صديق

أخذ «تختخ» ينظر إلى ساعته كلَّ دقيقة تقريبًا … كان على موعد مع طبيب الأسنان الدكتور «مكين» … لقد ظلَّ ثلاثةَ أيام يتألم من ضرسه ويتهرب من الذَّهاب إلى الطبيب، مثله مثل أكثر الناس، لم يكن المغامِر السمين يخشى شيئًا من حقنة المخدِّر في اللثة … ثم المثقاب الكهربائي وهو يدور داخل ضرسه … ثم المضمضة بالماء البارد … ولكنه في النهاية قرَّر الاستسلام والذهاب إلى الدكتور … فكما يقول المثل البلدي «وجع ساعة ولا كل ساعة» … والإنسان عادة ما يدفع ثمن إهماله … والقواعد الصحيحة تؤكِّد أنَّ زيارة الطبيب كل ستة أشهر للكشف العام تضمن للإنسان صحة جيدة طيلة حياته.

هكذا كان حال «تختخ» … وفي الساعة السادسة غادر المنزل إلى عيادة الدكتور «مكين» … وهو رجل يعمل بمواعيدَ محددة … كلُّ مريض في موعده بالضبط … فليس هناك زحمة … ولا صخب … وكان موعده في السادسة والنصف، واستقبله عم «منير» والممرضة «هدى»، وطلبا منه الجلوس لحظات استعدادًا لمقابلة الدكتور «مكين». وفي السادسة والنصف كان يخطو داخل غرفة الطبيب النظيفة المرتبة، واستقبله الدكتور «مكين» بابتسامة واسعة، وأجلسه على الكرسيِّ الضخم … ووجَّهَ الأشعة إلى فمه … وأخذ يفحص أسنانه واحدة واحدة … يدقُّ عليها ويسأله عن الألم … حتى وصل إلى الضرس الذي يؤلمه، وأخذ يتفحَّصه طويلًا، ثم قال: تسوُّسٌ في قلب الضرس … ستحتاج إلى حشو.

قال «تختخ»: إنني في الحقيقة …

ردَّ «مكين»: خائف جدًّا طبعًا!

تختخ: الحقيقة …

مكين: لا تخشَ شيئًا … لقد تطوَّر الطبُّ كثيرًا … خصوصًا التخدير … ولن تشعر إلَّا بألم بسيط جدًّا للحظة واحدة … ثم نبدأ العمل.

وبيدٍ ماهرةٍ حانيةٍ أدخلَ الحقنة إلى فم «تختخ»، وأحسَّ بوخزة صغيرة جدًّا … ثم قال الدكتور بعد لحظات: والآن سيكون كلُّ شيء على ما يرام.

عندما تم التخدير، أحسَّ «تختخ» بالراحة تغمره لأول مرة منذ أيام … وأخذ الدكتور يعمل بسرعة وسهولة وهو يقول: إن المثقاب الكهربائيَّ الآن يعمل بسرعة ٢٠٠ ألف لفة في الثانية … ولن تشعر به على الإطلاق.

وفعلًا لم تمضِ إلَّا دقائق قليلة حتى تم التنظيف والحشو … وأحسَّ «تختخ» أنه انتقل من عالم الألم المخيف إلى راحة لم يشعر بها منذ وقت طويل … وأخذ «مكين» يسأله عن أخبار المغامرات والألغاز، فأشار «تختخ» إلى أنهم الآن بلا ألغاز ولا مغامرات.

ولكن عند عودة «تختخ» إلى البيت كانت في انتظاره رسالة هامة، قالت له الشغَّالة «حسنية»: إن المفتش «سامي» اتصل به من المطار … فهو على وشك السفر إلى الخارج في مهمة … وقد أوصى على شخص يُدعى الأستاذ «مراد» عنده مشكلة صغيرة، يرجو المفتش أن يساهموا في حلها.

ولم تكد الشغالة تنتهي من حديثها حتى دقَّ جرس التليفون، وكان المتحدِّث هو الأستاذ «مراد» الذي رحَّب به «تختخ» ترحيبًا حارًّا قائلًا: إن صديق المفتش «سامي» هو صديقنا … وأي خدمة تطلبها ستكون موضع رعايتنا الكاملة.

ردَّ «مراد» شاكرًا، ثم قال: ومتى أستطيع أن أراكم؟

تختخ: غدًا في الصباح … في منزل «عاطف» … صديقنا … إن عنوانه …

قال «مراد»: إنني أعرف المكان، فأنا من سكان المعادي.

تختخ: عظيم … فليكن موعدنا في التاسعة صباحًا.

وعندما تحدَّث «تختخ» تليفونيًّا مع المغامرين … استُقبلت أخبارُه بحفاوة بالغة، فقد كان الجميع يتوقَّعون أن يكون هناك لغزٌ في حاجة إلى حل.

وفي التاسعة إلَّا الربع صباحًا كان المغامرون الخمسة يجلسون في الكشكِ الصيفيِّ في انتظار حضور الأستاذ «مراد» … وفي التاسعة تمامًا أخذ «زنجر» يُهَمْهِمُ ويزوم، وعرفوا أن الزائر قد دخل الحديقة، فأسرع «تختخ» يستقبله … كان الأستاذ «مراد» رجلًا طويل القامة … أصلعَ، ويلبس عوينات طبية، وهو يسير على مهلٍ ويبتسم في بساطة.

استقبله «تختخ» بحفاوة … وقدَّمه إلى المغامرين … وقال الأستاذ «مراد»: إنني لن أطيلَ عليكم … فأنا أعمل سكرتيرًا لدى شخصية هامة، من الأفضل عدم ذكر اسمها الآن … وقد وافق المفتش «سامي» على ذلك … وسنسمِّيه مؤقتًا الدكتور «س».

وسكت الأستاذ «مراد» لحظات … وقد أحسَّ أنه جذب انتباه المغامرين بهذا الأسلوب الغامض … وفعلًا كان المغامرون على استعداد للاستماع إليه بشغف.

ومضى يقول: إن الدكتور «س» بحكم منصبه المهم في الدولة توجد عنده أوراق ومستندات سريَّة لا يصح أن يطَّلِعَ عليها أحد … وحدث منذ أسبوعين أن اختفت مجموعة من هذه الأوراق السريَّة، وفي نفس الوقت اختفت شغَّالة صغيرة.

وزاد اهتمام المغامرين بالحديث … ومضى «مراد» يقول: وبالطبع ربطنا بين اختفاء الشغَّالة الصغيرة وبين اختفاء الأوراق … ولكن المشكلة أن هذه الشغالة كانت مثالًا للأمانة والأخلاق … وقد كان الدكتور «س» يعاملها كأنها ابنته، ويثق بها.

تختخ: ألم يكن في المنزل سواها؟

مراد: مدام «زاهية» مدبرة المنزل، و«حامد» الطباخ، وأنا.

تختخ: لماذا لم يُشتبَه في واحد من الباقين … أنت أو «زاهية» أو «حامد»؟

لم يغضب «مراد» لهذه المواجهة، وقال بهدوء: أولًا معك كل الحق في ذلك … ولكننا جميعًا ما زلنا في المنزل … ولو سرق أحدنا الأوراق لما بقِيَ لحظة واحدة … ثانيًا لقد قام رجال الشرطة بالبحث الدقيق حول ملابسات الحادث، وانتهى تحقيقهم، وأصابع الاتهام كلها تشير إلى «راوية» الشغَّالة الصغيرة … فقد كانت في الغرفة عندما كان الدكتور يضع هذه الأوراق في درج مكتبه … وقد نسِيَ المفتاح في الدرج … وسمِعته وهو يتحدث تليفونيًّا مع إحدى الشخصيات الهامَّة عن هذه الأوراق، وأنها تساوي الكثير.

تختخ: وهل كانت لهذه الفتاة عَلاقات خارجية … شخص ما أثَّر عليها؛ أب، أو أخ، أو قريب، يمكن أن يكون الدافع وراء سرقة هذه الأوراق؟ إن فتاة مثل هذه لا يمكن أن تُقْدِم على سرقة أوراق من هذا النوع، إنها على الأكثر تسرق بضعة جنيهات أو قطعة من الذهب أو المجوهرات، أمَّا أن تسرق مستندات على هذا الجانب من الأهمية فهذا غير معقول، لأنها لا تعرف قيمتها … وإذا عرفت قيمتها فلن تعرف كيف تستفيد منها.

بدا على وجه «مراد» قدرٌ من الدهشة … فهو لم يصدِّق أن المغامرين الخمسة يملكون هذه الدرجة من دقة التحليل والاستنتاج … وقال: إنني على كل حال أضع جميع الإمكانيات والمعلومات أمامكم … وأنتم أصحاب الحق في البحث والتحرِّي عن كلِّ شخص في المنزل ما دمتم موضعَ ثقة المفتش «سامي».

قال «تختخ»: إننا نودُّ زيارة المنزل حيث تمت السرقة.

مراد: في أيِّ وقتٍ تشاءون؟

تختخ: فليكن هذا المساء.

مراد: سأكون في انتظاركم.

ثم أعطاهم العنوان، وبعد حوار قصير خرج … وجلس المغامرون الخمسة صامتين لحظات، ثم قالت «لوزة» فجأة: إنني متأكدة أن «راوية» الصغيرة ليست لصَّةً على الإطلاق. إن سرقة الأوراق تمت بواسطة واحد من الثلاثة الآخرين … «حامد» الطباخ أو «زاهية» مدبِّرة البيت، أو «مراد» السكرتير.

عاطف: لا تقفزي على النتائج هكذا يا «لوزة» … حرام أن نتهم أشخاصًا لم نرهم، ولا نعرف عنهم شيئًا.

محب: ربما كانت «راوية» مجرد أداة في يد عصابة … وقد تكون هذه العصابة خارج المنزل … وربما داخله.

تختخ: هذا ما أميل إليه … ربما استطاعوا إغراء أو تهديد هذه الفتاة الصغيرة؛ حتى تسرق لهم المستندات … وعندما سرقتها أبعدوها عن المنزل باعتبارها الشاهدة الوحيدة التي تعرف الحقيقة.

نوسة: هناك شيء آخر يمكن إضافته … لماذا لا تكون هذه الفتاة قد وقعت ضحيَّة حادث ما أبعدها عن المنزل … سواء كان هذا الحادث بالمصادفة أو بتدبير شخص أو أشخاص من خارج أو داخل المنزل؟

تختخ: أي نوع من الحوادث تقصدين يا «نوسة»؟

نوسة: خطف … أو حتى … قتل!

بدت على وجوه المغامرين مشاعر مختلطة من الدهشة والاستنكار … فكلمة القتل لم ترد في قاموس مغامراتهم مطلقًا … إنهم ضد العنف … وذروة العنف هو القتل … خاصة إذا كانت الضحية فتاة صغيرة من مثل سنهم. ولكن برغم قوة هذا الاستنتاج فقد كان ممكنًا، فالعصابات التي تتعامل مع هذا الفرع من المستندات السريَّة هي عصابات رهيبة لا تتورع عن عمل أي شيء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤