مطاردة عنيفة ومفاجأة مذهلة

لم تكن الغرفة التي فتحها «بو سعيد» إلَّا مخزنًا للأسلحة، ولكنها كما لاحظ «أحمد» و«بو عمير» لم تكن أسلحة متطوِّرة؛ كانت مجموعةً من البنادق سريعة الطلقات والمسدسات والخناجر … ولم يكن هناك وقت للحديث، مدَّ كل واحد منهم يده وتناول بندقية، ثم أسرعوا خارجين، ومضوا في الدهليز حتى نهايته، وقال «بو سعيد»: سنصعد الآن في مخزن قديم، يقع تحت العيادة مباشرة …

وصعدوا سلَّمًا صغيرًا من الحجر، ثم مدَّ «بو سعيد» يده وأخذ يدفع بابًا من الخشب السميك، ارتفع تدريجيًّا مُحدثًا صوتًا حزينًا في الصمت الذي يلف المكان … وبعد أن صعد «بو سعيد»، تبعه «أحمد» ثم «بو عمير»، وأُعيد غلق الباب …

كان المخزن مملوءًا بالبراميل القديمة، تتصاعد منه رائحة تُزكم الأنوف، وتمرح في جوانبه الفئران الضخمة، وقد ضغط «بو سعيد» على زر في الجدار؛ فأُضيئت لمبة صغيرة في السقف بدَّدت بعض الظلمات التي ترين على المخزن.

مضى «أحمد» و«بو عمير» يتبعان «بو سعيد» الذي تقدَّم من باب في الجدار، وفتحه بمفتاح معه، ووجدوا سُلَّمًا صعِدوه إلى فتحة في الجدار، دخلوا منها ووجدوا أنفسهم في دهليز آخر، وقال «بو سعيد»: العيادة في نهاية الدهليز.

ثم وضع أصبعه على فمه محذِّرًا من الحديث، وتقدَّموا مسرعين، ولكن دون إحداث أي صوت … ووقفوا أمام باب صغير دقَّه «بو سعيد» عدة دقات، ولكن لم يستجِب أحد …

وأسرع «أحمد» يضع أذنه على الباب ثم قال: هناك صراع في الداخل …

واندفع الثلاثة بأكتافهم فنزعوا الباب من مكانه، وكان أمامهم مشهدٌ لا يُنسى … كان «عثمان» مشتبكًا مع رجل في صراع مستميت، وقد غطَّى فخذه المصابة بالشاش والقطن، ورغم آلامه فلم يستطِع الرجل أن يهزمه … ودون كلمة واحدة هبطت البندقية السريعة الطلقات على رأس الرجل في خبطة واحدة، سقط على أثرها كالجثة الهامدة، وقال «عثمان»: «إلهام» على السلَّم …

وقفز «أحمد» واجتاز باب العيادة، وعلى السلَّم الموصل إلى الشارع كانت «إلهام» بين رجلَين يحاولان حملها … وطار «أحمد» وهبط على الرجلَين، وكانت لكمة أصابت فك الرجل كالمطرقة … وأطلق الرجل الآخر رصاصةً من مسدس كاتم للصوت، أحسَّ بها «أحمد» تمر بجوار رقبته، ولكن الرجل لم يُطلق الرصاصة الثانية؛ فقد أصابته قدم «إلهام» بركلة هائلة في بطنه، جعلته يُطلق صيحة ألم مرعبة، ثم ينزل متدحرجًا على السلَّم!

وقالت «إلهام»: من الأفضل العودة من نفس الطريق الذي جئتم منه؛ فيبدو أن هناك رجالًا آخرين في الخارج!

صعدا السلم معًا … ووجدا «بو سعيد» و«بو عمير» يساعدان «عثمان» ويعاودان ربط فخذه المصابة، وقال «أحمد»: هل أجريت العملية؟

عثمان: نعم، منذ دقائق … ولم يكد الطبيب ينتهي حتى وجدناهم يقتحمون الباب، وقد هرب الطبيب من أحد الأبواب، ولا أدري إذا كانوا قد لحقوا به أم لا.

بو عمير: وزبيدة؟!

عثمان: تركناها في الخارج، ولا أدري ما حدث لها!

بو سعيد: هيا بنا، فقد يعودون …

وساروا مرةً أخرى في الدهليز نزولًا إلى المخزن، ثم ساروا حتى وصلوا إلى «الأخضر» الذي كان قد ارتدى ثيابه، وأخذ يُعد مسدسًا ضخمًا من طراز عتيق … ابتسم «الأخضر» عندما رآهم، وأسرع «أحمد» إلى التليفون واتصل بفندق «فوجيرار»، ولكن «زبيدة» لم تكن هناك …

تمدَّد «عثمان» على الفراش، وقد نزف كثيرًا من أثر المجهود الذي بذله، وبدا متعبًا شاحبًا … وجلس «أحمد» صامتًا يُفكِّر، وقال «الأخضر»: ماذا حدث؟ وروى «بو سعيد» المعركة القصيرة التي جرت في عيادة الطبيب …

•••

وفي هذه الأثناء كانت «زبيدة» تتعرَّض لمطاردة قاسية. لقد تركوها خارج العيادة لتراقب الطريق، وشاهدت المتسلِّلين وهم يدخلون الحارة الصغيرة، وكانت تجلس في السيارة التي استأجرها «بو عمير»، وقد تركت المحرِّك دائرًا استعدادًا للطوارئ. وكان المطر لا يزال يهطل بشدة والجو عاصفًا، فلم تسمع صوت أقدام الرجل الذي اقترب منها، ثم دفع بمسدسه في وجهها قائلًا: لا تتحرَّكي!

كانت لحظةً ممتلئةً بالخطر والتحفُّز … وكانت «زبيدة» تُدرك خطورة أن تستسلم، ولو كانت في مواجهة عصابة أخرى غير عصابة «مالمو» لما تردَّدت في الاستسلام، على أمل أن تفعل شيئًا بعد ذلك … ولكن مع «مالمو»، فإن الاستسلام يعني سقوط الشياطين جميعًا … وربما رقم «صفر» بعد ذلك!

لهذا كان قرارها الوحيد والذي يُعرِّضها للموت هو الضغط بقوة على بدَّال البنزين، والانطلاق بالسيارة كالصاروخ رغم الأرض الزلقة … وقد أدَّى هذا الانطلاق المفاجئ إلى إصابة الرجل في ذراعه بخبطة قوية، فلم يتمكَّن من إطلاق الرصاص، ولكنه أشار إلى سيارة أخرى كانت واقفة، فانطلقت كالسهم خلف «زبيدة» التي لم تكن تعرف شوارع «باريس» جيدًا، وكل ما كان في إمكانها أن تفعله هو أن تبتعد بأقصى سرعة، وهي تتبع الإشارات الخضراء دون أن تدري إلى أين تقودها …

ظلَّت المطاردة في حدود السرعة المعتادة داخل المدن، حتى وجدت نفسها قريبةً من «فرساي»، حيث يلتف الشجر، وتتزايد الظلمة بعيدًا عن وسط المدينة، فأطلقت لسيارتها العنان، وأخذ عدَّاد السرعة يقفز بين رقم ١٣٠ إلى ١٥٠ كيلومترًا في الساعة … ولكن عدَّاد السرعة لم يكن هو ما يشغلها في هذه اللحظة، ولكنه كان عدَّاد البنزين؛ فلقد كان واضحًا أن بنزين السيارة سينفد بعد دقائق قليلة، خاصةً وقد بدأ صوت المحرِّك يُصاب بالخشونة والتردُّد، ولم يعد هناك شك أن المطاردين سيلحقون بها، ولم يكن معها سلاح … وكان عليها أن تتخذ خلال دقيقة على الأكثر قرارها، ولم يكن أمامها إلَّا قرار واحد.

أخذت تخفض من سرعة سيارتها بشكل غير محسوس، وبدأت المسافة تضيق بينها وبين المطاردين، إلى عشرين مترًا، خمسة عشر مترًا، عشرة أمتار، خمسة أمتار، أقل من ثلاثة أمتار … كانت سرعتهم لا تقل عن ١٢٠ كيلومترًا، بينما سرعتها تقل عن ٨٠ كيلومترًا، وكانت هذه هي خطتها … داست على الفرامل بكل قوتها، وأدارت المقود جانبًا، ثم ألقت بنفسها على المقعد الذي بجانبها … وحدث ما توقَّعته تمامًا؛ اصطدمت السيارة التي خلفها بسيارتها صدمةً مروِّعة، ودارت السيارة بها واندفعت إلى داخل غابة أشجار «فرساي» الكثيفة، واصطدمت بشجرة ثم توقَّفت … وفتحت الباب وقفزت، وفي لمحة سريعة وجدت سيارة المطاردين وقد انقلبت على جانبها … وسمعت صوت صياح، فأخذت تجري متوغِّلةً في الغابة دون أن تدري إلى أين تتجه … كان كل ما يُهمُّها في هذه اللحظة أن تبتعد بقدر ما تستطيع عن رجال العصابة.

بعد نحو ربع ساعة من الجري المتواصل، وجدت نفسها تسير بجوار محطة «بالاراد»، وهي نهاية خط مترو «الأنفاليد»، ونظرت حولها فلم تجد ما يُريب، فدخلت المحطة وقطعت تذكرة، ثم نزلت على السلالم المتحركة إلى جوف الأرض حيث يسير المترو. وأحسَّت بآلام مبرحة في عظامها، ولكنها كانت سعيدةً أن استطاعت التخلُّص من المطاردة المميتة!

وصل المترو، كان فارغًا تقريبًا في هذه الليلة المظلمة المطيرة، فألقت نفسها على أقرب مقعد ونظرت حولها، ثم أغمضت عينَيها تطلب بعض الراحة …

ومضى المترو يشق طريقه في النفق بسرعة، وكلما توقَّف في محطة فتحت «زبيدة» عينَيها ونظرت إلى القادمين، ثم أعادت إغماضهما، حتى توقَّف المترو في المحطة النهائية عند «الأنفاليد»، فقامت وغادرت المترو وصعدت إلى سطح الأرض مرةً أخرى …

كانت الأمطار قد خفَّت كثيرًا ولم يبقَ إلَّا رذاذ خفيف، وأحسَّت أنها جائعة، ووجدت نفسها قريبةً من أحد أكشاك السجائر، فاتصلت تليفونيًّا بفندق «فوجيرار» تسأل عن زملائها، ولكن أحدًا منهم لم يكن قد وصل بعد، فأحسَّت بقلق شديد …

ماذا حدث في العيادة الغريبة قرب «السين»؟ هل تعود إلى الفندق مرةً أخرى أم تنتظر؟ وقرَّرت أن تتناول عشاءها أولًا، ثم تُقرِّر بعد ذلك ما تفعل … ووجدت أحد مطاعم الدور الثاني بالبرج مضاءً فصعدت، واختارت مكانًا منزويًا، ثم طلبت عشاءها وجلست تتأمَّل «باريس».

بعد فترة جاءها العشاء، وأخذت تتناوله بشهية وقد أحسَّت بتعبها يزول تدريجيًّا، وتمنَّت لو كان بقية الشياطين معها.

وبينما كانت ترفع إلى فمها الملعقة، وقبل أن تصل إلى فمها، رأت ما لم تكن تتصوَّر على الإطلاق أن تراه … كان «مالمو» يدخل المطعم ومعه رجل آخر، عرفت على الفور أنه أحد الرجال الذين طاردوها هي و«عثمان» في «روما»!

أحسَّت «زبيدة» بيدها ترتعد وبالملعقة تكاد تسقط منها، ولكنها تتمالك نفسها وتضع الملعقة وتُفكِّر سريعًا … كيف تتصرَّف؟!

كان «مالمو» يجلس قبالتها مباشرة، ولكن لحسن الحظ أنها كانت تجلس في ركن خافت الإضاءة، وفكَّرت أنه على كل حال لم يرَها من قبل، ولن يستطيع التعرُّف عليها …

وأخذ ذهن «زبيدة» يعمل بسرعة البرق … إن الرجل الذي جاءوا للبحث عنه، قارئ الأفكار الخطير، وزعيم العصابة التي تُحاول القضاء عليهم، أمامها … على بعد خطوات قليلة … فماذا تفعل؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤