وداع ألبير كامي

ندر أن يُحدِث خبرُ وفاةٍ مثل ما أحدثَه نعيُ ألبير كامي من فجيعة في العالم كله؛ فقد أعلن محبو فنه الحداد الفلسفي والروحي على الشاعر الفيلسوف النابغ، والكاتب الأخلاقي الشجاع. ورُوِّع الشباب بفقد شابٍّ من بينهم لم يكد يبلُغ السابعة والأربعين من عمره. ويسأل الإنسان نفسه: ما هي سبعة وأربعون عامًا في عمر جبل أو شجرة أو محيط؟ بل ما هي في عالمٍ يتحرك فيه شيوخ الثمانين كأنهم أبناء العشرين؟ ويَعزُّ المصاب حين يتذكر الإنسان ما قالَه كامي عن نفسِه بتواضُعه المعروف: «إنني ما زلتُ في بداية أعمالي.»

ليس في نية كاتب هذه السطور أن يُسجِّل حزنه على الكاتب الراحل؛ فالحزن شيءٌ ممل وسخيف، وهو لن يفيد ألبير كامي، ولن يُجدينا نحن شيئًا. إنما هي نظراتُ وفاء في بعض أعماله، يُودِّع بها إنسانًا عظيمًا أحبَّه وتعلَّم منه الكثير.

«يا نفسي الحبيبة لا تنزعي إلى الحياة الأبدية، بل استنفدي الممكن حتى نهايته.»

بهذه الأبيات من أغنية بندار الثالثة يُقدِّم كامي لكتابه «أسطورة سيزيف»، فمن هو سيزيف؟

الأسطورة اليونانية تروي لنا مأساته، وهوميروس يقول: إنه كان أحكم البشر وأشدهم ذكاءً … حكمَت عليه الآلهة بأن يُؤدِّي عملًا لا جدوى منه ولا نهاية له. قُدِّر عليه في العالم السفلي أن يدفع صخرةً هائلة إلى قمة الجبل، فإذا ما أدركت القمة انفلَت الحجر من بين ذراعَيه وتدَحرجَ ساقطًا إلى السهل.

إن على سيزيف أن يهبط المنحدر وراء صخرته، العرق ينساب من جبهته، الإصرار يُطل من عينَيه والوجدان اليقظ يواجه مصيرًا لا نجاة منه. إنه يقبض على الصخرة، يلصق وجنته عليها، يدفعها عليه. أيُّ صراعٍ أهولُ من أن تُكرِّر عملًا تعرف أنه عبث، وأيُّ بطولة أعظم من أن تُؤدِّيه في صمت؟ إن سيزيف هو بطل العبث أو المحال. بطولته تواضُع واحتمال وليست عملًا خارقًا يعجز عنه البشر. إنه يعيش في فراغ بلا سماء، ويحيا زمنًا لا عمق له، يحتقر الآلهة، ويكره الموت (من بين خطاياه التي لم تغتفرها له الآلهة أنه قيَّد الموت بالسلاسل)، ويُحب الأرض من أعماقه. سيزيف يعرف قدَره ويحمله فوق كتفَيه، هذا الصخر الصامت الأجرد العنيد. إنه لا يشكو ولا يستجدي الرحمة، بل يُواجه مصيره ويتحداه، آلهة الأسطورة ظالمون أو صامتون، والعالم لا معنى له؛ تلك هي الحقيقة الوحيدة التي تضيء وجدانه. على سيزيف أن يدفع الصخرة إلى آخر الزمان، وهذا هو سر بطولته ورجولته. أما من أمل في النجاة؟ ليس هناك أملٌ ولا ينبغي أن يكون. إن المعنى الوحيد لحياته أن يتشبَّث بهذه الحقيقة الواضحة القاسية: ليس للحياة معنًى. سيزيف قد طرح الأمل، لكنه لم يندفع في هُوَّة اليأس؛ لأنه أقوى من صخرته، وأعظم من قدَره؛ تلك هي مأساته. ومع ذلك فسيزيف يستطيع أن يُكرِّر الكلمة المقدسة التي قالها أوديب: «كل شيءٍ حسن.» إن علينا أن نتصور سيزيف إنسانًا سعيدًا!

قلنا إن «سيزيف» هو بطَل المحال. ولا بد لهذه الكلمة الأخيرة من تفسير. المحال هو الحقيقة المباشرة التي تجعل الإنسان يقول: إن الحياة لا معنى لها. وكامي لا يريد أن يبني على هذه الكلمة فلسفة، ولا يدَّعي أنه يبشر بمذهبٍ جديد. إنه يسأل الوجود فلا يجيب، يُفتِّش في أرجائه عن «الوحدة» فلا يجدها، يبحث الفلسفات فلا يقابله جوابٌ مقنع. الخلق إذن صامت، لا يعبأ به، وجُدران المحال تحيط به من كل جانب. هذا الشقاق المستمر بين الإنسان الذي يُحاول أن يفهم وبين الوجود الصامت الذي لا يبالي به؛ التكرار اليومي البليد، المجرد من كل خلق أو إبداع؛ احساسنا بالغربة في عالمٍ كثيف كل ما فيه يُنكرنا ويُعادينا ولا يعبأ بنا، يقيننا بأننا سنموت وأن المغامرة الإنسانية لا جَدْوى من ورائها، كل ذلك يكشف لنا عن عاطفة المحال. والوفاء لهذه الحقيقة الوحيدة التي يعرفها — إن صح أن نستخدم هذه الكلمة، إذ المعرفة مستحيلةٌ لديه — يدعوه إلى أن يتشبَّث بها ويُحافظ عليها. إن سيزيف الحديث يرفُض العَزاء ولا يخدَع نفسه بالآمال.

ولكن كيف نُوفِّق بين هذه الحقيقة التي تقول لنا إن الحياة لا معنى لها وبين حق الإنسان، بل واجبه أن يكون سعيدًا؟ أليست النتيجة المنطقية المحتومة هي أن نترك هذا العالم الذي لا معنى له ونتخلَّص منه بالانتحار؟

لو كان المُحال قد نتج عن تفكيرٍ فلسفي مجرد لكان الانتحار نتيجته المنطقية بلا نزاع. غير أن التحليل سيُثبت لنا العكس تمامًا. إن المحال لا معنى له إلا بمقاومة الإنسان له ورفضه إياه، والانتحار هو الرضا والقبول؛ فالمنتحر يقول في نفسه: هذا العالم ينبغي أن يكون له معنًى. ولقد دلَّتني التجربة على أنه بحالته الراهنة مجرد عن كل معنًى؛ ولذلك فأنا أتركه بعد أن خاب أملي فيه.

وليس الانتحار بالجسد إلا نوعًا واحدًا من أنواع الانتحار؛ فهناك الانتحار الفلسفي الذي يُقدِم عليه الفلاسفة. ولتوضيح هذا النوع من الانتحار يقوم كامي بتحليلٍ موجز لفلسفة كير كجورد وشيستوف وهسرل وياسبرز وهيدجر، كما يتناول في عَرْضه للمُحال في الفن كافكا ودوستويفيسكي بالتحليل. إنهم جميعًا يقفزون القفزة التي حرَّمها على نفسه إنسانُ المحال، كل ألوان الخداع لها اسمٌ واحد هو «الأمل». وهؤلاء الفلاسفة يتركون أرضنا الغريبة المحبوبة الفانية ويلجئون إلى شيء سامٍ أو متعالٍ هو الهروب بعينه مهما اختلفَت أسماؤه. والهروب من المُحال خيانة للأرض، للبحر، للنور، لشرف الإنسان وأمانته، وللحُب الذي قد يكون الحقيقة الأُولى في هذا الوجود.

أساء كثيرٌ من النقاد فهم هذا الكتاب عند ظهوره (١٩٤٢م) حتى جعل بعضهم من كامي نبيًّا يبشر باليأس والمحال! والحق أن نعمة الكتاب والعاطفة الملتهبة التي تسوده، وإيمانه بجدارة الإنسان وحقه في السعادة، إنما تُؤذِن جميعًا بأنه لم يكن إلا خطوةً أولى على طريقٍ طويل، وأن المحال كان يحمل منذ بدايته الضرورةَ التي تدعو إلى تجاوُزه والتغلُّب عليه. قال كامي مرة في عام ١٩٥١م: لو سلَّم المرء بأنه ما من شيء ذو معنى، فلا بد من الانتهاء إلى استحالة العالم. ولكن هل صحيح أنْ لا معنى هناك؟ إنني لم أرَ أبدًا أن من الممكن البقاء على هذا الوضع، وعندما كتبتُ أسطورة سيزيف «كنتُ أُفكِّر حينئذٍ في محاوَلَتي عن التمرُّد التي كتبتُها فيما بعدُ والتي حاولتُ أن أعرض فيها، بعد وصف جوانبَ متفرقةٍ من عاطفة المحال، لنواحٍ مختلفة من الإنسان المتمرد» (عنوان الكتاب الكبير الذي ظهر في أكتوبر سنة ١٩٥١م).

المحال إذن نقطةُ بداية ولا يمكن أن يكون هدفًا. إنه فرضٌ كما يقول الفلاسفة، نوع من الشك المنهجي الذي نعرفه عند ديكارت، بل إن «أسطورة سيزيف» يمكن أن تُعد «مقالًا في المنهج» كُتب للقرن العشرين. يقول كامي: «عندما حلَّلتُ عاطفة المحال في «أسطورة سيزيف» كنتُ أبحث عن منهج لا عن مذهب. لقد كنتُ أمارس الشك المنهجي، وكنتُ أُفتِّش في هذه «اللوحة البيضاء» التي يشرع الإنسان على أساسها في البناء.»

قلتُ إن الإنسان في المحال يُفكِّر تفكيرًا آخر. إنه، كسلفه سيزيف، يُقاوِمه ويتحدَّاه، لكنه يُحافظ عليه ولا يُفرِّط فيه. إن صمت الوجود وغُربته يزيدانه إخلاصًا للحياة، وحبًّا للأرض، وارتباطًا بالبشر.

دون جوان والممثل ينحدران من سُلالة سيزيف، هما نموذجان للإنسان المحال في الزمن الحديث. إنهما يعانيان تجربة الحياة كأعمقِ ما تكون، وفي كل تجربة يذوقان طعم الفناء، ويُتوِّج رأسَهما مجدٌ يعرفان أنه زوال. فارس العشق الذي لا يشبع ينتقل من حسناء إلى حسناء، إنه وفيٌّ لكل جميلة، وغادر مع الجميع، يجيد الاعتراف بحبه بعد كل قُبلة، وإن كان يعلم أن الحب شيءٌ عقيم. دون جوان قد خلع رداءه الرومانتيكي اليائس النادم القديم، إنه الآن مغامر قاسٍ، بارد الشعور، إنه يبحث عن «الكم» لا عن «الكيف» فقد أدرك أن الحب العظيم كلمةٌ غبية جوفاء، أن يُحرز في كل يوم نصرًا، أن يضُم كل يوم صدرًا جديدًا، ويعصِر شفتَين لم يذُقهما من قبلُ، ويضيف إلى زاده القديم خطرًا جديدًا، تلك هي مأساة دون جوان الذي نفَض الحزن المُمل، وطلَّق الندَم الخائب، وعاش من يوم إلى يوم، وهي كذلك مأساة كل المنتصرين!

الممثل على خشبة المسرح صاحبه، مملكته هي الفناء، وعالمه الوهم، وأرضه بضعة أشبار يتحرك عليها كل يوم ثلاثَ ساعات. في كل ليلة يلبس شخصيةً جديدة، ويحيا حياةً أخرى، ويقوم بدورٍ عظيم أو حقير، ويعرف أنه في النهاية لا بد أن يموت، وفي كل ليلة يهديه هتاف الجماهير مجدًا جديدًا، يعرف أنه مجدٌ ضائع وعقيم.

كذلك الإنسان في المحال، الأخلاق عنده هي أخلاق التجربة والحياة لأجل الحياة ودائمًا المزيد، وذلك ما يُسمِّيه كامي بأخلاق الكم.

إن دون جوان والممثل كلاهما صورةٌ حديثة من سيزيف السعيد.

•••

«الوباء» هي قصة هذه المدينة الأفريقية البائسة «وهران» التي يفترسها الطاعون قُرابةَ عام. في هذه الرواية الطويلة تتجلَّى حقيقة الوجود الإنساني بوصفه وجودًا مع الآخرين. هنالك يعرف سكان وهران ومشاهد الموت تتوالى أمام أعينهم، ما هو معنى التضامن؛ فالأيدي تتشابك، والقلوب تفيض بالحب والرقة، وتعرف طعم الفراق عن وجه الحبيب، لكنها تصبر على هذا الفراق وتُثبِت أن وفاء الإنسان أقوى من خوفه من الموت، الإنسان ينضم إلى أخيه الإنسان، ليقهرا المصير، أبواب المدينة مُوصَدة، لا نجاة. إن الدكتور ريو الذي يروي لنا تاريخ هذه المدينة البائسة هو صورة سيزيف الحديثة، إنه يحتجُّ على الخلق، ويعرف أن الوجود لا معنى له، لكنه لا يخطب ولا يعظ ولا يدَّعي فلسفة عميقة؛ إنه يُحارب الوجود كما هو عليه، ويعتقد أنه بذلك يسير على الطريق الموصل إلى الحقيقة. لقد عوَّد نفسه على كل شيء يجري في هذا العالم، شيءٌ واحد لم يستطيع احتماله؛ أن يرى الناس والأطفال يموتون أمام عينَيه. لقد عرف أن السماء صامتةٌ فلم يحاول أن يرفع عينه إليها، إنه — كسلفه سيزيف الصابر العنيد — يُواجِه الوباء في رجولة وإصرار وتواضُع، ولا يطمح لشيءٍ آخر أكثر من أن يباشر مِهنتَه في أمانة، ويشفي الجسد المعذَّب من مرضه. ليس ريو بطلًا ولا قديسًا، بل إن هاتَين الكلمتَين لا معنى لهما لديه، وإذا كان الوباء قد علَّمه شيئًا فهو أن في الإنسان مما يحمل على الإعجاب به أكثرَ بكثيرٍ مما يدعو إلى الاحتقار له.

تعلَّم الناس في وهران أن يعيشوا في جحيم الحاضر، وأن ينسَوا حُلمًا خادعًا اسمه المستقبل. تعلَّموا أن يخفضوا عيونهم ليُثبِّتوها على جراحهم، وأن يكتشفوا في صراعهم مع الوباء حقيقة الجسد الذي يتعذَّب، ويحلُم، ويشتهي، ويتنفس، ويعرف — وحده — ما هو العذاب الفظيع.

اختلف الناس في أمر الوباء.

هل هو «التجريد» حين يتجسد في صورة «الدولة» أو «الحكم» أو «المذهب» أو «الطغيان» فهو مللٌ خانق رهيب؟ هل هو الاحتلال النازي يجثُم على صدر فرنسا أربع سنواتٍ طويلة، أم هو الاحتلال المذهبي والفكري يستعبِد الناس ويسلبهم حرية نطق هذه الكلمة: لا؟ أم هو «روتين» الوظيفة والموظفين حين يُقيِّد الحياة بالملل، ويغلُّ الوجود باللوائح والقوانين، ويصُبُّ الميلاد والموت في نصوص وقواعد وكوبونات؟ أم هو عقابٌ تُنزله السماء على بني الإنسان حتى يُكفِّروا عن خطيئتهم وتعود الخراف الضالة إلى حظيرة السماء كما يقول القسيس بانيلو؟ أم هو الحياة نفسها ولا شيء سواها، كما يقول هذا العجوز المريض بذات الرئة الذي يقضي بقية أيامه في الفراش، يُحصيها على حبَّات البازلاء التي يُفرِغ منها قِدرًا بعد أخرى في جوفه، ويؤكِّد أن الوباء لن يصيبه لأنه يعرف كيف يعيش؟! أم هو هذه الشرور جميعًا في آنٍ واحد، وكل كارثة تحلُّ بشعبٍ آمنٍ متمتعٍ بوجدان نائمٍ كسول؟

تختلفُ آراء الناس كما قلتُ في أمر الوباء، وحسنًا يفعلون، فالتفسير من عمل الناقد، والفكرة الخصبة وحدَها هي عَملُ الفنان.

إن الوباء — برغمِ ما فيه من موت وتناقُض وقلَق، ورغم أنه هو المُحال بعينه — قد كشَف عن أنبل ما في الإنسان؛ الطيبة التي تُطِل من عينَي الأم العجوز، الصبر الصامت في قلب ريو، البراءة في نفس كوتار، الرقة والحنان في قلوب العشاق والمحبِّين. الأمانة، الرجولة، الصفاء، الصبر، الصمت، السعادة؛ تلك بعضُ كلماتٍ تتردَّد كثيرًا في قاموس كامي، وتجلو بجوهرها النقي كارثة الوباء المشترك.

•••

كانت «كاليجولا» هي أولى مسرحياته التي كتبها وهو في الخامسة والعشرين من عمره، في هذه السن التي «يشُكُّ الإنسانُ فيها في كل شيء إلا في نفسه.» وكاليجولا طاغية يكتشف بعد موت حبيبته أو شقيقته دروزيلا، أن العالم لا معنى له وأنه قد أُسيء خلقه. إنه يُعبِّر عن ذلك في هذه الحقيقة البسيطة: الناس يموتون وهم غيرُ سعداء. لقد استمد منه معرفته بالمُحال، فراح «ينظمه» ويُذيقُه ضحاياه العديدين بكل ما في يده من بأس وسلطان. إن كاليجولا يبحث عن المحال، عن القمر، أو السعادة، أو الخلود، عن شيء ربما يكون خاليًا من المعنى، ولكنه ليس من هذا العالم. ومع كل ضحيةٍ تسقط مُضرَّجةً في دمائها، يغوص كاليجولا شيئًا فشيئًا في هُوَّة من العدمية المطلقة. إنه لا يعرف أن الحرية المطلقة لا تُؤدِّي إلا إلى الجريمة المطلقة. لقد قلب القِيَم جميعًا رأسًا على عقِب ليُمارس هذه الحرية المجنونة؛ كاليجولا يجلس فوق قمةٍ وحيدةٍ من الكبرياء واليأس والاحتقار للبشر يُطِل من عينَيه. إنه ينكر الصداقة والحب، والخير والشر، والمجتمع الإنساني بأكمله، وهو يسير في هذا المنطق العدَمي إلى أقصى نتائجه، ولا يدري أنه إذ يُحطِّم كل شيء لا بد أن يُحطِّم نفسه في النهاية. إن كاليجولا قد أنكر الآلهة كما أنكر الإنسان؛ تلك هي غلطتُه الرهيبة التي جعلَتْه يكتُب مأساته بدمه. كان قبل أن تَصرعَه طعناتُ أعدائه يتأمَّل نفسه في المرآة — لعله كان يطلب هناك المُحال الذي لم يجده في أي مكانٍ من العالم — وها هي ضحكتُه القاسية تُجلجل وهو يُحطِّم المرآة ويصيح: إلى التاريخ يا كاليجولا! إلى التاريخ! ثم وهو ينتفض في دمائه ويصرخ: ما زلت أعيش.١
«العادلون»٢ (١٩٤٩م) مسرحية يُعالِج فيها كامي مشكلة الإرهاب، والعدالة وتحرير الإنسان. إن أبطالها شهداءُ ديانة لا تعترف بشيء ما خلا السعادة، هم أعضاءٌ في منظمةٍ ثورية تُدبِّر اغتيال الدوق العظيم في روسيا، وترى في ذلك العمل بداية تحرير ملايين العبيد والفلاحين. إن كامي هنا — وفي كتابه الكبير «المتمرد» — يُسيء الظن بالأيديولوجيات جميعًا، ويعُدُّها نظامًا فكريًّا يستحل دماء الملايين باسم الثورة والحرية والعدالة، ويُضحِّي بحياة الإنسان «الحاضر» في سبيل مستقبلٍ بعيد غامض يلفُّه ضباب التصوف والوهم، والشخصية الوحيدة التي تؤمن بالفكرة والمثال إيمانًا أعمى لا تكاد تتمتَّع بشيء من عاطفة الكاتب ولا القارئ. إن ستيبان ليس من العادلين لأنه لا يعترف بالحد الذي ينبغي ألا تتَعدَّاه الثورة. إن اخوته الباقين يستنكرون أن يقتل الأطفال، وأن يكون الإرهاب وسيلتهم لتحقيق هدفهم الإنساني النبيل. كالياييف (كم يُذكِّرنا بإيفان كرامازوف وعذابه) يصرخُ في وجه ستيبان قائلًا: «… أما أنا فأُحب هؤلاء الذين يعيشون على نفس الأرض التي أعيش عليها، وهم الذين أخُصُّهم بتحيتي، من أجلهم أُكافِح، وفي سبيلهم أرضى الموت. لن تُحدِّثَني نفسي أن ألطم وجوه إخوتي من أجل دولةٍ نائية لست على يقين من وجودها. لن أُضيف إلى الظلم القائم ظلمًا جديدًا من أجل عدالةٍ ميتة!» إن الشاعر الرقيق المتمرد كالياييف يكاد يَستدِرُّ دموعنا؛ إنه يُحب الحياة، ويُغنِّي ويضحك كالأطفال، ويموت شوقًا إلى حنانِ امرأة، ويشعُر أن السعادة حرامٌ عليه ما بقي على الأرض إنسانٌ واحد مظلوم، وأن الحرية سجن ما دام هناك إنسانٌ واحد منطوٍ في زاوية سجنٍ صغير مجهول. تقول له دورا (الفصل الثالث):

دمٌ كثير، عنفٌ وبطش، إن الذين يُحبون العدل من قلوبهم ليس لهم حق في الحب، إنهم يقفون مرفوعي القامة مثلي، رءوسهم شامخة وعيونهم جامدة النظرات. ماذا عسى أن يصنع الحُب بهذه القلوب المتكبرة؟ الحب يَحني الرقاب في هوادة يا يانك أما نحن فرقابنا مُتصلِّبة.

كالياييف : ولكننا نحب شعبنا.
دورا : نحن نحبه، لا شك، حُبنا له شامل ولكنه حُبٌّ شقي غير واقعي. إننا نعيش بعيدًا عنه، في حُجراتٍ مغلقة علينا، في عالم من نسج أفكارنا. والشعب، هل هو أيضًا يحبنا؟ هل يعلم أننا نحبه؟ الشعب الصامت، هذا الصمت …
كالياييف : ولكن هذا هو جَوْهر الحب؛ أن نُعطي كل ما عندنا؛ أن نُضحِّي بكل شيء دون انتظارِ جزاء.
دورا : ربما، هذا هو الحب المطلَق، النقي، الفرحة الوحيدة. الواقع أن هذا الحب يلتهب في كياني، في بعض الأحيان أسأل نفسي إن كان الحب شيئًا آخر غير هذا (…) آه يا يانك! لو كان في قُدرة الإنسان، ولو ساعةً واحدة، أن ينسى البؤس الرهيب في هذا العالم، لكي يَنطلِق أخيرًا على هواه، ساعة واحدة من الأنانية، هل تستطيع أن تَتصوَّر هذا!
كالياييف : نعم يا دورا، هذا ما يُسمَّى بالحنان.
دورا : أنت تعرف كل شيء يا حبيبي، حقًّا إن هذا هو ما يُسمَّى بالحنان، ولكن هل تعرفه حقًّا؟ هل تُحب العدالة حُبًّا يفيض بالحنان؟ (كالياييف يسكت) هل تُحب شعبنا حُب الفداء والرقة، أم تُحبه حبًّا يشتعل بنار الانتقام والسخط؟ (كالياييف يبقى صامتًا) أرأيت؟ (تقترب منه. بصوتٍ خفيض) وأنا، هل تُحبني في حنان؟ (كالياييف يتطلَّع إليها.)
كالياييف : لن يُحبَّكِ أحد كما أُحبُّك.
دورا : أعرف، ولكن أليس من الأفضل أن تُحبني كما تحب كل الناس؟ (…).
كالياييف : اسكتي يا دورا.
دورا : لا، على الإنسان أن يترك قلبه يتكلم، مرةً واحدة. إنني أنتظر أن تُناديني أنا، دورا؛ أن تناديني بعيدًا بعيدًا عن هذا العالم الذي يصمه الظلم.
كالياييف (في خشونة) : اسكتي! إن قلبي لا يُحدِّثُني إلا عنك، أما اليوم (عندما يلقي القنبلة) فلا يصح أن أرتجف.

دورا وكالياييف لا يستطيعان أن يستسلما للحب والحنان؛ إنهما مشغولان بتدبير الثورة وتحرير شعبهما المستعبد، والاستسلام للحنان في نظرهما جريمة ما بقي على الأرض إنسانٌ واحد مظلوم. وبين هذين المستحيلَين؛ بين التضحية بالسعادة الشخصية وبين اغتيال الدوق الكبير لتحرير الأرض الروسية وبناء الدولة المثالية يُستشهَد أعضاء هذه المنظمة الفريدة. إن دورا تقول: الصيف يا يانك، هل تذكره؟ ولكن لا، هذا هو الشقاء الأبدي، نحن لسنا من هذا العالم، نحن عادلون، هناك دفءٌ لم يُخلق لنا آه! وا رحمتا للعادلين!

ويجيبها كالياييف: نعم، هذا هو حظنا، الحب مستحيل.

إن كالياييف المتمرد المثالي يعرف أن للتمرُّد حدودًا ينبغي أن يقف عندها. لقد امتنع عن إلقاء قنبلة في المرة الأولى حين رأى وجهَين صغيرَين بريئَين في عربة الدوق؛ إن خلاص العالم كله لا يبرر في رأيه عذابَ طفلٍ واحد. ويمُر يومان ويُلقي القنبلة ويقتل الدوق، ويعرف أن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يُبرِّر جريمته ليس هو الفكرة التي لا يؤمن بها، بل الموت الذي يواجهه مبتسمًا كالأطفال «إننا نقتل لنبني عالمًا لا يُقتل فيه أحد. نحن نقبل أن نكون مجرمين لكي تمتلئ الأرض بعدنا بالأبرياء.»

كالياييف يموت مرتَين؛ مرة وهو يغتال الدوق، وأخرى وهو يعتلي خشبة المشنقة. إنه يُسدِّد أكثر مما هو مدينٌ به؛ كالياييف من الثوار النادرين الذين لم يخونوا مبادئ الثورة؛ إنه يرفض أن يستجدي الرحمة أو يطلب العفو. الموت هو الوحدة الأبدية اليائسة التي تستطيع الآن أن تجمعه بدورا «ألا يمكن لأحد أن يتصور أن كائنَين زهِدَا في كل بهجة يربط بينهما الحب في العذاب دون أن يعرفا لهما موعدًا آخر غير العذاب؟ ألا يستطيع الإنسان أن يتصوَّر أن الحبل الواحد يمكنه أن يُوحِّد بين هذَين المخلوقَين؟»

هذا الحُب الرهيب هو الذي يدفَع دورا على إلقاء القنبلة الثانية، أملًا في الاتحاد مع كالياييف فوق حبل المشنقة. الموت وحده هو الذي يستطيع أن يجمع بين الضَّدين؛ بين السعادة الشخصية التي ضحَّيا بها فداءً للآخرين، وبين الشر الذي أقدما عليه في الجريمة ليُمهِّدا الطريق للعدالة المقبلة!

أعضاء هذه المنظمة الفريدة مُتمردون مثاليون لم يعرف تاريخ التمرد لهم مثيلًا فيما بعدُ؛ إنهم يُعانون صراعًا ممزقًا وحيدًا، ويظلُّون أبرياء برغم كل الدماء التي أهرقوها. تمرُّدُهم النقي التعس لم يكن قد اتخذ بعدُ شكلَ دولةٍ ذات جيش وبوليس، ولا وضع لنفسه شعارات، ولا تَحجَّر في «أيديولوجيات» تُبرِّر القتال بالملايين. إنهم يُعيِّنون للفعل حدودًا، فهو خيرٌ وعدلٌ ما راعى الحد، وهو شرٌّ وظلمٌ إن تعدَّاه؛ الوفاء للحد والمقياس وفاءٌ للثورة، وتخطِّيه نكوصٌ عنها، وانهيار في هُوَّة من الفوضوية والعدَمية المطلقة. إن «دييجو» في مسرحية «الحصار» يصرخ كذلك قائلًا: لا! ليس هناك عدلٌ ولكن هناك حدود! إنها فلسفة الحد والاعتدال التي تُفسِّر لنا كثيرًا من أسرار كامي، وهي الفلسفة نفسها التي مجَّدَها اليونان من قبلُ، وعبَّروا عنها أجمل تعبير في أخلاق أرسطو وفي مآسيهم الخالدة.

كالياييف ورفاقه وحيدون أمام أنفسهم، متضامنون أمام الموت؛ إن وجودهم كله يُحقِّق هذا الكوجيتو الذي يُعلِنه كامي في «الحصار» وفي «الإنسان المتمرد»: أنا أتمرد فنحن إذن موجودون. إن الفكر الذي أدَّى بكامي إلى المُحال كان يفترض كما قدَّمتُ أن ينتهي إلى التمرد في وجه هذا المُحال نفسه. وكما أدَّى فعل الشك المحض عند ديكارت إلى الفكر ومنه إلى إثبات الوجود، فإن التمرد ينتهي إلى الحقيقة الموضوعية التي تثبت وجود المجموع، وتدافع عن تضامن الإنسان مع أخيه الإنسان. يقول كامي في «المتمرد»: «إنني لا أستطيع أن أشُك في صيحتي، ولا بد لي على الأقل من الإيمان باحتجاجي.» كما أن «البينة الأُولى والوحيدة في صميم تجربة المُحال، هي التمرد.»

مأساة القرن العشرين، كما يراها كامي هي أن التمرد تحول إلى ثورة؛ فبعد أن قتل الإنسان الملك (في الثورة الفرنسية)، وبعد أن قتل الإله (في الثورتَين الفرنسية والروسية) وجد نفسه وحيدًا في هذا العالم؛ لم يعُد لشيء معنى في عينَيه، واندفَع اندفاع اليائس الوحيد إلى هوة العدم؛ مرةً في صورة الإرهاب الفردي والفوضوي، وأُخرى في صورة الإرهاب الذي تُنظِّمه الدولة في صورته اللامعقولة لدى الفاشية، وفي صورته المعقولة أو شبه العلمية عند الشيوعية.

ولولا أن المجال أضيق من أن يتسع لتفصيل، ولولا أن كاتب هذه السطور لا يقصد أن يكتب بحثًا عن كامي، لعرضنا لهذه الصفحات النادرة التي تشهد بشجاعةٍ ووفاءٍ عزيزَين في عصرنا الحديث.٣

عنوان المقال وداع لألبير كامي. ولا يستطيع الإنسان في ساعة الوداع أن يؤجل دموعه حتى يستشير المراجع ويستشهد بالنصوص.

من لم يكن ثائرًا بطبيعته، ومن لم يذُق طعم الوحدة المُتكبِّرة، ولم يأكل خُبزه ممزوجًا بالدموع كما يقول جوته، فخيرٌ له أن يبقى في نومه السعيد المطمئن، ولا يفتح كتابًا لألبير كامي. سوف يُقابله في كل صفحة من صفحاته هذا النور الأفريقي الباهر، وسوف يجد الأسلوب الغنائي الممزوج بألوان الشعر وعطره وأنفاسه، صفحات من النثر الشاعري لم يكَد يعرف لها الأدب الأوروبي نظيرًا بعد نيتشه، سوف لا يجد أفكارًا مجردة، ولا فلسفة دكاترة، ولا وعظ مبشرين. سيجد هذا النور الباهر كما قلت، وسيجد الحب العميق المسئول للبشر، هذا الحب الذي لا يجعلنا نشعر بعاطفتنا نحو إخواننا في الإنسانية فحسب، بل يتطلب منا أن نتبعهم على الطريق المُوحِل، أن نُجرب معهم جراح الجسد وعذابه، أن نُواجه معهم المصير المشترك، أن نتعلَّم كيف نتمرد على الظلم ونثور على الجريمة، مصداقًا لهذا «الكوجيتو» الذي كأنه خُلق للقرن العشرين: «أنا أتمرد فنحن موجودون!»

إن أبطال كامي، وإن تكرَّرَت على ألسنتهم كلمة «الاحتقار» لا يعرفون في الحقيقة عنه شيئًا؛ إنهم يائسون مستوحدون، يبحثون عن المطلق والمحال، والطريق الذي يؤدي من اليأس إلى الاحتقار ليس قصيرًا إلى هذه الدرجة؛ إنه مرصوف بالوحدة، والمرارة، والعذاب، والكبرياء. إن كاليجولا، والطاغية في مسرحية «الحصار» مهما أمعنَّا في القتل فهما أقرب إلى الضحايا منهما إلى الجلَّادِين؛ إنهما يغوصان في عتمة العدَم شيئًا فشيئًا، مهما حاولا أن يجعلا منه دولة ونظامًا، أو يُشرِّعا له اللوائح والقوانين.

الفنان لا يحتقر، لكنه يحاول أن يفهم. وإذا كان كامي قد احتقر أحدًا في حياته فلم يحتقر غير الجلادين؛ لقد وقف دائمًا في جانب الضحايا والمغلوبين. وما أبشعَ العار الذي يُلطِّخ كاتبًا يقف — عن وعيٍ أَوْ غفلة — في صف الجريمة، ويشُد على يد الجلَّادين، حكامًا كانوا أو محكومين.

إن أعمال كامي تنبُع من إنسانيةٍ بسيطةٍ صادقة، هي دفاع جريء عن الطبيعة الإنسانية، وعن حق البشر في السعادة. إن الشاعر ورجل الأخلاق يتحدان في شخصيته أجمل اتحاد، وكلمات مثل الجمال، والحب، والشرف، والتواضع، والأمانة، والصبر والعدل، والكرامة تصبح لديه قيمًا حية لا طبولًا جوفاء يرددها في الغالب من لا يؤمنون بها. إنها تنبع من أزمة دفينة في نفس معذبة مشحونة بالتناقض. وشخصياته تعاني مأساة الإنسان الذي يتمرَّد في وجه عالمٍ أخرس، ويثور على سماء تلوذ بالصمت. لقد بقي كامي في حياته ابنًا وفيًّا للأرض، يُغنِّي للبحر، ويفرح بالشمس، ويُمجِّد النور؛ إنه يشهد ببراءة الإنسان وكبريائه، ويُعبِّر عن عذاب الإنسان المتمرد الذي «يرفض حتى الموت أن يحب هذه الخليقة التي يُعذَّب فيها الأطفال.»

ما أغرب هذا النور الذي يتوهج في كتاباته، ويوشك أن يُعشي أبصارنا في كل صفحة من صفحاته! إنه النور الأفريقي الساطع الشجاع. ربما كان في كلمة «النور» وحدها سر كامي، ولو أنه كان ذلك النور الممل المتوهِّج إلى الأبد لما أثار اهتمامنا، ولكنه نورٌ يشتبك في صراعٍ دائم مع عتمة الموت وظلمة العدم (كأنما كان على النور الشاب الذي يُلهِم أبناء البحر المتوسط مثل كامي أن يصطدم بالظلال الجرمانية والسلافية المُعذبة العميقة! هكذا تكوَّن هذا الفكر المضيء المظلم في آنٍ واحد! لقد اجتمع فيه وضوح ديكارت وسخرية فولتير وشك مونتني مع عذاب دستويفسكي وكبرياء نيتشه وعمق هيدجر وياسبرز. ولا عجب إذن أن تكون التجربة التراجيدية، هي أهم ما يميزه ويرفعه فوق قمةٍ وحيدة متكبرة لا صلة بينها وبين الفلسفات الوجودية التي حُشِر فيها ظلمًا).

إنه النور الذي يُقرِّبه من الروح اليونانية، ويُعلِّمه كيف يبتهج بابتسامة البحر التي خلَّدها إسخيلوس. يقول في باكورة أعماله «أعراس»: «وقوفًا في مهب النسيم، تحت الشمس التي تُدفئ جانبًا من وجوهنا، نتطلع إلى النور وهو ينحدر من السماء إلى البحر الأملس، إلى ابتسامة هذه الأسنان الناصعة.»

وهو النور الذي يُلهِب فيه الإحساس بالسعادة، والاعتزاز بالحياة: «كلما بحثت في نفسي عن أهم ما فيها، وجدت الإحساس بالسعادة. إنني أشعر شعورًا عارمًا بالكائنات ولست أجد عندي أدنى شعورٍ بالاحتقار للجنس البشري. إنني أعتقد أن الإنسان يمكنه أن يشعُر بالفخر لأنه يُعاصر عددًا من الناس في هذا الزمان، أحَسَّ نحوهم بالاحترام والإعجاب … هناك في مركز أعمالي شمسٌ لا تُقهر. يبدو لي أن هذا كله ليس من شأنه أن يكون فكرًا حزينًا.»٤

وهو النور الذي حدَّد طريقه في كفاحه مع قوى الشر والطغيان: «في أحلك ظلمات العدَمية التي تحيطُ بنا حاولتُ دائمًا أن أبحث عن الطريق المؤدي إلى التغلُّب عليها لا عن فضيلة أو نبلٍ نادر، بل عن وفاءٍ غريزي للنور الذي وُلِدتُ فيه ومنه تعلَّم الناس منذ آلاف السنين أن يُرحِّبوا بالحياة حتى في ساعة الألم والعذاب.»

يُقال إن آخر كلمة نطق بها جوته العجوز وهو على فراش الموت كانت «مزيدًا من النور!» وليست محبة النور أمرًا سهلًا ولا هينًا. إن الجبناء والخائفين — وهم الذين نسميهم خطأ بالمتشائمين — هم وحدهم الذين يُمجِّدون الظلام ويُغنُّون للعدم.

إن إخلاص كامي للنور الجزائري يُهيب بنا أن نذكر هذا الإنسان العظيم، وخير ما نخدم به ذكراه أن نُترجم أعماله ونجعلها في متناول أبنائنا. وإن العرب الذين يدافعون عن جزءٍ عزيز من بلادهم، ويضربون المثل الحي على التمرُّد في وجه الظلم والغباء السياسي، هم أَوْلى الناس بالوفاء لهذا الكاتب الذي وقف إلى جانبهم، وأيَّد جهادهم، ولم يَنسَ وطنه الجزائر في أعظم ساعات مجده وهو يتلقَّى جائزة نوبل للآداب.

لم يحاول كامي أن يكون فيلسوفًا ولم يدَّعِ أنه يحمل مذهبًا جديدًا إلى الناس. إن الإنسان يدرك في نهاية حياته، كما يقول، أنه أنفق سنينَ عديدة من عمره ليبحث عن حقيقةٍ واحدة، وإن الحقيقة الواحدة — حين تكون واضحةً بينة — لتكفي لهداية وجوده كله. وإذا كان كامي قد وجد شيئًا بذل له حياته فهو هذه الحقيقة الباهرة النور.

١  هناك ترجمةٌ عربية ممتازة لمسرحية كاليجولا أعدها منذ سنواتٍ طويلة — إن لم تخُنِّي الذاكرة — الأستاذ رمسيس يونان.
٢  نُشِرت ترجمةٌ عربية ممتازة لﻟ «عادلين» في مجلة «الآداب البيروتية» منذ أكثر من عامَين. وقد خصَّها ألبير كامي بمقدمةٍ طويلة. ويؤسفني، لغيبتي عن الوطن، ألا أستطيع ذكر اسم المترجم الفاضل. ولعل المسرحية قد ظهرت في سلسلة الكتب التي تتولَّى نشرها دار «الآداب».
٣  يستطيع القارئ أن يرجع إلى كتابي عن ألبير كامي، دار المعارف، ١٩٦٤م، الذي ظهر بعد نشر هذا المقال بأربعة أعوام ليجد فيه تفصيلاتٍ أوفى.
٤  في حديث له مع جريدة «الأخبار الأدبية» بتاريخ ١٠ من مايو سنة ١٩٥١م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤