فلما كانت الليلة ٧٣١

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن الملك أردشير لما كان مختفيًا في البستان ونزلت بنت الملك هي والعجوز مشيا بين الأشجار، رآها ابن الملك فغُشِي عليه من شدة ما حصل له من العشق، فلما أفاق وجدها غابت عن عينه وتوارت منه في الأشجار، فتنهَّدَ من قلبه وأنشد هذه الأبيات:

وَلَمَّا رَأَتْ عَيْنِي بَدِيعَ جَمَالِهَا
تَمَزَّقَ قَلْبِي بِالصَّبَابَةِ وَالْوَجْدِ
فَأَصْبَحْتُ مَرْمِيًّا طَرِيحًا عَلَى الثَّرَى
وَمَا عَلِمَتْ بِنْتُ الْمَلِيكِ بِمَا عِنْدِي
تَثَنَّتْ فَأَحْمَتْ قَلْبَ صَبٍّ مُتَيَّمٍ
فَبِاللهِ رِقِّي وَارْحَمِي صَادِقَ الْوَجْدِ
فَيَا رَبِّ قَرِّبْ لِي الْوِصَالَ وَأَحْظِنِي
بِمُهْجَةِ قَلْبِي، خَشْيَتِي ظُلْمَةُ اللَّحْدِ
أُقَبِّلُهَا عَشْرًا وَعَشْرًا وَعَشْرَةً
تَكُونُ مِنَ الْمُضْنَى الْكَئِيبِ عَلَى الْخَدِّ
figure
فصار كلُّ واحدٍ منهم كالسكران، واعتنقا وهما في غاية الاشتياق.

ولم تزل العجوز تفرج بنت الملك في البستان إلى أن وصلت إلى المكان الذي فيه ابن الملك، وإذا بالعجوز قالت: يا خفي الألطاف أمِّنَّا ممَّا نخاف. فلما سمع ابن الملك الإشارة خرج من خبائه وتعجَّب في نفسه وتاه، وتمشى بين الأشجار بقدٍّ يُخجِل الأغصان، وتكلَّلَ جبينه بالعرق وصارت وجنتاه كالشفق، فسبحان الله العظيم فيما خلق. فلاحت التفاتة من بنت الملك فنظرته، فلما رأته صارت شاخصة له ساعة طويلة، ورأت حُسْنه وجماله، وقدَّه واعتداله، وعيونه التي تغازل الغزلان، وقامته التي تفضح غصون البان، فأذهل عقلها وسلب لبها ورشقها بسهام عينيه في قلبها، فقالت للعجوز: يا دايتي، من أين لنا هذا الغلام المليح القوام؟ قالت: أين هو يا سيدتي؟ قالت: ها هو قريب بين الأشجار. فصارت العجوز تتلفَّت يمينًا وشمالًا كأنه لم يكن عندها خبر به وقالت: ومَن عرَّف هذا الشاب طريقَ هذا البستان؟ قالت لها حياة النفوس: ومَن يعرفنا بخبر هذا الشاب؟ فسبحان مَن خلق الرجال! ولكن يا دايتي، هل أنت تعرفينه؟ قالت لها: يا سيدتي، هو الشاب الذي كان يراسلك معي. قالت لها بنت الملك وهي غريقة في بحر هواها ونار شوقها وجواها: يا دايتي، ما أحسن هذا الشاب! فإنه مليح الطلعة، وأظن أنه ما على وجه الأرض أحسن منه.

فلما علمت العجوز أن هواه ملكها قالت لها: أَمَا قلتُ لك يا سيدتي إنه شاب مليح بوجه صبيح. قالت لها بنت الملك: يا دايتي، إن بنات الملوك لا يعرفن أحوال الدنيا، ولا يعرفن صفات مَن فيها، ولا عاشرْنَ ولا أخذْنَ ولا أعطيْنَ. يا دايتي، كيف الوصول إليه؟ وبأي حيلةٍ أُقْبِل بوجهي عليه؟ وماذا أقول له ويقول لي؟ قالت العجوز: أي شيء في يدي الآن من الحيلة؟ قد صرنا متحيرين في هذا الأمر من أجلك. قالت بنت الملك: يا دايتي، اعلمي أنه ما مات أحد بالغرام إلا أنا، فها أنا أيقنت بالممات من وقتي، وكل هذا من نار وجدي. فلما سمعت العجوز كلامها، ورأت في هواه غرامها قالت لها: يا سيدتي، أما حضوره عندك فلا سبيل إليه، وأنت معذورة في عدم رواحك إليه لأنك صغيرة، لكن قومي معي وأنا قدامك إلى أن تصلي إليه وأنا أكون مخاطبة له، فما يحصل لك خجل وهي لحظة عين، حتى يحصل الأنس بينكما. قالت الملكة: قومي قدامي فقضاء الله لا يُرَدُّ. ثم قامت الداية وبنت الملك حتى أقبلا على ابن الملك وهو جالس كأنه البدر في تمامه، فلما وصلتا إليه قالت له العجوز: انظر يا فتى مَن حضر بين يديك، وهي بنت ملك الزمان حياة النفوس، فاعرف قيمتها ومقدار مشيها إليك وقدومها عليك، قم تعظيمًا لها وتمثَّل قائمًا على قدمَيْك. فنهض الغلام من وقته وساعته قائمًا على قدميه، ووقعت عينه في عينها، فصار كلُّ واحد منهما كالسكران بغير مدام، وقد زاد بها شوقه وغرامه، ففتحت بنت الملك يديها وكذلك الغلام، واعتنقا وهما في غاية الاشتياق، فغلب عليهما الهوى والغرام، فغُشِي عليهما الاثنان، ووقعا على الأرض واستمرا ساعة طويلة، فخشيت العجوز من الهتيكة فأدخلتهما القصر وقعدت على بابه وقالت للجواري: اغتنموا الفرجة فإن الملكة نائمة. فرجع الجواري إلى الفرجة. ثم إنهما قاما من غشيتهما فوجدا أنفسهما داخل القصر، ثم قال الغلام: بالله عليك يا سيدة الملاح، هل هذا منام أم أضغاث أحلام؟ ثم اعتنقا الاثنان وسكرا من غير مدام، وتشاكيا لوعة الغرام، فأنشد الغلام هذه الأبيات:

الشَّمْسُ مِنْ وَجْهِهَا الْوَضَّاحِ طَالِعَةٌ
كَذَاكَ مِنْ وَجْنَتَيْهَا حُمْرَةُ الشَّفَقِ
فَإِنَّهُ حَيْثُمَا لِلنَّاظِرِينَ بَدَا
يَغِيبُ مِنْهُ حَيَاءً كَوْكَبُ الْأُفُقِ
وَإِنْ بَدَا بَارِقٌ مِنْ ثَغْرِ مَبْسِمِهَا
لَاحَ الصَّبَاحُ فَأَجْلَى غَيْهَبَ الْغَسَقِ
وَإِنْ تُثَنِّي قَوَامًا مِنْ مَعَاطِفِهَا
تَغَارُ مِنْهُ غُصُونُ الْبَانِ فِي الْوَرَقِ
عِنْدِي عَنِ الْكُلِّ مَا يُغْنِي بِرُؤْيَتِهَا
أُعِيذُهَا بِإِلَهِ النَّاسِ وَالْفَلَقِ
أَعَارَتِ الْبَدْرَ جُزْءًا مِنْ مَحَاسِنِهَا
وَرَامَتِ الشَّمْسُ تَحْكِيهَا فَلَمْ تُطِقِ
مِنْ أَيْنَ لِلشَّمْسِ أَعْطَافٌ تَمِيسُ بِهَا
مِنْ أَيْنَ لِلْبَدْرِ حُسْنُ الْخَلْقِ وَالْخُلُقِ
فَمَنْ يَلُمْنِي وَكُلِّي فِي مَحَبَّتِهَا
مَا بَيْنَ مُفْتَرِقٍ فِيهَا وَمُتَّفِقِ
هِيَ الَّتِي مَلَكَتْ قَلْبِي بِلَفْتَتِهَا
فَمَا الَّذِي لِقُلُوبِ الْعَاشِقِينَ بَقِي

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤