الفصل الأول

١

المرأة عامل من أعظم العوامل المؤثرة في بناء المدنية الحديثة، ولم تكن المرأة في العصور القديمة أقل أثرًا منها في العصور المتأخرة، فالقبائل البدائية، وبخاصة تلك التي اتخذت عادات البدو في الارتحال من مكان إلى مكان، والجماعات التي عاشت بالصيد، والعشائر التي اتخذت من سلاحها وعضلاتها وسيلة للعيش والحياة والضرب في مناكب الأرض، كل هؤلاء يدينون للمرأة بكثير من أمور دنياهم.

شاركت المرأة الرجل منذ أقدم العصور في العمل، وأخذت بضلع في كل ما يتعلق بالحياة القبلية وحياة الأسرة، وكانت من العوامل الأولية في انتشار جماعات الإنسان في بقاع من الأرض، لولا فضلها في العمل، وتدبيرها شئون الأسرة، لتعذر على الرجل وحده أن يدب فيها أو يكشف عنها، وكانت للرجل ولا شك سلاحًا من أمضى أسلحته، ودرعًا من أقوى دروعه، وحافزًا من أولى حوافزه، وكفاها أن تكون أول من أنشأ فلاحة الأرض، وأول من اكتشف كيف تنبت الحبة فتثمر في أزمان دورية، فكان هذا بداية الحضارة الزراعية في العالم القديم، وأساسها الأول في العالم الحديث، ولا ريبة في أن اكتشاف النار، ووضع أصول الزراعة، سببان لولاهما لما نشأت المدنيات التي استقرت، أول ما استقرت، على شواطئ الأنهار العظمى.

قال ولز يصف حال الجماعات الأولى:

على أن أكثر العمل المضني الذي كانت تحتاج إليه الجماعات كان من نصيب النساء، فإن الرجل البدائي لم يكن يفهم للشهامة ولا للنخوة أو النجدة معنى، فكانت الجماعة إذا عزمت على الانتقال من مكان نزلت فيه، حمل النساء والشابات كل ما يوجد من المتاع، ومشى الرجال بغير شيء إلا أسلحتهم، وهم على استعداد لدفع الطوارئ، ولا شك في أن العناية بالأطفال أيضًا كانت من نصيب النساء.

ثم قال: «كانت هذه الحال سببًا في أن يذهب البعض إلى القول بأن النساء كُنَّ أول من بدأ في فلح الأرض، وهذا المذهب لا تنقصه المرجحات الكثيرة، فإن جمع الحبوب ومواد الأكل الخضرية كانت من عمل النساء؛ لأن الرجال كانوا يخرجون دائمًا في جولاتهم الطويلة للصيد والقنص، ولا يبعد أن يكون النساء هن اللائي لاحظن أن الحبوب تنمو في الأمكنة التي كانت من قبل مخيمًا لجماعات أخر، يكونون قد بذروا الحبوب على وجه الأرض قربانًا لإله من الآلهة عسى أن يعوض عليهم ما بذروا أضعافًا تعد بالمئات، وعلى هذا لا نشك في أن أول طور من الأطوار التي تدرجت فيها الزراعة، كانت عبارة عن استلاب محصول بذره الغير، فإن الجماعات التي كانت لا تزال في طور «الرعاوة» يرجح أن يكونوا قد زرعوا؛ ليحصدوا إذا انقلبوا راجعين إلى مكانهم الأول».

ولقد تابعت المرأة خطى التطور الذي لازم الرجل في جهاده الشاق نحو الكمال والمدنية، فإذا كان الرجل قد ضحى بالكثير من جهده العضلي والعقلي في بناء دعائم الحضارة وتوثيق روابط المجتمع، والكشف عن أسرار المجهولات؛ فقد ضحت المرأة بجهد نفسي، وأسرفت في الإنفاق من روحها وعواطفها وانفعالاتها، وما قد يتضاءل أمامه ما أنفق الرجل من جهد العمل والإنتاج، وإذا كان التاريخ على ما يقول «هيني»: ليس سوى الأطمار الخلقة التي خلفها الروح الإنساني على مر العصور، فإن في ثنايا تلك الأطمار من روح المرأة قدرًا يساوي ما فيها من روح الرجل، إن لم يكن أكثر، إذا لم نخش المبالغة.

ولقد عانت المرأة من عنف الرجل طوال أحقاب لا يحصيها العد، ما لو استطعنا أن نقدره، لفاق جهدها في ذلك وحده، كل ما نقدر للرجل من جهد العمل على إقامة دعائم المدنية والحضارة، فلو لم تخصها الطبيعة بتلك الخواص النفسية الفذة، وذلك الإدراك العميق لمختلف نزعات الرجل، وتلك القدرة العجيبة على اختيار مواقف الكر حيث يجدي، والفر حيث يفيد، والإقدام حيث يكون الإقدام نصرًا، والدفاع حيث يكون الإقدام هزيمة، مدفوعة إلى ذلك بغريزة فيها تدفعها إلى حفظ ذلك النوع الذي يطلق عليه الأحيائيون اسم «الإنسان العاقل»١ اصطلاحًا، لظل ذلك الكائن البدائي في جحوره المظلمة، وكهوفه المرطوبة، وغاباته الموحشة، حيوانًا لا يفرقه عن بقية الحيوان غير انتصاب القامة.

ذلك بأن الطبيعة قد وجهت غريزة الرجل إلى العمل للحاضر وحده، ولكنها خصت المرأة بغريزة العمل للمستقبل.

تحمل وتلد وترضع وتربي وتعلم، وتحارب نزوات الرجل بالضعف إذا صلح، وبالقوة إذا حزب الأمر، موجهة كل ذلك الجهد إلى الاحتفاظ بشيئين: الأسرة والولد. الأسرة للحاضر، والولد للمستقبل، وليس لها من كل ذلك غنم ولا ربح، ومن ثَمَّ كان لها تلك الغرائز النبيلة السامية.

٢

لم يصلنا من تاريخ المرأة الاجتماعي في العصر المصري القديم شيئًا يتيح لنا البحث في شئونها بحيث نحدد مكانتها في ذلك المجتمع تحديدًا يرضي التاريخ الصحيح، ولكن يكفي أن نعرف أنها بلغت من المكانة في ذلك المجتمع ما لم نرَ له مثيلًا في الحضارتين اليونانية والرومانية؛ فقد بلغت في مصر القديمة مرتبة الملك، وكفى بذلك دليلًا على أنها بلغت في مصر وفي فجر التاريخ البشري منزلة السلطة العليا في دولة استبدادية لا أثر للديمقراطية فيها، ولم تبلغ في الحضارة اليونانية من الأثر العملي ما بلغت في الحضارة الرومانية، ومن أعجب حقائق التاريخ، أن تتبوأ المرأة أعلى مدارج المجتمع في حكومة استبدادية كحكومة مصر القديمة، وتتوارى من أفق المجتمع كله في بلاد اليونان، التي ورثنا عنها النظم الديمقراطية الحديثة، ولا شك في أنها كانت ذات أثر بالغ في حياة الرومان، حتى لقد وجهت سياسة الدولة في عصر أوغسطوس، أول قياصر الرومان، زمنًا خص بأنه شهد نشأة الإمبراطوريات العظمى في العالم.

وهكذا كان للمرأة أثر بيِّنٌ في تاريخ الإنسان؛ في عصور همجيته، وفي عصور تمدينه، وسوف يكون لها في المستقبل أثر أعظم، وتاريخ أروع وأخلد.

٣

ولما سقطت الدولة الرومانية، وحطمها الهمج الذين هبطوا أوربا من فجاج آسيا، وورثت أوربا عنهم نظام القطائع، انكفأت المرأة بغريزتها راجعة إلى تلك الحدود التي لزمتها خلال عصور الهمجية الأولى، ونزلت عن تلك المكانة السامية التي تربعت على عرشها في بعض المدنيات القديمة، ولقد ظلت المرأة على هذه الحال حتى كانت العصور الحديثة، فأخذت في أوربا شيئًا من مكانتها التي بلغتها في مصر القديمة؛ إذ تربعت على عرش الملك، ورن صوتها الغرد في فجاج التاريخ مرة أخرى.

عندما أدركت أوربا الثورة الصناعية، ولفتها مبادئ الحرية الديموقراطية، وماشت المرأة الرجل في التعليم، تطلعت إلى حقوقها السياسية، وأخذت تعمل جاهدة في سبيل تحقيقها؛ لتكمل بذلك ذاتيتها، فلئن كانت المرأة قد حققت ذاتها وأثبتت وجودها في ميادين كثيرة؛ كالأمومة والزوجية والأسرة والجهاد والحرب والملك، فإنها ولا شك تجنح اليوم إلى أن تكمل ذاتيتها بأن يكون لها في ميدان السياسة والاجتماع والعمل، تلك الحقوق التي حرمتها خلال العصور الغابرة، تلك الحقوق التي لا ينكرها الشرع ولا تأباها الطبيعة.

•••

إن الكلام في حقوق المرأة حديث جديد في المدنية، فبعد أن سقطت المرأة عن عرشها المتواضع الذي تربعت من فوقه في العصر الروماني، غشت عليها غشاوة القرون الوسطى، فقبعت راضية، حتى أدركتها العصور الحديثة، فهبت من غفوتها تطالب بحقوقها السياسية، تلك الحقوق التي ساوت فيها الرجل مساواة تامة، أما بداية جهادها في سبيل ذلك، فيرجع إلى ما قبيل الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر؛ إذ بدأت تحتل مشكلتها العالمية مكانًا في آداب الأمم الغربية.

غير أن جهاد المرأة في ذلك العصر كان جهادًا سلبيًّا، دليلنا عليه أن كثيرًا من نابهي الكتَّاب والفلاسفة قد خصوها فيما كتبوا ببحوث وإشارات عبرت عن أن في جو المجتمع مشكلة هي مشكلة المرأة، ومسألة معقدة هي مسألة الشطر الآخر من الجمعية البشرية.

ومن أعجب العجب أن «جان جاك روسو»، على كثرة ما أشاد في كتابيه «العقد الاجتماعي» و«أميل» الذي كتبه في أصول التربية، واستمساكه فيهما بنظرية أن الحرية حق طبيعي للإنسان، لم يذكر أن للمرأة حقًّا يقال له «الحق السياسي»، وجاراه في ذلك بقية الكتاب الذين نحوا نحوه واتبعوا مذهبه، ذلك في حين أن مذهب هؤلاء جميعًا هو أن الحق السياسي حق طبيعي لا يسقط عن الإنسان ولا يسلب منه حتى لو تعاقد هو على حرمان نفسه منه، بل قالوا: إن التصويت حق عام لكل أفراد الجمعية، وإنه جزء متمم للحرية فلا يسلب ولا يتنازل عنه أو يحرم منه فرد ما من الأفراد؛ ذلك بأن الحرية شيء طبيعي، وكذلك متعلقاتها وتوابعها.

أليس عجيبًا أن أولئك الذين يقولون بتلك الحرية الواسعة ويقدسونها، وينزلونها هذه المنزلة، التي لا شك في أنها صحيحة من كل وجه، هم بأنفسهم الذين يمضون في بحوثهم قانعين بأن يظل نصف الراشدين من مجموع الأمة عطلًا من هذه الحقوق، وأن يحرمهن النصف الآخر من التمتع بها، فيطغى على حقوقهن فيها، فلا يجعل لهن نصيبًا من الإشراف على التشريعات التي تتعلق بأموالهن الشخصية، بل هي قد تنصب على كل أقدارهن في هذه الحياة الإنسانية؟

لقد كتب «روسو» عن المرأة وفصل الفوارق التي تفصلها عن الرجل، ولكن لم ينزل كاتب من كتاب القرن الثامن عشر إلى ذلك الدرك الذي انحدر فيه «روسو»؛ إذ قال: «خلقت المرأة لتكون ملهاة للرجل»، غير أنه عقب على ذلك بقوله:

ينبغي أن يكون تعليمهن متصلًا بحاجات الرجل، فتكون له تسلية وفائدة، وموضعًا لحبه واحترامه، ولتربي أولاده صغارًا، وتعنى بهم كبارًا، ولتبذل لهم النصح، وتنفحهم بالعطف حتى تصبح حياتهم هادئة مرحة، كانت هذه الأشياء خلال كل العصور واجبات المرأة، ومن أجل هذه الواجبات، يجب أن تتعلم المرأة من الصغر.

بل إن «روسو» قد ذهب في تقييد المرأة إلى أبعد من ذلك، ذهب إلى وجوب تقييدها دينيًّا، فلم يجعل لها حق اختيار العقيدة التي تتصل من طريقها ببارئها، وقضى بوجوب أن لا يكون لها دين غير دين زوجها، فهي مقيدة به محصورة في حدوده، شأنه في ذلك شأن «فلوطرخوس» في العصر الروماني، وقد قضى كلاهما بأن على المرأة أيضًا أن تعمل على غرس بذور دينها الذي هو دين زوجها، في عقل بناتها، وإلا فإنها تكون قد قصرت في أداء واجب من أقدس الواجبات، قال:

حتى ولو كان ذلك الدين زورًا محضًا، فإن طواعية المرأة وبناتها، وخضوعهن لذلك الشرع الطبيعي، تكون عند الله وسيلة لغفران الخطيئات، ومن أجل أن النساء غير قادرات على أن يحكمن على الأشياء حكمًا ذاتيًّا، فعليهن أن يخضعن لأحكام آبائهن وأزواجهن خضوعهن لحكم الكنيسة.

لم يشذ عن هذه الطريقة التي اتبعها كل كتاب الثورة الفرنسية غير الفيلسوف «كوندورسيه»؛ فقد ظهر في بعض كتابات ظهرت له سنة ١٧٨٧، وتكاد تكون من منسيات ما كتب، إلى القول بأنه من المستحيل أن تستقر حقوق الإنسان على قاعدة ثابتة، ما لم يعترف بهذه الحقوق للمرأة، وإن كل الأسباب التي أدت إلى الاعتقاد بأن لكل رجل الحق في أن يكون له صوت مسموع في حكم بلاده، هي الأسباب التي تحملنا على إضفاء هذه الحقوق على النساء، قال:

وعلى الأقل للواتي هن أرامل أو غير متزوجات.

ولو لم يقيد «كوندوسيه» رأيه بذلك القيد الذي هو أثر من آثار الفكرة السائدة في عصره، إذًا لكان أول رائد دافع عن حقوق المرأة في العصر الحديث.

ولا ريب في أن موقف كتاب فرنسا من المرأة في ذلك العصر كان فذًّا غريبًا؛ إذا تذكرنا «ماريا تريزا» والملكة «كاترين» في روسيا، والمكانة العليا التي شغلتها كل منهما في سياسة بلادها خاصةً؛ وسياسة أوربا عامة، أضف إلى ذلك المنزلة السامية التي احتلتها نساء موهوبات في الاجتماع والأدب والبحوث العقلية وفي الحياة السياسية، منذ انقضاء عصر لويس الرابع عشر، ناهيك بما كان للمرأة من موضع في إلهاب روح الثورة في فرنسا، وما كان لها من تضحية فيها، وأية تضحية أعظم وأنبل من تضحية مدام «رولان» و«شارلوت كورداي» وأولاهما من الموهوبات في السياسة والأدب، والثانية من الفدائيات، كانت الأولى من أعضاء حزب «الجيروند» المبرزين فيه، وكانت الثانية من المضحيات اللواتي تذكرهن فرنسا إلى جانب «جان دارك»، وقد سقطتا على المقصلة، مع رجال من أبرز رجال العصر.

ناهيك بما عليه كثير من المؤرخين الذين يعتقدون أنه ما من كاتب استطاع أن يزن حوادث ذلك العصر بميزان أدق أو عقلية أرحب أو أفق أوسع من مدام «ده ستايل»، كذلك نعلم أن إنسانًا ما من الذين عاصروا الثورة، لم يستطيع أن يلهب بمواقفه نيران الحقد والغضب استمساكًا بوجهة من النظر السياسي، فكان أعنف وأصبر على مكاره ذلك الموقف النكد من الملكة «ماري أنطوانيت»، وهي بشهادة الجميع من أكثر اللواتي سقطن على المقصلة استنارةَ فكرٍ واستقامة رأي وثبات جنان.

قيل: إن نابليون قابل ذات يوم أرملة «كوندورسيه» وكانت من زعيمات الثورة فخاطبها محتدًّا وفي نبراته نغمة الآمر الذي لا ينتظر ممن يخاطب جوابًا: مدام — إني لا أحب أن تتمحك المرأة في السياسة — فأجابته على الفور: لك الحق أيها الجنرال، ولكن من الطبيعي في بلد تحتز فيه رءوس النساء، أن يكون لهن الحق في أن يسألن عن السبب في ذلك!

ولا يجدر بنا أن نغفل في هذا المقام عن ذكر ما كان للمرأة من أثر في عصر النهضة في أوربا، ولنضرب لذلك مثلًا بما كان لتعليمهن من أثر في حياة ذلك العصر.

وأول من نذكر منهن، بل أول من تتخذ منهن مثلًا يحتذى وقدوة يتأسى بها «كاترينا سفورزا» (١٤٦٢–١٥٠٩) فقد نُشئت بعناية جدتها الدوقة «بيانكا ماريا فسكونتي»، وكانت «بيانكا» من مشهورات أهل زمانها، ففي كل المعارك التي اشتبك فيها زوجها «فرنشسكو سفورزا» كانت مساعده الأول ونصيحه الأمين، بل كانت في بعض الأحايين قائدًا مقدامًا مرنًا؛ فقادت الجيوش في حومة الوغى، وانحدرت بهم إلى المعامع تناضل نضال النمرات، وكانت إلى جانب هذا معبودة الجماهير؛ لطهارة ذيلها، وعفتها، وحدبها على المظلومين والضعفاء، وحنوها على الذين أخنى عليهم الظلم، وفعل بهم الاستبداد، كانت حمامة السلام، ورسول الشفقة، ويد الرحمة كلما استعرت نيران البغضاء، واستيقظت روح العداء، وفشت الأخطاء، وعمت التعاسة، وبهذه الصفات علمت «كاترينا سفورزا» الحكم كيف يكون.

تلقت «كاترينا» من التعليم قسطًا وافرًا، على النهج الذي اتبع في ذلك العصر، وكانت التقاليد القديمة قد أخذت تنهار قبيل عصرها، وتحل محلها تقاليد جديدة، فإن نساء العصر الأول — أي عصر ما قبيل النهضة — كن محجوبات عن الاشتراك في معضلات الحياة العامة، والأخذ بقسط في معالجة مشاكل العصر، على كثرة ما كان فيها من مشكلات، فكان من حظ «كاترينا» أن يقضى قبل عصرها على هذا التقليد، فيأخذ النساء بضلع وافر من الاشتغال بشئون السياسة والحرب، وتدبير أمور الدويلات والاحتكام في نزر غير يسير من الظروف التي عدلت وجه التاريخ الحديث.

بلغت العناية بأمر الثقافة النسوية في عصر «كاترينا سفورزا» أعظم مبالغها، فإن سيدات ذلك العصر، على ما يقول ثقاة المؤرخين، قد تلقين من العلم ومن أساليب التربية والتنشئة ما قد يندر أن يتهيأ لمثيلاتهن من بنات عصرنا هذا؛ فقد برزن في الآداب القديمة، وفي اللغتين اليونانية واللاتينية؛ قراءةً وكتابةً وتفقهًا، كما أعطين قسطًا وافيًا من العلم بآداب عصرهن، في بلادهن وفي غيرها من البلاد، وتثقفن في الفن والعلم والموسيقى والرقص وركوب الخيل والألعاب الرياضية.

ومن مشهورات ذلك العصر «سيسيليا جونزاجا» و«أبولينا سفورزا» عمة كاترينا سفورزا، وبعد ذلك بسنين قلائل اشتهرت «إيزابلا دسطه» و«إليزابتا جونزاجا»، وكل منهن مثال يحتذى في الثقافة الواسعة والقدرة الشاملة والعبقرية الكاملة؛ فقد نعلم أن «أبولينا سفورزا» وكانت في الثانية عشرة من عمرها، قد ألقت خطبة من تأليفها باللغة اللاتينية؛ ترحيبًا بالبابا «بيوس الثاني» عندما حل ضيفًا على أبيها، وفوق هذا أن «سيسيليا جونزاجا» كانت تكتب اللغتين؛ اليونانية واللاتينية، وتقرؤهما وهي في الثامنة.

ونقل إلينا أن «كاترينا سفورزا» قد أنشدت أبياتًا من الشعر نظمتها باللاتينية؛ ترحيبًا بالكردينال «رياريو» عندما نزل ببلاط أبيها، وهي في العاشرة، وعن «إليزابتا جونزاجا» أنها كانت تغني أشعار «فرجيل» موقعة بأناملها على القيثارة، وعن «إيزابلا داسطه» أنها تقرأ فرجيل وكيكرون وهي ما تزال يافعة، وأنها والت درس الآداب، حتى بعد أن أصبحت مركيزة «مانتوا»، ولا شك في أن ذلك العصر، عصر النهضة، قد طبع بطابع الأدب العالمي، حتى لقد اعتقد أهل الطبقات العليا فيه، أن تعلم الآداب القديمة من حاجات الحياة الأولى؛ سواء للرجل أم للمرأة، وأنه يزيد المرأة جمالًا وفتنة، فلم يكن هنالك من فارق بين تربية الفتى وتربية الفتاة.

نقتصر على هذه الصورة التي نقلناها عن عصر النهضة في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر الميلادي، فنقضي بأن تعليم المرأة قد انحدر وفسد، والرأي فيها اضمحل وأسف، من بعد ذلك، وشاهدنا على ذلك «روسو» قبيل الثورة الفرنسية.

ولكننا اليوم عند رأي «كاستيلوني» الذي قال في المرأة الكاملة:

إن كل الإيحاء إنما يأتي من طريقها، وإنه من خصائص المرأة المثقفة أن تلهب في الرجل نار الشجاعة، وتبعث في نفسه الأمل في حومة الوغى، والنهي في قاعدة المشورة، والإلهام في عالم الفن، والضرب في رحاب المعرفة، والسمو في ميدان الفضيلة، والتقوى في مفاوز الدين.

لقد قام في أثناء الثورة الفرنسية بعض الذين حاولوا أن ينادوا بحقوق المرأة السياسية، ومنهم رجال آمنوا بأن إنكار ذلك الحق على المرأة، فيه منافاة للعدل وانتهاك للفكرة الأساسية في الحرية، وأنها ملك مشاع لأبناء آدم وحواء، وأنها حق أبدي أزلي لا يسلب ولا يلغى، بل إنه حق ملازم للحياة الإنسانية نفسها، وأن الاعتداء عليه، مساو تمامًا للاعتداء على الحياة.

ولكن بالرغم من كل هذا كان نصيب كل حركة فكرية اتجهت هذا الاتجاه، القمع السريع والكبت العاجل بشدة وعنف، ومثال ذلك: أن حكومة الثورة قد حلت جميع الهيئات التي أقامها النساء، فكل النوادي والجمعيات والهيئات السياسية التي أسسها النساء في فرنسا قد حلت وحظر بقاؤها، وحرم النساء شهود اجتماع الهيئة الثورية، حتى لقد هددهن «شوفيت» أحد رجال الثورة، بأن تدخلهن في السياسة، تجاوز لحقوق جنسهن، واعتداء على الشرع الطبيعي، هنا نستطيع أن نقارن بين حال المرأة ومركزها الاجتماعي في طبقات المجتمع العليا في عصر النهضة الأوربية، وحالها في عصر الثورة الفرنسية، لنحكم أيهما كان عصر النور والعرفان.

٤

نشرت «ماري وولستونكرافت» الكاتبة الإنجليزية كتابها «تأييد حقوق النساء في إنجلترا» وقصدت به أن يكون ردًّا على مذهب روسو؛ فكان أول حافز جدي حمل المفكرين على أن يتخذوا من هذه المعضلة موقفًا إيجابيًّا، أخرجهم من موقف السلب الذي لزموه إزاء حقوق المرأة، وشاع في الجو الأدبي نزعة إلى بحثها والتفكير فيها، ولم يكن في ذلك الكتاب عنصر يرفعه إلى طبقة الكتب التي أحدثت الانقلابات الفكرية، كما أن حياة مؤلفته قد أضافت إلى كثير من نواحي الضعف فيه، بالرغم من أنه خلو من نزعات العنف والثورة، فإنها لم تعرض مثلًا إلى مهاجمة نظام الزواج، وكان الكلام في ذلك لزامًا على كل من يبحث مشكلة المرأة وحقوقها الاجتماعية، بل إنها تكلمت في نظام الزواج بروح الاحترام فقالت: إنه «ينبوع كل الفضائل الاجتماعية»، وحثت المرأة على التزام الفضيلة، واتباع ما توحي به شريعة الآداب، ومراعاة مكارم الأخلاق، على اعتبار أن جماع ذلك إنما هو من واجبات المرأة الأولية، وبالرغم من أنها حثت على مشاركة المرأة الرجل في جميع لباناته ووجوه تعليمه ومناحي ثقافته، فإنها كرهت أن يكون للمرأة اشتراك في ملاعب الرياضة!! وهذا أمر عجب، ولا تفسير له عندي إلا التأثير بروح العصر وميوله؛ إذ يجعل الفكر متراوحًا أبدًا بين حدين لا اعتدال فيهما: فإما إفراط، وإما تفريط، ذلك في حين أن المرأة في عصر النهضة الأوربية، ونقصد بها المرأة من الطبقة العليا، قد اشتركت في صيد الوعول والخنازير البرية وفي التمثيل المسرحي، وكانت تتعرض في أثناء الصيد لمخاطر يتعرض لها الرجال.

وإنك لتعجب كيف يحدث في الاجتماع الإنساني، مثل هذه الانتكاسات العجيبة.

أنفت مثلًا أن يكون نساء إنجلترا محمولات بمقتضى بيئتهن وتربيتهن على أن ينظرن إلى الرجال نظرة الاعتقاد بأنهم عائلوهن وموجهوهن في الحياة، وكفلاؤهن في هذه الدنيا، وإلى الزواج على أنه الغاية الأخيرة من الحياة، وغضبت أن يحال دون المرأة والدرس العميق الذي يوسع من أفق العقل؛ ادعاءً بأن ذلك ليس من لبانات المرأة ولا من حقوقها، وحملت على مذهب القائلين بأن من مفاتن المرأة أن تقتصر تربيتها على تنمية الحساسية في شعورها، وتغذية روح التواكل في نفسيتها، فتظل طفلة في مواهبها، وإن اكتمل نماؤها البدني، حتى لا تثور على الرجل، ما دامت هي تشعر بالحاجة إلى من يكفلها في الحياة.

هذه الوجهة من النظر في حقوق المرأة وتربيتها وتكوينها عقليًّا واجتماعيًّا، لم ترضِ مسز «وولستونكرافت»؛ لأنها فاسدة من أساسها، فوق أنها مضرة بالجنسين؛ المرأة والرجل، على السواء، فإذا لم تُتربَّ المرأة تربية تؤهلها أن تكون شريكة للرجل في حياته العقلية، فإنها ولا شك تكون عقبة تسد على الرجل سبيل الرقي من ناحية العقل، ومن ناحية الفضيلة، ومن الأشياء التي يتعذر علينا أن نمر بها سادرين، أن يعهد في تنشئة الشباب، وهم بعد في أكثر سني عمرهم قابلية للتعليم والتلقي، إلى عقول صدت عن العلم، وكفت عن التهذيب وأن يلقى بهم عند رجولتهم في أحضان شابات ليس لهن من عطف على شيء من الأماني التي تجول في صدورهم، أو إحاطة بالدراسات التي يعكفون عليها، أو تقديس للأعمال التي تنتظرهم في الحياة.

ثم تقول:

إن الاستخفاف والبله والغرور وكبت الأحاسيس والوهم والغفلة، هي الأشياء التي تخرج بها المرأة في أسلوب التعليم الذي تتلقاه، ولا ريبة في أن مثل هذه المرأة جديرة بأن تلقي على الحياة الزوجية ظلالًا من الحياة قاتمة مظلمة، تثقل حتمًا على حياة الرجل بعد أن تذهب جدة الزواج، ويخلق ثوب الفتنة الذي يغشى على الطور الأول من التخالط الزوجي، أما التعليم الكامل فإنه بالمرأة الفقيرة، وبالمرأة التي تقف على وجهها صفات خلقية تردها عانسًا، أخلق ولها أفيد، ذلك بأنها تكون مضطرة أن تخوض معركة هذه الحياة وحيدة بغير معين أو كفيل، أما إذا تركت إلى الحياة وحظها من التعليم ذلك القسط الدنيء الذي يخلفها بغير سلاح تواجه به حاجات العيش، فإن حياتها تكون من المصائب العظمى والبلايا الكبرى.

ولقد عمدت إلى مؤلفين من أهل عصرها نقلت عنهم أقوالًا امتدحوا بها ضعف المرأة جسمانيًّا وعقليًّا؛ عادِّين ذلك من مفاتنها، حاسبين ذلك لها لا عليها، بل إن بعضهم قد ذهب إلى القول بوجوب أن تبتعد المرأة عن كل نشاط جسمي، أو مرانة عقلية، وأن على المرأة أن تمتنع عن كل ما يهيئ لها روحًا مرحة، أو يزودها بجسم صحيح البنية متين التركيب، وأن تتنكب سبيل الدرس العقلي والاستقلال في الرأي أو الاستمساك به، حتى لا يضعف ذلك من فتنتها في عين الرجل، بل قيل: إن المرأة لا ينبغي لها أن تمعن في التدين والتقوى، فربما خانها الحظ، وهي مأخوذة بتقواها، ممعنة في تأملاتها القدسية، فتسمو إلى مدارج أعلى من مدارج الرجل، وأعمق من مفهومه، وبذلك تنزل عن مكانتها في عينه.

ولقد ثارت هذه الكاتبة على كل هذا وأمثاله ثورة جد، قائلة: إن الفضائل ليست وقفًا على جنس دون جنس، وأن ما يصلح منها لأحدهما — ولا شك — يصلح للآخر، ولقد تساءلت لماذا يكون الجبن رذيلة في الرجل، فضيلة في المرأة؟! وخلصت من ذلك إلى القول بأنه استنادًا إلى الحقوق الطبيعية، يكون للمرأة حق التمتع بالقوة السياسية، وأن حقها في ذلك أمر لا منازع فيه ولا مانع منه، وأن تمتع المرأة بحقوقها السياسية، باعتبار أنه وسيلة الرقي، هو بذاته عامل من أمضى العوامل في تربية روح الجماعة، وحافز من أكبر الحوافز على تهذيب الرأي العام وتنمية الروح القومي.

وكان لها في المرأة من حيث العمل رأي طريف، فقالت: إنه من الظلم والبغي أن تمنع المرأة؛ بالقانون طورًا، وبالشرائع طورًا آخر، عن العمل في سبيل الحصول على ما يقيتها، وقد كفتها الطبيعة عن التزود بسلاح فعال في التناحر على البقاء، وهي تظن أن مهنة الطب خير ما يوافق مزاج المرأة، وأن القوانين التي تحول بين المرأة والعمل إن عطلت، فإنها سوف تنزع بطبعها إلى ضروب من العمل توافق مزاجها ومواهبها.

على هذا يكون للمرأة حق التعلم على نفس الطريقة والمنهج الذي يتعلم به الرجل، ونعت على عادات عصرها أن كانت السبب في أن يعيش آلاف من النساء والفتيات عيش الفراغ والخمول، وعزت الضعف النسوي في عصرها إلى طريقة التنشئة وإلى ما أتبع من أصول التربية وحبس الفتيات في داخل الدور والحجرات من غير رياضة أو مرانة جسدية، حتى خملت فيهن قوة العضل، وأصابهن سوء الهضم، وما إليه من صنوف العلل وضروب الآفات.

٥

بالرغم في أن هذا المتجه في البحث قديم في عصرنا هذا، فإنه أثار في عصر هذه الكاتبة كثيرًا من الامتعاض والتقزز في أوساط المحافظين من أهل الأمم الغربية.

غير أن أثره قد ظهر وشيكًا في تفكير كثير من عظماء الرجال، وكانت الناحية السياسية من حقوق المرأة، أبين من غيرها أثرًا في تفكيرهم؛ فقد أشار السياسي المعروف تشارلز فوكس إليها في خطبة ألقاها في مايو من سنة ١٧٩٧، وكان رأيه أنه — «فيما عدا الشركات، وهي ما يؤثر حق التصويت بشأنها على الملك» — يرى أنه من المرغوب فيه أن يعطى حق الانتخاب للنساء، ولا يمنع ذلك حتى في المسائل التي تتصل بنظريات أو مشروعات يتطلب النظر فيها دقة خاصة، ومن رأيه أن للنساء مصالح يجب أن تصان، وهي مصالح عزيزة عليهن، ولا تقل شأنًا لديهن عن مصالح الرجال.

قال: «لا ينكر أحد أن نساء الطبقة العليا هن أحق، من حيث الكفاءة والمواهب، بمباشرة حق التصويت في الانتخاب، من أولئك الرجال الجهلاء الذين هم من الطبقة الدنيا في المجتمع، وهم الذين يحاول القائلون بحق التصويت العام، إضفاء «ذلك الشرف عليهم»، وخلص من ذلك إلى البحث في كيفية الخلاص من ذلك الشذوذ الغريب: فإنه إذا كانت الغاية من كل نظام سياسي رشيد، هو الحصول على مصوتين مستقلين في الرأي، فكيف يمكن التوفيق بين هذه الحقيقة، وبين شرائع المجتمع، وربما شرائع الطبيعة أيضًا، وهي التي جعلت المرأة عالة على الرجل؟!

ولقد نسي ذلك السياسي الكبير أن المرأة لن تظل إلى الأبد عالة على الرجل، فإن تطور النظامات الاجتماعية، وخروج الإنسان من عالم الظلمات إلى نور المدنية، كفيل بأن يجعل للمرأة في النظام المدني منزلة مستقلة تمامًا، غير أن أفق الحياة في أواخر القرن الثامن عشر، وضعف النظم الاقتصادية وضيق نطاقها، والعادات والتقاليد الموروثة منذ أقدم العصور، تجعل لذلك الرجل الفذ بعض الحق في تساؤله هذا.

وكان الفيلسوف «جرمي بنتام» ممن تناولوا موضوع المرأة في عصره، ولكن أقواله وإشاراته لم تتجاوز حد أنها فكرات عابرة غير مستقرة، وكان من رأيه أن من الظلم والتنطع أن يحرم النساء حق التصويت في إنجلترا، في حين أنهن يشغلن في الدول الأخرى مراكز ممتازة في عالمي السياسة والاجتماع، وقد حصل بعضهن على قدر من السلطة السياسية في بعض دول القارة بلغن به أرفع الذرى، ولكنه إلى جانب هذا كان متشائمًا، فلم يتمادَ في بحث هذا الموضوع الخطير؛ لأن القوى المتناصرة على كبته كانت كبيرة، وسيل الفكر المتجه إلى قمعه كان جارفًا، فتنكب الكلام فيه؛ ظنًّا بأنه الجهد المضيع، والعمل الفائل.

٦

نشر «بايلي» كتابه «التمثيل السياسي» سنة ١٨٣٥، وهو من الكتب التي أحدثت في عصره انقلابًا من أخطر الانقلابات الفكرية في السياسة، وقد أيد فيه نظرية حق المرأة في التصويت العام.

كان من رأيه أن النظام التمثيلي يقوم على مبدأين أساسيين: الأول: أن الغاية من الحكومة العمل على إسعاد الجمعية؛ نساءً ورجالًا؛ لأن كلا الجنسين له قابلية التأثر باللذة والألم، والثاني: أن مباشرة الحقوق السياسية ينبغي أن تكون لخير جميع الفئات التي هي تحت كنفها، ما دامت هذه الفئات خاضعة لحكمها أو لحكم أشخاص تتفق مصالحهم ومصالح أولئك الأشخاص.

ومن هذا يتضح أن القول بحرمان المرأة من مباشرة الحقوق السياسية، إنما يستند في رأي «بايلي» إلى أحد قولين: الأول: أن حقوقهن تتفق وحقوق الرجال، وأنهن محميات بما للرجال من حق التصويت؛ والثاني: أن المرأة عاجزة عن تطبيق حقها السياسي واستعماله بحيث يعود عليها وعلى الجمعية بالخير، وبذا تكون المفاسد التي تنشأ عن اختلاف المرافق بين الجنسين، إنما يضاعف في التعويض عنها، ما في الرجل من التبصر والحكمة التي تغمر بفضله وظيفة الحكم.

أما القول الأول فقد رد بحقائق تاريخية؛ وذلك بأن من الحقائق الثابتة التي لم يختلف فيها مؤرخان، أن الشطر الأقوى من شطري الجمعية البشرية، قد استعمل «حق الأقوى» دائمًا وفي مختلف الظروف ومتباين الحالات، مستبدًّا بالشطر الأضعف؛ وأنه في جميع العلاقات التي قامت بين الرجل والمرأة، كما هي الحال في كثير غيرها من العلاقات، قد أسيء استعمال القوة، ما دامت هي قوة مطلقة القيد غير مسئولة، وإن ذلك كان عامًّا ومطردًا في كل الظروف، وقيل: لقد بذل كثير من الجهد في سبيل تحسين حالة المرأة، — «ولكن ما تزال سلطة الرجل على المرأة يساء استعمالها، وأنه يُشك كل الشك في إمكان إقامة حدود العدل والإنصاف في علاقة الرجل بالمرأة، قبل أن يأخذ كل منهم حقه المقسوط من الإشراف على سن الشرائع» — ولا شك في أن كثيرًا من التشريعات تتناول مسائل تتفق فيها مصلحة الجنسين، — «غير أنه فيما يختص بالفروق الواقعية، وهي التي تتناول الصلات الإيجابية التي وزعتها الطبيعة على الجنسين، وهي صلات لا محالة باقية أبدًا، فإن مرافق ولبانات متباينة لا بد من أن تنشأ بينهما، وينبغي أن يُسن عدد عديد من الشرائع تنظم حقوق كل من الجنسين وتحديد واجباته إزاء ذلك، فإذا ترك سن هذه الشرائع، وهي شرائع تتصل بفئتين متناظرتين، لشهوة فئة منهما، فإنا ولا شك نعرف النتيجة».

وأما القول الثاني في حرمان المرأة: فهو القائم على رأي «بايلي» في عجز المرأة، وأنه في كل الجمعيات الإنسانية القائمة، نرى أن جنس الأنثى هو بوجه عام أدنأ ذكاءً من جنس الذكر.

ولقد نسي «بايلي» حقيقة من أظهر الحقائق وأدمغها حجة؛ نسي أن عقلية المرأة إذا كانت من الطبقات العليا في الجمعية، ترجح عقلية الرجل إذا كان من أهل الطبقات السفلى، وأن المرأة التي تحصل على خمسمئة جنيه دخلًا سنويًّا، هي ولا ريبة أكثر اتصالًا بالدنيا ومعرفة بأنبائها من رجل دخله خمسون جنيهًا، ولكنها تكون أقل من رجل دخله خمسمئة، فإذا صح هذا الرأي، كان الصواب والحجة السليمة، أن لا ننبذ النساء ونحرمهن حق أفراد الجمعية المشتركة، بل نعمل على أن تكون مؤهلاتهن الدنيوية أوسع وأرحب، وقد نشك أيضًا في ضرورة ما تتطلب فراسة الانتقاء من الكفايات العليا، فمن ناحية ذلك الضرب من الذكاء الذي ننشده دائمًا عندما نريد الحكم على حقيقة الأشخاص الذين يصلحون للخدمة العامة حكمًا صحيحًا، نجد أن المرأة في بعض الاعتبارات، أمهر من الرجل، إذا كانا من طبقة اجتماعية واحدة، واللباقة النسوية في استشفاف بعض الصفات الخلقية في الأفراد، أمر مُجْمَع عليه، وممَّا لا شك فيه أن مثل هذا المعاون الأمين يكون ذا شأن عظيم في انتقاء ممثلي الأمة … ولو أمكن وضع طريقة مثلى لأخذ الأصوات، مع تخليص نظام أخذها من تلك المفاسد الممضة، والمناظر المؤلمة التي تجعلها أقرب إلى الفوضى والخشونة، لكان مباشرة حق الانتخاب نظامًا يتفق وتنمية أرق العواطف وأثمن العادات.

ومن رأي «بايلي» أنه إذا كان واضعو قانون الإصلاح في إنجلترا (١٨٣٢) قد جعلوا المرأة في مرتبة واحدة مع الرجل من حيث الحقوق العامة؛ إذن لقضوا على شذوذ عجيب، بل على ظلم فادح، من غير أن يضطروا إلى تبديل كبير في دوائر الانتخاب.

قال في كتابه «التمثيل السياسي»: كان ينبغي على الأقل، أن يُعطى حق التصويت للأرامل اللائي لهن بيوت خاصة، أو يعشن بمفردهن، أو اللواتي لديهن نصاب مالي معقول، وإنه لمن المتعذر أن تقع على شيء من النُّهى أو الحكمة في أن يصد أولئكن عن هذه الميزة ويحرمن منها، اللهم إلا أن يكون قد رُوعِي في ذلك تلك الفوضى الغامرة التي ترافق طريقة إعطاء الأصوات، وما هي غير بقية نظام فاسد درجنا عليه.

وما يقوم من حجة يحتج بها الذين يخالفون «بايلي» في الرأي إلا القول بأنه في الوقت الذي وضع فيه قانون الإصلاح سنة ١٨٣٢، لم تقم أية طبقة من النساء بالمطالبة بهذا الحق، وأن أكثر النساء إذ ذاك كن زاهدات فيه، أما في أواخر القرن التاسع عشر، فإن أسبابًا كثيرة قد غيرت الموقف تغييرًا كليًّا.

١  Homo Sapiens.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤