تشيكوف «شاعرًا»

لم يكَد تشيكوف يبلغ العشرين من عمره حتى بدا نجمه في الظهور.

كان ذلك في عام ١٨٨٠م، وكان تولستوي إذ ذاك قد بلَغ الثانية والخمسين من حياته الطويلة، واعتلى عرش الأدب كأنه قديسٌ خرج من بين دفَّتَي الكتاب المقدَّس. كما كان دستويفسكي في الخامسة والخمسين، يعيش في مُتحَفه الرهيب، ويُسجِّل عذاب البشر، وينشُد الخلاص على يد المسيح. وكان تورجنيف قد جاوز الستين ولم يَزلْ يُغنِّي للشعب أغانيه الشجية الحالمة، ويصل أدبه بأدب الفرنسيين. أما بوشكين وجوجول فقد بقيا ملكَين رحيمَين يُظلَّان سماء روسيا، ويُسيطِران على كل قلبٍ فيها على الرغم من وفاتهما في النصف الأول من القرن التاسع عشر.

وكان إبسن العظيم في مطلع العقد الخامس من عمره، يقف في القارة الأوروبية كالعملاق العنيد الذي يجمع أطراف عباءته التي تتجاذبها الأعاصير، ويُدافع عن مبادئه دفاع القديسين، ومعه مواطنه الكبير استرندبرج، يُحرِّران إنجيل الثورة العقلية، ويُسجِّلان صراع الإرادة البشرية أمام طغيان التقاليد.

وبالرغم من تفاوُت هذه الشخصيات بين الثورة والخضوع، وبين الصراع مع الواقع والهرب إلى الإنجيل، إلا أن المأساة التي كابدوها، والسر الذي شُغلوا بالحرب معه متشابهان.

في هذه البيئة عاش تشيكوف، ومن هذا الهواء تنفَّس أبطالَه وبطلاتِه.

•••

قال عنه تولستوي ذات مرة: «تشيكوف فنانٌ لا نظير له. نعم، لا نظير له. إنه بوشكين يكتب نثرًا.»

والحق أن تشيكوف شاعرٌ كبير، وإن لم يكتب بيتًا واحدًا من الشعر.

فنه رقيقٌ كنفسه، صافٍ كعينَيه، طَيبٌ طيبة قلبه، فيه من الشعر عاطفتُه الرحيمة، ونغمُه المنسجم، ووقعُه الحنون. أنت دائمًا أمام روحٍ شاعري ينبض بالإحساس الجميل، ويرفُّ بالابتسامة العذبة، ويضطرب بالعذاب، وينفعل بالصدق. ومع ذلك فقد كان يكره الشعر، ولم يكن يستطيع أن يقرأ لغير بوشكين من بين جميع الشعراء، وكان يُحارب الذاتية وهي أخصُّ خصائص الشعر، ويرفَع الروح العلمية إلى أسمى الفضائل.

لم يكن تشيكوف كغيره من الكُتاب ممن تنطبق عليهم كلمة جوته: «الفن هو الخلاص.» كما لم يزعم يومًا أن فنه مرآةُ نفسه، ولا ادَّعى أنه «يغمس قلمه في مِدادِ قلبه …»

لم يندم قَطُّ على أنه درس الطب، ولم يتَخلَّ عن إيمانه بالمنهج العلمي، فتراه يقول:

«وقد جعلتُ نُصبَ عينيَّ دائمًا، وكلما كان ذلك ممكنًا، أن أضع الحقائق العلمية موضع الاعتبار، وعندما كان يستحيل عليَّ ذلك كنتُ أُوثِر ألا أكتب على الإطلاق.»١

هذا الكاتب الذي لم يَحِد عن الموضوعية أبدًا، كيف يمكن أن نُسمِّيه شاعرًا؟ الحق أنه لا تعارُض بين تشيكوف العالم، وتشيكوف الشاعر. إنه يؤمن بالعلم والطب، كما يؤمن بالذوق والجمال.

فليس ثَمَّة تعارُضٌ بين العلم والفن، أو بين التشريح والشعر.

والعبقريات لا تتصادم أبدًا؛ فقد كان جوته شاعرًا وعالمًا طبيعيًّا، والرجل الذي يعرف قوانين الدورة الدموية يُعَد من الأغنياء، فإذا أضاف إليها المعرفة بتاريخ الديانات وبألحان تشيكوفسكي، لم يزده ذلك فقرًا، بل زاده غنًى، والرجل الذي يُفكِّر تفكيرًا علميًّا يمكنه أن يرى بين لحنٍ موسيقيٍّ وشجرة من الأشجار شيئًا واحدًا مشتركًا؛ فكلاهما نتيجة قوانينَ منطقيةٍ وطبيعية.٢

إنك لا تُخطئ روح الشاعر في كتابات تشيكوف، ولكنك مع ذلك لا تنفصل عن الواقع أبدًا. إنه يُذهِلُك بالتفاصيل الجزئية البسيطة؛ لم ينس أبدًا أنه طبيب، فهو يشخص الأشياء ولا يصفها. لقد فحَص كلَّ بطل من أبطاله وتحسَّس جِلدَه وعُروقَه، ووضع المِسماع على قلبه قبل أن يُقدِّمه إليك.

ومن خلف هذا الحشد الهائل من الوقائع والجزئيات الحية الملموسة كان تشيكوف يُبصِر بشاعريته ذلك السر الخفي الذي يكمُن وراء الظواهر، والمعنى الصوفي الأزلي الذي يدخل في صميم الشعر — كان تأمُّل الجمال يُوقظ فيه عاطفةً من الحزن الرقيق — ولم تكن «موسيقى نفسه» تتجاوب إلا في الريف، الريف الروسي الذي نراه في معظم لوحاته، ويغمُره القمر بأشعَّته الذهبية، وينمو الحنان والخير مع كل نبتةٍ فيه.

والموسيقى ترتبط بالشعر. إنها تُولَد في الريف وتتردَّد وراء الشجر، والغابة، والنهر، والعشب، والقرية، والنجوم. وما أكثر ما نستمع إلى صوت الجيتار والكمان والبيان في أعماق تشيكوف! إنها جميعا تشترك لتُحدِث هذا الصوت العميق المهموس، ولتُعبِّر عن المرارة، والحزن والحساسية المطلقة لمصير الإنسان، وعن الرجاء في عالمٍ يشبه عالم القمر والنجوم، يغمُره النور والخير والصفاء.

آنيا : ها هو القمر (يبيهودوف يعزف على الجيتار الأغنية الحزينة نفسها. يصعد القمر).
ترفيموف : نعم ها هو القمر (لحظة صمت) وها هي السعادة تتقدم إلينا وتقترب منا. إني لأسمع خُطاها. وإذا كُنَّا لا نراها ولا ندري كيف نَتعرَّف عليها فلا ضير. سوف يأتي مِن بعدنا مَن يراها ويتعرف عليها.٣

إن قراءة تشيكوف تجعلنا نشعر كأننا نعيش يومًا حزينًا من أواخر الخريف؛ الهواء شفاف، والأشجار عارية، والبيوت مظلمة، والخلق عابسون؛ كل شيءٍ هنا غريب، ووحيد وصامت، ومكسور الجناح، والمسافات البعيدة الزرقاء فارغة تلتقي بالسماء الشاحبة، وتتنفَّس هواءً مثلجًا ويكسوها جليدٌ لم يتجمَّد بعدُ.

وعقلُ تشيكوف يُشرِق كما تشرق شمس الخريف، فيُنير الطرقات اللاحبة، والدروب الملتوية، والبيوت القذرة البائسة. هنا يعيش أناسٌ صغارٌ مساكينُ يُضيعون حياتهم في الضيق والسأَم، والكسل، ويملئون مساكنهم ضجيجًا صاخبًا لا معنى له.

هنالك تعيش «العزيزة»، امرأة طيبة متواضعة صافية النفس، تسعى كأنها فأرٌ صغير، وتُحب حب العبيد، حبًّا جارفًا بلا حدود، هي الأمة الضعيفة المستسلمة، وإلى جانبها تقف أولجا (إحدى الأخوات الثلاث)، تُحب هي الأخرى حبًّا بلا حدود، ولكنها تحني رأسها لنزواتِ امرأة أخيها، وتُشاهِد حياة أختَيها تتحطَّم أمام عينَيها، وتتساقط كأوراق الخريف من حولها. غير أنها تقف عاجزة، لا تملك إلا الصراخ، ولا تستطيع أن تثور بكلمةٍ واحدة على الفجاجة والفظاظة والعيش الرتيب المُبتذَل.

وهناك أيضًا تعيش «رانفسكايا» وكلُّ مَن كانوا يملكون «بستان الكرز»، كلهم أنانيون كالأطفال، نفوسهم هشة كالعجائز، عمُوا عن كلِّ ما يُحيط بهم من ثورة وتطوُّر، فلم يكن منهم إلا أن يتصايحوا ويبكوا ويجأروا بالشكاة، هم يمثلون جيلًا فات أوانه، وكان ينبغي ألا يُشار إلى وجوده إلا على شواهد القبور. وهنالك الطالب الأبدي «ترفيموف»، أجوف كالطبل، يُدير لسانه بكلامٍ بليغ عن العمل والواجب والمستقبل في حين يُضيع وقته في حديثٍ أبله وتسليةٍ مريضة. وفرشنين (بطل الأخوات الثلاث) يحلم بحياةٍ جديدة تُولَد بعد قرنَين أو ثلاثة من الزمان، ولكنه لا يُدرِك أن كل القيم تتحطَّم من حوله وتنهار، وأن سوليوني يُحاول أو يغتال البارون المسكين توزنباخ على مشهدٍ منه. لن يغيب عن خيالكَ مشهدٌ في الأخوات الثلاث يتحدَّث فيه الحاضرون عن مصير الإنسانية، في الوقت الذي تحترق فيه المدينة من ورائهم.

إن موكبًا طويلًا من العبيد يسير أمامك، عبيد قلوبهم، وكسلهم، ونهمهم إلى لذات الأرض، عبيد الخوف الغامض من الحياة، تُفزِعهم مواجهة الواقع، ويُحرِّكهم قلقٌ يائس، وشعور بأنه لم يعُد لهم مكان في الحاضر، فهم يملَئون الهواء كلامًا عن المستقبل.

وعندما تُدوِّي طلقاتُ الرصاص، نعرف أن تربليف في «طير البحر» أو إيفانوف قد قتل نفسه، وإنهما قد اكتشفا طريق الخلاص الذي بقي لهما، وأهلكا شبحَين من موكب الأشباح.

وما أكثَر شخصياتِ تشيكوف التي تحلُم بالمستقبل وبالحياة السعيدة، ولكن ما أقلَّ من يسأل نفسه: على يدِ مَن تتحقق هذه الحياة الجديدة، وكيف؟

وهنا يعبُر بهذه المخلوقات البليدة، العاجزة، المُفزعة، إنسانٌ عظيم وحكيم، فيُثبِّت النظر فيهم طويلًا، ثم يقول، وعلى شفتيه بسمةٌ حزينة، وفي عينَيه إشفاقٌ ومحبة لا حد لهما: «يا للحياة الشقية البليدة التي تَحيَونها، يا أيها السادة!»

•••

يُخطئ من يظُن أن مسرح تشيكوف مسرحٌ ساكن، فاقد الحركة. إن حركته تنمو وتَتطوَّر من الداخل، موج يتلاطم في تيار الشعور، والشخصيات التي تبدو لنا عاجزةً ومشلولة تطوي في ذواتها حيويةً دافقةً ملتهبة. إن أبطاله ساكنون، وفي سكونهم سر المأساة، إنهم يتناولون غذاءهم، أو يلعبون لُعبة الورق، لا يكادون يفعلون شيئًا غير هذا، ولكن في هذه اللحظة نفسها تُشيَّد سعادتهم أو تتحطم حياتهم.

إن المسرح كله يسوده جوٌّ عامٌّ من العذاب، والضجَر، والوجوم، والاستسلام، والرجاء في المستقبل؛ فمِن شُعوره الدقيق بالرؤيا الحسية، وإحساسه باللمسة واللون والطابع الفريد في الشخصية، ومن مجموع هذه الوحدات البسيطة المبعثرة، ومن الصمت الثقيل يُطبِق على شخصياته كالسحب البطيئة السوداء، يتكوَّن ما اصطلَحْنا على تسميته بالشكل الفني. إن شخصياتِ «الخال فانيا»، و«الأخوات الثلاث» و«بستان الكرز» شخصياتٌ سلبية، مستسلمة، ضائعة، مؤمنة بأنْ لا نجاة من القدَر المكتوب.

هنالك شعورٌ واحد يتدفَّق فيهم جميعًا، ويُعلِن لهم في كل لحظة بأنهم ضحايا مُضطهَدون، أرواحهم تجردت من كل طاقة، وزَهِدَت في كل صراع، وقلوبهم تحطَّمَت فيها الإرادة، غير أنهم مع ذلك يحسون الشوق إلى العمل، وتنتفض بين جنوبهم إرادةٌ عارمة نحو شيءٍ يشعُرون أنهم في حاجة إليه، حاجة مُلِحَّة خانقة. إنهم ساكنون، عاجزون، ينتظرون الطارق المجهول، ويترقَّبون العاصفة التي تبعث فيهم الحركة، والعمل، والحياة.

لقد انتُزعوا من حياتهم العملية، من واجباتهم الرسمية، من شئونهم اليومية، وغَرِقوا إلى آذانهم في حياةٍ رتيبة، مملة، يائسة. إن كاتبنا يهبط إلى مشاعرهم الباطنة، ويسكن معهم في «البدروم» الرطب الذي يعيشون فيه، ويُنصِت إلى صوت ضميرهم، وذكرياتهم، وأحلامهم. هنالك يكون الإنسان إنسانًا لا عبدًا لعمله، أو واجبه، أو أنانيته، أو مظهره. إنه يطَّلع على جوهر حياتهم الروحية، ويستمع إلى صوتٍ ينبثق من ضميرهم، ينتزعهم من عالمهم المادي، ويرتفع بهم إلى وجودٍ أسمى من وجودهم، يغمره الحب والإخاء والسعادة.

والحق أن تشيكوف مثاليٌّ عظيم، إن عاطفته ومرحه، وسخريته، وإنسانيته، وشاعريته، تنبع جميعًا من مثاليته، وهذه المثالية هي التي جعلت شخوصه خيرة، نبيلة، طيبة، لن تجد من بينها من تستطيع أن تسميه شرِّيرًا، والشر، إن وُجد، فليس طبعًا ملازمًا لهم، بل ظلٌّ كبير ينسحب على الحياة والأحياء جميعًا. إن شخصياته الكسيرة اليائسة شخصيات نبيلة ترتفع فوق همومها الفردية، وتتحدث عن مستقبل البشر، وتحلُم بعالمٍ تسود فيه المحبة بين الناس جميعًا، وتنشُد المثل الأعلى جمالًا في الطبيعة، وجمالًا في الإنسان.

ما من شيءٍ يُحقِّق لها هذا الحُلم إلا العمل، العمل وحده يخلُق الإنسان ويجعل لوجوده معنًى على هذه الأرض (ففي البدء كان الفعل كما يقول جوته)؛ لهذا تراهم يصرخون دائمًا: يجب أن نعمل، يجب أن نعمل. إنها مأساة الإنسان الذي يعلم أنه لن يستطيع أن يبلُغ الكمال، ولكنه يشعر بأن عليه أن يُحاول ويُحاول. إنه الصراعُ الأبديُّ بين طموحه وقدرته، بين الواقع الذي يرفض أن يقبله وبين الحُلم الذي لا يقبل التنازل عنه.

فرشنين : نعم سوف ينسانا الناس، وذلك هو نصيبنا، ولا مفر منه، والذي يبدو لنا اليوم شيئًا خطيرًا سيُنسى ذات يومٍ وربما بدا وكأنْ لا وزن له (صمت) والعجيب أننا لا نستطيع أن نتبين على وجه التحديد ما يمكن أن يُكتب له البقاء في المستقبل، وما يُلقى في زوايا النسيان. أولم تبدُ اكتشافاتُ كوبرنيكوس وكولومبوس في حينها تافهةً وعقيمة في حين بدَت الكتاباتُ الفارغة التي كانت تُدبِّجها بعضُ الأقلام في ذلك العهد صادقةً في أعين الناس؟ وقد يأتي يومٌ ينظُر الناس فيه إلى حياتنا الراهنة التي نتقبَّلها اليوم عن طيبِ خاطر، فيجدونها حياةً شاذَّة، مضنية، عاطلة من الذوق والإحساس، بل ربما بدت لهم مُفعَمة بالإثم والخطيئة.
توزنباخ : من يدري؟ ربما نعَت الناس عصرنا بأنه عصرٌ عظيم، وربما ذكروه بالتبجيل والإجلال. لقد خلت حياتنا اليوم من غرف التعذيب، ومحاكم التفتيش، ومن الإعدام بالجملة والغزو العسكري، ومع هذا فما أشدَّ التعاسةَ التي يفيض بها عالم اليوم!
سولوني (في صوتٍ حاد) : تشوك، تشوك، تشوك. إن البارون يستعذب الحديث عن الأفكار المجردة، كما يستعذب طعم الخبز واللحم.
توزنباخ : فاسيلي فاسيلفتش، أرجوك أن تتركني وحدي (يتحرك إلى مقعدٍ آخر) إن السأم يخنقني.
سولوني (في صوتٍ حاد) : تشوك، تشوك، تشوك.
توزنباخ (لفرشنين) : إن التعاسة التي نراها اليوم — وما أشد وطأتها — تدُل على أية حال على أن المجتمع قد بلغ مُستوًى خلقيًّا معينًا.
فرشنين : نعم، نعم، بالطبع.
تشيوتكين : سمعتُكَ يا سيدي البارون من لحظة تقول: إن عصرنا سيُوصف بأنه عصرٌ عظيم، ومع ذلك فإن الناس صغار، صغار (ينهض من مقعده). انظر كم أنا صغير!

في مثل هذه الأجواء الرقيقة الهادئة تسير بك كتاباتُ تشيكوف، ومؤرخو الأدب يتساءلون كيف أمكن لمثل هذا الفنان الرقيق أن يُبدِع للمسرح أجمل روائعه. هذا المسرح الذي ظل يرتكز في تاريخه الطويل على تراثٍ من الأصول المرعية، وقواعدَ من عقدة وأزمة وحركة وشخصيات، كيف أمكن لهذا الرجل الوديع الخجول أن يُغفِل الأصول المتوارثة، والقواعد التقليدية، ويخلق مع ذلك مسرحًا عظيمًا؟

وإذا خلا مسرح تشيكوف من الأزمة المعقَّدة، والأحداث المُفجِعة، والشخصيات النموذجية، فهل يخلو من كل شيء؟ لن تقول ذلك إذا شاهدتَ مسرحه أو قرأتَه. إنكَ ترى الحياة كما هي، طبيعية صادقة تتخلَّلها فتراتٌ طويلة من الصمت، كأنك لم تكن في مسرح، ولم تغادر بيتك. لقد كنتَ جالسًا إلى جوار المدفأة أو في غرفة مكتبك، تنسج أحلامك وتستعيد ذكرياتك. قد تضحك لفكاهةٍ تُلقى، أو تتحمس لحوارٍ يدور حولك، وقد تتسلى بلَعِب الورق أو بالحديث في هموم الشعب وشئون السياسة، ولكنكَ تعود دائمًا إلى مشكلتكَ أنت، وتُواجه قدَرك الذي كُتب على جبينك، لحظات من حياتك، تتوهج بالثورة حينًا، ويُثلجها جليدُ الصمت حينًا آخر، متقطعة دائمة، كأنها ألحان من بيتهوفن، أو رعشاتٌ على شفتَي غلامٍ أبكم.

لن تستطيع أن تُنكِر ما حدث أمامك، إن شيئًا خطيرًا ظل ينسج خيوطه مشهدًا مشهدًا حتى اكتملَت الرواية، وتسلل إلى نفسك بمفهومٍ عامٍّ عن حياة الناس، وقلقهم، وشوقهم إلى حياة أفضل، عالم نفسي محض، أفرغ فيه تشيكوف كلَّ ما كان في نفسكَ أنت من حزن ومرارة، من طموح وأمل.

يقول ستانسلافسكي، المخرج الشهير، ومؤسِّس مسرح الفن في موسكو في كتابه «حياتي في الفن»:

«إن الطاقة الشعرية في مسرح تشيكوف لا تبدو لأول وهلة. إنك تسأل نفسك بعد أن تشاهد المسرحية أو تطالعها في كتاب: جميل … ولكنها ليست من طراز فريد … وليست مما يثير النفس بالإعجاب. كل شيء في مكانه الطبيعي. صادق … مألوف … نعم … لا جديد في هذه المسرحية … بل إن القراءة الأُولى قد تصيبك بخيبة أمل. إنكَ تقف حائرًا صامتًا حيالها … العقدة والموضوع تستطيع أن تفسرهما في كلمتَين. والشخصيات بعضها جميلٌ حقًّا … غير أنها ليست مما يثير طموح الممثلين. حتى إذا استحضرتَ في ذهنكَ بعض الجمل والمشاهد، شعرتَ بحاجةٍ إلى إطالة التفكير فيها، والتأمُّل في مضمونها. ويعبُر فكرك جملًا ومشاهدَ أخرى، وتعود الرواية كلها فتطوف كالظلال الوادعة أمام عينيك … وإذا بكَ تُحس الحنين إلى قراءتها من جديد؛ عندئذٍ تَتحقَّق من الأعماق الكامنة تحت السطح.»

إن شخصياتِه كالظلال، تَضمحِل شيئًا فشيئًا حتى تتلاشى وتتبخر، وتَهبِط الستارة في النهاية على مسرح صامتٍ مهجور، لما تَنتهِ المأساة عليه بعدُ، بل لعلها قد بدأَت.

إن الخال فانيًا قد فقد حماسَه للحياة، وأضاع الحب الذي كان يمكن أن يُعيد إليه شبابه. والأخوات الثلاث يُكافِحن كفاحًا مريرًا، علهن يجدنَ معنًى وراء حياتهن الريفية الخانقة. والشاعر المتحرر «كوستا» يرى كل القيم الجديدة التي حاوَل أن يُبدِعها في فن المسرح تنهارُ أمام عينيه، بعد أن تسلَّطَت عليه نظرةٌ باردة من كاتبٍ كبيرٍ ناجح، والحبيبة التي ربط بها مصيره تهجره إلى غير رجعة، بعد أن أعشت عينَيها أنوار المجد الذي تحلُم به في موسكو. وامرأة تمثل نظامًا برجوازيًّا منهارًا ترى أملاكها تُباع على مشهدٍ منها وتُبصر طبقتَها وقيمَها العزيزة عليها تتحطم أمام عينَيها، فتقف عاجزة لا تَدرِي ماذا تفعل.

كل هذه الأحداث تجري في حركةٍ بطيئة شديدة البطء، تُشبِه أن تكون قدَرًا لا نجاة منه، بل إن مشاعر الحب، وأزمات الضمير، وانفعالات النفس تنطوي جميعًا في هذا الإطار الكبير، فلا تُحطِّمه بل تزيده ثقلًا وإبطاءً. والأحداث العنيفة التي تقع من حين إلى حين، كما نرى في انتحار قسطنطين، أو مبارزة توزنباخ، أو إقدام فانيا على القتل، لا تثير في نفوسنا الفزع بقَدْرِ ما تثير فيها الرثاء، ولا تنتهي إلى الكارثة المفجعة التي تهبط بعدها الستار على حين فجأة. إن الكارثة هنا هي كارثة المجتمع نفسه، كارثة البشر أجمعين. إنه يريد أن يقول للناس ببساطة، انظروا إلى حياتكم. كم هي فارغة، ومضجرة، ومخيفة! ألا تشعرون بالرغبة في الخلاص منها؟ ألا تُحسُّون الشوق إلى حياة أجمل؟

إن هذه الشخصيات تبدو عاجزةً أمام قدَرٍ أكبر منها، وتُدرك مدى قصورها وبطلانها. إنها تسير كأنها فقدَت الطريق، والإيمان، والثقة بالمستقبل، ومع ذلك فهي تجاهد جهاد اليائس لكي تُقنع نفسها بأن الغد سيكون خيرًا من اليوم، وأن الأبناء والأحفاد ربما كانوا أسعد حظًّا، وأن الحياة لذلك لم تكن هباءً كلها. إن تشيكوف، وهو الرجل المعذَّب، المريض، المستوحد لا ينقطع عن التفكير في مصير الإنسان ومستقبله على الأرض. إنه يحاول أن يجد العزاء لقلبه في الأمل؛ الأمل في إنسانيةٍ جديدة يُظلِّلها السلام، وتتجه بكل قُواها نحو الخير، والعدل، والحب، والجمال. يقول فرشنين في الفصل الثاني من «الأخوات الثلاث»:

«يبدو لي أن كل شيء على وجه الأرض ينبغي أن يتبدَّل شيئًا فشيئًا. بل إن كل شيء يتبدل بالفعل أمام أعيُننا. وفي غضون مائتَين أو ثلاثمائة سنة، وربما في خلال ألف سنة، ستُولَد حياةٌ جديدة، وسعيدة. يقينًا لن يكون لنا دور في هذه الحياة، ولكننا نعيش اليوم، ونعمل، ونتعذَّب من أجلها، نحن الذين سنصنعها بأيدينا، وتلك هي الغاية الوحيدة من وجودنا، أو لعلها إن شئتَ سعادتُنا الوحيدة. إن شعر رأسي يَبيَضُّ، وقد أوشكتُ أن أُصبِح شيخًا مُهدَّمًا، وأنا بعدُ لا أكاد أعرف إلا القليل … آه! بل أقل من القليل! … ومع ذلك يبدو لي أنني أضع يدي على سر الوجود. لكَم وددتُ لو أستطيع أن أُبرهن لكم على أن السعادة لا وجود لها، ولا يمكن أن تُوجد ولن يكون لها وجود بالنسبة إلينا … أما نحن، فلا ينبغي لنا إلا أن نعمل، ونعمل. وأما السعادة فهي من نصيب أبنائنا وأحفادِنا الأَبعدِين …»

•••

تحدث مورياك عن تشيكوف فذكر اسم موتسارت، والحق أن اسم تشيكوف في القصة يُذكِّرنا باسم موتسارت في الموسيقى. إن رقة الإيقاع، وعذوبة اللحن، ودقَّة الأداء، وشفافية الروح تقرب بينهما. ولكن موسيقى موتسارت نُورٌ بلا ظل، بلَّوْرةٌ تتلألأ، وفي تشيكوف ظلالٌ كثيرة، بل إنه هو نفسه ظلٌّ وديع طاف بعالمنا القديم حينًا ثم تلاشى. كأن شاعر «الأخوات الثلاث» و«النورس» قديسٌ من هؤلاء القديسين الذين تُرسِلُهم العناية الإلهية لتُضحِّي بهم من أجل البشر، وعندما تطوف ذكراهم بالنفس يستيقظ فيها لحنٌ جميل.٤

وما أكثر ما يُغيِّر تشيكوف من أسلوبه! إنه ينتقل من السرد الواقعي البسيط إلى أسلوبٍ غنائي فيه نفحةُ الشعر وشذاه. وكم تتردَّد هذه الظلال في أقاصيصه ومسرحه! يبدأ الفصل التاسع من «قصة الموجيك» هذا البدء:

«آه! يا له من شتاءٍ طويلٍ قاسٍ!» ثم يستطرد في سَردٍ قصصيٍّ عادي، يتغير إيقاعه فجأةً حين يصف نساءً يتردَّدن على الكنيسة كل صباح «آه! ما كان أجمل هذا الصباح! لقد كانت الحياة في هذه الدنيا تغدو جميلةً لو لم يكن للتعاسة من وجود، التعاسة الرهيبة التي لا نجاة منها.»

وفي قصته «في الخريف» يصف إنسانًا خرَّبَت الخمر روحه، يجلس وحيدًا في حانة، في ليلةٍ باردة معتمة:

«وازدادت حدة البرد شيئًا فشيئًا، وبدا كأن هذا الخريف الكالح الكئيب لن ينتهي أبدًا، وانطفأت الشمعة … آه أيها الربيع … أين أنت!»

وفي قصته الطويلة «الاستبس»:

«البومة تطير فوق الأرض، تُرفرِف بجناحَيها الكبيرَين، وفجأةً تقف كأنها تُفكِّر في تعاسة الحياة … وعلى قمة أحد التلول تظهر شجرةُ حورٍ وحيدة … أهي سعيدة؟! هذا الكائن الجميل؟ حرارة الصيف اللافحة، عواصف الثلج في الشتاء، والليالي الرهيبة في الخريف. ما من شيء يُرى إلا الظلام. لا صوت يُسمَع إلا صوت الريح، وهي تعوي خائفةً … وتظل الشجرة مدى الحياة، وحيدةً … وحيدة …»

وفي معجزته القصيرة «السيدة والكلب»:

«وفي أورلياندا جلسا معًا على مَقعدٍ غيرِ بعيد من الكنيسة، وتطلَّعا إلى البحر من تحتهما، ولبثا صامتَين. كانت مدينة «يالتا» لا تكاد تُرى من خلال ضباب الصباح، والسحب البيضاء ساكنة فوق قمم الجبال. والأوراق لا تَهتزُّ على الأشجار، والصراصير تطن، والصوت الأجوف المملول الذي ينبعث من البحر يرتفع إليهما، ويُترجِم عن السلام، والرُّقاد الأبدي الذي ينتظرنا.

كان هذا هو صوت البحر حين لم يكن ليالتا ولا لأورلياندا من وجود، وما يزال هو نفس الصوت الذي يصدر منه الآن، وسوف يصدر عنه في رتابة وعدم اكتراث، حين لا يكون لنا نحن أيضًا من أثَر. ربما كان في هذه الديمومة، في عدم الاكتراث الكامل لحياتنا أو مماتنا عهدٌ خفي على نجاتنا، على حركة الحياة التي لا تنقطع، والتطوُّر المتصل نحو الكمال. وخطر لجوروف وهو جالس إلى جانب امرأةٍ شابة يُلقي عليها الفجر ظلاله فتبدو فاتنة، رقيقة، محببة، مفتونة بكل ما يحيط بها — البحر والجبال، والسحب، والأفق الرحيب — خطر له أن يسأل كيف أن كل شيءٍ جميل خلا ما نفكر فيه أو نعمله نحن أنفسنا حين ننسي كرامتنا الإنسانية والغاية السامية في وجودنا.»٥

وحين يذهب «ستارتسيف» وحده إلى المقبرة في منتصف الليل، لينتظر حبيبته التي وعدَتْه باللقاء في أقربِ مكان، نجده يُسرِّح بصره في القبور المتناثرة حوله. ويُفكِّر فيمن يرقدون تحتها، وكم أحبوا، وتعبوا، وتعذبوا.

«فوجئ ستارتسيف بما رآه للمرة الأُولى في حياته، وما يحتمل ألا تقع عليه عيناه أبدًا بعد ذلك. عالم لا يشبهه شيء، ينساب في ضوء القمر رقيقًا ناعمًا جميلًا، وكأنه ينعَس هنا في مهده، حيث لا أثَر للحياة، لا أثر لها البتة. غير أنه كان يشعر بأن في كل شجرة حورٍ سوداء، في كل قبر، سرًّا غامضًا يُبشِّر بحياةٍ سعيدة آمنة، جميلة، سردمية، وكان ينبعث من حجارة القبور، ومن الزهور الذابلة، مع رائحة الأوراق الميتة، إحساسٌ بالمغفرة، والنسيان، والسلام.

لم يكن هناك أحد، فمن ذا الذي تسوقه خطاه إلى المقبرة في منتصف الليل؟ ولكن ستارستيف راح ينتظر، وكأن ضوء القمر أدفأ عاطفته، فالتهب خياله، وتراءت له القبلات والعناق، وجلس إلى جانب النصب نصف ساعة، ثم أخذ يذرع الأروقة الجانبية جيئة وذهابًا، وقُبعتُه في يده ينتظر ويفكر: كم من النساء والبنات دُفنَّ في هذه القبور، وكن جميلات فاتنات؟ كم من النساء والبنات أحببن، واشتعلَت عواطفهن بالليل، فاستسلمن للضم والعناق؟

وكم تسخر أمنا الطبيعة على حساب الإنسان، سُخْرِيَتَها المرة الفظيعة؟ وما أَضيَعَنا أن عرفنا ذلك!»

وهذا النغم الشعري يتردد في مسرحه بصورةٍ أوضح، ويكاد يدور حول موضوعٍ لا يتغير، هو الرجاء في غدٍ أجمل، ومستقبلٍ أسعد.

تقول إحدى الأخوات الثلاث:

«آه يا إلهي! سيمضي الزمن، وسنمضي معه إلى الأبد، وسوف ينسانا الناس، ينسون وجوهنا، وأصواتنا، بل ينسون عددنا، ولكن عذاباتنا ستستحيل أفراحًا لمن يأتون بعدنا وتستقر السعادة والسلام على الأرض، وسوف يذكُرنا أبناؤنا وأحفادنا بالخير، ويُباركون من يعيشون اليوم.»

وفي «بستان الكرز» تُناجي آنيا أمها والبستان فتقول:

«آه يا طفولتي. يا عهد صفائي وطهري. في هذه الغرفة نمت وأنا طفلة، ومن هذه النافذة تطلَّعتُ إلى البستان. كانت السعادة تستيقظ معي كل صباح، وكان البستان على ما هو عليه اليوم؛ لم يتغير شيء.

آه يا بستاني! بعد خريفٍ مظلم وحزين، وشتاءٍ ثلجي تعود شابًّا من جديد، ومن جديد تفيض بالسعادة. ملائكة السماء لم تتخلَّ عنك. آه لو كنتُ أستطيع أن أرفع عن صدري، عن كاهلي، هذا الحمل الثقيل. لو أستطيع أن أنسى الماضي! لقد بِيعَ البستان ولم يعُد له وجود. هذا حق. لا تبكي يا أمي، لا تبكي … إن حياتكِ ما زالت ممتدة أمامك، وروحكِ ما زالت جميلة ونقية … تعالَي معي، تعالَي يا حبيبتي. لنرحل معًا. سوف ترينه وسوف تدركين كل شيء وستهبط السعادة … السعادة العذبة العميقة على روحك، كما تهبط الشمس ساعة الغروب. وسوف تبتسمين يا أمي من جديد … أمي! تعالَي معي، يا حبيبتي، تعالَي! …» (ختام الفصل الثالث.)

وتقول سونيا في نهاية مسرحية «الخال فانيا»:

«سوف نستريح! سوف نسمع أصوات الملائكة ونرى السموات تُغطِّيها النجوم كاللآلئ، ونُبصِر كل شرور الأرض وكل آلامنا تمحوها النعمة التي تفيض على الكون كله.

وسوف تصبح حياتنا آمنة، رقيقة، عذبة، كأنها عناق. أنا مؤمنة بهذا … مؤمنة به … (تمسح عينَيه بمنديلها) أيها المسكين … يا خالي فانيا … أيها المسكين … إنك تبكي … (دامعة) أنت لم تفرح في حياتك أبدًا … ولكن انتظر يا خالي … انتظر … فسوف نستريح … (تعانقه) سوف نستريح!»

وهكذا تخفق هذه الموجة الهادئة من الغناء والشعر، من الشكوى والحنان. كان تشيكوف يكره الشعر … وها نحن نراه شاعرًا وموسيقيًّا! …

•••

ربما كانت البيئة التي عاش فيها تشيكوف هي المسئولة عن تشاؤمه وقنوطه. كانت سماء روسيا في ذلك الحين تُظلِّلها سحاباتٌ من اليأس، والسخط، وخيبة الأمل؛ فلقد فشلت إصلاحات القيصر إسكندر الثاني وخليفته في أن تُغيِّر من حالة الشعب الروسي أو تُحقِّق أمانيه في الحرية والرخاء، وكان الفلاح الروسي الفقير يهجر أرضه إلى المصانع التي بدأت تفتح أبوابها، ويبدأ حياةً جديدة ليس له بها عهد. كانت مرحلة يسودها اليأس والهزيمة والانتظار. كانت فترة هدوءٍ نسبي سبقَتها ولحقتها الحروب والثورات.

وأعمال تشيكوف تعكس هذه المرارة النفسية وهذا الشلل الروحي الذي أصاب الأمة الروسية في ذلك الحين.

على أنك لن تجد عند تشيكوف مشكلاتٍ أخلاقية أو اجتماعية بالحدة نفسها والإصرار الذي تجده عند إبسن وأتباعه، فستجد هنا الطموح نحو المثل الأعلى، والسؤال الذي لا ينقطع عن ماهية القيم ودورها في حياتنا التي لا تكاد تخلو من الصراع في سبيل لقمة العيش.

إن تشيكوف لم ينفصل عن المجتمع أبدًا، فالمضمون الاجتماعي ينمو، ويتضح في أعماله على الدوام. كان المجتمع هو الموضوع الأساسي في كتابات المعاصرين لتشيكوف، ولكن كلًّا منهم كان يلتفت إلى جانب واحد منه؛ فمسرحيات هاوبتمان الاجتماعية مثلًا تشير إلى طبقةٍ معينة، وتعطف على مشكلاتها، فهناك الفلاحون الذين يُحطِّمون حياتهم ويجنون على مستقبل أبنائهم بإدمانهم الخمر، وهناك عمال النسيج الفقراء الذين تقضى رءوس الأموال الكبيرة على حياتهم.

ومسرحيات إبسن تدور هي الأخرى في حيزٍ معين، وفي كل واحدة منها مشكلةٌ جديدة. إنها في جملتها تُعبِّير عن الأزمة التي يخوضها المجتمع نتيجة إصراره على التمسُّك بمعتقدات ومبادئ بليت، ووجب عليه أن يتحرر منها.

كلا الكاتبَين مُصلحٌ اجتماعي يُحلِّل الداء، ويُعلِن الثورة عليه، ولن تجد هذا عند تشيكوف.

إن مسرحياته يسودها جوٌّ عامٌّ يضُم الجزيئات والتفاصيل. قد تجد فيها نقد الأوضاع الاجتماعية، أو إحساسًا بأن التغيير والثورة ضرورةٌ لازمة لانتشال المجتمع من جموده وفساده، أو حكمًا أخلاقيًّا على النظام الدائم، وتخطيطًا لإصلاحه والنهوض به. غير أن هذه جميعًا تياراتٌ في النهر الكبير، نهر الشعور الجمعي الذي كان يسبح فيه الشعب الروسي في ذلك الحين.٦

إن الصورة التي يرسمها تشيكوف تُعبِّر عن موقفٍ اجتماعي شامل، ولكنه يغزل خيوطها من خصائصَ فردية لا حصر لها، ومن ملامحَ نفسية متفاوتة فتنبض بالحرارة والحياة. موضوعها الرئيسي هو حالة مجتمعٍ يُدرِك عيوبه ويُحِس الحاجة المُلحَّة إلى تغييرها، ولكن عالمًا بأَسْره يموج فيها، عالمًا من اليأس والأمل، من الحب والكراهية، من الطموح والهزيمة، من الجنون والتعقل، يضطرب بعواطف الناس ومشكلاتهم التي يواجهونها في حياتهم اليومية، والصورة من الشمول والتعميم بحيث لا تكاد تسمح بأي تفسيرٍ ضيِّق لمدلولها الاجتماعي. إنها تتخطى حدود الزمان، وتنتهي إلى أن تكون صورة لحياة الإنسان نفسها، وأن كاتبها لا يدري لفرطِ ما تُمثِّل حياة الناس، هل يُسمِّيها مآسيَ أو مهازلَ أو مشاهدَ من حياة الريف. من العبث أن تصف شخصياته بأنهم «أبطال». إن كل واحدٍ منهم هو «كل واحد»، هو رجل الشارع بمشكلاته وأسراره، بضعفه ومخاوفه، بأفراحه وأحزانه. وحين كتب مسرحية «إيفانوف» عام ١٨٨٧م أراد أن يبعد عن بَطِلها كل أَثَر «للبطولة» فسمَّاها في البداية إيفان إيفانوفتش إيفانوف! كأنما أراد أن يقول إن إيفان هو كل رجل في روسيا!

ويتبادر إلى الأذهان هذا السؤال: هل تعكس أعمال تشيكوف واقعًا اجتماعيًّا بعينه، أم إنها لا تُعبِّر إلا عن مشاعره الذاتية؟ هل يتفق هذا العالم الذي يُصوِّره تشيكوف مع الواقع التاريخي، وما مبلغ صدقه في التعبير عن إحساسه ومشاعره الشخصية؟

ربما كانت الإجابة المتواضعة على هذا السؤال هي أن الاتجاه الغالب في حياته النفسية كان يتفق مع الاتجاه السائد في الحياة الاجتماعية في ذلك الحين. كان تشيكوف مريضًا، معذبًا، وحيدًا، وكان المجتمع مريضًا، مهزومًا، مظلومًا، ينظر إلى السحب التي تنعقد في الأفق، وينتظر هبوب العاصفة. وكانت لدى تشيكوف عاطفةٌ تشبه الإلهام بأن الثورة على الأبواب؛ لذلك نراه صادقًا في تعبيره عن نفسه وعن مجتمعه في وقتٍ واحد. استطاع — وهو الطبيب — أن يلاحظ أعراض المجتمع المريض، وهدَتْه فلسفةٌ مثالية إلى ما أعتقد أنه الدواء؛ ومن ثَمَّ شاع في كتابته هذا المزيج الغريب من الصورة الموضوعية والنغمة الغنائية والعاطفة المثالية. واكتملت هذه الصورة في تمثيلياته فكانت أزمة الدراما هي أزمة المجتمع نفسه، وكل من يتحرك أمامك من الخادم إلى الأمير فهو طَرَف في هذه الأزمة أو عَرَض من أعراضها. هذه التعاسة الروحية التي يكابدها المجتمع كله هي إذن الأزمة، وهي المأساة الحقيقية.

•••

إن أعمال تشيكوف كلٌّ متكامل، وليس يُجدينا أن ننتخب قصةً من قصصه، أو مسرحيةً من مسرحياته ونفضلها على رفيقاتها.

إنها تُشبِه لوحةً كبيرة، يسري فيها إلهامٌ واحد، وتخضع لضرورةٍ نفسية واحدة. الحياة تجري فيها كما تتلاحق الساعات، والأيام، والسنين، هادئة، طيبة، وديعة كما تسري الريح في جنبات الغابة. ليس من بينها ما يمكن أن نصفه بأنه دُرَّة أعمال تشيكوف.

فهناك تشيكوف نفسه؛ هناك روحه الرقيقة، وعبقريته الخلابة. إن قصصه التي يقول عنها إنها «أقصر من أنف راهب.» تتعاقب واحدةً بعد أخرى، وتوشك أن تكون بغير خاتمة، وكأن شخصياتها تنتظر أن تستأنف حياتها، ومغامراتها، وعذابها في قصةٍ جديدة. إنها جميعًا مفتوحة الأبواب، وكل واحدة منها تُفضي إلى الأخرى. وكأني بهم يتلاقون في مكانٍ واحد، فيروي كلٌّ منهم مأساته «ويدردش» ليُروِّح قليلًا عن حزنه ومرارته وأحلامه، ثم يتفرقون كل في سبيله. إنهم يتحدثون، وحديثهم شعرٌ حزين، يكاد يجرفك معه إلى الهاوية. وهم يشكون، وفي شكواهم مأساة شعب وعصر بأكمله. وقد يبدو تشيكوف في بعض الأحيان وكأنه يجهل كل شيء عن هذه المأساة، ولكنك تلمح الأمل يلمع من بعيدٍ وراء أفقه القاتم. إنه الأمل في المستقبل، أمل الجيل المعذب المضطهد الضائع في جيلٍ جديد يخلفه ويكون أسعد منه، وأكمل، وأعدل.

•••

إن قصة الحنان والإشفاق والحساسية العميقة لكل ما يصيب الإنسان من عذابٍ هي قصة تشيكوف نفسه. وما أشدَّ انطباق هذه الكلمات التي تجدها في قصة «الأزمة» على كاتبنا نفسه! «هناك مواهبُ أدبيةٌ ومسرحية وفنية. أما موهبته فهي من طرازٍ فريد. إنها موهبة إنسانية. إنه يملك الإحساس المدهش النافذ إلى كلِّ ما يصيب الإنسان من ألم أو عذاب.»

«تذكر أن من الخير أن تكون ضحية على أن تكون جلادًا.»

هكذا يقول تشيكوف في رسالة له إلى أخيه ألكسندر. كان الطفل أنطون ضحية أبٍ طاغية، متعصب، متلف الأعصاب. فصار كل أبطاله ضحايا. لم يُمسِك واحدٌ منهم سوطًا في يده.

إن قصته هي قصة عبدٍ ابن عبد، وحفيد عبيد، استيقظ وتحرَّر، فأراد أن يجعل الناس كلهم أحرارًا.

«إن ما يتلقاه الكتاب النبلاء مجانًا، بحق الوراثة، نشتريه نحن الكادحين على حساب شبابنا … حاول إذن أن تكتب قصة غلامٍ صغير. كان أبوه عبدًا، مهنته البقالة، وكان يغني مع الجوقة في الكنيسة. لقنوه منذ الصغر كيف يوقر موظفي الحكومة، ويُقبِّل أيدي القساوسة، وينحني احترامًا لآراء الغير، ويحمد الله على كل كسرة خبز يأكلها. اكتب قصة عن صباه، كيف كان يجلد على ظهره، ولا يملك حذاء ينتعله إذ يجوس خلال الثلج ليعطي بعض الدروس. كيف كان يتشاجر مع رفاقه الصغار، ويعذب الحيوانات، ويفرح إذا ما ذاق طعم الأكل عند أقاربه الأغنياء. وينافق أمام الله والناس، وما به من حاجة إلى النفاق، اللهم إلا إحساسه بضيعته، وهوان شأنه. ارو إذن قصة هذا الشاب، وكيف راح يجاهد ليتحرر من العبد الكامن في نفسه. حتى استيقظ ذات صباح، فإذا هو يشعر بدمٍ جديد يسري في عروقه، دم إنسانٍ لا دم عبد …»٧

إنه يحب الحياة، لأفراحها العابرة، كما يحبها لأفراحها الخالدة.

«يقول تولستوي إن الكاتب لا يحتاج إلا إلى ثلاثة أشبار من الأرض. غلط! فالموتى وحدهم هم الذين لا يحتاجون إلى أكثر من ثلاثة أشبار. أما الأحياء فليس يكفيهم أن يمتلكوا الفلك كله، وبالأخص الكاتب! إن الأخلاق التي يدعو إليها تولستوي لم تعُد تهزُّني. وإذا كان دم «الموجيك» — العبيد والأُجراء في روسيا — يجري في عروقي، فإن فضائلهم لا تُؤثِّر فيَّ. إن عقلي وشعوري بالعدالة يقولان لي إن الكهرباء والبخار يمكن أن تهَب الإنسان من الحب والسعادة أكثر مما يستطيع أن يهبه الزهد والتعفُّف والامتناع عن أكل اللحم.»

بمثل هذا التفكير يؤكد تشيكوف إيمانه بالعلم، وثورتَه على الأخلاق الروحانية التي دعا إليها تولستوي. وإن راية العصيان المقدَّس لترتفع في قصته التي أسماها «القاعة رقم ٦»، كما يرتفع صوته على لسانِ كثيرٍ من شخصياته.

كان جوركي يقرأ عليه مونولوجًا من مسرحيته «فاسيلي بوسلاييف» يقول فيه:
لو كنتُ أملكُ من القوة أكثَر مما عندي!
لأذبتُ الثلوج بأنفاسي الحارة،
وطفتُ حول العالم وحرثتُ أرضه،
وأسست المدائن،
وبنيتُ الكنائس، وأنبتُّ البساتين.
هنالك تبدو الدنيا كالعذراء الجميلة،
فأحتضنها كأنها عروس،
وأرفع الأرض إلى صدري،
وأحملها إلى الله!
انظر يا إلهي! انظر إلى العالم
لترى كيف ردَدتُه جميلًا،
أنتَ ألقيتَه في المَجرَّة كالحجر،
وأنا جعلتُ منه جوهرةً غالية!
انظر إليه وليفرح قلبك.
انظر كيف اخضَرَّ وأشرقَ تحت الشمس،
وددتُ لو أهديتُكَ إياه وأنا فَرِح،
ولكني لا أستطيع يا إلهي؛
فهو أغلى ما أمتلك!

وأُعجب تشيكوف بهذا المنولوج، وعاوَدَه السعال لحظة، ثم قال:

«جميل … جميلٌ جدًّا، صادق، وإنساني. هذه هي روح الفلسفات جميعًا. استوطن الإنسان العالم، وسوف يجعل منه مكانًا طيبًا ليعيش فيه!» وأطرق برأسه وعاد ليقول: «وسوف يفعل!» ثم سأل جوركي أن يُعيد قراءة المنولوج، وأخذ يُنصِت إليه وهو يتطلَّع من النافذة ثم قال بعد أن فرغ جوركي من قراءته: «جميل! جميل! ولكن السطرَين الأخيرَين لا يستقيمان! إنهما عاطلان، وسطحيان.»

ويروي جوركي فيقول:

«سمعتُ تولستوي يُطري إحدى قصص تشيكوف وأظنها «العزيزة» ويقول: إنها تشبه مفرشًا طرَّزَته عذراءُ بتولٌ. كان مثل هؤلاء العذارى يعِشْن في غابر الزمان. وكُنَّ يقضين حياتهن كلها يُطرِّزن أحلامَهُن على القماش، وكانت المفارش تزدانُ بأشواقهن الغامضة الصافية إلى الحب. كان تولستوي يتحدَّث بعاطفة صادقة، والدموع في عينَيه. وكان تشيكوف يجلس مُطرقًا برأسه، مُلتهب الخدَّين، يمسح أنفه بعصبيةٍ بين الحين والحين، ولَبِث صامتًا بعض الوقت ثم تنهَّد، وهمَسَ في صوتٍ رقيق: «إنها لا تخلو من الأخطاء المطبعية!»»٨

•••

في النفس السلافية صفةٌ عجيبة؛ فيها قُوًى غامضة تتحرك في الخفاء، كل شيءٍ يجري في الضمير، في الأعماق، كما تجري تياراتُ الماء في قاع المحيط، وفي هذه الظلمات، وهذه التيارات، يتدفَّق تشيكوف كما يتدفَّق النهر إلى الغابة.

وربما كان تسامحه الفطري، وروحه المرح، وحسه الذكي الساخر، وعطفه العميق على الإنسان قد جعله يقول لنا في بساطة: إن الناس لا يزالون محبوبين مهما بلغوا من الغباء، والشقاء، والعجز. ولعله كان يؤمن بأن الأشرار أنفسهم، مثل ميشا في «إيفانوف» ولوباخين في «بستان الكرز» جديرون بعطفنا وإشفاقنا ومحبتنا.

إن العاطفة هي التي تُبقي العمل الفني عَبْر الأجيال، وهي الجَذْوة التي تكتب الخلود ما بقيت متوهجةً تحت الرماد، وتشيكوف عاطفةٌ كله، ولعل هذا هو سر بقائه. قد يكون في هذه العاطفة الكثير من العذاب واليأس والاستسلام، ولكن ليس لنا أن نلُوم الكاتب على يأسه أو حزنه، ولكننا نلومه إذا كان اليأس هو منتهى جهده وغاية رجائه؛ فالكاتب النبيل ينتزع الأمل من بين مخالب اليأس، ويُبشِّر بالمستقبل المضيء من خلال الحاضر المظلم. وقد ظل تشيكوف يُبشِّر بهذا الأمل دائمًا، وإذا كان أبطال قصصه ضحايا، محزونين ففَوقَ حُطامهم يقوم بناءٌ جديد، ويُشرِق فجرٌ جديد، ولا بُد لكل فجرٍ من ضحايا.

ما أكثر ما قرأنا لتشيكوف، وتحدَّثنا عن تشيكوف. ولكن ما أبعدنا عنه!

لنذكر أن تشيكوف الكاتب كان يقول دائمًا: «يجب أن نُطرِّز على الورق.»

وإنه قال لزوجته قبل موته بأيام: «لقد تركتُ ورائي أطنانًا من الورق، لا أحسب أن من بينها سطرًا واحدًا يُوحى بالفن الحقيقي.»

لنذكُر تواضُعه، وصدقه، وتفَانيَه، وأن تشيكوف الإنسان كان من أشد الناس إيمانًا بالإنسان. بمستقبله المجيد، ورُوحِه الفيَّاض بالخير، والحب، والنور.

١  من رسالة له إلى الدكتور روسوليمو، في أكتوبر ١٨٩٩م.
٢  انظر في هذا كله كتاب «تشيكوف بقلمه»، في سلسلة «كُتاب خالدون»، من تأليف سوفي لافيت. Laffitte, Sophie; Tchékhov par lui-même, images et textes presentés par SL “Ecrivains de Toujours”.
٣  ختام الفصل الثاني من بستان الكرز. انظر مثلًا هذه الترجمة أو أي ترجمةٍ عربية جيدة: A. Chekov; Three Plays, a new translation by Elisabetha Fen p. 61 (The penguin Classics), M. Gorky: Literary Portraits. p. 134–169 Moscow, Foreign Languages Printing House.
٤  Brisson, Pierre; Tchékhov on I’anti—Maupassant, in: Le Figaro Littéraire, du 3 Sept 1955. بريسون، بيير، تشيكوف أو الطرف المقابل لموباسان (مقال نُشر في الفيجارو الأدبية، ٣ سبتمبر ١٩٥٥م).
٥  Tchekhov; Select tales of Tchekhov, translated from the Russian by Constance Garnett. London, 1949. قصص مختارة من تشيكوف، ترجمتها كونستانس جارنيت، لندن، ١٩٤٩م.
٦  رونالد بيكوك، الشاعر في المسرح، لندن، ١٩٤٦م، ص٧٩–٨٨. Peacock, Ronald; The Poet in the theatre, p. 79–88, London, 1946.
٧  Yermilov, VI; A. P. Tchekhov (1860–1904). Moscow, Foreign Languages Publishing House. (الكتاب كله لا غنى عنه لدراسة تشيكوف، ومن حسن الحظ أنه تُرجم أخيرًا إلى العربية.)
٨  Gorky, M; Literary Portraits, p. 134–169. Foreign Languages Printing House.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤