مفاجأة في «فانتيه»

ساد الصمت الشياطين الثلاثة، ورفع «بو عمير» رأسه إلى فوق يرقب السماء … كانت السحب تزداد سوادًا إيذانًا بمطر غزير، وكان الضباب يُغطِّي كل شيء حولهم، حتى لا يبدو من فيلا «الجاردينيا» التي لا تبعد عنهم إلَّا بضعة أمتار، لا يبدو منها إلَّا أطراف أبراجها الحمراء …

قالت «إلهام»: لا مناص لنا من التقدُّم … إن موعدنا مع «مارشيه» الساعة الثامنة والنصف، ولا أظنه سينتظر أكثر من ربع ساعة ثم ينصرف، فنفقد الخيط الوحيد الذي سيصلنا ﺑ «مالمو»، كي نبدأ العمل …

كان حديث «إلهام» منطقيًّا، ولم يكن أمامهم إلَّا التقدُّم … فسار «أحمد» في المقدمة ثم «إلهام» وخلفهما «بو عمير»، مختفين خلف المزروعات العالية، حتى وصلوا إلى سور الحديقة الذي غطَّته زهور «الجاردينيا»، ثم رفع «أحمد» يده بالتوقُّف، وأخذ ينظر بتركيز شديد على باب الفيلا، ثم تجاوز سور الحديقة ودخل، وظلَّ يقترب من الباب وحده وهو رافع يده، حتى لا تتبعه «إلهام» و«بو عمير» … ثم انحنى وأخذ يتأمَّل الباب وعاد، وأخذ يبحث حوله لحظات، حتى وجد غصنًا طويلًا يتدلَّى من أحد الأشجار، فأخذ يثنيه حتى كسره، ثم اقترب من الباب وتمدَّد على الأرض ومدَّ الغصن ودفع الباب؛ ودوَّى انفجار هائل اقتلع الباب من مكانه وطار في الهواء، واندفع سيل من الدخان، وانهالت عشرات من قطع الأخشاب والحجارة! …

وفي نفس الوقت دوَّى الرعد في السماء، وومض البرق واندفع المطر كالسيل …

وقف «أحمد» ينفض عن ملابسه آثار الأحجار المتساقطة، وعاد حيث كان يقف «بو عمير» و«إلهام»، ونظر إليهما وقال: لقد كان الباب مفتوحًا وقد وضعوا شحنةً ناسفة تنفجر بمجرَّد فتح الباب، لكنهم نسوا شيئًا واحدًا؛ أن السلك الرفيع الموصل بين الباب والعبوَّة الناسفة لونه أصفر واضح، وقد استطعت رؤيته، ولم يكن هناك بُدٌّ من أن نُجرِّب بهذه الطريقة، وإلَّا انتقلنا جميعًا إلى رحمة الله.

إلهام: وبعد؟!

أحمد: سندخل … إن «مارشيه» بالطبع ليس في الداخل؛ فإمَّا أنهم قد انتهوا منه وقضوا عليه، وإمَّا أنه مسجون في مكان ما …

بو عمير: قد يُلاحظ الجيران ما حدث، ويأتون.

أحمد: لحسن الحظ أن الرعد قد دوَّى، وأقرب جارٍ على بُعد ثلاثة كيلومترات، كما لاحظت عند حضورنا وسوف يظنون الانفجار في السماء، وليس في فيلا «الجاردينيا» …

وانتظروا لحظات حتى انقشع الدخان، ثم دخل «أحمد» محاذِرًا … فلم يكن معه سلاح، ومن الممكن جدًّا أن يكون في الداخل من ينتظرهم … وخلفه دخلت «إلهام» ثم «بو عمير» …

وجاسوا خلال الفيلا غرفةً غرفة، ولكن لم يكن هناك أحدٌ على الإطلاق … واختروا غرفة الصالون وجلسوا وقد اشتد البرد، فقال «بو عمير» مقترحًا: لعلنا نجد ما نُعد به بعض أكواب الشاي، فالجو بارد جدًّا!

إلهام: سأتولَّى هذه المهمة!

دخلت إلى المطبخ، وجلس «بو عمير» و«أحمد» صامتَين، لقد أصبحوا في وضع لا يُحسدون عليه … لقد فقدوا أثر «مارشيه»، وكان في استقبالهم عبوة ناسفة تكفي لتمزيقهم جميعًا … ولم يحضر «عثمان» و«زبيدة»، وليس هناك وسيلة اتصال برقم «صفر» إلَّا بالوسائل العادية، فيتم الاتصال أولًا بأحد مراكزهم في إحدى العواصم العربية، ويقوم المركز بالاتصال برقم «صفر»، وهذا يعني وقتًا طويلًا، قد تتم خلاله عشرات الأحداث …

وساد الصمت، حتى عادت «إلهام» بالشاي، وأخذوا يرشفونه في هدوء، وصوت المطر في الخارج وعلى أسطح الفيلا يُؤكِّد سوء الجو … وكانت «إلهام» تنظر في ثبات إلى صورة معلَّقة على الحائط، بدا فيها شخص يُشبه «مارشيه» كما وصفه رقم «صفر»، وبجواره شخص آخر، واقفَين وخلفهما مشهد حديقة غاية في الجمال …

وقامت «إلهام» وأخذت تتأمَّل الصورة في تدقيق، وقالت: إنها صورة «مارشيه» في حديقة مع أحد أصدقائه، ومن الواضح أن الصورة قد نُزعت حديثًا من إطارها، ثم أُعيد لصقها مرةً أخرى؛ فهي موضوعة خلف الزجاج وحوافُّها ملصقة بالورق، ولكن الورق حديث جدًّا.

ومدَّت «إلهام» يدها ونزعت الصورة من مكانها، وقلبتها ونظرت إليها جيدًا، ثم قالت: هناك سهم خلف الصورة مرسوم للدلالة على شيء خلفها!

وعادت «إلهام» إلى كرسيها، وقد أثارت اهتمام «أحمد» و«بو عمير» بما قالت، ووضعت كوب الشاي جانبًا، ثم نزعت الورق المحيط بالصورة، وصاحت: هناك رسالة لنا!

ولمعت عينا «أحمد» و«بو عمير»، وبدأت «إلهام» تقرأ: «إلى الأصدقاء القادمين من القاهرة … إنني أشعر بالخوف فأنا مراقب … وأنا أكتب هذه الرسالة في الثامنة مساءً، وسألتقي بكم في الصباح، وأخشى ألَّا نلتقي، والوقت ضيق، إذا لم تجدوني، فأرجو الذهاب إلى «لي هال»، واسألوا عن محل «بيير». هناك صديق يتردَّد على المحل يُدعى «بو سعيد»، وهو جزائري يعيش في فرنسا منذ زمن بعيد، وهو قصير القامة، أسمر، له شارب يتدلَّى على فمه، ويضع على رأسه عادةً طاقيةً من الصوف الأخضر الداكن … مواعيده بين الخامسة والثامنة مساءً، يمكنكم الاعتماد عليه، فعنده معلومات عن مهمتكم …»

وقال «أحمد» فجأة: اسمعي!

وصمتت «إلهام»، وتنبَّهت حواس الشياطين الثلاثة، ورفع «أحمد» أصبعه يُشير إلى اتجاه الباب، وسمع الثلاثة صوتًا يختلف عن صوت المطر المتساقط … وبسرعة قام الثلاثة، واختفوا خلف المقاعد التي كانوا يجلسون عليها؛ فقد عرفوا على الفور أن ثمة شخصًا يتقدَّم داخلًا الفيلا. وأخذ كلٌّ منهم ينظر خِلسةً إلى القادم، وسرعان ما ظهر … ولم يكن سوى «زبيدة» … كانت مشعثة الشعر، يبدو عليها التعب، وقد أغرقتها مياه الأمطار …

كانت «إلهام» أول من قفزت، وصاحت: زبيدة!

وأشارت «زبيدة» إلى الخارج، وقالت: «عثمان» … إننا مطاردون، وقد فقدت أثر «عثمان» في الخارج … هناك سيارة وأشخاص مسلَّحون …

قفز «أحمد» و«بو عمير»، وقال «أحمد»: اهتمي بها، وانتظرا هنا …

أسرعا إلى الباب واندفعا إلى الخارج، ثم توقَّفا لحظات على سُلَّم الفيلا يستمعان. كان صوت المطر قويًّا لا يتبيَّن منه أي شيء، ولكن «بو عمير» أشار إلى الطريق الزراعي، وقال بصوت مرتفع: ما دامت هناك سيارة، فلا بد أن تكون هناك …

وأسرعا يجريان تحت المطر وعلى الأرض الموحلة، وما كادا يقتربان من الطريق العام حتى سمعا — رغم المطر — صوت طلقات رصاص … وعلى الفور اتجها إليها، محتمين طول الوقت بالأشجار والمزروعات … وأطلق «بو عمير» صيحة الوطواط رغم صوت المطر. ودقَّ قلبه عندما سمع قريبًا جدًّا منه وقرب الأرض صيحةً مماثلة، فجرى في اتجاه الصوت، وشاهد «عثمان» ملقًى على الأرض، وهو يُمسك فخذه … وعندما أسرع إليه وانحنى ليراه، برز رجل من وسط المزروعات، ورفع يده بمسدس يريد أن يُطلقه، ولكن «أحمد» كان قريبًا منه، وبقفزة رائعة في الهواء كان قد انقضَّ عليه وطرحه أرضًا …

وعلى الأرض الموحلة دار صراع عنيف، ولكن ضربةً محكمةً من يد «أحمد» أسكتت حركة الرجل … وقفز «أحمد» إلى المسدس، وفي نفس اللحظة برز رجل آخر من وراء أحد الأشجار، وقبل أن يُطلق مسدسه، كانت طلقة من المسدس الذي استولى عليه «أحمد» قد جعلته يترنَّح، ثم يسقط على وجهه في مياه الأمطار …

وجرى «أحمد» سريعًا في اتجاه صوت سيارة على الطريق الزراعي، ولكنه عندما وصل إلى حيث كانت تقف وجدها تُسرع مبتعدة، ورفع مسدسه ولكنه لم يُطلقه؛ فقد سمع صوت سيارة أخرى تأتي من الخلف، فأسرع يتوارى، ثم عاد إلى ميدان المعركة … كان «عثمان» يسير على ساق واحدة معتمدًا على ذراع «بو عمير»، وطلب منهما «أحمد» الاستمرار في السير إلى الفيلا … ثم اتجه إلى حيث سقط الرجل الأول، وبسعرة فتَّشه واستولى على أوراقه، ثم اتجه إلى الآخر وأخذ مسدسه وأوراقه أيضًا.

بعد قليل كان الشياطين الخمسة يجلسون في الفيلا حول أقداح الشاي، وقامت «إلهام» و«زبيدة» بإسعافات سريعة لساق «عثمان» المصابة، وقالت «زبيدة»: الحمد لله. إن الإصابة بعيدة عن العظم، ولكنها تحتاج لعملية جراحية سريعة لاستخراج الرصاص.

كان «أحمد» منهمكًا في الاطِّلاع على الأوراق التي حصل عليها من الرجلَين اللذَين أصابهما، وقال: ليست هناك معلومات مهمة، وأظن أن الأسماء والعناوين وهمية، ولكن سنحاول متابعة هذه المعلومات قدر الإمكان … المهم أننا حصلنا على مسدسَين، وأعتقد أنه من الخطورة البقاء في هذا المكان المنعزل أكثر من ذلك، فهناك رجل أو أكثر في السيارة التي هربت، وليس من المستبعد أن يُهاجمونا مرةً أخرى …

زبيدة: وعثمان؟!

أحمد: سنرى ما يمكن عمله ﻟ «عثمان»، بعد أن نسمع قصة مطاردتكما!

عثمان: لا تشغلوا أنفسكم بي … في إمكاني أن أتحامل على نفسي!

أحمد: سيتضح كل شيءٍ بعد أن نُقابل «سعيد» في «لي هال» … هيا بنا …

وتساند «عثمان» على «بو عمير»، وخرج الجميع، وكان المطر لا يزال ينهمر مِدرارًا على الحقول الواسعة، فساروا على مهل حتى وصلوا إلى حيث ترك «بو عمير» سيارته، فركبوا فيها وانطلقوا.

ووصلوا إلى مشارف «باريس»، وقال «بو عمير»: لقد نزلت في فندق «فوجيرار»، وهو قريب من برج «إيفل» «والإنفاليد»، ومكانه معقول في وسط «باريس»، هل ننزل معًا؟

أحمد: مؤقَّتًا نعم … وسنرى بعد مقابلة «بو سعيد»، والمعلومات التي سيُدلي بها كيف نتصرَّف.

ومضت السيارة حتى تجاوزت ميدان «الكونكورد»، ودارت ثم توقَّفت قرب الفندق العتيق، ونزل الخمسة، وتحامل «عثمان» على نفسه حتى لا تبدو إصابته للمارة، ودخلوا الفندق.

ولحسن الحظ وجدوا أماكن كافية، في الدور الرابع والأخير من الفندق.

وعندما تمدَّد «عثمان» على الفراش، التفَّ الجميع حوله ليستمعوا إلى قصة المطاردة، ولكن «عثمان» ابتسم قائلًا: أُريد أن أنام قليلًا، وستروي لكم «زبيدة» ما حدث!

أحمد: فلْيكن … ولنستمع حتى يحين المساء ونخرج للبحث عن «بو سعيد» …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤