الفصل الثاني

١

جاء الإسلام بشرائع أقرت كثيرًا من الحقوق التي أنكرتها الشرائع التي سبقته على المرأة؛ أقر لها حق الملك وحق الحياة، وعاملها على أنها كائن عاقل رشيد، بقدر ما سمحت بذلك مقتضيات الرقي الاجتماعي، بل إن الإسلام فات في بعض ما شرع للمرأة من الحقوق تلك المقتضيات بمراحلَ كبيرةٍ في بعض الاعتبارات.

لقد كانت المرأة في شريعة الجاهلية «شيئًا» لا «كائنًا بشريًّا»، كانت تقتل خشية الإملاق، وكانت تورث مع ما يورث من المتاع والحطام، لم يعترف بأن لها عقلًا أو شعورًا أو كينونة مستقلة تمثلها إرادة قائمة بذاتها، فمحا الإسلام ذلك بشرائعه الرائعة، ولكن ما أثبت الإسلام للمرأة من الحقوق لم يعترف به البغاة الذين ورثوا جاهلية القرون الأولى، لقد اتجروا بالنساء بيعًا وشراءً واستغلالًا، وحرموهن حق التمتع بما يملكن من حطام الدنيا؛ عقارًا كان أو مالًا، وردوهن شيئًا من الأشياء، لقد أغروهن على الفسق والفجور، واسترقوهن واستعبدوهن، فانتزعن انتزاعًا من أحضان الأب والأم والأسرة؛ ليكنَّ خادمات، أو سراري، أو حظيات، أو مومسات، وبعن في الأسواق بيع السوائم أو الأشياء.

لم يقف ذلك عند الزمن الذي عقب الجاهلية فحسب، بل إنه انحدر مع القرون حتى القرن التاسع عشر الميلادي، فزالت بعض آثاره وبقي البعض، وما بقي من ذلك حتى الآن صورة بشعة شنيعة ثقيلة على النفس.

لا نزال حتى الآن نلمس ونشاهد من آثار ذلك ما ينبغي أن تضربه الحكومات الضربات القاصمات؛ فإن كثيرًا من نساء هذه البلاد لا يزلن مسترقات مستعبدات، فإذا مات أب لإحداهن، وبخاصة إذا كانت من طبقة دنيا، وورثت عنه أو عن أمها أو عن قريب لها شيئًا، فإنها إنما تملك ما ترث اسمًا لا فعلًا، فإن لم يكن لها ولد، أُكلت حقوقها جميعًا عنوةً واغتصابًا، كأن الإسلام لم يشرع للمرأة، وكأن لم يعتبرها كائنًا بشريًّا، يأكل ذلك المال أقرب الأقربين لها، يأكله أخوها أو عمها أو خالها، ويرى الناس ذلك أنه طبيعي، ولا خروج فيه عن دين وشريعة.

وجرت العادة حتى الآن على أن يحرم البنات من ميراث الآباء، فإذا وهب الأب أو أوقف أو باع لأولاده، خرج بناته بخفي حنين، وخرج أولاده بغنيمة الأسد؛ ظلمًا وعدوانًا، هو أشد ما يروى من قصص الظلم والعدوان عند الله، والناس.١

فإذا خرجت المرأة بشيء مما ترث، ومُكنت من أن تملك كما يملك خلق الله، سقط عليها الزوج فكفها عن أن تكون حرة التصرف فيما تملك، أليس الرجال قوامين على النساء، وأليس النساء ناقصات عقل ودين؟!

وإنما تطبق هذه الأقوال بحرفيتها الآن كما طبقت في الأزمان الأولى، تطبق الآن بنفس العقلية التي سادت من ألف وخمسمئة سنة، يوم كانت المرأة بمقربة من حدود الجاهلية، كأن العقل لا يتطور، والآداب لا تتهذب، وكأن الإنسان قد ظل طوال هذه القرون الكتلة الجامدة التي لا حياة فيها ولا استعداد لها للارتقاء.

على أن هذه العقلية إنما ينميها ويزكيها ويقويها أولئك الذين لا يدركون أن الأرض قد دارت من حول الشمس ألفًا وخمسمئة مرة، وأن العقل قد انفلت من أقطار تلك العقلية القديمة، وأن خطى التطور التي ساقت أمامها حتى الجمادات، قد ساقت معها الأحياء أيضًا، فغيرت من آدابهم وآرائهم وطرائق حياتهم، وأنها انتقلت بالإنسان من ذلك الأفق الموحش البغيض، إلى أفق النور والعرفان والحرية.

٢

لقد اتخذ الرجعيون الذين يرهبون التطور؛ فرقًا من أوهام سلطت عليهم، أو رغبة في بسط سلطانهم على النساء؛ حبًّا في الاستعلاء الكاذب أو التسلطية الممجوجة، من بضعة نصوص أشير بها إلى حالات قامت في عصور غابرة، سبيلًا إلى استعباد النساء استعبادًا أبديًّا، لقد حضت المرأة في ذلك العصر أن تقر في بيتها وأن لا تتبرج تبرج الجاهلية الأولى.

أمران اقتضتهما ظروف وحالات قامت في ذلك العصر، وكان ذلك ولا شك في صالح المجتمع، وفي حدود الأدب المرغوب فيها، في حدود الحالات الاقتصادية والمعاشية التي اكتنفت الناس إذ ذاك.

أما الحض على أن تقر المرأة في بيتها فليس معناه أن تسجن فيه، وأن تكون فيه رقيقة مسلوبة الحرية، مسلوبة من كل معنى من معاني الحياة، ولكن معناه الصحيح أن البيت هو أقدس الأشياء، وأنه السكن والمأوى، وأنه صومعة السعادة والحب، وأنه المصنع الذي تنشأ فيه وحدات الجمعية في المستقبل.

معناه أن البيت ينبغي أن يكون له المقام الأول والمكانة العليا، معناه أن لا تتسكعن في الأسواق، إذا لم يكنْ لكنَّ حاجة تقضينها، أو متلمسًا تلتمسنه، ونحن نعلم أن حياة المرأة في الجاهلية كانت حياة الفراغ والملل، على العكس من حياة المدنية الحاضرة؛ فقد زادت واجبات المرأة نحو بيتها وزوجها وأولادها، كما أن هذه الحياة الحديثة قد أحدثت نوعًا من التخصص جديد فيما ينبغي أن يكون من شئون الرجل، وفيما ينبغي أن يكون من شئون المرأة.

لقد قسمت الاختصاصات في المدنية الحديثة، كما وزع العمل بين القائمين به، حتى أصبح ذلك طبعًا ثابتًا للحياة الجديدة، فهل في مستطاع الرجل في هذه الحياة التي نحياها، أن يسعى لعيشه، ثم يقوم بجميع واجبات المرأة في خارج البيت؟! هل في مستطاعه أن يرى الأولاد في روضة الأطفال، وأن يشتري لهم ما يلائم من الأطعمة والأكسية، وأن يقوم بما يجب لهم من رياضة العقل والبدن؟! هل في مستطاعه أن ينفق الوقت الذي يكسب فيه رزقه ورزق أولاده في شراء ما يلزم للبيت من مختلف الحاجات؟! إذن فكيف يقرن في بيوتهن وقد فتحت عليهن الحياة الجديدة ألوفًا من الواجبات، وضروبًا من المهمات، وعوالم من الضرورات لم تعرف منها المرأة في العصر القديم شيئًا، ولا عركت منها أمرًا.

وإذا كانت الحياة نفسها قد تطورت وانقلبت أوضاعها، فكيف يتخيل هؤلاء الذين يريدون أن تسجن المرأة في البيت أن يوفقوا بين حاجات الحياة الآن، وبين تلك الخيالات التي تساورهم؟ أفي مستطاعهم أن يرجعوا الحياة الإنسانية إلى ما كانت عليه قبل عشرين قرنًا من الزمان؟ إذا كان ذلك في مستطاعهم فليفعلوا، وهنالك تكون شريعة الآداب قاضية على المرأة أن تقر في البيت، وعلى الرجل أن يعيش عيش الغزو والصيد والقنص، وإلا فلسنا نطالبهم بشيء أكثر من أن يدركوا بعضًا من حقائق الحياة.

٣

إن المعنى الذي يستخلصه أصحاب الرجعية من حض المرأة على أن تقر في البيت، معنى غامض كل الغموض في هذا العصر، وبالرغم من ذلك الغموض الذي يكتنفه، فإنهم لا يريدون أن يفسدوه حتى تتحدد المعاني القائمة في نفوسهم منه.

أما إذا أرادوا أن تكون المرأة سجينة البيت، فكيف يوفقون بين هذا المعنى وبين حاجات الحياة العصرية؟! وإذا أرادوا أن يكون تفسيره أن تقر المرأة في البيت إذا لم يكن لها ما يشغلها في خارجه، فذلك هو الواقع في حياتنا الحديثة، أما أن يتخذ الحض على أن تقر المرأة في البيت على ظاهره من غير أن يفسر تفسيرًا يلائم حاجات الحياة العصرية، فذلك أمر هو فوت قدرتهم، بل إن الزمن قد محاه محوًا وحطمه تحطيمًا، حتى لقد يظهر استمساكهم به كأنه الرقعة البالية في الثوب الجديد الذي يروقك حسنه.

وكيف يوفقون بين هذا وبين الحض على تعليم المرأة واختلاط الفتيات بالفتيان في دور العلم؟ بل نسائلهم لماذا يعلمون بناتهم؟ بل لقد رأيت بعيني رأسي بنات شيخ من أوقر شيوخ الأزهر يلبسن الملابس القصيرة ويركبن الدراجات ويخالطن الشباب وقورات عفيفات ملتزمات حدود الأدب العالي متعظات بالحكمة مؤتمات بالموعظة الحسنة، فهل كان ذلك عن استمساك بما استمسك به الأوائل، أم عن خضوع لروح العصر ومقتضيات الحياة؟!!! أما أن نتهم ذلك الشيخ الوقور، بأنه كان يقول باللسان ما ينكره القلب، فذلك أمر نترك الحكم فيه لأسيادنا الرجعيين.

لقد غزت المرأة كثيرًا من ميادين الحياة، وزاحمت الرجل فيها بالمنكب والذراع، أصبحت المحامي المدره والطبيب النطاسي والمعلم الماهر والفنان الموهوب والمربي العطوف والممرض الحنون والتاجر اللبق، فكيف نطبق على حياة هذه صبغتها، صبغة حياة أولية بدائية، بسيطة التركيب، لا تعقيد فيها ولا توزيع لاختصاصات العمل؟ أم نريد أن نهدم كيان المجتمع الجديد؛ استجابة لتصورات هي وليدة عصر باد، وعهد غبر؟ وما أثمن قول القائل: «لا تطبعوا أولادكم على أخلاقكم؛ فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم».

معنى ما تقدم أن المرأة كانت تعيش من قبل على هامش الحياة، والآن وقد أخذت تعيش في صميمها وتغزو نواحيها الشتيتة، فإن الرجعيين يحاولون أن ينكروا عليها هذا الحق … ولماذا؟ ولأية ضرورة؟ إنهم يعجزون عن الإتيان ببعض الحجة، لا بحجة كاملة.

ولقد يخيل إليَّ أن إنكارهم ذلك الحق ليس براجع إلى اقتناع بحقائق ثابتة أو منطق صحيح، وإلا فليصوروا لنا مجتمعًا حديثًا تحرم فيه المرأة حق العمل وحق التفكير وحق الخصام فيما لها من لبانات وحاجات، كيف يكون، وكيف يدرج، وكيف يضرب في معارج الفلاح والرقي؟

يحمل هؤلاء على التمسك بالقديم أشياء عزيزة عليهم، وإنها لعزيزة علينا ولا شك، ولكن إذا اختلف ما هو عزيز عليك مع الحق والواقع، فأيهما أولى بالإعزاز وأيهما أولى بالمحبة؟

٤

يقترن مع الحض على أن تقر المرأة في البيت، حضها على أن لا تتبرج تبرج الجاهلية الأولى، ولا شك في أن الحض على ذلك مما تأمر به شريعة الآداب العليا التي تمليها على الإنسان أثمن مشاعره وأعلى عواطفه المثالية.

ولكن المصيبة التي أصابنا بها أولئك المستغرقون في النظر في الحياة بمنظار الحياة القبلية البدائية، أنهم يعتقدون أن كل تجمل تبدو به المرأة هو تبرج، وأنه تبرج الجاهلية الأولى، ذلك في حين أن كلمة «التبرج» ليس لها حدود التمرينات الرياضية، وفي حين أنه لم يصلنا عنهم وصف شامل لتبرج الجاهلية الأولى!!!

والمرأة على هذا النص غير ممنوعة من التبرج، اللهم إلا تبرج الجاهلية الأولى، وهو ضرب من التبرج لا ندركه إلا ظنًّا، غير أن هذا التبرج له احتمالان: فإما أن يكون المقصود به إشارة عامة إلى عدم الخروج بالزينة عن الحدود التي تحفظ على المرأة كمالها ووقارها، وإما أن يكون تعيينًا لحالة مادية كانت تمارس في الجاهلية الأولى.

ولا شك في أن التبرج بما يهدر كرامة المرأة وحشمتها أمر ممجوج ينبغي الإقلاع عنه؛ لأنه فضلًا عما فيه من احتقار لأذواق الناس، فإنه يشير إلى معان خفية في نفسية المرأة، وهي ليست من معاني الكمال أو الفضيلة في شيء، هذا إذا قصد بالتبرج في النص الكريم إشارة إلى عدم الإفراط في الزينة، بما يتجاوز حدود العرف المألوف، أما إذا كان المقصود به شيئًا ماديًّا بذاته فغالب الظن، بل الأرجح تغليبًا، أن المقصود به عادة ألفت في الأزمان الأولى، كانت في نشأتها شعيرة من شعائر الوثنية، أي شعيرة دينية.

فإن البغاء على ما يعرف الآن من تاريخه وتطوره، قد نشأ في أوله نشأة دينية، فكان شعيرة من شعائر التقرب من الآلهة، وصورة من التضحية يقصد بها العبادة، ثم تقلب في أدوار آخرها ما نعرف منه في زماننا هذا؛ إذ أصبح نفس ما تعترف به الحكومات، وتنظمه، وتضع له التشريعات المختلفة، وتراقبه من نواحيه الاجتماعية والصحية.

والبغاء في حقيقته استجابة لنداء الجنس، وهو فضلًا عن ذلك له مظاهره النفسية، فإن تحول الغرائز يلعب فيه دورًا كبيرًا، حتى لقد نرى أن ممارسة هذه المهنة تنسي ممارِستها أصلها الطبيعي؛ لتحل محله فكرة الكسب من طريق استفزاز الغرائز الجنسية، وهذا بحث ليس من شأننا هنا أن نمضي فيه، وكفى بنا أن نقول ما قصد بتبرج الجاهلية الأولى هي هذه الحالة التي سنشرحها، أو حالة تقاربها.

إن إلحاح الغريزة الجنسية، كإلحاح جميع الغرائز، مبعث للألم، وقد يتفاوت هذا الإلحاح عند الأفراد بحكم الاستعداد الطبيعي واختلاف التكوين، ولما كانت طبيعة الإنسان الخالصة من التعمل تدفعه إلى نشدان اللذة والفرار من الألم فقد نزع الإنسان إلى أن ينشد الشبع والصحة والقوة، وأن يفرع من الجوع والمرض والضعف، ولذا كانت المبرات والصدقات مما يتقرب إلى الله، فإطعام المسكين والفقير وابن السبيل، وعلاج المريض ونصرة الضعيف مما حضت عليه جميع الأديان زلفى إلى بارئ الأشياء، وما هذه الأشياء في أصلها إلا ابتغاء أن يكفي الغني والقادر، الفقير والمعدوم والمسكين، إلحاح غرائز الطبع التي تحدث تلك الآلام التي يفر منها الإنسان، ومن هنا نشأ نظام البغاء نشأة دينية، على اعتقاد أن إرضاء غريزة الجنس هي دفع لألم يباشره الحي، فهي إذن صدقة يتقرب بها إلى الآلهة.

على مفترق الطرق، وفي السبل الموحشة التي كان يخترقها حمالو المتاجر والمسافرون، وكانوا يتنقلون عادةً جموعًا من الرجال بلا نساء، اتخذ بعض المتعبدات صوامع ليبذلن للمسافرين أنفسهن ولحومهن؛ طردًا لإلحاح الغريزة الجنسية المؤلمة؛ صدقة لوجه الآلهة، وتقربًا إليهم، وتعبدًا لهم، على نفس الصورة التي يتقرب بها مشبع الجوعان، ومعالج المريض، ومعز الذليل، ومؤي المسكين، إلى خالقه.

وأكاد أومن بأن النص الكريم إنما انصب أصلًا على هذه الحال أو على حال تقاربها، ومما يدل على ذلك أن النص قد أشار إلى تبرج الجاهلية «الأولى»، أي جاهلية سبقت الجاهلية التي تقدمت الإسلام مباشرة، وهي التي مورس فيها هذا الضرب من التعبد.

من هنا نجد أن هذا النص قد انصب على حالة معينة كانت قريبة عهد من العرب عند انتشار الإسلام، فحض على عدم الرجوع إليها؛ لأنها منافية لآداب الدين القيم.

وإذا صح ذلك وجب أن لا نحتج بهذا النص في هذا العصر باعتباره نصًّا منطبقًا على حالة واقعة بالفعل، والتطرف في ذلك إلى حد القول بأن كل زينة تتزينها المرأة هي تبرج، وأنه من تبرج الجاهلية الأولى.

بل ينبغي لنا في جميع هذه الحالات وما يقاربها من الأشياء التي لا ندركها إدراكًا يفصح عن جميع ملابساتها أن نلجأ إلى التاريخ والمدونات والروايات المأثورة لنعرف إلى أي حالة تشير، وإلى أي ملابسة ترمي.

٥

يحلق الرجل ذقنه، ويسوي شاربيه، ويفتلهما، ويمشط لحيته إن كان ذا لحية، ويصفف شعره تصفيفًا يتخذ له مختلف الوسائل، ويتأنق في ملبسه وفي وضع طربوشه، ويلمع حذاءه، فإذا كان شيخًا اتخذ من لف عمامته صورة تلائم ملامح وجهه، واختلاف أشكال العمائم، هو في الواقع بقدر اختلاف الوجوه والسمات، كل هذا ويقول الرجل: إنه لا يتبرج.

بل إن الخيلاء والمشية وطريقة الكلام التي يلازمها الرجل هي في الواقع أشياء إن أتتها المرأة ولزمتها قيل: إنها تتبرج؛ ذلك بأن التبرج عندي ليس مقصورًا على الملبس وحده أو إبداء المحاسن، بل هو في الدلال أيضًا وفي اللمحة العابرة وفي الابتسامة وفي نبرات الحروف وفي طريقة الأداء، فهل من رجل يخلص من تلك الظواهر؟ فلماذا يكون هذا حلالًا للرجل حرامًا على المرأة، إلا أن نكون ظالمين فنخصهن بتبرج الجاهلية الأولى، أي برذائل تلك الجاهلية، ونبرئ نحن الرجال أنفسنا من جميع ذلك؟!!!

الحق الواقع أن ما ندعوه تبرجًا بالمعنى الحديث، لا بالمعنى الذي تخيلناه من حياة الجاهلية الأولى، إنما هو أمر طبيعي له أصل ثابت في الفطرة؛ ذلك الأصل الذي عبر عنه الأحيائيون بأنه من «الصفات الجنسية الثانوية»،٢ وهي الصفات التي تجذب المرأة للرجل، وتجذب الرجل للمرأة؛ إن جسدية أو معنوية، وإذن فلا فرار من التبرج أيها الأسياد.

إن كبت هذه الأحاسيس، لا يقتصر أثره على تحولها من غريزة طبيعية إلى رذيلة اصطناعية، وهو ما يجب أن نحاربه ونقضي عليه، بل إن أثره يتعدى إلى حس الجمال نفسه، فيضعفه ويوهنه، ويحوله من حاسة معنوية إلى حاسة جسدية!!!

إن أول أثر لحس الجمال في الحي العاقل أن يشعر أنه جميل، فإن لم يكن جميلًا اجتهد في أن يتجامل بمختلف الطرق وشتى الوسائل، وأكثر الرجال هم من الدمامة بحيث يحاولون أن يخفوها بالتجمل، وإنما هم يفعلون ذلك فرارًا من ألم الشعور بأنهم بعيدون عن الجمال، بل قد تحايل الرجال على ذلك، كما تحايل النساء أيضًا، فقالوا: إن الجمال جمال الخلق والصفات، بل انحدر بعض الناس إلى القول بأن الجمال في «الجيب» أي في المال، وفي عدد الأوراق المالية التي يملكها أشمط بيِّنُ العورات، وهذا ولا شك أحط معنى يدرك من ناحيته الجمال.

ولا شك في أن للخلق جمالًا رفيع المنزلة، ولكن الطبيعة قد دعت الحي العاقل أول شيء إلى نشدان الجمال الظاهر لا الجمال الخفي، فإن هذا الضرب من الجمال مقدم عند الأحياء على غيره، وهو مقدم عند الرجال وعند النساء معًا، فلماذا ننكر على المرأة نفس الفطرة التي نقول: إنها فضيلة في الرجل؟

إن أساس الاختيار عند ربط العلاقات الزوجية، إنما هو للجمال الظاهر لا للجمال الخفي، ولهذا لعب الجمال الظاهر دورًا عجيبًا في الانتخاب الجنسي، وفي الصفات الجنسية الثانوية، فامرأة جميلة الوجه سوية التقاطيع، هي أروج ألف مرة في سوق الزواج من أخرى كريهة المنظر سامية الأخلاق، ولا شك في أن ذلك منقصة من مناقص الطبيعة، ولكن هكذا شاءت الطبيعة أن تكون، كما شاءت أيضًا أن يكون لصفة الجمال الظاهر اليد العليا في الانتخاب الجنسي على مدى قرون طويلة، فواصل الجمال الظاهر شوطه نحو الاكتمال، وتخلف الجمال الخفي، جمال الخلق والصفات النفسية أن يلاحقه، فتخلف وتخلفت الأخلاق والفضائل.

هذه حقائق لا تنكر، فعفوًا أيها السادة الذين يريدون أن يعطلوا الطبيعة بمجرد الكلام.

والجمال الظاهر شيء ملموس مدرك بالحواس، في حين أن الجمال الخفي شيء مدرك بالتصور، والنوع البشري في حقيقته من الكائنات المادية، يؤمن باللذة والألم إذا كانت آثارها مادية، ولكنه قلما يؤمن بها إذا كانت آثارهما معنوية.

فهل نريد المرأة أن تخلص من جميع هذه الوراثات القديمة التي نشأت مع الفطرة، ولا نقف عندها بل نبيح للرجل أن يطلق لهذه الوراثات العنان غير محاسب ولا خجل؛ ظنًّا منا بأننا ننصر الأخلاق ونؤيد الفضائل، وأن نفرض تلك القيود الحديدية الثقيلة، ولكن على المرأة وحدها دون الرجل، عادين ذلك من النزوات إذا صدر عن أنثى، وإنه من الفضائل إذا صدر عن ذكر، كأنه الطبيعة عندما أنشأت الذكر والأنثى قد فصلت بينهما بذلك الصدع البعيد الذي يخيل لبعض السادة أنه طبيعي، وما هو بطبيعي، وإنما هو من خلق الرءوس التي فرت من حقائق الطبيعة وانزوت تحت الأحجار حتى لا ترى ضوء النهار!!!

٦

يحاول أولئك الرجعيين أن يصدوا التطور عن سبيله المحتوم، فإن من شأن تطور الأشياء؛ مادية ومعنوية أن يجعل لكل عصر مستوًى خاصًّا، ماديًّا وخلقيًّا، ويختلف ذلك المستوى باختلاف الجماعات، ولكن لكل عصر طابع عام هو الذي يعبر عنه بالرأي العام، وهو تعبير إن كان فيه غموض، فإن له حقيقة لا تنكر.

الكلام في الفضيلة وفي مكارم الأخلاق، أشياء ينبغي لنا أن نفصل عند بحثها بين ناحيتيها: النظرية والعملية، أما الناحية النظرية فهذه نتركها للبحوث الفلسفية والمثالية، نتركها لأفلاطون وأرسطوطاليس وأرسطيس وكنت وسپينوزا، أما الناحية العملية فهذه ما يجب في بحث كهذا أن نوليه عنايتنا ونخصه بتفكيرنا.

على أن الناحية النظرية لا تفصل عن الناحية العملية في الأخلاق، من ناحية أننا نتخذ من الناحية النظرية مثالًا للمستوى الأعلى للأخلاق، نقيس عليه المستوى العام لفكرة الفضيلة في عصر من العصور أو في جماعة من الجماعات، فإذا وصفنا عصرًا بأنه عصر فضيلة، أو قلنا: إن جماعة من الجماعات فيها فضائل، فإنما نقيس الفضيلة هنا على المثال الأعلى الذي ندركه منها، وما المستوى العام غير الدرجة التي تبلغها الفكرة في الفضيلة قربًا أو بعدًا من ذلك المثال الأعلى.

على أنه لا ينبغي أن نظن أن ذلك المثال الأعلى ثابت ثبات الأشياء الجامدة فإنه متغير، تؤثر فيه الظروف والحالات بطرق بعيدة عن أن تحقق التحقيق الكامل، شأنه في ذلك شأن جميع المجردات الفلسفية، وقلما اتفق الناس في كل العصور على مثال بعينه هو المثال الأعلى للفضائل والأخلاق، ولكن ذلك كله لا يمنع أن يكون هنالك مثال لها، هو المقياس الذي تقاس عليه، والميزان الذي توزن به الفضائل في كل عصر.

إذا خضعت الناحية النظرية في الأخلاق للفكر المجرد؛ فإن الناحية العملية منها إنما تخضع لضرورات الحياة وظروفها القاسية، ولنضرب لذلك مثلًا أو مثالًا:

جمعية بشرية عدد أفرادها مئة؛ منها تسع وتسعون فضلاء ورذل واحد، أو ثمانون في المئة أتقياء وعشرون في المئة فاسقون، هذه جمعية فاضلة حسنة الأخلاق؛ لأن الواحد في النسبة الأولى مضطر أن يكون فاضلًا وإلا نبذته الجمعية، فهو فاضل رغم أنفه، أما العشرون الآخرون في النسبة الثانية فمضطرون أن يكونوا أتقياء، وإلا نبذوا وطردوا؛ ذلك لأن المجموع الأكبر من الجماعة المتصف بصفات متقاربة، هو الذي يشرع للجمعية، وله في هذه الحال حق الأقوى في فرض إرادته.

وعلى عكس هذا تمامًا يكون الحال لو أنك قلبت النسبة ففرضت واحدًا فاضلًا يعيش مع تسع وتسعين رذل، أو عشرين تقيًّا يعيشون مع ثمانين فاسقًا، لا شك في أن المستوى العام للفكرة الأخلاقية تكون هي بذاتها ما تدرك الأغلبية منها، وعندي أن هذا هو ما يُعنى بمستوى الأخلاق.

لا ننظر في ذلك إلى الشرائع ولا إلى القوانين، فهذه يعطلها العرف العام، ويقمعها الاتجاه الخلقي في الجمعية، وهذا الاتجاه من الأشياء التي لا نعرف كيف تتولد ولا نستطيع لهذا التحكم فيها، وإنما هو وليد ظروف وحالات اجتماعية تصدر عن أعمق ما في الجمعيات البشرية من الأحاسيس والانفعالات، فللحروب والثورات والانقلابات العامة أثرها الواضح في خلق تلك الاتجاهات، ولمطلوبات الجسم والروح فيها الأثر الكبير الذي لا ينكر، وكذلك تغير الفكر والعاطفة والعقيدة الأثر الثابت في خلق هذه المتجهات، وإنما تساق الجمعيات البشرية في سبل لا اختيار لها أن تنساق فيها، وهي فوق ذلك لا تستطيع أن تمنع وقوعها، وغاية ما في مستطاعها أن تحولها بعض الشيء لترضي نزعاتها؛ وذلك بتعديل بين القوى الجديدة التي تخلق تلك الاتجاهات وبين ما تحتمل النفس البشرية منها.

لا نستطيع مثلًا أن ننكر أن الانقلاب الاقتصادي الحديث قد حور من المتجه الأخلاقي في الرجل والمرأة، وأن المثل الذي قيست عليه الأخلاق قبل قرن من الزمان ليس هو بعينه المثل الذي تقاس به الأخلاق الآن، وجل ما في الأمر أننا نشعر بأننا نتغير، وأننا مقسورون على أن نتغير، وأننا فوق ذلك نعتقد أننا نتقدم، وأننا نتبع سبيل الرقي.

ولا يعنينا من ذلك أن يكون ذلك التغير قد وقع بمجهود المرأة، وإنما يعنينا من الأمر أنه وقع، وأنه ماثل بالفعل، يعنينا أنه أثر في مركز المرأة الاجتماعي ودفع بها إلى الحياة الصاخبة، وحملها على أن تعمل، وأن تكد، وأن تتعلم، وحفزها إلى أن تنشد الاستقلال، وأن تكون سيدة نفسها في حدود الآداب المرعية في عصرها.

لقد قذف بها في المعترك رغم أنفها ورغم أنوفنا، أحببنا ذلك أو كرهناه، ولسوف تضرب المرأة في سبيلها غير ملوية على شيء، فإن ثورة فكرية قد حصلت فعلًا، وانقلابًا جديدًا قد لاحت بوادره في الأفق، فعلينا أن ننظم عوامله ونوجهها إلى خير الجمعية، لا أن نقف في سبيله محاولين أن نغير متجه التيار عن طريقه الطبيعي، فإن ذلك قد يجعله ينحدر إلى وهاد لا ينتفع به فيها.

أما الذين يقفون الآن في سبيل حق المرأة في الانتخاب والتمثيل؛ فمثلهم كمثل الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.

يعلمون البنات ويعرفونهن الحرية والحقوق التي تترتب على الحرية، ويدفعونهن إلى معترك الحياة العملية، ويأنفون أن يكنَّ جاهلات خاملات، ويسوقونهن إلى ملاعب الرياضة وإلى الأسواق، وإلى الكليات والمدارس العالية، ثم يقولون لهن: إنكن لا تساوين الكناس والزبال والجاهل والأحمق ممن لهم حق الانتخاب والتمثيل.

أليس هذا بعينه مطلب من أراد أن يبني هرمًا يرتكز على قمته لا على قاعدته؟

١  كان ذلك قبل صدور القانون الجديد.
٢  Secondary Sexual Characters.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤