الذاكرة المفقودة

خرج الشاويش مسرعًا، وهو ما زال يرتدي ملابسه … واستمع إلى «تختخ» لحظات، ثم قال: هل أنت متأكد؟

تختخ: إنني متأكد جدًّا … عليك أن تأخذ قوة من رجالك وتسرع إلى هناك. سوف يقعون جميعًا في قبضتك.

الشاويش: والموعد بالضبط؟

تختخ: اذهب في الحادية عشرة والنصف.

الشاويش: وأنت؟

تختخ: إنَّ عندي موعدًا آخر … وسنلتقي عندك في القسم بعد منتصف الليل.

قفز كل منهما على دراجته، واتجه «تختخ» إلى منزل الدكتور … وعندما اقترب منه نزل من الدراجة وقال ﻟ «زنجر»: «نوسة» … «لوزة».

هزَّ الكلبُ الذكيُّ ذيلَه، وتوقَّف مكانه لحظات، وكان «تختخ» مستعدًّا، فأخرج منديلًا من مناديل «لوزة» وأدناه من فم الكلب، ونبح «زنجر» نباحًا خافتًا، كأنما يعترض على هذا التصرف من المغامر السمين … فهو قد فهم المطلوب منه من أول كلمة.

سار «تختخ» خلف «زنجر» الذي أخذ يمشي وأنفه يلامس الأرض لحظات، ثم أسرع قليلًا وخلفه «تختخ» حتى وصلا إلى حديقة كبيرة مهملة لإحدى الفيلَّات المهجورة. وكانت تواجه فيلَّا الدكتور … وانطلق «زنجر» كالسهم إلى الحديقة الكبيرة، وتبعه «تختخ» ولم يكد يصل إلى طرف الحديقة حتى سمع نداءً خافتًا: «تختخ»، «تختخ».

وعرف «تختخ» على الفور أنه صوت «نوسة»، فاتجه إلى المكان، ووجد الفتاتين مختفيتين خلف شجرة ضخمة … قال هامسًا: هل حدث شيء؟

نوسة: هناك سيارة كبيرة وصلت منذ قليل، ودخلت الحديقة ثم أغلقوا الأبواب.

أخذ «تختخ» يتأمل منزل الدكتور … كان الظلام يُخيِّم عليه تمامًا، ولا يبدو فيه أي أثر للحياة.

قال «تختخ» هامسًا: ابقيا هنا … سوف أذهب لأرى وأعود إليكما.

وانطلق «تختخ» في الظلام، وأشار ﻟ «زنجر» أن ينتظره … اقترب من سور الحديقة، ونظر حوله … لم يكن هناك أحد … وبسرعة تَسَلَّقَه، وقفز إلى الحديقة، وتوقَّف ينصت لحظات … لم يسمع شيئًا، فتقدم من إحدى النوافذ، وأخذ يحاول أن يشاهد ما بداخل الغرفة، ومن خلال «الشيش» أدرك أنها غرفة نوم … ولكن لم يكن هناك أحد … ثم انتقل إلى نافذة أخرى … وكانت هناك مفاجأة … كانت الفتاة «راوية» تجلس على سرير وحدها، وقد بدا عليها التعب والهُزال … دقَّ قلب «تختخ» سريعًا، ولم يتردَّد … كانت الفتاة وحدها … فدقَّ على خشب النافذة … والتفتت الفتاة إلى مصدر الدقِّ … ودقَّ «تختخ» مرة أخرى، وقامت الفتاة، واتجهت إلى النافذة ووقفت متردِّدة، فدقَّ «تختخ» مرة أخرى … لم يكن يرى منها إلَّا جزءًا من وجهها، ولكن نظرة الأمل والرجاء بدت واضحة … ثم مدَّت يدها وفتحت زجاج النافذة، وألصق «تختخ» فمه بالخشب وقال: إنني صديق أعرفك … افتحي النافذة الآن واخرجي.

تردَّدت الفتاة لحظات … وكان «تختخ» يدرك أنه في موقف خطير … ولكنه استمر يقول: افتحي بسرعة.

وفتحت الفتاة النافذة، وأصبحت أمامه، مدَّ يده لها فصعدت إلى أحد الكراسي، ثم اجتازت النافذة وقفزت إلى الحديقة، سندها «تختخ» وأسرع بها حتى وصل إلى سور الحديقة … لم يكن في إمكانها أن تقفز … ولم يتردَّد وحملها بين يديه، ووضعها على السور، ثم قفز إلى السور واجتازه، وتناولها من الناحية الأخرى، وبعد لحظات كانا معًا عند «نوسة» و«لوزة»، وقال «تختخ» مسرعًا: هيَّا بنا … خذيها إلى منزلك يا «لوزة» … وحافظي عليها.

لوزة: ماذا حدث؟

تختخ: ليس هذا وقت الشرح … هيَّا بنا.

وانطلقوا جميعًا تحت جُنح الظلام، وعندما وصلوا إلى منزل «لوزة» قال «تختخ»: سأعود بعد منتصف الليل.

وانطلق وحده في الظلام … وسرعان ما كان يشقُّ طريقه إلى قرب الصحراء ومعه «زنجر»، وكانت الساعة قد قاربت العاشرة والنصف.

اتجه «تختخ» و«زنجر» معًا إلى المكان الذي وصفه «مراد» عند حافة الصحراء، وسرعان ما كانا هناك، ولم يكن «محب» و«عاطف» قد وصلا بعد … فاختار «تختخ» مكانًا قريبًا من المكان الذي حددته الخريطة، وجلس يفكِّر في كل ما حدث … لقد كانت هناك عملية خداع وتمويه واسعة النطاق … ولكنه اكتشف كلَّ شيء في الوقت المناسب … ومضت نصف ساعة … وظهر «محب» و«عاطف»، وأطلق «تختخ» صيحة البومة التي يعرفها المغامرون، فاتجه الصديقان إليه وهما في غاية الدهشة … وعندما وصلا إليه قال لهما: الأمور تسير على ما يرام … لقد قمت بتهريب الفتاة الصغيرة.

ولم يكد ينتهي من جملته حتى ظهر الشاويش «علي» … مع مجموعة من رجال الشرطة … وأسرع «تختخ» إليه، وشرح له كلَّ شيء بسرعة وهدوء.

اختبأ الجميع في أماكنهم … وفي منتصف الليل تمامًا ظهر ثلاثة رجال، واتجهوا إلى المكان الذي حددته «الخريطة»، وقال «تختخ» هامسًا: إنها عملية مثيرة.

ولم يكد الرجال الثلاثة يختفون في مدخل الكهف الذي من المفروض أن تكون الفتاة قد أخفت فيه الوثائق حتى قال «تختخ»: هيَّا بنا.

ثم التفت إلى الشاويش قائلًا: لا تتأخر.

واتجه الأولاد الثلاثة إلى حيث كان الرجال الثلاثة … ولم يكادوا يقتربون من الكهف حتى ظهر أحد الرجال وقال: من هناك؟

ردَّ «تختخ» قائلًا: إننا المغامرون، جئنا حسب تعليمات الأستاذ «مراد».

الرجل: تعالوا هنا.

واتجه الأولاد الثلاثة، ولم يدهش «تختخ» الذي كان قد توصَّل إلى استنتاج كل شيء، لم يدهش عندما مدَّ الرجل يده بمسدس ضخم وقال: لقد وقعتم.

تختخ: إننا لم نفعل شيئًا ضارًّا لكم حتى تفعل هذا.

الرجل: إنكم مجموعة من الأغبياء … هل صدَّقتم كلَّ ما قيل لكم؟! … سوف تُسجنون في هذا الكهف حتى نغادر البلاد كلها … ولا يعرف أحد عنَّا شيئًا.

ولم يكد الرجل ينتهي من جملته حتى ظهر الشاويش ومعه رجاله يحملون البنادق، وصاح الشاويش: لا يتحرَّكْ أحد.

كانت مفاجأة كاملة للرجال الثلاثة، حتى إنهم ألقَوْا بأسلحتهم دون أي مقاومة.

وقال: «تختخ»: هل تظن حضرتك أننا أغبياء إلى هذا الحد؟! … لقد فهمت كل شيء بعد يوم واحد … إن الدكتور الذي تتحدثون عنه شخص وهمي وغير موجود على الإطلاق … والفتاة مظلومة … فهي لم تسرق شيئًا … ولكنها ذكيَّة، فقد خدعتكم وتظاهرت بأنها فقدت الذاكرة … إنها لم تفقدها.

ذُهل الرجال الثلاثة … وساقهم رجال الشاويش إلى القسم في حين اتجه الشاويش و«محب» و«عاطف» إلى منزل «لوزة».

كانت الفتاة الصغيرة «راوية» تجلس مع «نوسة» و«لوزة» في الكشك الخشبي وقد استردت بعض قوتها … وقال لها «تختخ»: إنك فتاة شجاعة … قولي لنا ما هي الحكاية؟

قالت الفتاة: لقد كنت أقوم ببيع الفجل والجرجير في سلة صغيرة، وعرض عليَّ رجل يُدعى «مراد» أن أحمل بعض أشياء إلى بعض أصدقائه في أماكن مختلفة من المعادي … وظلِلْتُ فترة أتسلَّم منهم لفائف لا أعرف ما بها … ثم أقوم بتوصيلها إلى الأشخاص الذين يحددونهم … وكانوا يعطونني جنيهًا عن كل مشوار أقوم به.

وسكتت الفتاة لحظات ثم عادت تقول: وذات يوم دخلت المنزل دون أن يحس بي أحد … وسمعتهم يتحدثون عن المخدِّرات … وعرفت أنني كنت أقوم بتوزيع المخدِّرات دون أن أدري … ولم أدرِ ماذا أفعل … ولاحظ الرجال أنني عندما أخذت اللفة المعتادة كنت مذهولة … ولم أكد أغادر المنزل حتى أسرعوا خلفي وقد قرَّروا قَتْلي حتى لا أُبَلغ عنهم … وظللت أجري حتى وصلت إلى الصحراء … وقابلني بعض الناس … وللأسف وجدت أنهم أشرار مثل هؤلاء، فأسرعت أجري مرة أخرى حيث أخفيت اللفافة … ولكنهم استطاعوا الإمساك بي … ولم يكن أمامي حل سوى التظاهر بأنني فقدت الذاكرة حتى لا يقتلوني.

وأكمل «تختخ» الحديث قائلًا: كان «مراد» يسمع عن المغامرين الخمسة وصلتهم بالمفتش «سامي» فاخترع قصة وهمية عن وثائق ومستندات سرقتها «راوية» وقد صدَّقناه في البداية، وبدأنا نتعاون معه … ولكني لاحظت أن الدكتور الذي يتحدثون عنه لا يظهر مطلقًا … وكلما ذهبنا لمقابلته قالوا لنا إنه غير موجود … أو نائم أو مشغول … ولو كان شخصية حقيقيَّة وكانت هناك وثائق لما تردَّد مرة واحدة في إبلاغ الشرطة، سواء أكان المفتش «سامي» موجودًا أم غير موجود …

وسكت «تختخ» لحظات ثم مضَى يقول: وانتهز «مراد» فرصة سفر المفتش «سامي» وقد نُشر الخبر في الجرائد، وزعم أنه صديق المفتش وطلب مساعدتنا، ولم نتردَّد، ولكني بمرور الوقت، وبعد حادث المصور، وحديث «مراد» المتكرر عن الدكتور المزعوم … عرفت كل شيء …

برم الشاويش شاربه، وقال: يا لكَ من ولدٍ داهية!

تختخ: وهكذا يا حضرة الشاويش وقعتْ في يدك عصابةٌ من أعتى عصابات المخدِّرات، وسوف تأخذ مكافأة ضخمة من عملك.

الشاويش: ولكن «راوية» ستكون لها مكافأة أضخم.

راوية: ولكن ما هو نصيب المغامرين؟ … أليست لهم مكافأة؟

تختخ: إنَّ مكافأتنا الوحيدة هي خدمة العدالة …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤