقبلوا على الشيخ أبي الرويش وقالوا له: يا شيخ الشيوخ، والله إنَّ هذا الشاب مسكين، فعساك أن تساعده على خلاص زوجته وأولاده. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤