فلما كانت الليلة ٨٢٠

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملكة نور الهدى لما أمرت بإحضار أختها الملكة منار السنا، أوقفوها بين يدَيْها وهي مكتَّفة، فأنشدت الأشعار السابقة، ثم إن أختها أحضرَتْ لها سلمًا من خشب ومدتها عليه، وأمرت أن يربطوها على ظهرها فوق السلم، ومدت سواعدها وربطتها في الحبال، ثم كشفَتْ رأسها ولفَّتْ شعرها على السلم الخشب وقد انتُزِعت الشفقةُ عليها من قلبها، فلما رأت منار السنا نفسها في هذه الحالة من الذل والهوان، صاحَتْ وبكَتْ فلم يُغِثْها أحد، فقالت لها: يا أختي، كيف قسا قلبك عليَّ، فما ترحمينني ولا ترحمين هذين الطفلين الصغيرين؟ فلما سمعت هذا الكلام ازدادت قسوتها وشتمَتْها وقالت لها: يا عاشقة، يا عاهرة، لا رَحِمَ الله مَن يرحمك، كيف أشفق عليك يا خائنة؟ فقالت لها منار السنا وهي مشبوحة: احتسبتُ عليك برب السماء فيما تَسُبِّينني به وأنا بريئة منه، والله ما زنَيْتُ وإنما تزوَّجته في الحلال، وربي يعلم هل قولي صحيح أم لا، وقلبي قد غضب عليك من شدة قسوة قلبك عليَّ، فكيف ترمينني بالزنا من غير علم؟ ولكن ربي يخلِّصني منك، وإنْ كان الذي قد قذفتِني به من الزنا حقًّا فسيعاقبني الله عليه. فتفكَّرَتْ أختها في نفسها حين سمعت كلامها، وقالت لها: كيف تخاطبينني بهذا الكلام؟ ثم قامَتْ لها وضربتها حتى غُشِي عليها، فرشُّوا على وجهها الماءَ حتى أفاقَتْ وقد تغيَّرَتْ محاسنها من شدة الضرب، ومن قوة الرباط ومن فرط ما حصل لها من الإهانة، ثم أنشدت هذين البيتين:

وَإِذَا جَنَيْتُ جِنَايَةً
وَأَتَيْتُ شَيْئًا مُنْكَرَا
أَنَا تَائِبٌ عَمَّا مَضَى
وَأَتَيْتُكُمْ مُسْتَغْفِرَا

فلما سمعَتْ شعرَها نورُ الهدى غضبت غضبًا شديدًا وقالت لها: أتتكلمين يا عاهرة قدامي بالشعر، وتستعذرين من الذي فعلتِه من الكبائر؟ وكان مرادي أن ترجعي لزوجك حتى أشاهد فجورك وقوة عينك؛ لأنك تفتخرين بالذي وقع منك من الفجور والفحش والكبائر. ثم إنها أمرت الغلمان أن يحضروا لها الجريدَ فأحضروه، فقامت وشمرت عن ساعدَيْها ونزلت عليها بالضرب من رأسها إلى قدمَيْها، ثم دعت بسوط مضفور، لو ضُرِب به الفيل لهروَلَ مُسرِعًا، فنزلت بذلك السوط على ظهرها وبطنها وجميع أعضائها حتى غُشِي عليها، فلما رأَتِ العجوز شواهي ذلك من الملكة، خرجَتْ هاربةً من بين يدَيْها وهي تبكي وتدعو عليها، فصاحت على الخدم وقالت لهم: ائتوني بها. فتجاروا عليها ومسكوها وأحضروها بين يدَيْها، فأمرت برميها على الأرض وقالت للجواري: اسحبوها على وجهها وأخرجوها. فسحبوها وأخرجوها من بين يدَيْها.

هذا ما كان من أمر هؤلاء، وأما ما كان من أمر حسن، فإنه قام متجلدًا ومشى في شاطئ النهر واستقبل البرية وهو حيران مهموم، وقد يَئِس من الحياة وصار مدهوشًا لا يعرف الليل من النهار لشدة ما أصابه، وما زال يمشي إلى أن قرب من شجرة فوجَدَ عليها ورقة معلَّقة، فتناوَلَها حسن بيده ونظرها، فإذا مكتوب فيها هذه الأبيات:

دَبَّرْتَ أَمْرَكَ عِنْدَمَا
كُنْتَ الْجَنِينَ بِبَطْنِ أُمِّكْ
وَعَلَيْكَ قَدْ حَنَّنْتَهَا
حَتَّى لَقَدْ جَادَتْ بِضَمِّكْ
وَأَنَا لَكَافِؤُكَ الَّذِي
يَأْتِي بِهَمِّكَ أَوْ بِغَمِّكْ
فَاضْرَعْ إِلَيْنَا نَاهِضًا
نَأَخُذْ بِكَفِّكَ فِي مُهِمِّكْ

فلما فرغ من قراءة الورقة أيقَنَ بالنجاة من الشدة، وظفره بجمع الشمل، ثم مشى خطوتين فوجد نفسه وحيدًا في موضعٍ قفرٍ ذي خطر لا يجد فيه أحدًا يستأنس به، فطار قلبه من الوحدة والخوف، وارتعدَتْ فرائصه من هذا المكان المخوف، وأنشد هذه الأبيات:

نَسِيمَ الصَّبَا إِنْ جُزْتَ أَرْضَ أَحِبَّتِي
فَبَلِّغْهُمُ عَنِّي جَزِيلَ سَلَامِي
وَقُلْ لَهُمُ إِنِّي رَهِينُ صَبَابَةٍ
وَإِنَّ غَرَامِي فَوْقَ كُلِّ غَرَامِ
عَسَى عَطْفَةٌ مِنْهُمْ يَهُبُّ نَسِيمُهَا
فَيَحْيَا بِهَا صَبٌّ رَمِيمُ عِظَامِ

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤