بين يدي الرِّواية

هذه الرواية القصيرة — شأنها في ذلك شأن الخليج (١٩٩٣م) — نموذج مُوجِع من أدب الاغتراب.

الاغتراب هنا — أو حِس الغربة — مُزدوَج: مكاني، وروحي. فالراوي صحفي ورِوائي، يترك خطيبته مها في القاهرة، ويُسافر إلى مَسقط، عاصمة سَلطنة عُمَان، ليُصدِر — بمجهوده الفردي تقريبًا — جريدة تُموِّلها شركة صحار للمقاولات في رويْ، ويرمي كفيله الشيخ حمود النبهاني إلى أن يجعل من الجريدة نشاطًا تجاريًّا إلى جانب الاستيراد والتصدير. والراوي يعكف — على أنحاء متقطعة — على تأليف رواية، فهذه إذن (قارن «مُزَيِّفو النُّقود» لأندريه جيد) رواية عن روائي يحاول كتابة رواية. وبِلَمسات واثقة سريعة من فُرْشَاته يرسم محمد جبريل صورة لا تُنسَى لجغرافية عُمان وَجوِّها وآثارها (انظر أيضًا أعمال يوسف الشاروني إبداعيًّا ونقديًّا، عن تجربته العُمانية) الحرارة الخانقة، والرطوبة التي تأخذ بالأكظام، الشمس الحارقة، المَراوح التي لا تفعل شيئًا إلا توليد تيار ساخن من الهواء، أجهزة التكييف التي صَنعَت الحياة في منطقة الخليج (وهي — في ذلك — تلعب دورًا أهم من دَور البترول، على حد قول إحدى شخصيات الرواية). وهناك الجبال والطُّرق المتعرِّجة، والفولكلور مُتشعِّب الجدائل، والْتِحام الواقع بالأسطورة كما في حادثة ناصر التميمي (وهو شاب عهد الشيخ حمود النبهاني إلى الراوي بتدريبه على مهنة الصحافة). إنه إذ يقود سيارته في طريقه الجبلي إلى قريات تظهر له امرأة جنية تغويه ثم تختفي، ويتشوش إدراكه، ويدخل المستشفى. وقبل أن يتمكن الراوي من السفر إلى بهلا حيث شيخ ذو كرامات يقال إنه قادر على شفاء مثل هذه الحالات، تُوافي ناصر مَنيَّتُه. ولأن الضِّدَّ يُظهر حسنه (أو قبحه) الضِّد، فإن الراوي لا يفتأ يرتد بخياله من قسوة البداوة إلى دفء القاهرة، إلى بيته المطل على ميدان المساحة بالدقي، حيث كان يعيش مع أبويه وإخوته؛ خالد وباسم وعفاف الصغيرة. وينسج مع خطيبته مها الواقعة تحت تأثير أُمِّها شرنقة أحلام — لا يبدو أنه من المُقدَّر لها أن تكتمل — بالزواج والاستقرار. والشركة التي يملكها النبهاني مُلتَقى أجناس كثيرة ضربت في مناكب الأرض سعيًا وراء الرزق، وأنماط بشرية متباينة: هناك المهندس عدنان الطراونة الأردني، وثَمَّة المدرس عبد العال الذي تخونه زوجته وتستميل أولاده إلى صفها. وتدور في فلك الراوي — من خلال العمل والإقامة — شخصيات أخرى: خميس المناعي، وهو ضابط من شرطة عُمان السُّلطانية، شوقي كمال، بهجت حسان، سليم الغافري مدير العلاقات العامة بوزارة الإعلام الذي ينتقد عبد الناصر نقدًا مرًّا. ولكن الشخصية المحورية في هذا السياق العُماني هي زوينة التي تحمل الرواية اسمها: زنجبارية تعرَّف بها الراوي في مطار السيب، مُضِيفة أرضية في شركة طيران الخليج، مخطوبة لابن عمها زاهر وعلاقتها به مضطربة اضطراب علاقة الراوي بخطيبته مها. يقع الراوي في حب زوينة، وتُبادِله — كما هو واضح — مشاعره، ولكنها لا تمنحه نفسها. والأغلب أنها ستتزوج من ابن عمها، وإن كان شعورها نحوه فاترًا. والعلاقة بين هذين الروحين المُعذَّبَيْن — الراوي وزوينة — تصنع واحدة من أجمل قصص الحب في أدبنا القصصي العربي الحديث، وأغربها أيضًا. فيها شيء من حب الراوي لسانتي في رواية يوسف إدريس «البيضاء»، وحب يوسف منصور لزوجة المايسترو في رواية فتحي غانم «الساخن والبارد»، وحب الراوي لفتاة تصغره في السن كثيرًا في رواية بهاء طاهر «الحب في المنفى». عدم التَّحقُّق هنا ليس نابعًا من ظروف خارجية — وإن كان كذلك، إلى حدٍّ ما — قدر ما هو نابِع من كف داخلي عنيد، يقيم حاجزًا بين الرَّغبة والفعل. ويترك جبريل نهاية روايته مفتوحة: فثمة احتمال — مجرَّد احتمال — أن يعود الراوي إلى خطيبته مها في القاهرة ويتزوجها، ولا يلتقي بزوينة — حبه الحقيقي — من بعدُ قط.

هذه إذن هي الغربة الروحية المُساوِقة للغربة المكانية: أرواح تلوب ولا تعرف راحة أو مُستقَرًّا. وهناك توترات — ذات أبعاد سياسية واجتماعية وتاريخية — نابعة من الجدل بين قشرة حداثية ولُب قَرْوَسْطي. وجبريل في هذا صنو لعبد الرحمن منيف، وصُنْع الله إبراهيم، وسليمان فياض، ومحمد عبد السلام العمري، وآخرين. في أعمال هؤلاء الكتاب أعمق تشريح لدينا للثورة الحضارية التي تَرتَّبَت على انبثاق البترول — وكل ما يصاحبه من مَظاهر الحداثة — في تُربة ما زالت — بمعتقداتها ونُظمها وموروثاتها وأفكارها وأنماط حساسيتها — تعيش في القرون الوسطى. ربما كانت مشكلة العالَم العربي — مثل مشكلة روسيا — أنه لم يعرف عصر نهضة بالمعنى الأوروبي قط، وأن نبضات ميلاده الأولى قد أُجهضت ووُئِدَت في مهدها.

رواية جبريل هذه جزء من عمله السابق وخروج عن مساره في آنٍ. ثمة اتساق داخلي يصل بين كل أعماله: رواية وقصة قصيرة ونقدًا ومقالة. وثَمَّة أيضًا استكشاف لآفاق جديدة مع كل كتاب جديد، بصرف النظر عن نوعه الأدبي. هذا كاتِب لا يكرر نفسه قط، وينبثق إنتاجه الغزير — كنافورة أرضية ساخنة — من بُعد غائر يخترق طبقات الوعي إلى صخور القاع الرسوبية. لقد عايشتُ عمله القصصي — منذ روايته الأولى «الأسوار» (١٩٧٠م) حتى أحدث عمل صادر له «حكايات الفصول الأربعة» (٢٠٠٤م)، مرورًا بصرحه الشامخ «رباعية بحري» (١٩٩٧-١٩٩٨م)، وأشهد أني لم أجد تكرارًا في عمله قط، وإنما كنتُ أشعر مع كل عمل جديد أني بإزاء كاتب أقرؤه لأول مرة. لأول مرة، ولكنه — مع ذلك — قد خاطبني من قبل: خبرة سابقة، ومشهد داخلي سبق للمرء رؤيته، وإن لم يَدرِ متى ولا أين ولا كيف.

ومن أقدر فصول الرواية على تحريك القارئ وَصْف زوينة للمحنة التي مر بها قومها منذ سنوات: حركات الزنوج والسواحليين التي كان هَمُّها التخلُّص من العنصر العربي بالقَتْل، والضرب، وإطلاق الرصاص، والصرخات، وإشعال النار؛ لإخلاء زنجبار من الجنس العربي، وإحلال الجنس الأفريقي مكانه، وكيف أنه بعد أربعة أشهر من هذه الحوادث أُعْلِن قيام الوحدة بين تنجانيقا وزنزبار، وأصبح اسم الدولة الجديدة تنزانيا. وتثور عدة أسئلة في ذهن القارئ: أكان عبد الناصر محقًّا في تأييده للجانب الأفريقي في هذا الصراع؟ ماذا كان دور الرئيس جوليوس نيريري في هذا كله؟ أكان الأفارقة طُلَّاب حرية، يثورون على الغازي العربي، أم كانوا دُمًى في أيدٍ استعمارية غربية تُحرِّك الخيوط من وراء ستار؟ أسئلة صعبة لا تُقدِّم الرواية إجابات عنها — متى كانت وظيفة الفن تقديم إجابات؟ — وإنما تكتفي بإثارتها وتَرْكها تتخايل — قلقة مقلقة — على حافة الوعي.

محمد جبريل — في هذا العمل — صائغ بارع يعرف كيف يُطوِّع مفردات اللغة وتراكيبها للغوص على أعمق عذابات الروح ونشواتها وتقلب أطوارها. إنه فنان حقيقي موهوب (كما وصفه إدوار الخراط في تقديمه ﻟ «حكايات الفصول الأربعة») أوتي من رهافة الحس وشمول النظرة الجامعة بين البانورامي والمُنمنَم وبراعة التقنية، ما يجعله صوتًا من أقوى الأصوات وأصفاها في المشهد الروائي العربي اليوم.

د. ماهر شفيق فريد

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤