احتمال من ثلاثة

ساد الهرج والمرج الطائرة … ووقف عدد من الركاب رغم تعليمات البقاء وربط الأحزمة، وبدا الفزع على الوجوه، وصرخت بعض السيدات … أمَّا «بو عمير» فقد كان ذهنه يعمل بسرعة، ليس فيما تتعرَّض له الطائرة من مشاكل، ولكن في الاستفادة من هذا الموقف المضطرب؛ فقد لاحظ أن السيدة التي تجلس بجوار الرجل الذي كان يُصوِّره، قد أصابتها نوبة من الهستيريا، وأن الرجل يُحاول تهدئتها … فقام «بو عمير» مسرعًا واشترك في تهدئتها، وعينيه على القلم الذي كان الرجل يتظاهر بالكتابة به ويُصوِّره في نفس الوقت … كان «بو عمير» قد شاهد الرجل وهو يضع القلم في جيبه الداخلي، ومع اهتزاز الطائرة، تظاهر «بو عمير» أنه فقد توازنه، وسقط على الرجل، وبأصابع مدرَّبة نشل القلم، ثم استمرَّ في محاولة تهدئة السيدة … وبعد لحظات عاد إلى مقعده، بعد أن عاودت المضيفة التنبيه بشدة على الركاب أن يبقوا في أماكنهم وأن يربطوا الأحزمة … ثم أضافت وهي تبتسم: لقد انتهت المشكلة واستطعنا تجاوز الخطر …

وفعلًا، لم تمضِ سوى دقيقة واحدة حتى اعتدلت الطائرة، ومضت باتزان تشق طريقها …

جلس «بو عمير» مكانه والقلم في جيبه، وهو يُفكِّر فيما سيحدث بعد قليل … سوف يكتشف الرجل ضياع القلم، ويستنتج أن «بو عمير» هو الذي أخذه … فماذا سيفعل؟

ولكن قبل أن يسترسل في تفكيره، أذاع ميكروفون الطائرة أنهم يقتربون من «باريس»، فانشغل بالتفكير في خطة العمل القادمة … وأخذت الطائرة تحوم فوق المدينة الضخمة، ثم بدأت تُهدِّئ من سرعتها، وأخذت تهبط حتى وصلت إلى منطقة السحاب، الذي كان يهطل بشدة …

وراقب «بو عمير» قطرات المطر وهي تلمع فوق جناح الطائرة، التي اهتزَّت قليلًا وهي تتجاوز السحاب، ثم أخذت تحوم حول مطار «أورلي الدولي» في «باريس»، ثم نزلت العجلات، وأحسَّ بالطائرة تهتز وعجلاتها تلمس الأرض، ثم مضت مسرعةً على الأرض الزلقة، ودارت، ثم توقَّفت تمامًا … وبدأ الركاب يفكون الأحزمة ويستعدون لمغادرة الطائرة … كانت يدا «بو عمير» تعملان في جمع حاجياته القليلة، بينما عيناه تنظران خِلسةً إلى الرجل، استعدادًا للَّحظة التي يتبيَّن فيها الرجل فقْد قلمه … ولكن كل شيء مضى بهدوء، وبدأ صف الركاب يتحرَّك نازلًا …

وحرص «بو عمير» أن يكون خلف الرجل ببضعة أشخاص، ليُراقب حركاته دون أن يُحس الآخر … وبدأ النزول على السلم. كان جو ديسمبر العاصف والمطر والظلام في انتظار النازلين الذين أخذوا يتحدَّثون عن رداءة الجو، بينما كان «بو عمير» سعيدًا به فهذا أفضل جوٍّ للاختفاء! …

كان جميع الركاب يجرون ناحية أبواب المطار، وظلَّ «بو عمير» محافظًا على المسافة بينه وبين الرجل، غير عابئ بالجو العاصف ولا المطر … وقد خطر له فجأةً أن أمامه ليلةً بأكملها قبل أن يلتقي ببقية الشياطين في «فانتيه»، ولسي هناك ما يشغله، وأفضل ما يمكن عمله أن يتبع الرجل فقد يقودهم إلى «مالمو» أسرع ممَّا تقودهم معلومات «العصفور الأبيض» أو «روشيه».

ابتسم «بو عمير» لهذا الخاطر … ودخل إلى الصالات الواسعة الدافئة، وسرعان ما انتهى من إجراءات الجمرك، ووقف ينتظر حقيبة ملابسه مع بقية الركاب وهو يرقب من بعيد الرجل الأنيق … وفي هذه اللحظة حدث ما كان يتوقَّعه منذ نشل القلم، لقد اقترب رجلان من الرجل الأنيق، وتحدَّثا إليه، ورآه وهو يبتسم ثم يضع يده في جيبه الداخلي، وبدت عليه علامات الدهشة، وأخرج يده خالية، ثم وضعها في جيبه الآخر، ثم وضع حقيبته الصغيرة على الأرض وأخذ يُفتِّش بقيَّة جيوبه، وقد علت وجهه علامات الفزع والغضب … ودار بعينَيه في صالة المطار حيث مئات من البشر يتحرَّكون في كل اتجاه … كان واضحًا أنه يبحث عن «بو عمير»، ولكن الشيطان الذكي اختفى خلف أحد الأعمدة، وأخذ يُراقب الرجل وهو يتحدَّث مع زميلَيه، وقد ارتفعت الأذرع في حركات عصبية … وفي هذه اللحظة بدأ وصول الحقائب على السير المتحرِّك، واتجه ركاب الطائرة لاستلام حقائبهم … كانت هذه هي الفرصة المناسبة كي يكتشف الرجال الثلاثة مكان «بو عمير»، الذي لاحظ أنهم وزَّعوا أنفسهم حول مكان الحقائب في انتظار ظهوره …

وفكَّر «بو عمير» لحظات، كان أمامه قراران لا ثالث لهما … أن يظهر لاستلام حقيبته، ويتعرَّض لما يمكن أن يفعله الرجال الثلاثة، أو يستغني عن حقيبته وينصرف … ولم يكن في الحقيبة شيء ذو أهمية، بعض الملابس فقط وفرشاة أسنانه، وحذاء إضافي، وكلها يمكن الاستغناء عنها … وأخذ بالقرار الثاني فورًا … وكل ما كان يُضايقه أنه لن يستطيع مراقبة الرجل … ولكن ذلك لم يكن ممكنًا وهم ثلاثة يمكن أن يفتكوا به، بل أكثر من هذا، أن يذهبوا به إلى «مالمو» ليقرأ أفكاره ويعرف كل شيء عن الشياطين اﻟ «١٣»، خاصةً الخمسة الذين في «باريس» …

ونظر «بو عمير» إلى الرجال الثلاثة جيدًا ليطبع صورتهم في ذهنه، وقد فكَّر أن يُصوِّرهم بالكاميرا القلم التي نشلها من الرجل، ولكن ذلك كان مستحيلًا بسبب الزحام، وبُعد المسافة مع احتمال أن يُشاهدوه … وهكذا تسلَّل بهدوء خارجًا من المطار، وفوجئ مرةً أخرى بالطقس البارد الممطر، بعد دفء الصالة؛ فوضع يدَيه في جيبَي بنطلونه، ثم اتجه إلى أول تاكسي وركب.

كان «بو عمير» يُجيد الفرنسية، فلم يجد صعوبةً في التفاهم مع السائق، وأعطى له عنوان الفندق الذي نزل فيه سابقًا في «باريس»، فندق «فوجيرار» قرب متحف «الإنفاليد»، واستند على المقعد الخلفي، ومضت السيارة تقطع طريق المطار الطويل إلى «باريس» …

كان فندق «فوجيرار» عتيقًا رمادي اللون، يقع في شارع فرعي قرب «الإنفاليد». وزيادةً في الحيطة، نزل «بو عمير» قبل الفندق بنحو مائتَي متر، ثم سار على قدمَيه، وأخذ ينظر حوله باحثًا عن محل لبيع الملابس، ولكن الوقت كان متأخِّرًا؛ فقد تجاوزت الساعة الحادية عشرة، والجو مطير عاصف، ولا يمكن أن يوجد في «باريس» كلها محل واحد يفتح أبوابه في مثل هذه الساعة، إلَّا بعض المطاعم ودور اللهو.

وصل «بو عمير» إلى الفندق، ومن حسن الحظ وجد غرفةً خالية، ورغم إحساسه بالجوع في هذا الجو البارد فقد فضَّل أن يأوي إلى غرفته فورًا. وقام بتأمين الغرفة، فأغلق الباب جيدًا ووضع خلفه مقعدًا، وأغلق النافذة بعد أن نظر إلى الخارج، واطمأن إلى بُعد المساكن الأخرى …

اكتفى «بو عمير» بخلع حذائه، ثم استلقى على الفراش، وأخذ شريط الأحداث الذي مرَّ به خلال النهار يلوح في ذهنه، ولم يتمالك نفسه من الإعجاب بقارئ الأفكار «مالمو»؛ فقد سبقهم إلى العمل، ووضع رقابةً على المطار من حيث ركبوا، ولا شك أن «أحمد» و«إلهام» و«عثمان» و«زبيدة» هم الآن تحت رقابة، وربما اصطدموا برجال «مالمو» … وأحسَّ بالقلق ولكن ثقته بالشياطين الأربعة، وإمكانياتهم الذهنية والجسمية خفَّفت من قلقه، وإن ظل يتساءل: كيف عرف «مالمو» بسفر الشياطين الخمسة، ولم يمضِ سوى ٤٨ ساعة على إصدار التعليمات لهم بالسفر؟! إن هذا يعني شيئًا واحدًا؛ إن «مالمو» يعرف خططهم مقدَّمًا، بواسطة شخص ما، سواء بقراءة أفكاره، أو بإرغامه على الحديث … وظلَّ «بو عمير» يُفكِّر حتى استسلم للنوم …

•••

في السادسة صباحًا استيقظ «بو عمير» كعادته، واغتسل، ثم نزل فتناول إفطاره، وقرأ صحف الصباح، وأخذ يُطالع الإعلانات حتى عثر على ما كان يبحث عنه؛ سيارة من طراز «رينو ١٦» السريعة للإيجار … وتحدَّث تليفونيًّا في السابعة والنصف مع صاحبها، وبعد أقل من ربع ساعة، كان يقودها عبر طرقات «باريس»، مغادِرًا المدينة الكبيرة إلى الريف، للالتقاء ببقية الشياطين، وﺑ «العصفور الأبيض» «روشيه»، قرب قرية «فانتيه» الصغيرة.

لم تستغرق المسافة حسب الخريطة التي معه إلَّا ٢٠ دقيقة، وهكذا وجد نفسه قبل الموعد بثلث ساعة كاملة قرب «فانتيه»، فاختار مقهًى صغيرًا على الطريق، تناول فيه كوبًا من الشاي، ثم انتظر بضع دقائق، وانطلق في قلب الريف باحثًا عن الفيلا الحمراء. كان الجو غائمًا، ولكن السماء لم تكن تُمطر، وسرعان ما شاهد الفيلا في المكان الذي توقَّعه، على يسار شريط السكة، فركن سيارته، وسار بين المزروعات محاذِرًا، حتى وصل قُرب الفيلا، ووقف ينتظر …

وفي الثالثة والنصف تمامًا، أطلق صيحة الخفَّاش الرفيعة الحادة، وهي علامة متَّفق عليها بين الشياطين، وسرعان ما جاءه رد سمعه على مبعدة أمتار منه، بين المزروعات النامية … استمرَّ «بو عمير» يُطلق صيحة الخفَّاش، حتى وجد نفسه أمام «أحمد» و«إلهام»، فتصافح الثلاثة ثم قال «أحمد»: لم يظهر «عثمان» بعد.

بو عمير: لعله تعرَّض لشيء ما في الطريق من «روما» إلى «باريس»، هو و«زبيدة».

أحمد: لقد تعرَّضت أنا و«إلهام» لمطاردة عنيفة عبر المانش …

بو عمير: وأنا أيضًا!

أحمد: لقد نشطوا مبكرين جدًّا، فكيف عرفوا بتحرُّكاتنا؟!

بو عمير: هذا السؤال يشغل ذهني، ولا أجد له إجابة …

أحمد: ليس هناك سوى طريق واحد يمكن أن يعرفوا منه تحرُّكاتنا … إنه «العصفور الأبيض» «روشيه»؛ فهو الوحيد الذي يعلم — وبالطبع بعد رقم «صفر» — أننا سننتقل إلى «باريس» للهجوم على «مالمو» قبل أن يُهاجمنا.

بو عمير: وهذا يعني أن «روشيه» قد خاننا، أو قرأ «مالمو» أفكاره، أو أجبروه على الحديث!

أحمد: كلها احتمالات ممكنة!

نظرت «إلهام» إلى ساعتها، ثم قالت: لقد تجاوزنا الموعد المحدَّد بسبع دقائق، فهل سننتظر حتى وصول «عثمان» و«زبيدة»؟

أحمد: ليس هذا فقط … إن السؤال الآن: هل ندخل فيلا «الجاردينيا» بعد أن وصلنا إلى استنتاج أن «روشيه» قد وشى بنا بشكل أو بآخر؟! إن هذا يعني أننا نضع أنفسنا بين فكَّي الأسد!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤